الافتتاحية..تيار مواطنة 18-07-2015
الاتفاق النووي الإيراني-الغربي، مثله مثل الكثير من الأحداث الهامة التي تعيد في كل مرة عرض كل الصيغ المحتملة للتوجهات ونماذج التفكير المغرقة في المحلية، المحدودة الأفق، التآمرية، وبدوافع قومية أو وطنية أو دينية أو طائفية، في حين أن الاتفاق هو ببساطة نجاح للسياسات النفعية العملية لكل الأطراف المشاركة به، فإيران لا تزال تتنازعها من جهة أولى الأيدولوجية الدينية، التي بواسطتها حققت الثورة الإيرانية انتصارها الفعلي وتوصلت الى السلطة وتتوهم في السلاح النووي وسيلة لاستمرارها ومواجهة التهديدات الحقيقية أو المتوهمة، ومن جهة أخرى الاعتبارات الواقعية الملموسة؛ أي ضرورات استمرار وتطور حياة المجتمع والأفراد وربما حتى هدف الوصول الى مصاف الدول المتقدمة باستغلال الإمكانات الطبيعية والبشرية المتوفرة، لكن حالة الحصار الاقتصادي في النهاية وما سببته من استنزاف للموارد والقدرات المحلية وانعكاس الوضع الاقتصادي على الحياة اليومية للمواطن الإيراني، لابد أن تنتج سلوكاً سياسياً مشتقاً من المُعاش اليومي ومن نظرة أعمق لتوهم فائدة النووي في المصلحة القومية العليا للبلاد، فلا معنى كبيراً في أن تصبح إيران -إن استطاعت- دولة نووية جائعة مثل كوريا الشمالية الشمولية، في حين يحتفظ المجتمع الإيراني بهامش للتعدد وإن كان محصوراً في الإطار الديني، ولا يبدو أنه بالإمكان فرض عزلة محلية مشابهة للعزلة الكورية، ولا عزلة إقليمية أو عالمية، في بلد يطمح لتطوير نفسه ويدرك أن ذلك غير ممكن إلا بالتواصل مع العالم، وذلك هو ما دفع إيران إلى التفاوض وتوقيع الاتفاق وكل تظاهرات الغرور أو ادعاء القوة أو الحديث عن غدر الأعداء، كل ذلك ليس إلا تظاهرات تُبرر من وجهة نظر علم النفس بعدم القدرة على التراجع الواضح والمستقيم والاعتراف بالخسارة، في حين تشكل مظاهرات الإيرانيين في طهران وترحيبهم بالاتفاق تعبيراً حقيقياً عن مصلحة الشعب الإيراني الحالية والمستقبلية.
ويمكن فهم الموقف الغربي والأمريكي بالرغبة في الحد من الطموحات النووية للدول الإيديولوجية دون الوصول الى حالة الحرب أو حالة حافة الحرب، التي يمكن أن تكون لها مخاطر على الجميع، وكل ما فعله الغرب هو إعادة الأموال الإيرانية المجمدة مع فرض شروط حقيقية ومراقبة مشددة غير قابلة للتلاعب أو الغش – كما يتصور البعض- على تطوير إنتاج اليورانيوم المخصب وكل التقنيات المتعلقة به، واستطراداً فرض حظر على تكنولوجيا الصواريخ البالستية لمدة ثمانية سنوات، وخمس سنوات على الأسلحة التقليدية، وبالمحصلة يبدو خيار الاتفاق النووي أفضل الممكن وكل تصور آخر لمواجهة إيران عسكرياً – وهذا الخيار لم يُستبعد نهائياً خلال فترة المفاوضات- على الأغلب سيكون له نتائج أسوأ وغير مضمونة على العالم وعلى الاقليم خصوصاً.
لا يجب التوقف كثيراً عند بعض ردود الأفعال على الاتفاق، وبينها الموقف الإسرائيلي الذي ينطلق من اعتبارات هي بالنهاية غير واقعية، فلا يمكن أن ينظر الغرب للمنطقة والعالم من خلال المنظار الإسرائيلي، لذلك ربما نرجح أن يكون هدف الموقف الاسرائيلي هو الابتزاز للحصول على المساعدات الغربية، فإسرائيل تعرف أن إيران لم تشكل سابقاً، ولا يبدو أنها ستشكل أي خطر نووي عليها، خاصة وأن قيمة السلاح النووي ليست في استخدامه بل في تحقيق توازنات استراتيجية لمن يملكونه.
وفي الجهة المقابلة، بعض النواح العربي عند بعض المفكرين أو الناشطين، أو النزعة الانتصارية عند أصدقاء إيران في المنطقة، ومنهم الأسد، لا يمثل محاولة فهم حقيقية للاتفاق أكثر ما يعبر عن أزمة هذه الأطراف، في حين تشكل المواقف الرسمية العربية تعاملاً عقلانياً ضرورياً ولا بد منه في مواجهة ذلك، إنما أيضاً لا بد من القول، طالما أن الاتفاق لا يتعلق بالصراعات والأوضاع الإقليمية وبدور إيران فيها: العراق، سوريا، اليمن، حزب الله … وربما في أماكن أخرى، فإن المطلوب من المتضررين من السياسات الإيرانية في المنطقة من دول وشعوب أن يعيدوا حساباتهم وينطلقوا باتجاه ممارسات استراتيجية وتكتيكية تخدم مواجهة الدور الإيراني الذي ربما يكون لديه فرصة أفضل لممارسة دور إقليمي من خلال تحسن أوضاعه الاقتصادية، ولكن هذا لا يعني أن إيران ستكون مطلقة اليدين في ممارسة سياساتها الإقليمية وربما الدولية، فعاصفة الحزم قلصت من النفوذ الإيراني وأحبطت سردية انتصاره في اليمن، وربما هي على طريق الوصول الى هزيمة شبه تامة، مع المحافظة على توازن المجتمع اليمني بكافة مكوناته بما فيها الحوثيين. وفي العراق ورغم التقاطع الموضوعي في المصلحة بين إيران والغرب وحلفائه في المنطقة في مواجهة داعش، تسعى أمريكا الى محاولة الموازنة بين الدور السياسي والعسكري لمكونات الشعب العراقي على طريق تكوين كيان سياسي عراقي متوازن بالاعتماد على عشائر السنّة وعدم الركون إلى الدور الإيراني من خلال ميليشيات «الحشد الشعبي». وبالطبع لا يزال الجناح العسكري لحزب الله موضوعاً على قائمة الإرهاب، ولكن دون السعي الى إنهاء دوره في سورية في دعم نظام الأسد، وهذا ما يرتبط بتعقيدات كثيرة منها ما يخص وضع المعارضة السورية وتعبيراتها السياسية والعسكرية ووجود داعش والنصرة .
أخيرا، إن مصلحة الثورة السورية وقواها السياسية هي في استمرار السعي بقوة لحل سياسي مرجعيته جنيف 1، وفي دعم أي تشكيل سياسي أو عسكري يعتمد أفق سورية “دولة المواطنة لجميع مواطنيها” في مواجهة فاشية وعنف وبراميل الأسد وداعميه وبينهم الإيرانيون، الذين يصرون على إضفاء البعد الطائفي في الصراع ولا يستطيعون تبرير تدخلهم بدونه، ولكن أيضاً في مواجهة التطرف الذي تمارسه داعش والنصرة، والذي شوه وجه الثورة الوطني وعتم على قيمها في الحرية والكرامة.
تيار مواطنة
18/07/15