تيار مواطنة: “الملخص التنفيذي” دراسة للوضع الراهن في سورية حزيران 2015
المحور السياسي:
إن أول ما يصادف المرء عند دراسة الواقع السوري على امتداد جغرافيته وتنوعها، هو الفراغ شبه التام في الساحة السورية من قوى سياسية فاعلة إن في السياسة أو على الأرض إذ يصح القول إن الثورة السورية هي جسد بلا رأس. وهذا يفسر غياب العلاقة الصحيحة بين القوى السياسية والقوى الفاعلة على الأرض وبخاصة منها العسكرية.
إن الفراغ في الحقل المدني أقل سوءاً بقليل منه في الحقل السياسي، وثمة تفاوت في الحقلين السياسي والمدني بين مناطق سيطرة تنظيم الدولة والنصرة ومناطق السلطة ومناطق المعارضة المسلحة الأخرى.
ومن اللافت للنظر أن درجة قبول الفصائل المسلحة -وحتى تنظيم الدولة- كانت مرتفعة في البداية في بعض المناطق، إلى أن تراجع هذا القبول كثيراً لاحقاً وصولاً إلى درجة الرفض والمواجهة السلبية على الأقل، مع وجود تفاوتات بين كل منطقة وأخرى.
ومن الملاحظ الغياب التام لمعنى ودور إعلان الخلافة الإسلامية في العراق والشام ليس على الاستقطاب بين الفصائل المتصارعة فحسب، بل وعلى جاذبية تنظيم الدولة لدى الإسلام الشعبي والسياسي على حد سواء.
ويُلاحظ أيضاً أن درجة قبول الجيش والأمن مختلفة إلى حد كبير جداً بين النازحين وأولئك الآخرين الذين لم يذوقوا أبداً طعم اللجوء أو النزوح وبخاصة في مناطق سيطرة السلطة. إذ يحظى الجيش بدرجة من القبول حتى بين أوساط النازحين، بينما درجة قبول أجهزة الأمن والميليشيات شبه النظامية ضعيفة إلى حد الرفض لدى النازحين في مناطق سيطرة السلطة.
يشكل المدنيون الجزء الأكبر من ضحايا أعمال السلطة الحربية (قصف طيران، براميل متفجرة، قصف مدفعي… الخ)، بينما لا تزيد نسبة الضحايا من المدنيين نتيجة قصف قوات التحالف لمواقع الدولة الإسلامية عن 1%.
ومن الممكن اعتبار الانفجار الاجتماعي العاصف القائم اليوم في سورية أمراً أوسع من ثورة -ليس بالمعنى الايجابي للكلمة- وأبعد من حرب أهلية كلاسيكية معروفة الخندقين المتصارعين بدقة مقبولة. ويصح القول: لدينا اليوم في سورية عدد من الخنادق وهي: السلطة وحلفاؤها وأنصارها، تنظيم الدولة وأنصارها في العراق وسورية، الفصائل المسلحة المقاتلة في الشمال والجنوب، وفصيل النصرة الذي ينتظر دوره كيما يحل محل تنظيم الدولة، والفصائل جميعها بغض النظر عن مسمياتها تنتظر الفرصة السانحة لإلغاء بعضها أو تركيع بعضها في طريقها لإقامة سلطتها، سواءً أكان ذلك قبل الإطاحة بالسلطة أم بعد ذلك.
إن الأمر شديد الوضوح هو ذلك القائم في المناطق ذات الأغلبية الكردية ويتلخص في الصراع الضاري والأصيل ضد تنظيم الدولة على أسس قومية أولاً وعلمانية ثانياً ومكيافيلية سياسية ثالثاً تجاه الأطراف الفاعلة بدءاً من سلطة الأسد وانتهاءً بالتحالف الدولي.
وثمة محافظة سورية تستحق الوقوف عندها بعمق هي محافظة السويداء، لأن الدينامية الشعبية على المستويين السياسي والديني فيها يدفع إلى التفكير بشكل إبداعي في إمكانية تحول الأمر إلى وضع خاص ليس هو بالمعارض جذرياً أو الثائر، كما أنه ليس هو بالمؤيد أو الموالي أو… الخ. لكن ينبغي في هذه المحافظة الخروج نهائياً من الوضع الذي يقوم على قاعدة: نعادي من يعادينا ونصادق من يصادقنا ولا نعتدي على أحد ونرد الاعتداء من أي أحد… الخ، والانتقال إلى التقدم نحو حلٍّ إبداعي يقوم على انخراط السويداء بشكل جدي وفعلي في الهم الوطني السوري العام.
المحور الاجتماعي:
أكثر ما يشترك به السوريون ويوحدهم، هو الإقصاء القسري المفروض بالقمع العاري عن صنع القرار. هذا الإقصاء متحقق تحت مختلف أشكال سلطات الأمر الواقع في جميع المناطق، مناطق سيطرة سلطة الأسد، ومنطقة سيطرة التنظيم، والمناطق الخارجة عن هاتين السلطتين، والمناطق الخاضعة لازدواجية سلطة الأسد وحزب PYD الكردي.
تخضع المناطق التي يسيطر عليها “تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام” لضغوط اجتماعية هائلة تميزها عن باقي المناطق السورية الأخرى، فالقيود التي يفرضها التنظيم وما يحاول أن يرسيه من نمط حياة يختلف عن الطبيعة الاجتماعية لسكان هذه المناطق -بل ويتنافى في بعض الأحيان- باستخدام القوة العارية، تعرض نسيج هذه المجتمعات والعلاقات الاجتماعية السائدة فيها ومع جوارها لأخطار شديدة، إضافةً إلى ما تعرضت له هذه المناطق أصلاً من تفكك نتيجة ظروف الحرب والنزوح واللجوء والهجرة.
إن الطبيعة الاجتماعية لمناطق سيطرة سلطة الأسد متباينة جداً نتيجة للتنوع الديني والطائفي فيها، وهي تمتد من السويداء جنوباً إلى حلب شمالاً، مروراً بدمشق وبعض ريفها وحمص وجزء من ريفها، وحماه وجزء من ريفها. ومن اللاذقية وطرطوس غرباً إلى دير الزور شرقاً. وهي تتراوح بين محافظات بأكملها كالسويداء وطرطوس وجيوب معزولة لا تزال سلطة الأسد تحكم سيطرتها عليها، كحيي القصور والجورة في دير الزور والأحياء الغربية من حلب.
أما المناطق الخارجة عن سيطرة الأسد وتنظيم الدولة الإسلامية فهي المناطق الأكثر تضرراً من الناحية الاجتماعية في ظل الصراع الراهن، بسبب النزوح واللجوء بأعداد كبيرة منها، وبسبب تعرضها المستمر للقصف بالبراميل المتفجرة والصواريخ والمدفعية، ونتيجة الحصار الخانق المضروب حول بعضها (كالغوطة ومخيم اليرموك في دمشق وريفها، وريف حمص وريف حماه)، وأخيراً بسبب طبيعة القوى المسيطرة عليها التي تتراوح بين الإسلامية المتطرفة (كجبهة النصرة وأحرار الشام) وقوى إسلامية أقل تطرفاً لكنها ذات مشروع تسلطي قمعي (كجيش الإسلام في الغوطة الشرقية).
تتميز مناطق الإدارة الذاتية شمال وشمال شرق البلاد، بعدد من الخصائص، أهمها التنوع الإثني والطائفي، يليها في الأهمية ازدواجية السلطة فيها بين سلطة الأسد وسلطة الإدارة الذاتية (الخاضعة لهيمنة حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني)، والتهديد المستمر لتنظيم الدولة الإسلامية لها. ونظراً لهذه العوامل، تتهدد هذه المناطق خطر بروز صراعات ذات طابع قومي بين العرب والكرد بصورة أساسية، إضافة إلى التركمان المتحالفين مع العرب، ويخيم بالتالي على المنطقة شبح التطهير العرقي والتهجير المتبادل، حيث يسعى تنظيم الدولة الإسلامية إلى استغلال هذا الصدع المجتمعي من أجل تهجير الأكراد المناوئين للتوجه الإسلامي عموماً، ناهيك عن المتطرف منه، بينما تستغل قوات حماية الشعب الكردي (ومن وراءها الحزب الديمقراطي الكردستاني) هذا التهديد لحشد الدعم الشعبي في أوساط الكرد لصالحها وتعزيز قاعدتها الشعبية وسمعتها على المستوى الدولي بوصفها قوة شريكة للتحالف الدولي في محاربة التطرف.
المحور الاقتصادي:
تختلف المناطق الخاضعة لسيطرة تنظيم الدولة (ونقصد هنا تحديداً الرقة ودير الزور) عن المناطق الأخرى في سورية من الناحية الاقتصادية في عدة نقاط، يتعلق بعضها بطبيعة المنطقة المذكورة، بينما يعود بعضها الآخر إلى طبيعة السلطة المسيطرة عليها. ونذكر هنا على سبيل المثال:
- لطالما كانت المحافظات الشرقية مناطق نامية ومهمشة اقتصادياً.
- تراجع كبير في إنتاج محاصيل الزراعات التي اعتمدت على تقنيات الري الحديثة، بينما كان لم تتأثر كثيراً المحاصيل المعتمدة على الأمطار.
- أدت القيود التي فرضها تنظيم الدولة الإسلامية إلى مغادرة الاستثمارات واليد العاملة لكثير من الأنشطة الاقتصادية.
إن الملاحظة الأساسية فيما يخص المناطق الخاضعة لسلطة الأسد هي أن هذه المناطق عموماً (باستثناء محافظة دير الزور طبعاً) عرفت من بداية الثورة استقراراً نسبياً أدى إلى جعلها وجهةً للاستثمارات الهاربة والباحثة عن بقاع آمنة، وأدى ذلك إلى تنشيط الدورة الاقتصادية في تلك المناطق وزيادة حجم الاستهلاك الذي ينشط بدوره الدورة الاقتصادية. بكلمات أخرى، أخذت هذه المناطق تنحو شيئاً فشيئاً لتشكل منطقة ذات اقتصاد خاص متميز عن بقية المناطق، اقتصاد له دورته وموارده وأنشطته الخاصة المتمايزة أيضاً عن بقية المناطق.
تعاني المناطق المحررة على العموم من أوضاع اقتصادية متردية أكثر من المناطق الأخرى في البلاد (المناطق الخاضعة لسيطرة سلطة الأسد وتلك الخاضعة لسيطرة تنظيم الدولة)، بيد أن التباينات في الأوضاع الاقتصادية بين تلك المناطق كبيرة جداً أيضاً، فالمناطق المحاذية للحدود تشهد على العموم أوضاعاً أفضل من غيرها بسبب المنافذ المفتوحة لها للحصول على الدعم والإغاثة من الخارج إضافةً إلى التهريب، بينما تغرق المناطق المحاصرة والبعيدة عن الحدود في أتون يقترب من المجاعة في بعض الحالات، لا بل وصلتها في حالات خاصة كمخيم اليرموك.
أما مناطق الإدارة الذاتية الخاضعة للإدارة الذاتية في شمال وشمال شرق البلاد، فهي مناطق تخضع بمعظمها اسمياً أكثر منه فعلياً لسيطرة سلطة الأسد، فلا تزال قوات الأسد ومراكزه الأمنية ومؤسسات الدولة الأخرى متواجدة فيها (كالتربية والتعليم والصحة والقضاء… الخ)، لكن هذه القوات انكفئت إلى مقراتها وتركت السيطرة الفعلية على الأرض لقوات الحماية الكردية ومؤسسات الإدارة الذاتية الأخرى التي أعلن عن قيامها الحزب الديمقراطي الكردستاني (PYD)، فهي من الناحية الاقتصادية تعاني من حالة متردية نوعاً ما، تقترب من حالة المناطق الخاضعة لسيطرة الأسد، لكنها في الوقت نفسه تستفيد من وجودها على الحدود مع تركيا والعراق، ومن إمكانية دخول المساعدات الإغاثية من المنظمات الدولية.
سلمان الحلبي
دراسة قيمة ونأمل دوام المواضيع الراهنة
admin
شكرا جزيلا أخي سليمان