دراسة الوضع الراهن حول سورية- مكتب الدراسات إعداد مجموعة من الباحثين- حزيران 2015
يمكننا القول بدايةً أن هذه الدراسة هي صناعة سورية بامتياز، تهدف بالدرجة الأولى إلى فهم الواقع السوري من داخله ومن زوايا نظر مختلفة. فالمعطيات قام بجمعها أشخاص سوريون يعيشون في داخل سورية، وقام بدارستها باحثون سوريون يعيشون في جزء من هذا الواقع السوري وبموارد متواضعة، وليسوا في مختبرات بحثية موجودة في الغرب أو الشرق. إنها محاولة لفهم الواقع السوري المعقد بأعين سورية بعيداً عن الإعلام وصناعته ومبالغاته وسطحيته أحياناً، وبعيداً عن أي أجندة قد تحكم توجه الإعلام ومراكز البحث الأخرى. فقد استندنا في تحليلنا إلى معطيات مأخوذة من الأرض بما تيسير من دقةٍ، نحن ندرك أنها معيوبة وتعتريها الكثير من النواقص، وحاولنا استدراك نواقصها من خلال رؤيتنا للاتجاهات العامة وسد الثغرات فيها من خلال المعرفة الشخصية التي تحتمل الخطأ والصواب. ونحن إذ ندرك أنه من شبه المستحيل الحصول على معطيات دقيقة في شتى أنحاء سورية، بما فيها الواقعة تحت سيطرة سلطة الأسد التي تمتلك أجهزة مركزية ومؤسسات قائمة، فقد قررنا المغامرة والاعتماد على أنفسنا وعلى شبكة علاقاتنا في شتى المناطق للحصول على صورة أوضح ما تكون وبأكبر قدر من التفصيل عن الواقع في تلك المناطق من مختلف النواحي. وإننا بذلك ندرك مسبقاً أنه لا يمكن التعويل كثيراً على الدقة في المعطيات الكمية، لكننا حاولنا استخلاص الاتجاهات العامة من خلال المعطيات المتوفرة بين أيدينا، بغية الوصول إلى لوحة واضحة وشاملة قدر الإمكان عن واقع سورية (أو بالأحرى المناطق الأساسية فيها). ونحن نهدف في المقام الأول من هذه الدراسة إلى تقديم مادة تمكننا نحن بالدرجة الأولى، ومن يريد من شخصيات وقوى سياسية ومدنية أخرى في الدرجة الثانية، من بناء الموقف السياسي في اللحظة الراهنة بالاستناد إلى معلومات ومعطيات مأخوذة من الواقع بشكل مباشر بدون توسطات إعلامية أو غير إعلامية قد تشوه أو تحرف المعطيات، لا بل تختلقها أحياناً.
تنقسم هذه الدراسة إلى ثلاثة محاور هي: المحور السياسي والمحور الاجتماعي والمحور الاقتصادي. يتناول الفصل الأول المحور السياسي الميداني الذي يتطرق إلى طبيعة القوى السياسية والعسكرية المسيطرة بدءاً من سلطة الأسد وانتهاءً بتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (أو تنظيم الدولة الإسلامية أو تنظيم الدولة اختصاراً) مروراً إلى المناطق الخارجة عن سيطرة سلطة الأسد وتنظيم الدولة، مع إفراد تحليل خاص للمناطق التي تسيطر عليها القوات العسكرية الكردية ومحافظة السويداء نتيجة لطبيعتهما الإثنية والمذهبية المختلفة عن جوارهما.
ويتناول الفصل الثاني المحور الاجتماعي الذي يبحث في تأثير الصراع الدائر في سورية على مختلف المناطق من الناحية الاجتماعية، وطبيعة المخاطر التي يتعرض لها الناس سواء أكانوا من سكان المناطق الأصليين أو النازحين من مناطق أخرى، إضافة إلى تجسّد السلطة السياسية والعسكرية والمجتمعية في تلك المناطق وتأثيرها على درجة الحراك الاجتماعي والمدني. كما يتطرق هذا الفصل إلى تأثير القوى المسيطرة على شتى نواحي الحياة من تعليم وعمل وخدمات…. الخ.
أما الفصل الثالث فيتناول المحور الاقتصادي الذي يتطرق إلى مجموعة من القضايا الاقتصادية المعاشية التي تواجه الشعب السوري في الداخل في مختلف مناطق سورية، بدءاً من أسعار المواد الغذائية وصولاً إلى أسعار البناء والعقارات وطبيعة الأنشطة الاقتصادية السائدة في كل منطقة من المناطق المدروسة ومستوى البطالة وهجرة اليد العاملة.
2-1) المناطق الخاضعة لسيطرة تنظيم الدولة الإسلامية. 17
2-1-2) الوضع السياسي والعلاقات الاجتماعية. 18
2-1-3) حركة السكان والنزوح واللجوء والهجرة الخارجية. 18
2-1-4) المخاطر التي يتعرض لها السكان. 19
2-1-5) الخدمات والقوى الناشطة فيها 19
2-2) المناطق الخاضعة لسيطرة سلطة الأسد. 19
2-2-2) الوضع السياسي والاجتماعي. 20
2-2-3) حركة السكان والنزوح واللجوء والهجرة الخارجية. 21
2-2-4) المخاطر التي يتعرض لها السكان. 21
2-2-5) الخدمات والقوى الناشطة فيها 22
2-3) المناطق الخارجة عن سيطرة سلطة الأسد وتنظيم الدولة الإسلامية. 22
2-3-2) حركة السكان والنزوح واللجوء والهجرة الخارجية. 23
2-3-3) المخاطر التي يتعرض لها السكان. 24
2-3-4) الخدمات والقوى الناشطة فيها 24
2-4) مناطق الإدارة الذاتية شمال وشمال شرق البلاد. 24
2-4-2) حركة السكان والنزوح واللجوء والهجرة الخارجية. 25
2-4-3) المخاطر التي يتعرض لها السكان. 25
2-4-4) الخدمات والقوى الناشطة فيها 26
ثالثاً – المحور الاقتصادي.. 27
3-1) المناطق الخاضعة لسيطرة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام. 27
3-1-1) المنتجات النباتية والحيوانية. 28
3-1-2) المعامل والمشاغل في القطاع الخاص… 28
3-1-3) أسعار مواد البناء والعقارات.. 28
3-1-4) أنواع الأنشطة الاقتصادية. 29
3-1-5) أسعار المواد الغذائية وسعر صرف الليرة السورية. 29
3-1-6) سوق العمل ومصادر الدخل. 29
3-1-7) ملاحظات واستنتاجات خاصة. 30
3-2) المناطق الخاضعة لسيطرة سلطة الأسد. 30
3-2-1) المنتجات النباتية والحيوانية. 30
3-2-2) المعامل والمشاغل في القطاع الخاص… 30
3-2-3) أسعار مواد البناء والعقارات.. 30
3-2-4) أنواع الأنشطة الاقتصادية. 31
3-2-5) أسعار المواد الغذائية وسعر صرف الليرة السورية. 31
3-2-6) سوق العمل ومصادر الدخل. 31
3-2-7) ملاحظات واستنتاجات خاصة. 31
3-3) المناطق الخارجة عن سيطرة سلطة الأسد وتنظيم الدولة. 32
3-3-1) المنتجات النباتية والحيوانية. 32
3-3-2) المعامل والمشاغل في القطاع الخاص… 32
3-3-3) أسعار مواد البناء والعقارات.. 32
3-3-4) أنواع الأنشطة الاقتصادية. 33
3-3-5) أسعار المواد الغذائية وسعر صرف الليرة السورية. 33
3-3-6) سوق العمل ومصادر الدخل. 34
3-3-7) ملاحظات واستنتاجات خاصة. 34
3-4) المناطق الخاضعة للإدارة الذاتية شمال وشمال شرق البلاد. 34
3-4-1) المنتجات النباتية والحيوانية. 34
3-4-3) المواد الغذائية والدوائية: 35
3-4-4) الصناعة الاستخراجية والتحويلية: 35
المحور السياسي:
إن أول ما يصادف المرء عند دراسة الواقع السوري على امتداد جغرافيته وتنوعها، هو الفراغ شبه التام في الساحة السورية من قوى سياسية فاعلة إن في السياسة أو على الأرض إذ يصح القول إن الثورة السورية هي جسد بلا رأس. وهذا يفسر غياب العلاقة الصحيحة بين القوى السياسية والقوى الفاعلة على الأرض وبخاصة منها العسكرية.
إن الفراغ في الحقل المدني أقل سوءاً بقليل منه في الحقل السياسي، وثمة تفاوت في الحقلين السياسي والمدني بين مناطق سيطرة تنظيم الدولة والنصرة ومناطق السلطة ومناطق المعارضة المسلحة الأخرى.
ومن اللافت للنظر أن درجة قبول الفصائل المسلحة -وحتى تنظيم الدولة- كانت مرتفعة في البداية في بعض المناطق، إلى أن تراجع هذا القبول كثيراً لاحقاً وصولاً إلى درجة الرفض والمواجهة السلبية على الأقل، مع وجود تفاوتات بين كل منطقة وأخرى.
ومن الملاحظ الغياب التام لمعنى ودور إعلان الخلافة الإسلامية في العراق والشام ليس على الاستقطاب بين الفصائل المتصارعة فحسب، بل وعلى جاذبية تنظيم الدولة لدى الإسلام الشعبي والسياسي على حد سواء.
ويُلاحظ أيضاً أن درجة قبول الجيش والأمن[1] مختلفة إلى حد كبير جداً بين النازحين وأولئك الآخرين الذين لم يذوقوا أبداً طعم اللجوء أو النزوح وبخاصة في مناطق سيطرة السلطة. إذ يحظى الجيش بدرجة من القبول حتى بين أوساط النازحين، بينما درجة قبول أجهزة الأمن والميليشيات شبه النظامية ضعيفة إلى حد الرفض لدى النازحين في مناطق سيطرة السلطة.
يشكل المدنيون الجزء الأكبر من ضحايا أعمال السلطة الحربية (قصف طيران، براميل متفجرة، قصف مدفعي… الخ)، بينما لا تزيد نسبة الضحايا من المدنيين نتيجة قصف قوات التحالف لمواقع الدولة الإسلامية عن 1%.
ومن الممكن اعتبار الانفجار الاجتماعي العاصف القائم اليوم في سورية أمراً أوسع من ثورة -ليس بالمعنى الايجابي للكلمة- وأبعد من حرب أهلية كلاسيكية معروفة الخندقين المتصارعين بدقة مقبولة. ويصح القول: لدينا اليوم في سورية عدد من الخنادق وهي: السلطة وحلفاؤها وأنصارها، تنظيم الدولة وأنصارها في العراق وسورية، الفصائل المسلحة المقاتلة في الشمال والجنوب، وفصيل النصرة الذي ينتظر دوره كيما يحل محل تنظيم الدولة، والفصائل جميعها بغض النظر عن مسمياتها تنتظر الفرصة السانحة لإلغاء بعضها أو تركيع بعضها في طريقها لإقامة سلطتها، سواءً أكان ذلك قبل الإطاحة بسلطة الأسد أم بعد ذلك.
إن الأمر شديد الوضوح هو ذلك القائم في المناطق ذات الأغلبية الكردية ويتلخص في الصراع الضاري والأصيل ضد تنظيم الدولة على أسس قومية أولاً وعلمانية ثانياً ومكيافيلية سياسية ثالثاً تجاه الأطراف الفاعلة بدءاً من سلطة الأسد وانتهاءً بالتحالف الدولي.
وثمة محافظة سورية تستحق الوقوف عندها بعمق هي محافظة السويداء، لأن الدينامية الشعبية على المستويين السياسي والديني فيها يدفع إلى التفكير بشكل إبداعي في إمكانية تحول الأمر إلى وضع خاص ليس هو بالمعارض جذرياً أو الثائر، كما أنه ليس هو بالمؤيد أو الموالي. لكن ينبغي في هذه المحافظة الخروج نهائياً من الوضع الذي يقوم على قاعدة: نعادي من يعادينا ونصادق من يصادقنا ولا نعتدي على أحد ونرد الاعتداء من أي أحد… الخ، والانتقال إلى التقدم نحو حلٍّ إبداعي يقوم على انخراط السويداء بشكل جدي وفعلي في الهم الوطني السوري العام.
المحور الاجتماعي:
أكثر ما يشترك به السوريون ويوحدهم، هو الإقصاء القسري المفروض بالقمع العاري عن المشاركة في صنع القرار في جميع المستويات. هذا الإقصاء متحقق تحت مختلف أشكال سلطات الأمر الواقع في جميع المناطق، مناطق سيطرة سلطة الأسد، ومنطقة سيطرة تنظيم الدولة، والمناطق الخارجة عن هاتين السلطتين، والمناطق الخاضعة لازدواجية سلطة الأسد والإدارة الذاتية (الخاضعة لهيمنة حزب PYD الكردي).
تخضع المناطق التي يسيطر عليها “تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام” لضغوط اجتماعية هائلة تميزها عن باقي المناطق السورية الأخرى، فالقيود التي يفرضها التنظيم وما يحاول أن يرسيه من نمط حياة يختلف عن الطبيعة الاجتماعية لسكان هذه المناطق -بل ويتنافى معها في بعض الأحيان- باستخدام القوة العارية، تعرض نسيج هذه المجتمعات والعلاقات الاجتماعية السائدة فيها ومع جوارها لأخطار شديدة، إضافةً إلى ما تعرضت له هذه المناطق أصلاً من تفكك نتيجة ظروف الحرب والنزوح واللجوء والهجرة.
إن الطبيعة الاجتماعية لمناطق سيطرة سلطة الأسد متباينة جداً نتيجة للتنوع الديني والطائفي فيها، وهي تمتد من السويداء جنوباً إلى حلب شمالاً، مروراً بدمشق وبعض ريفها وحمص وجزء من ريفها، وحماه وجزء من ريفها. ومن اللاذقية وطرطوس غرباً إلى دير الزور شرقاً. وهي تتراوح بين محافظات بأكملها كالسويداء وطرطوس وجيوب معزولة لا تزال سلطة الأسد تحكم سيطرتها عليها، كحيي القصور والجورة في دير الزور والأحياء الغربية من حلب.
أما المناطق الخارجة عن سيطرة الأسد وتنظيم الدولة الإسلامية فهي المناطق الأكثر تضرراً من الناحية الاجتماعية في ظل الصراع الراهن، بسبب النزوح واللجوء بأعداد كبيرة منها، وبسبب تعرضها المستمر للقصف بالبراميل المتفجرة والصواريخ والمدفعية، ونتيجة الحصار الخانق المضروب حول بعضها (كالغوطة ومخيم اليرموك في دمشق وريفها، وريف حمص وريف حماه)، وأخيراً بسبب طبيعة القوى المسيطرة عليها التي تتراوح بين الإسلامية المتطرفة (كجبهة النصرة وأحرار الشام) وقوى إسلامية أقل تطرفاً لكنها ذات مشروع تسلطي قمعي (كجيش الإسلام في الغوطة الشرقية).
تتميز مناطق الإدارة الذاتية شمال وشمال شرق البلاد، بعدد من الخصائص، أهمها التنوع الإثني والطائفي، يليها في الأهمية ازدواجية السلطة فيها بين سلطة الأسد وسلطة الإدارة الذاتية (الخاضعة لهيمنة حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني PYD)، والتهديد المستمر لتنظيم الدولة الإسلامية لها. ونظراً لهذه العوامل، تتهدد هذه المناطق خطر بروز صراعات ذات طابع قومي بين العرب والكرد بصورة أساسية، إضافة إلى التركمان المتحالفين مع العرب، ويخيم بالتالي على المنطقة شبح التطهير العرقي والتهجير المتبادل، حيث يسعى تنظيم الدولة الإسلامية إلى استغلال هذا الصدع المجتمعي من أجل تهجير الأكراد المناوئين للتوجه الإسلامي عموماً، ناهيك عن المتطرف منه، بينما تستغل قوات حماية الشعب الكردي (ومن وراءها الحزب الديمقراطي الكردستاني) هذا التهديد لحشد الدعم الشعبي في أوساط الكرد لصالحها وتعزيز قاعدتها الشعبية وسمعتها على المستوى الدولي بوصفها قوة شريكة للتحالف الدولي في محاربة التطرف.
المحور الاقتصادي:
تختلف المناطق الخاضعة لسيطرة تنظيم الدولة (ونقصد هنا تحديداً الرقة ودير الزور) عن المناطق الأخرى في سورية من الناحية الاقتصادية في عدة نقاط، يتعلق بعضها بطبيعة المنطقة المذكورة، بينما يعود بعضها الآخر إلى طبيعة السلطة المسيطرة عليها. ونذكر هنا على سبيل المثال:
- لطالما كانت المحافظات الشرقية مناطق نامية ومهمشة اقتصادياً.
- تراجع كبير في إنتاج محاصيل الزراعات التي اعتمدت على تقنيات الري الحديثة، بينما لم تتأثر كثيراً المحاصيل المعتمدة على الأمطار.
- أدت القيود التي فرضها تنظيم الدولة الإسلامية إلى مغادرة الاستثمارات واليد العاملة لكثير من الأنشطة الاقتصادية.
إن الملاحظة الأساسية فيما يخص المناطق الخاضعة لسلطة الأسد هي أن هذه المناطق عموماً (باستثناء محافظة دير الزور طبعاً) عرفت من بداية الثورة استقراراً نسبياً أدى إلى جعلها وجهةً للاستثمارات الهاربة والباحثة عن بقاع آمنة، وأدى ذلك إلى تنشيط الدورة الاقتصادية في تلك المناطق وزيادة حجم الاستهلاك الذي ينشط بدوره الدورة الاقتصادية. بكلمات أخرى، أخذت هذه المناطق تنحو شيئاً فشيئاً لتشكل منطقة ذات اقتصاد خاص متميز عن بقية المناطق، اقتصاد له دورته وموارده وأنشطته الخاصة المتمايزة أيضاً عن بقية المناطق. وينبغي التنويه هنا إلى أنه التردي العام للوضع الاقتصادي لسورية بعد الثورة لم يوفر حتى المناطق الأوفر حظاً، كالمناطق الساحلية والعاصمة دمشق وغيرها، مع العلم أن بعض مناطق سيطرة الأسد تشهد معاناة كبيرة نتيجة التردي العام في الخدمات الأساسية وغلاء المعيشة وفقدان بعض المواد الأساسية، كالمحروقات والكهرباء والمياه… الخ.
تعاني المناطق المحررة على العموم من أوضاع اقتصادية متردية أكثر من المناطق الأخرى في البلاد (المناطق الخاضعة لسيطرة سلطة الأسد وتلك الخاضعة لسيطرة تنظيم الدولة)، بيد أن التباينات في الأوضاع الاقتصادية بين تلك المناطق كبيرة جداً أيضاً، فالمناطق المحاذية للحدود تشهد على العموم أوضاعاً أفضل من غيرها بسبب المنافذ المفتوحة لها للحصول على الدعم والإغاثة من الخارج إضافةً إلى التهريب، بينما تغرق المناطق المحاصرة والبعيدة عن الحدود في أتون يقترب من المجاعة في بعض الحالات، لا بل وصلتها في حالات خاصة كمخيم اليرموك.
أما مناطق الخاضعة للإدارة الذاتية في شمال وشمال شرق البلاد، فهي مناطق تخضع بمعظمها اسمياً أكثر منه فعلياً لسيطرة سلطة الأسد، فلا تزال قوات الأسد ومراكزه الأمنية ومؤسسات الدولة الأخرى متواجدة فيها (كالتربية والتعليم والصحة والقضاء… الخ)، لكن هذه القوات انكفئت إلى مقراتها وتركت السيطرة الفعلية على الأرض لقوات الحماية الكردية ومؤسسات الإدارة الذاتية الأخرى التي أعلن عن قيامها الحزب الديمقراطي الكردستاني (PYD)، فهي من الناحية الاقتصادية تعاني من حالة متردية نوعاً ما، تقترب من حالة المناطق الخاضعة لسيطرة الأسد، لكنها في الوقت نفسه تستفيد من وجودها على الحدود مع تركيا والعراق، ومن إمكانية دخول المساعدات الإغاثية من المنظمات الدولية.
قبل الخوض في الاستنتاجات المستخلصة من المعطيات الواردة من الأرض في محافظات مختلفة، لا بد من إبداء بعض الملاحظات الضرورية، سواء أكانت إيجابية أو سلبية، ومنها:
أ) ثمة فائدة حقيقية لهذه المعطيات الاقتصادية والاجتماعية في فهم الوضع السياسي على الأقل، وبخاصة فيما يتعلق بعدم وجود حركة اجتماعية أو سياسية مجتمعية ناشطة، على الرغم من قناعتنا بأن المسؤولية الأساسية في ذلك تقع على عاتق القوى العسكرية المسيطرة في مناطق انحسار السلطة، وعلى طبيعة هذه القوى الاستبدادية الشاملة لكل حقول المجتمع –الاجتماعية والسياسية والثقافية- بما في ذلك بالطبع الحياة الشخصية والأسرية، وبأدق التفاصيل المتعلقة بالمأكل والمشرب والملبس والسلوك والاعتقاد والتعبير عن الرأي… الخ. وفي المناطق التي تسيطر عليها السلطة يتكفل النظام الشمولي، بوجوه قمعه كافة، بتفسير الجَزْر المريع في حقلي النشاط السياسي والاجتماعي، وإن يكن بتفاوت ملحوظ بين الحقلين المذكورين. إن ما نريد قوله باختصار هو: في الوقت الذي تقع فيه المسؤولية الرئيسية فيما نشاهده من جَزر سياسي على الساحة السورية على عاتق القوى المسيطرة في كل منطقة –بما فيها منطقة السلطة، وبخاصة على عاتق القمع العنيف متعدد الوجوه والأشكال- فإن الإمكانية النسبية الموجودة والتي لا تزال تسمح بأن يتدبر المجتمع أمر العيش (على قاعدة الإنتاج المحلي واقتصاد الحرب والمساعدات الخارجية المختلفة والنزوح الداخلي واللجوء الخارجي) نقول إن هذا التدبر يساهم ولو جزئياً في كبح الانفجار الشامل في كل المناطق وفي أي منطقة على حدة، وهذا ما قصدناه بفائدة المحورين الاقتصادي والاجتماعي في فهم الوضع.
ب) فيما يخص المحور السياسي والميداني العسكري، فإنه يقدم معطيات مفيدة جداً –وإن تكن قليلة- في رسم لوحة الواقع على هذا الصعيد بعيداً عن أساطير الإعلام الموالي والمعارض ونقصد بهما بشكل خاص الإعلام المحلي والعربي.
ج) ثمة نقص كبير في المعطيات المقدمة، وذلك لغياب مناطق أساسية في سورية منها، وهو الأمر الذي يجعل كل قراءة مهما تكن حصيفة ناقصة وقائمة في جوانب منها على المعلومات العامة والإعلامية والشخصية.
د) هنالك نقص كبير أيضاً فيما يتعلق بقضايا أساسية في الحقل السياسي – والأمر بخلاف ذلك في الحقل الميداني /العسكري/ ومن هذه القضايا على سبيل المثال لا الحصر:
- مسألة المزاج الشعبي العام فيما يتعلق في الحل العسكري أو السياسي ومضمون أي حل، وذلك بما يفيد البحث في إمكانية حدوثه والمقومات الضرورية له ودور الداخل والخارج بمستوياته كافة في إنجازه أو إعاقته أو… الخ، بما في ذلك بالطبع دور التعب والإحباط /إن وجد/ في تأييد أو رفض الحلول أيا تكن، وفي السياق نفسه كان من المفترض معرفة المواقف ونسبتها المئوية من كل ما ذكرنا بما في ذلك مثلاً بيان جنيف الأول حزيران 2012.
- كان من المفيد معرفة المزاج العام وتنوعه وانقسامه حول الدور الخارجي بدءاً من إيران وروسيا وحزب الله وانتهاءً بالدور الغربي بشكل عام، والأمر نفسه فيما يتعلق بالدور الإقليمي والعربي وبخاصة تركيا – قطر، السعودية، مصر.
- كان من المفيد معرفة الميل العام والثانوي للشعب نحو القوى والكيانات السياسية الموجودة ومن بينها الائتلاف – هيئة التنسيق – القوى الحليفة للسلطة، ومجمل القوى الأخرى وبخاصة الإسلامية منها وكذلك الأمر فيما يتعلق بالحكومة المؤقتة ونشاطها وأبعادها الإيجابية والسلبية.
- والأمر نفسه فيما يتعلق بالمؤتمرات التي تعقد بالخارج أو التي يمكن أن تعقد في المستقبل سواء أكانت سياسية أم مدنية، وطبيعة النظر إلى ممثلي الأمم المتحدة وما يجري اليوم في جنيف – اجتماعات دي مستورا.
- المسألة الطائفية وكيفية النظر إليها بغية البحث في أسبابها التاريخية والمعاصرة وإمكانية وكيفية تجاوزها وآثارها المدمرة على صيرورة الثورة السورية والأضرار المعنوية والسياسية والأخلاقية للخطاب الطائفي أنّى يكن، وبخاصة في الاعلامين المرئي والمسموع بل وذلك المكتوب على صفحات التواصل الاجتماعي.
- مسألة الموقف من التحالف الدولي وهي واردة في المعطيات المقدمة ولكنها ناقصة لأنها اقتصرت في الغالب على محافظتين هما: الرقة ودير الزور كما أنها اقتصرت في المضمون على طبيعة آثارها على المدنيين والعسكريين، وكان من المفيد التعرض لها بوصفها استراتيجية مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية وثغراتها ونواقصها وإمكانية تجاوزها.
وفي كل الأحوال هنالك قضايا أخرى بالتأكيد يمكن الإشارة إليها في المرات القادمة والتعويل اليوم على أن يكون هذا التقرير المبني على المعطيات القليلة التي بين أيدينا مجرد خطوة أولى على الطريق.
وبالانطلاق من هذا التصور يمكن الإشارة إلى بعض الاستنتاجات الأولية من قراءة المعطيات المقدمة إلينا من الأرض، ومحاولة استكمال بعضها في المحافظات الأربعة الرئيسية : حلب وحماه وحمص ودمشق، بالإضافة إلى المحافظة الخامسة الهامة جداً، وإن تكن قليلة المساحة والسكان وهي القنيطرة لما لها من أهمية بارزة في مجرى الأحداث لموقعها الجغرافي وأجزائها المحتلة من إسرائيل وآثار اتفاق 1974م ولقربها من العاصمة ولوجود أقلية سكانية درزية تشتبك بسبب ذلك مع الدروز في المنطقة بشكل عام: سورية-لبنان-فلسطين-الجولان المحتل، والأمر نفسه ينطبق على حوران بعد السيطرة على اللواء /52/ والهجوم على مطار الثعلة.
إن أول ما يصادف المرء عند دراسة الواقع السوري على امتداد جغرافيته وتنوعها، هو الفراغ شبه التام في الساحة السورية من قوى سياسية فاعلة إن في السياسة أو على الأرض إذ يصح القول إن الثورة السورية (أياً يكن الاختلاف على اسمها) هي جسد بلا رأس، وحتى في حالة وجود رأس -على اعتبار الائتلاف مثلاً رأساً نسبياً لها- فإنه غير قادر على القيادة لا سياسياً ولا عسكرياً.
ويضاف إلى ما تقدم أن القوى المسيطرة على الأرض هي قوى عسكرية إسلامية هي في مجملها قوى راديكالية متطرفة، سواء أكانت خارجية أم محلية، والاختلافات بينها حتى إشعار آخر هي في الدرجة والأساليب أكثر مما هو في الجوهر والخلفية الفكرية والعقائدية، وهي في مجملها قوى عابرة للأوطان والدول ولا تشكل القوى المعتدلة بينها غير جيوب صغيرة متناثرة لا أثر يذكر لها سياسياً أو عسكرياً، وبخاصة عندما يتعلق الأمر ببرنامج وطني سوري، ويمكن استثناء الجنوب جزئياً من الحكم السابق.
لعل ما سبق هو الذي يفسر -بالإضافة إلى كل بنية وطبيعة الثورة السورية بالأصل- غياب العلاقة الصحيحة بين القوى السياسية والقوى الفاعلة على الأرض وبخاصة منها العسكرية، وبوسع المراقب العادي لبنية المقاتلين على الأرض وبنية القوى السياسية -باستثناء الإسلام السياسي- أن يكتشف بدون تعب أن بنية القوى السياسية (كالائتلاف الوطني، المجلس الوطني، إعلان دمشق، هيئة التنسيق الوطنية… الخ) هي بنية وطنية- مدنية جامعة، في حين أن بنية المقاتلين هي إسلامية بنسبة 99% فقط. والإشارة إلى هذا الأمر ضروري كي لا نكتفي بترداد المعزوفة المعروفة عن التصحر السياسي الذي تسببت به الديكتاتورية الشمولية عندنا وفي كل مكان، والتي هي صحيحة إلى حد البداهة، ولكنها غير كافية وحدها لتفسير الانقطاع شبه المطلق اليوم بين الحقلين السياسي والميداني العسكري، إذ أن لهذا الانقطاع أسباب أخرى ذكر بعضها أعلاه، ويمكن في المستقبل الإشارة إلى أخرى لم تذكر في سياق هذه القراءة الأولية.
إن الفراغ في الحقل المدني أقل سوءاً بقليل منه في الحقل السياسي، وهذا أمر مفهوم في العادة، سواءً أكان الأمر في الوضع الطبيعي أم في زمن الثورة أو الحرب، لأن هامشاً للعمل المدني سوف يبقى في العديد من الحقول الاجتماعية وبخاصة في الحقل الخدمي. وثمة تفاوت في الحقلين السياسي والمدني بين مناطق سيطرة تنظيم الدولة والنصرة ومناطق السلطة حيث يستطيع المرء أن يلمس درجة من الحضور السياسي الهزيل ودرجة من الحضور المدني الملموس في مناطق سيطرة السلطة، في حين يغيب ذلك في مناطق تنظيم الدولة والنصرة. ليس هذا فحسب، بل إن الفصائل الإسلامية الأخرى في مناطق سيطرتها أو في مناطق السيطرة المشتركة بينها وبين النصرة، لا تقدم أي نموذج سوري مستقبلي يمكن الركون إليه، مرة أخرى نستثني نسبياً -ونسبياً فقط- الجنوب. وربما تكون حلب وبعض المناطق الصغيرة الأخرى، سواء أكانت خاضعة للسلطة أم المعارضة الإسلامية المسلحة، مثالاً لبعض حيوية المجتمع المدني الذي لم يستسلم بعد للقوة العارية كلياً، وهي تشترك في ذلك مع الجنوب أو بعضه.
وثمة تفاوت ملموس أحياناً بين المحافظات التي تخضع للسلطة فيما يتعلق ببعض الحضور السياسي بحيث نرى ذلك مثلاً: في العاصمة بدرجة ما، وفي السويداء وفي الشمال الشرقي لدى الكرد وفي محافظة الحسكة والرقة وشرق حلب/كوباني/ وأقصى شمال غرب حلب/عفرين/ وفي بعض مناطق محافظة حماه. والحديث هنا هو على جانب المعارضة وليس الموالاة إذ أن الأخيرة موجودة في كل مناطق السلطة وإن تكن غير فاعلة، سواء أكانت سلطوية مباشرة أم كانت على شكل حلفاء في الجبهة الوطنية التقدمية أو في غيرها، ولعل الاستثناء الأساسي إن لم نقل الوحيد هو الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي له حضور ملموس في كل مكان تقريباً وإن يكن محدوداً.
وليس هنالك أي دور يذكر -حتى في نطاق المولاة- لكل الأحزاب السياسية الباهتة والصغيرة والهامشية التي ولدت على قاعدة قانون الأحزاب أو في رحم السنوات الخمس الماضية، وهي في النهاية ليست أكثر من أسماء بلا حضور أو أفعال مثلها في ذلك مثل أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية البالية بل ربما كان الأمر ينطبق على حزب البعث الحاكم نفسه.
ولا بد أن هنالك أسباباً كثيرة للمشهد المذكور أعلاه، وقد ذكر بعضها، ولكن السبب الأبرز هو تحول الثورة والوضع برمته إلى العسكرة والحرب، بحيث يصبح القول -كما قيل دائماً في مثل هذه الأحوال- كل السلطة تنبع من فوهة البندقية، إذاً القرار للقوة والعنف المتفاقم الذي يشكل الطاحونة التي تطحن كل شيء أو النار التي تلتهم كل شيء.
ومن اللافت للنظر في المعطيات المقدمة لنا أن التثقيل بين الأسباب السياسية – الدينية والعقائدية والأسباب الأخرى، كالتقاليد والاقتصاد .. الخ، التي تسبب رفض تنظيم الدولة وأمثالها إنما يعود -أي التثقيل- إلى المقاومة القائمة على التقاليد والاقتصاد في بداية الأمر، لكن بعد استتباب حكم الفصائل المذكورة تقدمت إلى الأمام الأسباب القائمة على السياسة والدين، بمعنى الاختلاف في فهم الدين والنظرة إلى الشريعة الإسلامية، وشروط وظروف وأشكال التطبيق …الخ، وفي كل الأحوال يشكل انتقال التثقيل إلى هذا الحقل أمراً إيجابياً في مواجهة تنظيم الدولة وأمثالها.
ومن اللافت للنظر أيضا أن درجة قبول الفصائل المسلحة -وحتى تنظيم الدولة- كانت مرتفعة في البداية في بعض المناطق، وقد كان من بين أسباب انخفاض شعبية الفصائل المسلحة بين الأهالي -على تفاوته- تعب الناس وإحباطهم ورغبتهم في الخلاص، وأخطاء الفصائل العسكرية التي سيطرت قبل تنظيم الدولة، الذي حظي بترحيب من الناس للخلاص من الوضع السابق، إلى أن تراجع هذا القبول كثيراً لاحقاً وصولاً إلى درجة الرفض والمواجهة السلبية على الأقل بسبب ممارسات التنظيم واستخدامه لمستوى شديد القسوة من العنف لفرض سيطرته ومنهجه على الناس، ومادام الأمر كذلك فإن من الممكن التعويل -جزئياً على الأقل- على تزايد الرفض مع الزمن ومع أشكال الضغط التي تمارسها تنظيم الدولة وغيرها على حياة الناس العامة والخاصة.
ومن الأمور التي تحتاج إلى تفسير حقيقي: الفرق الكبير بين درجة قبول تنظيم الدولة في كل من الرقة ودير الزور في البداية، على الرغم من التقارب العميق لنمط حياة الناس وتقاليدهم وعلاقاتهم الاجتماعية والاقتصادية، بحيث يصح القول مع قدر من التسامح: إن البيئة واحدة والقبول مختلف، والمعطيات التي بين أيدينا لم تعطنا تفسيراً ونحن نقدر أن الاصطفافات العشائرية والمغانم الاقتصادية -البترول- وأخطاء الفصائل السابقة من عدمها قد لعبت دوراً في التفاوت المذكور.
وبخلاف ما سبق، من اللافت للنظر أيضاً درجة قبول جيش السلطة في مناطق سيطرته في دير الزور الذي وصل إلى حد اعتباره الحامي الفعلي من طغيان تنظيم الدولة وهو الأمر الذي لا ينطبق بالضرورة “على الدفاع الوطني واللجان الشعبية”، ويبدو أن الاصطفاف العشائري يفعل هنا أيضاً لأن هنالك ميليشيا عشائرية -الشعيطات- تقف مع السلطة في دير الزور، وهذا كما يبدو مفهوم نتيجة للخلاف الحاد بين تنظيم الدولة والعشيرة المذكورة، حيث قتل منها مئات الأشخاص على يد تنظيم الدولة وانتزعت منها مغانم النفط التي كانت بحوزتها.
من الملاحظ الغياب التام لمعنى ودور إعلان الخلافة الإسلامية في العراق والشام ليس على الاستقطاب بين الفصائل المتصارعة فحسب، بل وعلى جاذبية تنظيم الدولة لدى الإسلام الشعبي والسياسي على حد سواء، لأن الجميع يدرك بالتأكيد ما تشكله مسألة الخلافة الإسلامية في المخيال الإسلامي الجمعي -وبخاصة منه السني- ونحن نعتقد حتى يثبت العكس، أن جزءاً من قوة تنظيم الدولة وجاذبيته الراهنة إنما يعود إلى هذه المسألة، وسيحتاج الأمر الكثير من الجهد والزمن والسجال والصراع، وربما الهزائم المدوية، لإبطال مفعول هذه الورقة وانتزاعها لا من تنظيم الدولة فحسب، بل ومن التداول الراهن بشكل عام.
ويُلاحظ أيضاً أن درجة قبول الجيش والأمن مختلفة إلى حد كبير جداً بين النازحين وأولئك الآخرين الذين لم يذوقوا أبداً طعم اللجوء أو النزوح وبخاصة في مناطق سيطرة السلطة، إذ تظهر المعطيات درجة من القبول الواسع للجيش والنسبي للأمن في المناطق المذكورة في أوساط السكان الأصليين في حين لا يحظى الأمن بأي قبول ذي معنى في أوساط النازحين مع درجة من القبول للجيش عندهم، وفي كل الأحوال يتفق القسمان على رفض سائر مكونات السلطة الأخرى – الدفاع الوطني واللجان الشعبية- وبخاصة عصابات الشبيحة. كما يلاحظ في الإطار نفسه أن الهروب من الجيش/أي الخدمة الإجبارية/ تختلف اختلافاً سافراً بين الأوساط السنية حيث تصل إلى 50% في حين تنخفض عند أبناء الطائفة العلوية والمرشدية إلى 5% وذلك في محافظة اللاذقية، على الرغم من أنها بدأت تصبح ظاهرة ملحوظة بين الشباب خريجي التعليم العالي على الأخص، ونعتقد أن الأمر لا يختلف كثيراً في باقي المحافظات ونحن لا نجد أي سبب يجعلنا نقدم اعتذاراً لأحد لأننا نتحدث بهذا الوضوح ونضع إصبعنا على الجرح الطائفي البغيض بدون لف أو دوران.
ومن الملاحظ بوضوح من خلال قراءة المعطيات أن ضحايا قصف السلطة متعدد الأشكال هم من المدنيين من الناحية الرئيسية بحيث تصل النسبة في بعض الأحيان إلى 100% ومن المرجح أنها لا تقل عن 80% في غالب الأحيان. في حين لا يتجاوز الضحايا المدنيون نسبة 1% نتيجة لقصف قوات التحالف الدولي، وهذه النسب هي سبب من بين أسباب أخرى تدفع المواطنين لرفض تام لقصف السلطة وقبول مفهوم لقصف التحالف الدولي لمواقع تنظيم الدولة وهو الأمر القائم في محافظتي دير الزور والرقة على الأقل.
ومن الممكن اعتبار الانفجار الاجتماعي العاصف القائم اليوم في سورية أمراً أوسع من ثورة -ليس بالمعنى الايجابي للكلمة- وأبعد من حرب أهلية كلاسيكية معروفة الخندقين المتصارعين بدقة مقبولة، ليس بسبب التشابك الهائل بين الأوضاع الداخلية في سورية والأوضاع العربية والإقليمية والدولية المتنافسة والمتصارعة على الأرض السورية، وليس بسبب طغيان الأوضاع الخارجية على تلك الداخلية فحسب، بل وبسبب الوضع العياني الملموس في الداخل، حيث هنالك اليوم شكل من أشكال استمرار الثورة التي انطلقت في آذار من عام 2011 بمعنى القطاع الأوسع من الشعب السوري ضد السلطة، كما أن هنالك ما هو أسوء من ثورة مضادة تقودها ليس السلطة فحسب، بل وبالتحديد جماعات متطرفة ووحشية إلى الحد الأقصى هي تنظيم الدولة ومن يماثلها مستقبلاً، وهي جماعات خارج التاريخ البشري تتصارع اليوم مع السلطة ومع النصرة ومع الفصائل المسلحة الأخرى على جسد وحساب الشعب السوري ومصيره وحريته وكرامته بحيث يصح القول: لدينا اليوم في سورية عدد من الخنادق وهي: السلطة وحلفاؤها وأنصارها، تنظيم الدولة وأنصاره في العراق وسورية، الفصائل المسلحة المقاتلة في الشمال والجنوب، وفصيل النصرة الذي ينتظر دوره كيما يحل محل تنظيم الدولة، والفصائل جميعها بغض النظر عن مسمياتها تنتظر الفرصة السانحة لإلغاء بعضها أو تركيع بعضها في طريقها لإقامة سلطتها، سواءً أكان ذلك قبل الإطاحة بالأسد أم بعد ذلك. وفي هذه المعمعة سنواجه أوضاعاً قتالية لا تفسر أحياناً إلا بصعوبة بالغة، هذا إذا تجاوزنا نظريات المؤامرة والعمالة والتصنيع القبْلي أو البعْدي أو الاستثمار اللاحق …. الخ. وفي كل الأحوال يبدو أن الأكثر عرضة لهذه الأوضاع هو ظاهرة التواطؤ الموضوعي والمنفعة المتبادلة -أحياناً على الأقل- بين تنظيم الدولة والسلطة وذلك كما حصل أخيراً في ريف حلب الشمالي على اعتبار هجوم تنظيم الدولة هناك لصالح سلطة الأسد مثلما هو لصالحها هي بالذات ليس فقط من خلال دحر الفصائل المقاتلة الأخرى بل ومن خلال نسف الأرضية التي يمكن أن تقوم عليها المنطقة الآمنة، أو منطقة الحظر الجوي، لأنه ليس هنالك عاقل يمكن أن يفكر بإقامة مظلة في الشمال السوري فوق تنظيم الدولة ولأنه لا يمكن في الوقت نفسه إقامة هذه المظلة إلى الشرق من الفرات نظراً لرفض تركيا ذلك باعتبارها مظلة لأعدائها الكرد. وعندئذ فإن كل حديث عن مظلة آمنة في سورية الشمالية سوف يتحول إلى حديث خرافة حتى إشعار آخر. إذاً في الوضع السوري المعقد الذي أتينا على بعضه يصح القول: هنالك حرب أهلية غير سافرة نظراً لاستمرار بقاء السلطة وبقاء دولتها التي يختبئ وراءها كل مؤيدي السلطة في العالم والإقليم والداخل، وبخاصة الأوساط اليسارية والقومية والعلمانية ……الخ وفي الأمم المتحدة، بحيث يبدو المقاتلين ضدها في هذه الحال -على تعدد واختلاف مشاربهم- مجرد عصابات مسلحة في أحسن الأحوال وإرهابيون تكفيريون أشد سوءاً من ثورة مضادة في حال أخرى .
كما أن هنالك قتالاً ضارياً بين الإخوة الأعداء في الخندق المضاد للسلطة. وهنالك خندق أخير هو الخندق الذي لا يزال يتمسك إلى هذا الحد أو ذاك بالأهداف التي انطلقت الثورة من أجلها والتي أهمها على الإطلاق الحرية والكرامة والدولة المدنية.
إن الأمر شديد الوضوح هو ذلك القائم في المناطق ذات الأغلبية الكردية بدءاً من دجلة وحتى حدود اسكندرون، ومن عناصر هذا الوضوح: الصراع الضاري والأصيل ضد تنظيم الدولة على أسس قومية أولاً وعلمانية ثانياً ومكيافيلية سياسية ثالثاً تجاه الأطراف الفاعلة بدءاً من سلطة الأسد وانتهاءً بالتحالف الدولي، وعلى الرغم من ذلك، بل ربما بسبب ذلك، لا يستطيع تنظيم الدولة تسجيل انتصارات ذات معنى هناك، بل إن المحصلة الواقعية هي- مع بعض التعرجات- لصالح القوات الكردية والقوى المتحالفة معها من عرب وآشوريين وسريان، وبعيداً عن الشوفينية القومية المزدوجة وبخاصة العربية منها وبعيداً عن نظريات المؤامرة والعمالة و…..الخ من السلسلة المعروفة، يجب النظر بعيون وقلوب وعقول مفتوحة إلى ما يجري في المناطق المذكورة لما لها من أثر حقيقي على سورية اليوم وفي المستقبل. وفي كل الأحوال، ومع الاحترام الواجب لكل المحاذير الحقيقية والمخاوف الفعلية من طغيان حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني “PYD” وقوات الأسايش وقوات حماية الشعب الكردي، نقول على الرغم من كل هذه المخاوف والمحاذير المشروعة على مستقبل المنطقة ومستقبل سورية فإن من الضروري عدم النظر إليها بالعيون العربية بل وبخاصة بالعيون التركية، لأن العيون الأخيرة تعقد وسوف تظل تعقد الوضع مع المزيد من وضع العراقيل والعقبات أمام تطور الأوضاع في المحافظات الشمالية بشكل إيجابي، نظراً للعديد من المقدمات التي باتت معروفة ومن بينها المقدمة التي لا تنكرها تركيا، وهي الخطر الكردي عليها والقادم من سورية في حال وقف الكرد على أقدامهم على قاعدة التشابك الحتمي مع كرد تركيا.
ومن الإنصاف القول: أن الترك يبالغون في هذا الخطر حتى في حال تحقق بعض عناصره لأن الوضع الكردي في سورية هو طرفي بامتياز ومتقطع الأوصال وتابع في نهاية المطاف للوضع الكردي في تركيا بشكل خاص، وفي العراق إلى حد كبير، ومن الواضح لكل ذي عين أن كرد تركيا وعلى رأسهم عبد الله أوجلان الزعيم التاريخي لحزب العمل الكردستاني (PKK) وحزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني (PYD)، قد قرروا السير في طريقهم التركي الخاص طريق الحل الديمقراطي في دولة واحدة مع الترك وغيرهم من الشعوب هناك وفي المنطقة، وعندئذ فإن أي قفزة غير محسوبة بدقة من قبل كرد سورية سوف تؤدي إلى كسر الأرجل وليس إلى الوصول إلى الجانب الآخر. وما دمنا في هذا السياق يجب عدم الانسياق وراء الإعلامين التركي الرسمي والعربي (المحلي وغير المحلي) المضللين، وسائر المنابر القومية الشوفينية، ويجب على النقيض من ذلك تحري الدقة في كل ما يقال عن التهجير والتطهير العرقي ومصادرة الأملاك التي تنسب للمقاتلين الكرد. ونحن نعتقد -حتى إشعار آخر- وحتى يتضح كل شيء أن السعار القومي العربي والتركي يقومان على قاعدة التزوير وهذا ما تقوله نسبياً على الأقل معلوماتنا المتواضعة، ونقصد بالتزوير ما يلي:
- في المناطق التي تحررت من سيطرة تنظيم الدولة لا بد من وجود فئات اجتماعية وأشخاص معروفون بتعاطفهم وتأييدهم لتنظيم الدولة بل ودعمه بأشكال مختلفة وصولاً حتى الانخراط في صفوفه أحياناً، وعندئذ فإن من المفهوم أن يطال العشرات -بل ربما المئات من الأشخاص- أشكال من التعامل الحازم والضروري، وهذا ما يحصل بالتأكيد.
- من المفهوم في وضع الاقتتال أن يهاجر الآلاف بعيداً عن القتال والموت طلباً للنجاة وهذا ما يحصل بالتأكيد، ولأن المتعاطفين مع تنظيم الدولة ليسوا من الكرد بالتأكيد، ولأنهم من العرب والتركمان، ولأن أغلب القرى التي تحررت من سيطرة تنظيم الدولة هي عربية وتركمانية فإن الذين يطالهم العقاب أو الذين يهاجرون هم من هاتين القوميتين.
نقول لأن الحال هو على هذه الشكل، فإن التزوير يحصل هنا، فبدلاً من القول: نعم هناك من يعاقب وهو يستحق ذلك، وهناك من يهاجر أو ينزح خوفاً من القتال، يقال إن المقاتلين الكرد يقومون بالتطهير العرقي أو يعاقبون الناس ويهجرونهم بغير وجه حق، بقي أن نقول: لا بد أن هنالك تجاوزات حقيقية كمية ونوعية لما قلناه وقد اعترف الكرد بذلك، إذاً يجب العمل من قبل كل الأطراف وبخاصة الكرد لوضع الأمر في نصابه الصحيح وكي تكون المناطق الشمالية والشمالية الشرقية والشمالية الغربية منطقة إدارة مختلفة بحق عن تلك التي تسيطر عليها الفصائل الإسلامية المقاتلة، متفردة أو مجتمعة، والتي لم تشكل حتى الآن على الأقل، أي نموذج سوري أو غير سوري يستحق الوقوف عنده إلا بالمعنى السلبي للعبارة.
ثمة محافظة سورية تستحق الوقوف عندها بعمق هي محافظة السويداء، لأنها قد تتقاطع جزئياً على الأقل مع المنطقة ذات الأغلبية الكردية وجوارها العربي، والحق إن هنالك اختلافاً بين المنطقتين أكبر بكثير من أي وجه شبه بينهما، سواء أكان الأمر على المستوى الديموغرافي- قومي ومذهبي- أم على المستوى التاريخي أم على المستوى المعاصر أم على المستوى الراهن أم على مستوى القوى الذاتية أم على طبيعة العلاقات مع السلطة ومع المعارضة ومع الجوار… الخ، ومع ذلك فإن الدينامية الشعبية على المستويين السياسي والديني يدفع إلى التفكير بشكل إبداعي في إمكانية تحول الأمر إلى وضع خاص ليس هو بالمعارض جذرياً أو الثائر، كما أنه ليس هو بالمؤيد أو الموالي أو… الخ، وسوف نجازف لنطلق عليه على قاعدة العقل المعتزلي: إنه منزلة بين المنزلتين، وهذه المنزلة يمكنها الاندفاع منطقياً إلى أحد الحدين ولكننا نرجح أنها سوف تتحول إلى حد المعارضة والثورة -وهذه مجرد إمكانية- في حال مواكبتها وتواكبها مع عناصر عديدة، أولها تطور الأوضاع في سوريا ضد السلطة بشكل عام وآخرها الوعي الدقيق والحرص العميق والسلوك المتوازن والنهج الوطني -لا المحلي ولا الطائفي- والخروج نهائياً من شرنقة الوضع المريض الذي لا يمكن أن تغطيه كل الموضوعات الإنشائية المتهافتة، أي الوضع الذي يقوم على قاعدة: نعادي من يعادينا ونصادق من يصادقنا ولا نعتدي على أحد ونرد الاعتداء من أي أحد… الخ. إن هذا الوضع يقوم على قاعدة القبائل المتجاورة والمتصارعة وليس على قاعدة الوطن. إن محافظة السويداء ليست قبيلة كما أن حوران ليست قبيلة مجاورة، فالسويداء جزء لا يتجزأ من الوطن السوري وهي معنية أصيلة به ومن المستحيل أن تبقى في نهاية المطاف جزيرة تقيم علاقات دبلوماسية مع أصدقاء وتناحرية مع أعداء، بانتظار أن يقرر الآخرون مصير الوطن ومستقبله، كي تقرر الالتحاق به من عدمه حسب الحالة، ومن غير المعقول -أياً يكن السبب- البقاء في الموقع الذي تحاول بعض الفعاليات في المحافظة البقاء فيه إلى ما لا نهاية. ونحن إذ نتفهم الأوضاع المعقدة التي لا تخفى على أحد والتي ألجأت الفعاليات المذكورة إلى انتهاج النهج الذي سارت عليه حتى الآن بدءاً من إشكالية السلطة وطبيعة الثورة وجسدها الأساسي، ووسائل وأساليب عملها، والأوضاع التي خلقها تنظيم الدولة والنصرة، والتدخلات الإقليمية والانحيازات والاصطفافات المحلية بما فيها تلك التي تقوم على قاعدة طائفية إلى حد كبير أو صغير، نقول: في الوقت الذي نتفهم فيه ذلك، نعتقد أن لا مستقبل للوضع المذكور الذي أتينا عليه في السويداء ولا في سورية في القادم من الأيام، فعلى كل العقلاء والوطنيين والسوريين التقدم نحو حلٍّ إبداعي يقوم على انخراط السويداء بشكل جدي وفعلي في الهم الوطني السوري العام، أياً يكن شكل هذا الانخراط لأن الوضع الذي هي فيه اليوم وبخاصة على يد الفعاليات الدينية -شيوخ ورجال الكرامة- هو أقرب ما يكون إلى سياسة النأي بالنفس والحفاظ على الذات والدفاع عنها والمحافظة على مسافة ما قصيرة أو طويلة عن جميع الأطراف.
ملاحظة أساسية:
لم تغطِّ المعطيات التي بين أيدينا –لأنها جمعت قبل فترة- المتغيرات الميدانية الكبيرة التي حصلت في الأسابيع الأخيرة، بدأ من سيطرة المقاتلين على إدلب وأريحا وجسر الشغور، أي السيطرة على محافظة إدلب بالكامل تقريباً، والوصول إلى حدود التجمعات السكانية ذات الغالبية التي ينظر إليها على أنها خزان السلطة وهي: محافظتا الساحل ومناطق الغاب، وكذلك الأمر فيما يتعلق بالسيطرة الصاعقة لتنظيم الدولة على مناطق هامة جداً شرق حمص بدءاً من السخنة وتدمر، وحقول الفوسفات والمطار و…الخ، وصولاً إلى القلمون الشرقي وبادية دمشق الشرقية، وليس بعيداً عن ذلك أيضاً هجوم تنظيم الدولة في ريف حلب الشمالي وتأثيره الذي ذكرناه على المنطقة الآمنة الموعودة وعلى نفوذ الفصائل الإسلامية المقاتلة، كما تأثيره بالتالي على معركة حلب الاستراتيجية ومستقبل الصراع مع السلطة ككل، والمتغيرات السريعة التي طالت الجنوب وبخاصة فيما يتعلق بتحرير اللواء/52/ وأبعاد ذلك على الصراع بشكل عام وفي الجنوب بشكل خاص، واليوم تتسارع معركة القنيطرة وما يسمى بالغوطة الغربية أو الجنوبية مع كل الآثار الممكنة لاحقاً على التقدم نحو دمشق، ومن الملاحظ في سياق كل ذلك أن معركة القلمون، وبعد التقدم الكبير الذي حققه حزب الله وسلطة الأسد فإنها اليوم- كما يبدو- سوف تتحول إلى معركة استنزاف لا تلوح في الأفق بعد نهاية قريبة لها بصرف النظر عن اتجاه هذا النهاية.
القديم يُحتضَر،
والجديد تتعذر ولادته.
غرامشي “بتصرف”
أكثر ما يشترك به السوريون ويوحدهم، هو الإقصاء القسري المفروض بالقمع العاري عن صنع القرار. هذا الإقصاء متحقق تحت مختلف أشكال سلطات الأمر الواقع في جميع المناطق، مناطق سيطرة سلطة الأسد، ومنطقة سيطرة التنظيم، والمناطق الخارجة عن هاتين السلطتين، والمناطق الخاضعة لازدواجية سلطة الأسد وحزب PYD الكردي. كذلك الأمر بالنسبة لظاهرة الاعتقال، وبشكل خاص في مناطق سلطة الأسد وتنظيم الدولة الإسلامية.
لكن المفارقة الكبرى أن سيطرة التنظيم بأساليب البطش قد منعت أي شكل من الاعتداءات المسلحة، بينما يتعرض الأهالي في مناطق سيطرة الأسد للاعتداء والمضايقات التشبيحية من قبل الميليشيات والتشكيلات المسلحة الموالية له على اختلاف مسمياتها.
انتهى دور الشرطة والقضاء في مناطق سيطرة التنظيم وتولى دورهما كل من جهازي الشرطة الإسلامية والحسبة. وفي المناطق الخارجة عن سلطة الدولتين صار الأمر في يد الفصائل العسكرية المتعددة، عبر المحاكم والهيئات الشرعية. وفي مناطق سيطرة الأسد، كثيراً ما تتجاوز الميليشيات والتشكيلات المسلحة دور الشرطة والقضاء. وتبقى الكلمة العليا في النهاية للأجهزة الأمنية والعسكرية.
ينعدم النشاط المدني والسياسي في مناطق تنظيم الدولة الإسلامية والنظام، ويتواجد بشكل محدود في المناطق خارج سيطرة الدولتين وفي المناطق الكردية. ويتفاوت التماسك الاجتماعي بين الضعف في مناطق التنظيم والقوة النسبية في المناطق الخارجة عن سيطرة الدولتين. ففي معظم تلك المناطق يعد المجتمع المحلي متماسكاً نوعاً ما، بسبب تجانسه الديني والقومي. وينحصر الصراع الاجتماعي بالصراعات السياسية الراهنة والمستقبلية الناجمة عن الاختلافات والتناقضات الإيديولوجية والبرنامجية، وصراعات المصالح حول النفوذ والسيطرة والهيمنة، بينما لا توجد صراعات طائفية أو قومية.
توقف التعليم الرسمي في مناطق سيطرة التنظيم وافتتحت مدارس دينية خاصة بعناصره. والإقبال على التعليم الشرعي ضعيف بين الناس عموماً. ويُمنع الشباب من الدراسة في الجامعات الرسمية.
2-1) المناطق الخاضعة لسيطرة تنظيم الدولة الإسلامية
تخضع المناطق التي يسيطر عليها “تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام” لضغوط اجتماعية هائلة تميزها عن باقي المناطق السورية الأخرى، فالقيود التي يفرضها التنظيم وما يحاول أن يرسيه من نمط حياة يختلف عن الطبيعة الاجتماعية لسكان هذه المناطق -بل ويتنافى معها في بعض الأحيان- باستخدام القوة العارية، تعرض نسيج هذه المجتمعات والعلاقات الاجتماعية السائدة فيها ومع جوارها لأخطار شديدة، إضافةً إلى ما تعرضت له هذه المناطق أصلاً من تفكك نتيجة ظروف الحرب والنزوح واللجوء والهجرة.
تخضع هذه المناطق لسلطة تنظيم الدولة الإسلامية المطلقة وبالقوة العارية، ولا يوجد رأي أو نفوذ لأي جهة أو شخصية مدنية أو عشائرية في أي شأن من الشؤون. ويمارس تنظيم الدولة سلطته هذه عبر ثلاثة أجهزة تابعة له بصورة أساسية، هي جهاز الشرطة الإسلامية التي تتولى ممارسة دور الشرطة في تسوية الخلافات وحفظ الأمن وتنظيم المرور وملاحقة مرتكبي الجرائم والمخالفات، وجهاز الحسبة: الذي يتولى مراقبة التزام الناس بالأنظمة والقواعد والقيود التي فرضها التنظيم على نمط حياة الناس وممارستهم لطقوس العبادة والمأكل والمشرب والملبس… الخ، ويتولى هذا الجهاز أيضاً معاقبة المخالفين ويتصف ببطشه الشديد وعدم تساهله مع أي مخالفة، وفي النهاية يأتي الجهاز الخدمي الذي يتولى تقديم الخدمات للمجتمع ويتمتع بنفوذ كبير لحاجة الناس له في الحصول على الخدمات. ومن وراء هذه الأجهزة جميعها يقبع جهاز مرعب للجميع هو الجهاز الأمني أو استخبارات التنظيم الذي يحصي على الجميع أنفاسه ويمثل نواة دولة بوليسية استلهم فيها التنظيم القبضة الأمنية لنظامي البعث في العراق وسورية. أما بالنسبة للقضاء فتتولى المحاكم الإسلامية تطبيق الشريعة الإسلامية في مناطق سيطرة التنظيم، والفصل في القضايا التي تحال إليها من جهاز الشرطة الإسلامية.
2-1-2) الوضع السياسي والعلاقات الاجتماعية
ليس هناك أي مجالس محلية تعمل في مناطق سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية، وأعضاء المجالس القديمة التي تشكلت بعد خروج هذه المناطق عن سلطة الأسد: إما هربوا خارج البلاد، أو يعملون ضمن أجهزة تنظيم الدولة الإسلامية بعد استتابتهم على يد شرعيي التنظيم، أو استقالوا من الشأن العام والتزموا بيوتهم. وبالتالي لا يشعر الناس بأن لهم أي دور في الشأن العام. ولا وجود لأي قوى مدنية أو سياسية تعمل في تلك المناطق. وتهدد النسيج الاجتماعي مخاطر عدة، نظراً للضغوط التي يتعرض لها، وأهمها الضغوط السياسية. ويتحكم التنظيم بحياة ومعيشة الناس العامة والخاصة، بما في ذلك المأكل والمشرب واللباس ونمط العيش، وما عليهم سوى التنفيذ والطاعة دون أي اعتراض، والاعتراض ذنب وكفر، والكافر يقتص منه.
يسيطر المهاجرون (عناصر التنظيم من جنسيات غير سورية) في مناطق التنظيم على صنع القرار في المجالين السياسي والاجتماعي (مدني وخدمي)، بينما يتوزعون مع الأنصار (عناصر التنظيم السوريين) الهيمنة على القرار في المجالين الاقتصادي والعسكري/الأمني. وثمة انفصال بين المهاجرين والمجتمع المحلي فهم غير مندمجين فيه (علاقات زواج – جوار – عمل – صداقات). وقد أحضر حوالي نصف المهاجرين عائلاتهم للاستيطان في مناطق سيطرة التنظيم. أما بالنسبة إلى المستوى المعيشي فإن المهاجرين يتمتعون بامتيازات إضافية (أموال، سيارات، منازل…) وخاصة في دير الزور. وتحدث أحياناً بعض التوترات والصدامات بين المهاجرين والأنصار. ويتولى الأنصار والمدنيون المسؤولية عن تقديم الخدمات الصحية.
2-1-3) حركة السكان والنزوح واللجوء والهجرة الخارجية
لا بد هنا من التمييز بين محافظتي الرقة ودير الزور. فمن المعروف أن الرقة قبل تحريرها من سلطة الأسد كانت مقصداً لموجات ضخمة من النزوح من شتى المناطق الساخنة (دير الزور، حلب، حمص، إدلب… الخ). واستمر هذا الوضع حتى بعد تحريرها على يد فصائل الجيش الحر والفصائل الإسلامية الأخرى. أما بعد سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية فقد شهدت حركة نزوح معاكسة، حيث خرج منها مئات الآلاف من سكانها ومن النازحين إليها، سواء باتجاه الريف أو الحسكة أو بالعودة إلى مناطقهم الأصلية أو إلى تركيا. أما بالنسبة إلى دير الزور، فإن الوضع مختلف، حيث شهدت المحافظة اضطرابات وصراعات مسلحة عنيفة أدت في نهاية المطاف إلى سيطرة تنظيم الدولة على أكثر من 90% من مساحة المحافظة، وكانت قبل ذلك قد استقبلت أكثر من 150 ألف نازح جلّهم من حمص وحلب توزعوا على المدينة والريف. إلا أن سيطرة تنظيم الدولة على المحافظة وما ترافق معه من قمع وتنكيل شديد ببعض المكونات العشائرية للمحافظة (عشيرة الشعيطات على سبيل المثال) أدى إلى حركة نزوح كبيرة من المحافظة، وربما تكون النسبة الأساسية من النازحين هم من سكان المحافظة الأصليين وليس من النازحين، نظراً لحالة الاستقرار النسبي الذي شهدته المحافظة بعد سيطرة التنظيم. بيد أنه لا تتوفر معلومات وأرقام دقيقة حول هذه الحركة.
2-1-4) المخاطر التي يتعرض لها السكان
إن الخطر الأكبر بالمطلق الذي يتعرض له السكان هو قصف الطيران أولاً، ناهيك عن الصواريخ والمدفعية الثقيلة، سواء بمقياس عدد الضحايا من قتلى وجرحى ومن أصبح بلا مأوى ولا يمتلك أسباب العيش، أو بمقياس دمار المساكن والأحياء والمرافق العامة والبنى التحتية. وهذا الخطر المعمم يأخذ طابعاً وحشياً ليس بسبب عشوائيته على المساكن والأحياء المدنية التي لا يتواجد فيها مسلحون، وهذا صحيح، ولكن بسبب تقصده أيضاً المدارس والمستشفيات ومحطات الوقود، والمخابز والأسواق الشعبية في ذروة اكتظاظها. وينعكس هذا الأمر بدرجات متفاوتة على النشاط الاقتصادي والخدمي، إذ تتوقف الكثير من الأعمال والخدمات الضرورية للناس نتيجة هذا القصف.
وثمة مخاطر أخرى تتعلق بالحياة اليومية للسكان ومعيشتهم، كظاهرة السرقة التي تحصل بين الفينة والأخرى. ويتعرض لها الجميع نظرياً، والمستهدف الأكبر فيها هو منازل المدنيين، والسبب في ذلك هو على ما يبدو سهولة سرقتها، كالمنازل المتطرفة، أو البيوت المهجورة التي غادرها أهلها، أو لكونها أهداف ثمينة كبيوت الأغنياء. ومن المفارقات أن سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية بأساليب البطش قد منعت أي شكل من أشكال الاعتداءات المسلحة، وكذلك اختفت ظاهرة الاختطاف. لكن التنظيم لا يتوقف عن عمليات الاعتقال التي تطال كل من حمل السلاح ولو لم يستخدمه ضد التنظيم، والمعتقل معرض للإعدام. أما حالات التحرش الجنسي فهي فردية ونادرة، أي ليست ظاهرة معممة وممنهجة، وعلى العكس يتعرض مرتكبها لعقاب قاسٍ، فقد حدث أن قام أحد أمراء التنظيم باغتصاب امرأة في مشفى الطب الحديث بمدينة الميادين فقام التنظيم بمحاكمته وإعدامه.
2-1-5) الخدمات والقوى الناشطة فيها
إن التعليم متوقف تماماً في المحافظة، فقد منع تنظيم الدولة الإسلامية المعلمين من تقاضي أجورهم من وزارة التربية التابعة لسلطة الأسد، وطلب منهم إعلان التوبة عن عملهم مع النظام “الكافر”، وافتتح التنظيم مدارس دينية خاصة لعناصره يعمل فيها من أعلن توبته فقط. لذلك فإن معدل التسرب من التعليم بكافة مراحله تبلغ نسبته 100% للذكور والإناث. ويمنع على الشباب السفر لمتابعة الدراسة في الجامعات الرسمية. أما فيما يخص التعليم الشرعي، فيلاحظ أن درجة الإقبال على التعليم الشرعي ضعيف بين الناس عموماً في تلك المناطق، لكنها ترتفع قليلاً بين الأطفال دون سن 18 عاماً. وكما ذكرنا لا يوجد خارج أجهزة التنظيم أي قوى أو جهات مدنية محلية أو سياسية تقدم هذه الخدمات أو أي نوع آخر من الخدمات.
2-2) المناطق الخاضعة لسيطرة سلطة الأسد
إن الطبيعة الاجتماعية لهذه المناطق متباينة جداً نتيجة للتنوع الديني والطائفي فيها، وهي تمتد من السويداء جنوباً إلى حلب شمالاً، مروراً بدمشق وبعض ريفها وحمص وجزء من ريفها، وحماه وجزء من ريفها. ومن اللاذقية وطرطوس غرباً إلى دير الزور شرقاً. وهي تتراوح بين محافظات بأكملها كالسويداء وطرطوس وجيوب معزولة لا تزال سلطة الأسد تحكم سيطرتها عليها، كحيي القصور والجورة في دير الزور والأحياء الغربية من حلب.
تتميز هذه المناطق بالسيطرة المطلقة لأجهزة سلطة الأسد، الأمنية بالدرجة الأولى، ويقاسمها السلطة بدرجات متفاوتة من منطقة إلى أخرى تشكيلات أخرى مسلحة موالية للأسد، كالدفاع الوطني وميليشيات محلية وأحياناً ميليشيات غير سورية.
ففي أحياء دير الزور الخاضعة لسيطرة سلطة الأسد، يتولى السلطة الأمنية جهاز الأمن العسكري، بينما يتولى المحافظ المسؤولية عن الجانب الخدمي والإداري. يتدخل الأمن في حل وتسوية أغلب المشاكل، ويتم اللجوء إلى الشرطة والأمن العسكري باعتباره السلطة العليا في المنطقة، حتى أن الأخير يتجاوز دور الشرطة والقضاء. أما في اللاذقية، فلمجموعات الشبيحة دور كبير في ممارسة السلطة حتى على أجهزة الدولة، ولبعض هذه المجموعات اتصال مباشر مع القصر الجمهوري، حتى أن المدينة مقسمة إلى مناطق نفوذ بين مجموعات الشبيحة وتشكيلات الدفاع الوطني، ونادراً ما يحتكم هؤلاء إلى القضاء أو يمتثلون للشرطة وأحياناً حتى للأجهزة الأمنية، وليس بالأمر المستغرب حدوث مصادمات بين هذه الأطراف تسفر عن ضحايا أحياناً. وبالانتقال إلى محافظة أخرى ذات طبيعة مختلفة عن المنطقتين السابقتين اجتماعياً وسياسياً، هي محافظة السويداء، فنرى فيها حضور أكبر لأجهزة الدولة القضائية والتنفيذية كالشرطة والمحاكم ونادراً ما يتم تجاوز دورهما، وهذا لا يعني أبداً غياب حضور الأجهزة الأمنية، بل هي الحاضرة والمؤثر الأكبر ولكن من الخلف في كثير من الأحيان، ويبرز في هذه المحافظة حضور الوجهاء المحليين والزعامات الدينية التي تتولى تسوية الخلافات ذات الطبيعة المجتمعية والعشائرية مع الجوار. تأتي السلطة بأجهزتها المختلفة (المدنية والعسكرية والأمنية) على رأس هرم السلطة في المحافظة، وهي المتحكم الأول في كافة التشكيلات المسلحة الموالية للسلطة، ولا يزال المجتمع يعتبر سلطة الأسد هي السلطة العليا. وبالإضافة إلى الجيش والأمن والشرطة، تعتمد سلطة الأسد على تشكيلات مليشياوية مثل (الدفاع الوطني – مليشيا نزيه جربوع – مليشيا الزوبعة – كتائب البعث – مليشيا جمعية البستان – حزب الله – الحرس الثوري الإيراني). وتلعب المنظمات الشعبية والشعب الحزبية دور نسبي في القضايا المحلية البسيطة. ومن الجدير هنا الحديث عن بروز وتنامي ظاهرة مسلحي المشايخ (رجال الكرامة) لتصبح ذات نفوذ اجتماعي واسع من جهة، وذات قدرة على الوقوف بوجه السلطات المحلية من جهة ثانية. وحدث في العديد من الحالات أن منع تشكيل المشايخ وعطل دور الأجهزة الأمنية في حالات الاعتقال أو الإهانات على الحواجز.
2-2-2) الوضع السياسي والاجتماعي
في ظل هذا السيطرة المطلقة لأجهزة سلطة الأسد والتشكيلات الموالية لها في المناطق الخاضعة لسيطرتها، تنعدم بشكل كلي تقريباً المساحات المتاحة للعمل السياسي أو المجال المتاح للناس للتعبير عن آرائهم، ويشعرون بطغيان الحضور المسلح على صوت العقل والحوار. وهذا يؤثر كثيراً على تماسك هذه المجتمعات نتيجة تنامي مشكلة الطائفية، كما في اللاذقية وطرطوس وحمص وحماه والسويداء، وصعود التصدعات العشائرية والمناطقية إلى واجهة العلاقات الاجتماعية كما في دير الزور والرقة ودمشق وحلب على سبيل المثال.
وتبرز في هذه المناطق ظاهرة لم تكن معهودة قبل عام 2011 بالشكل الذي هي عليه الآن، وهي ظاهرة الالتحاق بالجيش والأمن ويضاف إليهما اليوم التشكيلات الأخرى شبه النظامية، كميليشيات الدفاع الوطني وجيش العشائر في المنطقة الشرقية وكتائب البعث… الخ. فقد شهدت هذه الظاهرة نمواً كبيراً بعد انتقال الثورة إلى التسلح، واتساع دائرة المعارك في البلاد، ويضاف إلى هذه العوامل الانعدام شبه الكلي لفرص العمل ما يدفع الكثير من الشباب والرجال إلى الانتساب إلى إحدى تلك التشكيلات بغية الحصول على راتب شهري. ففي دير الزور على سبيل المثال، ينخرط الكثير من الشباب إما في قوات الدفاع الوطني أو في جيش العشائر (ولاسيما أبناء عشيرة الشعيطات) الذي يقاتل بشكل أساسي تنظيم الدولة الإسلامية، أما في اللاذقية وطرطوس فقد عرفت هذه الظاهرة تنامياً صارخاً، فتكاد لا تجد أسرة لا ينتسب أحد أفرادها على الأقل لإحدى هذه التشكيلات. وتختلف السويداء في هذا المجال عن بقية المناطق الخاضعة لسلطة الأسد، إذ نجد أن ظاهرة الانخراط بالتشكيلات المسلحة غير الأمن والجيش قليلة جداً، وتقتصر تقريباً على الدفاع الوطني. ومن جهة أخرى نجد أن ظاهرة التخلف عن الخدمة العسكرية بين الشباب (وبخاصة خريج التعليم العالي) بات ظاهرة ملحوظة جداً في كل المناطق الخاضعة لسيطرة سلطة الأسد تقريباً، بما في ذلك المناطق الأشد ولاءً له، بسبب عنف الصراع وفداحة الخسائر البشرية التي تتكبدها قوات الأسد والميليشيات المقاتلة معها. وتبرز هذه الظاهرة على نحو خاص في السويداء حيث يقدر عدد المتخلفين عن الخدمة العسكرية الأساسية أو الاحتياطية بحدود 23 ألف شاب (عدا عن الفارين من الخدمة). ويشار إلى أن الغالبية الساحقة من الشباب المتخلفين عن الخدمة العسكرية يلجؤون إلى الهجرة خارج البلاد هرباً من الملاحقة التي يتعرضون لها لتخلفهم عن الخدمة.
2-2-3) حركة السكان والنزوح واللجوء والهجرة الخارجية
لا بد من الإشارة هنا أن المناطق الخاضعة لسيطرة سلطة الأسد عموماً شكلت مقصداً للنزوح الداخلي من المناطق الساخنة، وذلك لما تمتعت به من أمان نسبي من عمليات القصف والمعارك، ولربما يمكن استثناء أحياء دير الزور (الجورة والقصور)، لكونها محاصرة من تنظيم الدولة الإسلامية وتعد مناطق اشتباكات وعمليات عسكرية، ولا يتجاوز عدد النازحين إليها 10 آلاف نسمة وربما يعود زمن نزوحهم إليها إلى ما قبل سيطرة التنظيم على محافظة دير الزور. أما بالنسبة لمحافظة اللاذقية، فيقتصر وجود النازحين على المدينة دون الريف عموماً، ويقدر عددهم بحدود 450 ألف نازح، أغلبيتهم من حلب، ويليها إدلب وحمص وحماه بالترتيب. وتعد محافظة السويداء مقصداً أساسياً للنزوح، وبخاصة من درعا وريف دمشق، يليها القنيطرة وحمص وإدلب وحلب. ويعرف عن محافظة السويداء عموماً وجود الكثير من أبنائها مغتربين في دول المهجر، لكن السنوات الأخيرة عرفت حركة هجرة كبير ليس على خلفية الاغتراب طلباً للعمل، وإنما خوفاً من المستقبل، واليأس من استقرار الأوضاع في سورية في المدى المنظور، بالإضافة إلى الهرب من الخدمة العسكرية والملاحقة الأمنية للمعارضين والناشطين.
2-2-4) المخاطر التي يتعرض لها السكان
تتميز هذه المناطق كما أسلفنا بأمانها النسبي وبعدها عن المعارك، إلا في بعض الحالات كأحياء دير الزور الخاضعة لسيطرة سلطة الأسد والمحاصرة من قوات تنظيم الدولة، وبالتالي فإن المخاطر هنا تتعلق غالباً بما هو معتاد في الأوضاع الطبيعية مع ارتفاع نسبي في معدلات بعض الأخطار تبعاً للفئات المستهدفة أو لوجود ميليشيات مسلحة لا تخضع للقانون وبعيدة عن المساءلة. ففي اللاذقية على سبيل المثال نادراً ما تتعرض المدينة إلى القصف أو الهجوم بسبب بعدها عن خطوط التماس الساخنة، ولكن نظراً لوجود أعداد كبيرة من النازحين فيها فإن هؤلاء يتعرضون لمخاطر جمة، من ضمنها الابتزاز والاعتداء الجسدي من جانب التشكيلات المسلحة المختلفة التابعة أو الموالية للأسد. ونظراً لكثافة التواجد الأمني والحواجز المسلحة، انخفضت نسبة جرائم السطو والسرقة انخفاضاً كبيراً، وغالباً ما تستهدف هذه الجرائم الفئات الضعيفة ممن لا تتوفر لهم حماية مسلحة، وهي على الأغلب من بين النازحين. ويعد جميع الناس نظرياً عرضةً للاعتقال أو الخطف بغرض الفدية، وثمة حالات يصعب التمييز فيها بين الحالتين، لأن الجهة التي تقوم بعملية الاعتقال يكون غرضها ابتزاز المعتقل أو أهله. وبالنسبة للنساء، ونظراً لانتشار السلاح على نطاق واسع في المدينة، فإنهن عرضة للتحرشات المختلفة ذات المحتوى الجنسي، سواء أكانت لفظية أو جسدية، والنساء النازحات هن الأكثر عرضة لهذه المخاطر.
أما في السويداء، فلا تتعرض المحافظة للقصف من قوات المعارضة، لكن ثمة مخاطر تنبع من تصرفات التشكيلات المسلحة الموالية للنظام على اختلافها، بالإضافة إلى مخاطر أخرى مصدرها صراع عصابات التهريب والمليشيات الملحقة بالسلطة. وتحدث أعمال سرقة بتواتر متوسط، وتندر حالات الاعتداء المسلح. أما بالنسبة لحالات الخطف والاعتقال فيكاد لا يمر شهر دون حدوث حالتين أو ثلاث حالات، والفئات الأكثر عرضة لهذه المخاطر هم (الأطفال، النساء، النازحون، ذوي الاحتياجات الخاصة… الخ). أما النازحون فهم الأكثر عرضة للاعتقالات والتوقيف على الحواجز الحكومية وحواجز “الدفاع الوطني”، والاستدعاءات الأمنية، والرقابة والابتزاز المالي والعيني وأحياناً الجنسي، كما يتعرضون للسرقة، ويتم خطف واعتقال النازحين رداً على حوادث خطف لا علاقة لهم بها.
وفيما يخص أحياء دير الزور الخاضعة لسلطة الأسد، ومحاصرة من قوات تنظيم الدولة الإسلامية، فثمة مخاطر خاصة يتعرض لها الأهالي القاطنين في هذه الأحياء، ونسبة قليلة منهم من النازحين، إذ أن قوات التنظيم تقوم بقصف هذه الأحياء دون مراعاة لوجود المدنيين فيها، ما يؤدي إلى سقوط ضحايا منهم. ومن جهة أخرى يتعرض الأهالي لمضايقات ومخاطر من التشكيلات الموالية للسلطة (جيش الدفاع الوطني وجيش العشائر)، ويُمارس الاعتداء المسلح بطريقة التشبيح من قبل عناصر الدفاع الوطني على المدنيين، وأغلب الذين يستهدفهم الاعتقال هم الشباب من أجل الخدمة العسكرية. لكن نتيجة الحصار، يبرز هنا على نحو مقلق خطر الصحي يتجسد بقلة الأدوية والمواد الطبية وفقدان بعضها بشكل كامل، ما أدى إلى توقف التعليم بسبب انتشار الأمراض المعدية، هذا بالإضافة إلى الخطر الغذائي، نتيجة قلة المواد الغذائية وحليب الأطفال، الأمر الذي أدي إلى وفيات بسبب سوء التغذية وقلة العناية الطبية. وتتعرض كافة شرائح المجتمع المحلي لهذه المخاطر. وعلى صلة بحالة الحصار التي يعيشها حيا القصور والجورة، برزت ظاهرة تهريب الناس عبر نهر الفرات مقابل مبالغ طائلة تدفع لكلا الطرفين قوات الأسد وقوات تنظيم الدولة الإسلامية معاً، وقد تصل هذه المبالغ إلى عشرات الآلاف من الليرات السورية مقابل مجرد عبور النهر.
2-2-5) الخدمات والقوى الناشطة فيها
تتولى مؤسسات السلطة تقديم الخدمات في المناطق الخاضعة لها، سواء أكانت الخدمات التعليمية أو الصحية أو البلدية. ويعمل إلى جانب هذه المؤسسات منظمات أهلية ومدنية أخرى، كالهلال الأحمر العربي السوري، وبعض الجمعيات الخيرية الأخرى. وهنالك مجموعات أخرى أصغر تعمل تحت غطاء هذه المنظمات المرخصة رسمياً لتقديم المساعدة للنازحين عبر الدعم الأهلي أو من منظمات مساعدة دولية، ولا يسمح لهذه المجموعات بالعمل علناً وبشكل مستقل، لأنها في أغلب الأحوال تضم أناس معارضين لسلطة الأسد بدرجات متفاوتة. وكثيراً ما يتعرض أفراد هذه المجموعات للاعتقال على خلفية الشك في تقديمهم مساعدات لا ترضى عنها الأجهزة الأمنية أو تشك في ذهابها إلى المقاتلين.
وبالنسبة إلى التعليم، لا تشهد هذه المناطق توقفاً في التعليم أو تسرباً خارجاً عن المألوف من المدرسة، نظراً لدرجة الأمان النسبي التي تشهدها هذه المناطق (باستثناء أحياء دير الزور المذكورة آنفاً)، ولكون العملية التعليمية تسير وفق مسارها الطبيعي من توفر المعلمين إلى المناهج الدراسية والمدارس… الخ. لكن لا بد من التنويه إلى أن زيادة الانخراط في التشكيلات المسلحة التابعة أو الموالية لسلطة الأسد، قد خفّض نسبة إكمال التعليم الثانوي والالتحاق بالتعليم العالي بمراحله المختلفة.
2-3) المناطق الخارجة عن سيطرة سلطة الأسد وتنظيم الدولة الإسلامية
هي المناطق الأكثر تضرراً من الناحية الاجتماعية في ظل الصراع الراهن، بسبب النزوح واللجوء بأعداد كبيرة منها، وبسبب تعرضها المستمر للقصف بالبراميل المتفجرة والصواريخ والمدفعية، ونتيجة الحصار الخانق المضروب حول بعضها (كالغوطة ومخيم اليرموك في دمشق وريفها، وريف حمص وريف حماه)، وأخيراً بسبب طبيعة القوى المسيطرة عليها التي تتراوح بين الإسلامية المتطرفة (كجبهة النصرة وأحرار الشام) وقوى إسلامية أقل تطرفاً لكنها ذات مشروع تسلطي قمعي (كجيش الإسلام في الغوطة الشرقية).
إن أهم ما يميز هذه المناطق عن مناطق سيطرة الدولتين (سلطة الأسد وتنظيم الدولة الإسلامية) أن السلطة فيها غير مركزية وغير موحدة وأن القوى المسيطرة تسمح على الأغلب –وإن يكن بدرجات متفاوتة- لقوى مدنية بالعمل في مناطق سيطرتها كالمجالس المحلية والدفاع المدني والمكاتب الطبية والإعلامية… الخ، فتجد على سبيل المثال مدينتين أو ربما قريتين أو حتى حيين في نفس المدينة تسيطر عليهما قوتين مختلفتين، هذا بالإضافة إلى تغير السيطرة بين قوة وأخرى بين فترة وأخرى. ففي الغوطة الشرقية على سبيل المثال القوة الأساسية المسيطرة فيها هو جيش الإسلام بما يتبع له من مؤسسات قضائية أو شرعية وحتى سجون، وذلك بعد حملته الشهيرة على قوى الجيش الحر الأخرى التي كانت تعمل في المنطقة وانضوت لفترة قصيرة تحت مسمى جيش الأمة، قبل أن يقضي عليهم جيش الإسلام ويصادر أسلحتهم ومقراتهم. أما في إدلب فإن السيطرة بصورة أساسية هي لجيش الفتح المكون من فصائل مختلفة على رأسها جبهة النصرة وأحرار الشام وجند الأقصى وغيرهم. أما في درعا، فالوضع أقل سوءاً لجهة وجود جبهة موحدة تعمل تحت إدارة غرفة عمليات واحدة يغلب عليها البرنامج السياسي الوطني أكثر من الإسلامي، وتسيطر على مناطق واسعة من المحافظة، دون أن يعني ذلك عدم وجود قوى مهمة خارجها، كجبهة النصرة وأحرار الشام، وتنظيم الدولة الإسلامية الذي ظهر في الآونة الأخيرة من خلال مبايعة أحد الفصائل له. وعلى العموم يمكن القول إن المناطق “المحررة” في الشمال تخضع بصورة أساسية لسيطرة قوتين كبيرتين هما جبهة النصرة وأحرار الشام، بينما تخضع المنطقة الجنوبية لسيطرة الجبهة الجنوبية (لا تزال فصائلها تطلق على نفسها مسمى الجيش الحر)، بينما تخضع الغوطة الشرقية بصورة أساسية لجيش الإسلام. وتعمل في الغالبية العظمى من هذه المناطق مجالس محلية ذات فعالية بين المتوسطة والعالية، وأجهزة قضائية يغلب عليها المحاكم أو الهيئات الشرعية الإسلامية، ومكاتب خدمية مستقلة إلى هذا الحد أو ذاك عن القوى العسكرية، وتحصل على تمويلها بأغلبيته من ممولين خارجيين. لكن الصفة العامة لهذه المناطق هو عدم وجود نشاط سياسي لقوى أو أحزاب ذات فعالية كبيرة، سواء أكانت مستقلة أو مرتبطة بالائتلاف الوطني أو أي قوة أخرى غير عسكرية. وبسبب غياب النشاط السياسي، لا يشعر الناس أنه لهم دور كبير في صنع القرار في مناطقهم حتى في الأمور ذات الحساسية البالغة كقرار فتح المعارك أو تطبيق الشريعة الإسلامية… الخ. وتحظى بعض المؤسسات بدور -اجتماعي غالباً- بين الناس نظراً لما تقدمه من خدمات لها (كالمجلس المحلي، الدفاع المدني، مكاتب الإغاثة والطبابة.. الخ)، أما الدور السياسي فهو غائب ولا يرى الناس في تلك المناطق أن ثمة قوة أو تيار أو جهة تمثلهم في صنع القرار في هذا الشأن.
2-3-2) حركة السكان والنزوح واللجوء والهجرة الخارجية
تعد هذه المناطق مصدراً للنزوح في أغلب الأحوال، فدوما لوحدها في الغوطة الشرقية نزحها منها ما يقرب من 250 ألف نسمة باتجاه مناطق دمشق وريفها الأكثر أماناً، لكن المناطق التي تصبح بعيدة عن مناطق الاشتباكات حتى وإن ظلت عرضة للقصف من طائرات السلطة، فإن تصبح أيضاً مقصداً للنازحين من مناطق الاشتباكات، كما هو حال إدلب على سبيل المثال التي تستقبل ما لا يقل عن 300 ألف نزاح من حمص وحماه وحلب بصورة أساسية. أما درعا فنزوحها داخل المحافظة هرباً من مناطق الاشتباكات وخطوط التماس. علاوة على لك، تمتلئ دول الجوار باللاجئين من هذه المناطق (إدلب، ريف دمشق، حمص، حماه، درعا… الخ). إن هذه الحركة المختلطة بين نزوح داخلي ولجوء خارجي مرتبطة بأولويات الناس وقدراتهم، فمن لا يرغب في ترك بلده وأرضه والتحول إلى حياة اللجوء والمخيمات، أو تقطعت به السبل أمام اللجوء إلى دول الجوار أصبح نازحاً داخلياً، أما من أراد الحفاظ على أمانه وسلامته لعدم ثقته باستقرار الأوضاع في منطقته، أو تقطعت به سبل العودة بعد لجوئه إلى دول الجوار، فقد تحول إلى لاجئ. يعاني ما يعاني من آلام اللجوء والعيش في المخيمات… الخ.
2-3-3) المخاطر التي يتعرض لها السكان
يأتي في مقدمة هذه الأخطار قصف طيران النظام المروحي والحربي. فالبراميل المتفجرة والصواريخ (أرض-أرض) تشكل كابوساً يومياً مرعباً للسكان. ويسقط الكثير من الضحايا بين المدنيين نتيجة لهذا القصف، لأنه قصف عشوائي ولا يستهدف المقرات العسكرية حصراً، بل قد يستهدف المدارس والمشافي والأسواق المكتظة وفي أوقات الذروة. لكن ذلك لا يعني أن هذا الخطر هو الوحيد الذي يقلق الناس، فنظراً لعدم وجود سلطة مركزية والفوضى الأمنية التي تشهدها كثير من هذه المناطق، تكثر فيها حالات الخطف والاعتقال على يد أجهزة الفصائل الأمنية ولأسباب قد لا تعرف وقد لا تكون مرتبطة بالصراع مع سلطة الأسد، بل لغرض الفدية أو الابتزاز المالي أو لخلافات سياسية مع الناشطين، كما في حالة اختفاء رزان زيتونة وسميرة الخليل ووائل حمادة في دوما، ولا ننسى حالات اختطاف الإعلاميين في إدلب وحلب وغيرها. ويلعب الحصار المستمر لفترات طويلة لبعض المناطق دوراً أساسياً في نشوء مخاطر ذات طابع صحي أو معيشي كما في الغوطة الشرقية في ريف دمشق ومخيم اليرموك في دمشق، حيث يتسبب الحصار بفقدان المواد الغذائية والطبية الأمر الذي يؤدي إلى حالات تقترب من المجاعة، والموت بسبب أمراض يمكن معالجتها، إضافة إلى انتشار الأمراض وخصوصاً بين الأطفال نتيجة غياب الأدوية واللقاحات ونقص الكادر الطبي. وبسبب غياب السلطة المركزية والانشغال في المعارك والحفاظ على المواقع والمكتسبات وعدم خبرة الفصائل في مسائل ذات صلة بإدارة نواحي الحياة اليومية للناس، تشهد بعض المناطق حالة من فقدان الأمن وخصوصاً في الليل، نتيجة انتشار اللصوص، بالإضافة إلى الفوضى المرورية العارمة في بعض المناطق، كمحافظة إدلب ما يؤدي إلى كثرة الحوادث المرورية والضحايا الناجمة عنها.
على العموم، تؤدي هذه الحالة من الفوضى وتعدد مراكز السلطة، وانفصال المناطق المتجاورة عن بعضها، إلى إضعاف النسيج الاجتماعي للمجتمع المحلي، وتصعيد دور التباينات الدينية والقومية والسياسية في زيادة تفكك هذه المناطق جغرافياً واجتماعياً وسياسياً.
2-3-4) الخدمات والقوى الناشطة فيها
تتميز هذه المناطق كما أسلفنا بوجود مجالس محلية ذات فعالية معقولة في هذه المناطق، بالإضافة إلى وجود منظمات وجمعيات محلية أو دولية تقوم بدور إغاثي أو طبي أو تعليمي أو حتى خدمي فيها. كما أن هذه المناطق هي الوحيدة التي يتواجد في بعضها بعض مكاتب تابعة للائتلاف (تعمل في المجال الخدمي حصراً) والحكومة المؤقتة. كما تنشط بعض المنظمات الحكومية أو غير الحكومية الدولية فيها من خلال دعم منظمات ومجموعات محلية لتنفيذ مشاريع ذات طابع خدمي بصورة أساسية. وقد تعرض القطاع التعليمي على الأخص في هذه المناطق للخراب، نتيجة النزوح واللجوء وقلة الدعم وتدمير المدارس، ما أدى إلى نسبة عالية من التسرب من المدارس بمختلف مراحلها، هذا على الرغم مما تبذله بعض المؤسسات والمجموعات التطوعية في المحافظة على استمرارية التعليم بأبسط الإمكانيات. وتكاد هذه المناطق تخلو ممن يتابع دراسته الجامعية إلا لمن نزح إلى مناطق السلطة.
2-4) مناطق الإدارة الذاتية شمال وشمال شرق البلاد
تتميز هذه المناطق بعدد من الخصائص، أهمها التنوع الإثني والطائفي، وثانيها ازدواجية السلطة فيها بين سلطة الأسد وسلطة الإدارة الذاتية (الخاضعة لهيمنة حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني)، والتهديد المستمر لتنظيم الدولة الإسلامية لها. ونظراً لهذه العوامل، تتهدد هذه المناطق خطر بروز صراعات ذات طابع قومي بين العرب والكرد بصورة أساسية، إضافة إلى التركمان المتحالفين مع العرب، ويخيم بالتالي على المنطقة شبح التطهير العرقي والتهجير المتبادل، حيث يسعى تنظيم الدولة الإسلامية إلى استغلال هذا الصدع المجتمعي من أجل تهجير الأكراد المناوئين للتوجه الإسلامي عموماً، ناهيك عن المتطرف منه، بحجة تحالفهم مع الغرب والشيعة في مواجهة العرب والتركمان السنة وسعيهم إلى إقامة كيان كردي مستقل، بينما تستغل قوات حماية الشعب الكردي (ومن وراءها الحزب الديمقراطي الكردستاني) هذا التهديد من قبل الدولة الإسلامية لحشد الدعم الشعبي في أوساط الكرد لصالحها وتعزيز قاعدتها الشعبية وسمعتها على المستوى الدولي بوصفها قوة شريكة للتحالف الدولي في محاربة التطرف.
حدثت ازدواجية سلطة الأمر الواقع في سياق الصراع المعقد والمتعدد الأطراف. ويتقاسم السلطة الفعلية الطرفان اللذان يمتلكان أدوات العنف، سلطة الأسد وحزب PYD الكردي من خلال قوات حماية الشعب والأسايش. يلجأ الأهالي إما إلى جهاز الشرطة التابع للنظام أو قوات الأسايش، لفض النزاعات فيما بينهم أو عندما تحدث مشاكل ذات طابع جنائي. وقد كان موقف الأهالي من سيطرة قوات الأسايش على المنطقة سلبياً في البداية، لكن هذا الموقف شهد تحولاً ملحوظاً في عام 2014 وما بعده (بعد ظهور تنظيم الدولة الإسلامية واقترابه من مناطق الأكراد) باتجاه القبول الإيجابي بها على خلفية تهديد التطرف للمنطقة. وبات القبول بسلطة الأسايش في الفترة الراهنة واسعاً جداً. أما الشريحة من السكان الرافضين لسيطرة قوات الأسايش فيعزى رفضهم في 90% منه إلى أسباب سياسية في بداية سيطرتهم، ثم توزعت هذه النسبة مناصفة بين الأسباب السياسية والاقتصادية. أما الآن فمعظم الذين يرفضون سيطرتهم يرفضون لأسباب اقتصادية تليها الأسباب السياسية.
يتمتع “ألدار خليل” بأكبر نفوذ في المنطقة، بوصفه القائد العسكري لقوات PYD ويشرف على الإدارة الذاتية. وتشرف الإدارة الذاتية ومؤسسات النظام وبالقوة على كافة مناحي الحياة في المناطق التي لا يسيطر عليها تنظيم الدولة الإسلامية. ويحدث تعاون وتنسيق في هذا الإشراف بين مؤسسات النظام والإدارة الذاتية. وبالنسبة للموقف من الإدارة الذاتية، فإن العرب يقبلون بها كأمر واقع، بينما ينقسم الأكراد بين مؤيد لها ومعارض، وهناك من يقبل بها كأمر واقع. أما السريان والأرمن وغيرهم من الأقليات (باستثناء الآشوريين) فيتوزع موقفهم بين التأييد والقبول كأمر واقع. ويتعامل الناس مع مؤسسات الإدارة الذاتية (قضاء وبلديات وغيرها) في المجالات التي تفرض عليهم أو يضطرون فيها للتعامل معها. لكنهم يتعاملون مع كافة مؤسسات النظام المدنية القائمة. ويهيمن على الإدارة الذاتية سياسياً وعسكرياً حزب الاتحاد الديمقراطي PYD. ويتعرض المجتمع المحلي لعدة مخاطر تؤثر إلى حد ما على تماسكه، من ضمنها مخاطر سياسية قوية ومخاطر قومية قوية ومخاطر طائفية بدرجة ضئيلة. ولا يشعر الناس أنهم يشاركون في صنع القرار في المناطق التي تخضع لإشراف الإدارة الذاتية.
2-4-2) حركة السكان والنزوح واللجوء والهجرة الخارجية
شكلت القامشلي إحدى نقاط جذب النازحين، إذ يقدر عدد النازحين فيها ما يقارب 40 ألف نازح من خارج محافظة الحسكة. كدير الزور والرقة ودمشق وحمص وحلب وجبل الأكراد بريف اللاذقية. ويقدر عدد النازحين من داخل محافظة الحسكة بحدود 25 ألف نازح من تل حميس وتل معروف، نزحوا باتجاه القامشلي والقحطانية وعامودا.
2-4-3) المخاطر التي يتعرض لها السكان
تتعرض مدينة الحسكة إلى القصف والهجوم المتكرر من قبل تنظيم الدولة الإسلامية. ويتأثر بها جميع الناس، فبالإضافة لاحتمالات الإصابة المباشرة، يتوقف العديد من الأنشطة لفترات قصيرة متقطعة، كالأعمال والتعليم والخدمات الصحية، في حين تتعطل القدرة على التنقل لفترات طويلة. كما تحدث حالات سرقة. وقد تعرض بعض الإعلاميين لعمليات اختطاف أو اعتقال (اختطاف مراسلي قناة روداو فرهاد ومسعود عقيل).
2-4-4) الخدمات والقوى الناشطة فيها
تتولى مؤسسات النظام تقديم الخدمات الصحية والتعليمية في المناطق غير الخاضعة لسيطرة تنظيم الدولة الإسلامية. وتسير العملية التعليمية في هذه المناطق في المرحلتين التعليميتين الأساسية والثانوية بشكل شبه طبيعي. والأطفال من الجنسين هم الفئة العمرية الأكثر التزاماً بالعملية التعليمية. فهم لا يستطيعون مساعدة أهلهم في تأمين سبل المعيشة، ولا يملكون خيارات شخصية فردية أخرى. إذ يقدر معدل التسرب في التعليم الأساسي (ح1: الأول-الخامس) من الذكور تقريبا 10% والإناث 10%. لكن نسبة التسرب ترتفع في سن المراهقة بسبب بدء انفتاح خيارات أخرى أمامهم قسرياً أو طوعياً، وبشكل خاص عند الذكور أكثر من الإناث. إذ تقدر نسبة التسرب في التعليم الأساسي (ح2: سادس-التاسع) عند الذكور 30% الإناث 25%. ومن الطبيعي أن ترتفع نسبة التسرب في مرحلة التعليم الثانوي لتصل إلى 40% عند الذكور والإناث 25%. وتزداد أسباب انخفاض معدل الالتحاق بالجامعة للشباب في المرحلة الجامعية للإناث والذكور، من أسباب اقتصادية واجتماعية وشروط تعليمية مثل معدلات النجاح. وتقدر نسبة الالتحاق بالجامعة عند الذكور 40%، وعند الإناث 25%. ونسبة الالتحاق بالتعليم ما فوق الجامعي لا تتعدى عند الذكور 2% والإناث 0%.
أمي ما ماتت جوعاً،
أمي عاشت جوعانة.
صلاح عبد الصبور، من مسرحية “الحلاج”
إذا تناسينا للحظة أن القادم مُرشّح لما هو أعظم، كم يُصدم السوري حين يرى باللمس الوضوح الساطع لهول التباين والتفارق في الأوضاع الاقتصادية والظروف المعيشية، والمعاناة في الحياة اليومية بين المحافظات السورية! وكم يكاد يتلاشى ما هو عام ومشترك بينها! ويكفي هنا بعض الأمثلة المُعبّرة.
فـالخبز الذي يُسمى في العديد من الأوساط الشعبية بـ”العيش”، نعم إنه العيش حقاً، الخبز هذا لا يزال يباع الكيلو غرام الواحد منه بمبلغ 15 ليرة سورية في كل من اللاذقية والسويداء، على سبيل المثال لا الحصر، بينما يصل سعره إلى 1000 ليرة في كل من أحياء دير الزور الخاضعة لسلطة الأسد، ودوما تحت الحصار وهي ليست الأسوأ بين المناطق المحاصرة الأخرى. في حين يتراوح هذا السعر في الرقة، وأحياء دير الزور وبعض أريافها، الخاضعتين لسلطة تنظيم الدولة ما بين 70-80 ليرة. وفي إدلب ودرعا الخارجتين عن سلطة “الدولتين!”[2] ما بين 170-200 ليرة.
ولا تقتصر المعاناة المعيشية على الأسعار والغلاء الجنوني، وإنما هنالك معاناة أخرى تتمثل بتوفر المواد الغذائية في السوق. حيث تمثل المناطق الخاضعة لسيطرة تنظيم الدولة الحد الأغنى من هذه المعاناة، لتوفر جميع المواد الغذائية بكثرة (تهريباً من تركيا)، بينما تشكل المناطق التي تحاصرها قوات الأسد الحد الأفقر فيها لانعدام الإمداد إلا عبر شراء حواجز السلطة الأمر الذي يرفع الأسعار بشكل جنوني. ويأتي بين المنزلتين المناطق الخاضعة لسلطة الأسد والمناطق الخارجة عنها ولكن بدرجات متفاوتة.
وماذا عن السكن والإيجار وأسعار العقارات السكنية وغير السكنية؟ فقد شهدت بعض المناطق ارتفاعاً كبيراً في الأسعار والإيجارات، كما في اللاذقية والرقة ودير الزور، بينما اتخذت بعض المناطق منحىً معاكساً كما في دوما في ريف دمشق، ويعود ذلك إلى آليات العرض والطلب الاقتصادية، حيث ارتفعت الأسعار في المناطق التي ازداد الطلب فيها بالتزامن مع ازدياد أعداد السكان المرتبط بالنزوح وانخفضت في المناطق التي ازداد العرض وقل الطلب فيها نتيجة النزوح منها وضعف القوة الشرائية لليرة وفقدان السيولة.
3-1) المناطق الخاضعة لسيطرة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام
يسيطر تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام على مناطق واسعة من شرق وشمال سورية وعلى بعض النقاط في الجنوب. لكن المناطق الأساسية الخاضعة لسيطرة التنظيم وتحظى بدرجة من الاستقرار والسلطة المركزية هي الرقة ودير الزور وبدرجة معينة شمال شرق ريف حلب، وسيطر مؤخراً على مناطق جديدة في ريف حمص الشرقي كتدمر والسخنة إضافة إلى وجوده على تخوم ريف حماه المحاذي لحدود الرقة. وسنتناول الجوانب الاقتصادية المختلفة التي حصلنا على معطيات عنها من محافظتي دير الزور والرقة بصورة أساسية.
3-1-1) المنتجات النباتية والحيوانية
تفاوتَ أثر الظروف الناشئة بعد عام 2010 على إنتاج المحاصيل الزراعية الرئيسية في محافظتي الرقة ودير الزور، تفاوتاً كبيراً حسب التقديرات لعدم توفر الإحصاءات الرسمية. فبالنسبة إلى محافظة الرقة لم يتغير إنتاج محصول القمح تغيراً هاماً بين عامي 2010 و2014، لأن زراعته بعلية لا تحتاج للري وليس له علاقة بتوفر الكهرباء والمحروقات، بينما تراجع محصول القطن إلى النصف تقريباً في الفترة نفسها بسبب تراجع الري لعدم توفر الكهرباء وقلة المحروقات. وللأسباب السابقة نفسها بقي محصول الذرة الصفراء على حاله في الفترة بين عامي 2010 و2012، ثم انخفض إلى النصف في الفترة 2013-2014. وبقي إنتاج الشوندر السكري على حاله خلال الفترة 2010-2012 ثم توقفت زراعته بعد ذلك بسبب توقف معمل السكر عن العمل بعد خروج المحافظة عن سيطرة سلطة الأسد[3].
أما بالنسبة لمحافظة دير الزور، فقد تراجعت المنتجات الزراعية النباتية بين عامي 2010 و2014 في ظروف العنف والاضطراب، لكنها عادت إلى الارتفاع في موسم عام 2015 بسبب الاستقرار النسبي المفروض بقوة تحت سلطة تنظيم الدولة المركزية. ففي الفترة الأولى (2010-2014) تراجع إنتاج القمح إلى أكثر من النصف، ليعاود ارتفاعه في الفترة الثانية من بدايات 2015 ويتجاوز معدلاته السابقة. وتراجعت الخضروات في الفترة الأولى إلى الثلثين تقريباً، لترتفع في الفترة الثانية وتتجاوز أيضاً مستوياتها السابقة. كما تراجعت الفواكه بنسبة تتجاوز النصف بقليل، لترتفع نسبة زراعتها في الفترة الثانية ولكن بنسبة لم تعوض الانخفاض السابق كلياً.
وبسبب تشابه الظروف سارت حركة المنتجات الحيوانية بشكل مشابه لحركة المنتجات النباتية المتراجعة بين عامي (2010-2014)، لتعود أيضاً للارتفاع في موسم 2015. فالأبقار ومنتجاتها تراجعت بنحو الثلث، ثم ارتفعت بنفس النسبة تقريباً، وتراجعت الأغنام ومنتجاتها بنسبة الثلثين، لترتفع في الفترة الثانية بأقل من النصف بقليل. لكن الدواجن ظلت تنمو حتى عام 2014 بنسب قليلة، لتشهد ارتفاعاً كبيراً بعد عام 2015 وبمعدل يتجاوز 50%.
خلاصة القول، أن النشاط الزراعي بشقيه النباتي والحيواني شهد تراجعاً كبيراً وبنسب متفاوتة نتيجة الأوضاع العنفية والاضطراب الذي ساد المحافظتين، لكن استباب الأمر لسيطرة تنظيم الدولة المركزية أدى إلى درجة من الانتعاش متفاوتة أيضاً ولكنها ملحوظة في الفترة بين عامي 2014 و2015.
3-1-2) المعامل والمشاغل في القطاع الخاص
كانت المحافظات الشرقية (الحسكة، الرقة ودير الزور) في الأساس، قبل عام 2010، محافظات نامية ومهمشة اقتصادياً على الرغم من أنها المصدر الأساسي للثروة النفطية وسلة القمح والقطن لكل سورية، لكن التنمية غير المتوازنة التي اتبعها نظام البعث أدت إلى خلق فجوة كبيرة بين هذه المحافظات والمحافظات الرئيسية الأخرى في سورية. وليس أدل على ذلك ما أدت إليه الخطة الخمسية العاشر من إفقار شبه مطلق لمعظم شرائح العمل الزراعي في تلك المحافظات وتحويلها إلى عمال مهاجرين يعتمدون العمل المياوم في المدن الرئيسية (دمشق وحلب). ولهذا السبب، لم تكن دير الزور والرقة تحتوي معامل ومشاغل خاصة كبيرة (خارج الصناعة الاستخراجية)، وما كان متوفراً فيها قبل عام 2010، توقف في ظروف الحرب وهاجر إلى مناطق أقل طرداً للعمل والاستثمار. فلا توجد معامل وورش صناعية كبيرة للقطاع الخاص في محافظة الرقة، وليس هناك سوى بضعة ورش خياطة أهلية من مستوى منشآت صغيرة (5-10 عمال) وصغيرة جداً (أقل من 5 عمال). لذلك لا يمكن رصد متغيرات ذات قيمة تذكر في هذا المجال. أما في دير الزور، فقد توقفت المعامل والمشاغل الخاصة بشكل كامل تحت الظروف القائمة، واتجهت إلى مناطق أخرى أكثر ملاءمةً لها.
3-1-3) أسعار مواد البناء والعقارات
بسبب صعوبات الإنتاج، ومشكلات النقل وارتفاع تكلفته، وتدهور القيمة الشرائية لليرة، واستشراء السوق السوداء والاحتكار، يغدو مُفسّراً كيف قفز سعر الطن الواحد من الاسمنت 20 ضعفاً بين عام 2010 وعام 2014. وارتفع سعر طن الحديد أكثر من أربعة أضعاف في الفترة نفسها. وزاد سعر قطعة البلوك ضعفي سعرها، وأسعار الرمل والبحص بنسبة الثلث، لأن إنتاج هذه الأخيرة محلياً من المقالع الموجودة في المنطقة.
وتأثرت أسعار الأراضي بزيادة الطلب عليها بشكل واضح من عام 2010 إلى عام 2014. إذ ارتفع سعر دونم الأرض الزراعية أربعة أضعاف، وزاد سعر المتر المربع للمحلات التجارية ضعفين ونصف الضعف، وزاد سعر المتر المربع للأرض السكنية ضعفين. بينما لم تتغير أسعار الأراضي المخصصة للصناعة بسبب غياب النشاط الصناعي في الأصل.
ومن الطبيعي أن تنعكس الضغوطات المنوه عنها آنفاً، من ارتفاع أسعار مواد البناء والأراضي وتوجه العديد من المستثمرين والمدخرين نحو الاستثمار العقاري وتدهور العملة وزيادة الطلب على استئجار البيوت والمحلات، إذاً من الطبيعي أن ترتفع إيجارات الشقق السكنية ثلاثة أضعاف بين عام 2010 وعام 2014، والمحال التجارية عشرة أضعاف في الفترة نفسها. الأمر الذي فاقم معاناة الناس وتدني مستوى معيشتهم وزيادة صعوبات الحياة. وكما يُقال في المثل الشعبي: “فوق الموت عصة القبر” يقوم تنظيم الدولة منذ شهر نيسان بطرد بعض المستأجرين والراهنين من بيوتهم دون تعويض وإسكان عناصرها فيها.
3-1-4) أنواع الأنشطة الاقتصادية
وضيق تنظيم الدولة على العديد من الأنشطة الاقتصادية، وساهم قدوم عناصرها من المهاجرين وأسرهم في توسع كبير في بعض الأنشطة الأخرى. فقد منعت المقاهي ومحلات بيع الدخان والمشروبات ومحلات بيع الكاسيتات والأقراص اللايزرية. وتراجعت محلات الألبسة بنسبة 60%. ولم يحدث تغير يذكر على محلات النجارة والحدادة والأدوات الصحية والكهربائية. وحدث انتشار كبير للبقاليات والخضروات (محلات وبسطات)، وازدادت محلات الموبايل بنسبة 400%، وزادت محلات المفروشات المستعملة بنسبة 600%. لا يوجد في الرقة على سبيل المثال محطات وقود نظامية، وإنما بسطات لبيع النفط المكرر بطرق بدائية، بلغ عددها المئات.
3-1-5) أسعار المواد الغذائية وسعر صرف الليرة السورية
ارتفع سعر الدولار باتجاه عام متصاعد باستمرار، بغض النظر عن تذبذبات الفترة قصيرة المدى، من 50 ليرة سورية عام 2010 إلى 190 ليرة أواخر 2014، بنسبة زيادة نحو 280%. ووصل أحياناً أوائل 2015 إلى 325-330 ل.س، بنسبة زيادة نحو 550%.
وارتفعت أسعار جميع المواد الغذائية في المناطق الواقعة تحت سيطرة تنظيم الدولة ارتفاعاً كبيراً ولكنه متفاوت حسب المناطق بين عامي 2010 و2015. فخلال هذه الفترة ارتفع سعر السلة الغذائية المخصصة لعائلة من خمسة أشخاص وسطياً بنسبة تتراوح بين 271% في الرقة و294% في دير الزور (انظر الملحق رقم 1). ويلاحظ أن الزيادة الأكبر حدثت في المواد الأساسية كالخبز (بين 678 و789%) والخضروات (بين 257 و1400%) واللحوم بين (50 و250%).
وتتوفر جميع المواد الغذائية بكثرة باستثناء الطحين. لأن كل المواد التي يستوردها تنظيم الدولة (تهريباً) من تركيا يتم تجميعها في الرقة ثم توزع على باقي مناطقها.
بعد عام 2014 تعرض القطاع الخاص للخراب عموماً، نظراً لشح المواد الأولية وارتفاع كلفتها ومنع بيع المنتجات خارج مناطق سيطرة التنظيم. وارتفعت نسبة من يعمل لحسابه من نسبة 30% من قوة العمل عام 2010، إلى 70% عام 2014، ثم انخفضت النسبة 65% في ربيع 2015. ارتفعت نسبة البطالة من 52% عام 2014 إلى نحو 77% في ربيع 2015. انخفضت نسبة الشباب الذين يقاتلون مع فصائل مسلحة من نحو 40% عام 2014 إلى نحو 35% في ربيع 2015.
3-1-7) ملاحظات واستنتاجات خاصة
تختلف المناطق الخاضعة لسيطرة تنظيم الدولة (ونقصد هنا تحديداً الرقة ودير الزور) عن المناطق الأخرى في سورية من الناحية الاقتصادية في عدة نقاط، يتعلق بعضها بطبيعة المنطقة المذكورة، بينما يعود بعضها الآخر إلى طبيعة السلطة المسيطرة عليها. ونذكر هنا على سبيل المثال:
- لطالما كانت المحافظات الشرقية مناطق نامية ومهمشة اقتصادياً، ما يجعل حضور العملية الاقتصادية النشطة ضعيف فيها، وبالتالي جاء تأثير الصراع الراهن على أرضية متدنية اقتصادياً.
- وفي الزراعات التي اعتمدت على تقنيات الري الحديثة أدى الظروف الناشئة من قلة توفر التيار الكهربائي والمحروقات إلى تراجع كبير في إنتاج هذه المحاصيل، بينما كان تأثيرها على المحاصيل المعتمدة على الأمطار أقل.
- أدت القيود التي فرضها تنظيم الدولة الإسلامية على التبادل التجاري مع المناطق الأخرى إلى مغادرة الاستثمارات واليد العاملة لكثير من الأنشطة الاقتصادية.
3-2) المناطق الخاضعة لسيطرة سلطة الأسد
تتباين الحالة الاقتصادية لهذه المناطق تبيناً كبيراً تبعاً لدرجة قوة سيطرة سلطة الأسد على هذه المناطق وقربها من مناطق التماس مع قوات المعارضة أو تنظيم الدولة، فنجد على سبيل المثال أن الوضع الاقتصادي شديد التردي في مناطق دير الزور الخاضعة لسلطة الأسد لأنها محاصرة من قوات تنظيم الدولة، والوضع مشابه في محافظة الحسكة وإن يكن بدرجة أقل. أما محافظة السويداء التي تخضع بأكملها لسلطة الأسد فالوضع الاقتصادي متردي بدرجة معينة، لكنه أفضل من سابقتها ويؤثر عليه قربها من مناطق التماس من الجهتين الشرقية (تنظيم الدولة) والغربية (درعا). وبينما تكاد لا تلمس أثراً للصراع الدائر في محافظات بعيدة عن مناطق التماس كاللاذقية وطرطوس إلا من خلال كثرة الحواجز والنازحين الذين قدّموا دفعة قوية للدورة الاقتصادية فيها، كما يقول المثل العربي القديم “مصائب قوم عند قوم فوائد”. ويخضع كل هذا الكلام بطبيعة الحال للتردي العام في الحالة الاقتصادية للبلد الناتج عن ظروف الحرب وتردي القيمة الشرائية لليرة السورية والعقوبات المفروضة على السلطة، والتي تؤدي إلى هروب الاستثمارات واعتماد ما بقي منها على أنشطة ذات دورة إنتاج قصيرة للحد من المخاطر.
3-2-1) المنتجات النباتية والحيوانية
شهدت الإنتاج الزراعي النباتي والحيواني نمواً كبيراً، في عام 2014 قياساً بعام 2010 في المناطق الخاضعة لسيطرة الأسد (باستثناء مناطق دير الزور)، ففي اللاذقية على سبيل المثال واصل إنتاج الزيتون يليه العنب ثم التفاح وأخيراً القمح نموه حتى عام 2014. واستمر النمو في مطلع عام 2015. وكذلك الأمر بالنسبة للحليب والبيض ولحم الفروج واللحوم الحمراء، في عام 2014 قياساً بعام 2010. واستمر النمو في مطلع 2015. شهد القطاع الزراعي في محافظة السويداء تطوراً كبيراً خلال السنوات الأربع الماضية، بشقيه النباتي والحيواني. ويعود ذلك إلى ظروف الاستقرار النسبي الذي تشهده هذه المناطق.
3-2-2) المعامل والمشاغل في القطاع الخاص
تراجعت المنشآت الكبيرة جداً (100 عامل فأكثر) والكبيرة (50-100 عامل) والمتوسطة (10-50 عامل) والصغيرة (5-10 عمال) والصغيرة جداً (أقل من 5 عمال) تراجعاً ملحوظاً حتى أوائل عام 2015 في محافظة اللاذقية. وفي الاتجاه المعاكس سارت حركة المشاغل الأسرية التي عوضت إلى حد ما في امتصاص اليد العاملة المغادرة للمنشآت السابقة.
3-2-3) أسعار مواد البناء والعقارات
شكلت المناطق الخاضعة لسلطة الأسد بصورة عامة مركز استقطاب للنازحين لما تمتعت به من أمان واستقرار نسبي قياساً بالمناطق الأخرى (راجع المحور الاجتماعي). وأدت زيادة أعداد النازحين في تلك المناطق إلى ارتفاع هائل في الطلب على المساكن والمحال التجارية بقصد الاستئجار بصورة أساسية، وفي ظل محدودية العرض الموجود –على الرغم من نموه بنسب ضئيلة، ارتفعت أسعار الإيجارات بشكل جنوني يفوق التصور، حتى بات هذا النشاط مقصداً للاستثمارات. ففي اللاذقية على سبيل المثال، ارتفع إيجار الشقة السكنية إلى ما بين 40 و70 ألف ل.س في بعض الأحياء في بدايات 2015، كما ارتفع إيجار المحل التجاري إلى ما بين 60 و75 ألف ل.س في بدايات 2015. بينما ارتفعت أسعار الإيجارات للشقق السكنية والمحال التجارية والصناعية في السويداء ما بين ضعفين إلى ثلاثة أضعاف.
وانخفضت أسعار الأراضي الزراعية خلال الفترة (2010-2014) بنسب كبيرة في السويداء، قد تصل إلى ربع قيمتها في الأحوال الطبيعية. ويبدو أن هناك عزوف عن العمل الزراعي بسبب صعوبات ومخاطر العمل في الأرض البعيدة عن المناطق المأهولة مما يُخفّض الطلب عليها، كما أن الضائقة الاقتصادية والهجرة قد تدفع الأسر للحاجة لبيع الأرض مما يزيد العرض. بينما ارتفعت أسعار كل من الأرض السكنية، والشقق السكنية، والأرض الصناعية بنسب تتراوح بين ضعفين وثلاثة أضعاف. فزيادة الطلب الناتجة عن ظاهرة النزوح من جهة، والتحول نحو الاستثمار في البناء والتأجير يؤدي إلى هذه الزيادة.
3-2-4) أنواع الأنشطة الاقتصادية
للأسباب المتعلقة بأعداد النازحين وما يخلقه من طلب على بعض الأنشطة وزيادة في الاستهلاك بصورة أساسية، إضافة إلى تحويلات المغتربين في محافظة السويداء بالتحديد، ازدادت الأنشطة الاقتصادية بين عامي (2010-2014) ازدياداً كبيراً، بمختلف أنواعها، وبتفاوتات ليست كبيرة بين نوع وآخر.
3-2-5) أسعار المواد الغذائية وسعر صرف الليرة السورية
ارتفع سعر الدولار من نحو 50 ليرة عام 2010 إلى نحو 200 ليرة أواخر عام 2014، إلى 250 أوائل عام 2015، إلى نحو 300 ليرة في ربيع 2015.
وارتفعت الأسعار هنا ارتفاعاً مبرراً بالعوامل الاقتصادية الناتجة عن الظروف العامة المحيطة مثل تدهور قيمة الليرة وارتفاع تكاليف الإنتاج والنقل، وليس ارتفاعاً بسبب الحصار أو ندرة المواد وعدم توفرها. فجميع المواد متوفرة بكثرة في اللاذقية على سبيل المثال. أما في محافظة السويداء، فلا يزال ارتفاع أسعار المواد الغذائية متقارباً مع وسطي أسعار المناطق ذات الأسعار المعتدلة نسبياً قياساً بالظروف الاقتصادية العامة. ومعظم المواد الغذائية متوفرة بكثرة، وبعض أنواع الخضار والفواكه متوفر بشكل محدود.
تشكل الخدمة المدنية والقطاع العام المصدر الأساسي لتشغيل اليد العاملة وسبل العيش في هذه المناطق، كما يساعد في ذلك القطاع الخاص الذي اتجه للاستثمار فيها هرباً من أماكن الصراع والعنف. وشهدت المهن الحرة أيضاً انتعاشاً ملحوظاً. هذا بالإضافة إلى الانضمام إلى التشكيلات المسلحة الموالية للأسد (كميليشيات الدفاع الوطني وقوات الجيش والأمن).
3-2-7) ملاحظات واستنتاجات خاصة
إن الملاحظة الأساسية فيما يخص المناطق الخاضعة لسلطة الأسد هي أن هذه المناطق عموماً (باستثناء محافظة دير الزور طبعاً) عرفت من بداية الثورة استقراراً نسبياً أدى إلى جعلها مقصداً لأعداد كبيرة من النازحين من الأماكن الساخنة، الأمر الذي جعلها أيضاً وجهةً للاستثمارات الهاربة والباحثة عن بقاع آمنة، وأدى ذلك إلى تنشيط الدورة الاقتصادية في تلك المناطق وزيادة حجم الاستهلاك الذي ينشط بدوره الدورة الاقتصادية. بكلمات أخرى، أخذت هذه المناطق تنحو شيئاً فشيئاً لتشكل منطقة ذات اقتصاد خاص متميز عن بقية المناطق، اقتصاد له دورته وموارده وأنشطته الخاصة المتمايزة أيضاً عن بقية المناطق.
طبعاً لا ننسى أن كل ما تقدم يخضع لظروف التردي العام للوضع الاقتصادي نتيجة الحرب الدائرة التي تستنزف الجزء الأكبر من موارد الخزينة التي خسرت أصلاً كثيراً من الموارد نتيجة خروج مساحات واسعة من البلاد عن سيطرتها، إضافةً إلى الحصار والعقوبات المفروضة على سلطة الأسد، وانهيار القدرة الشرائية لليرة السورية وخسارة أعداد كبيرة من السوريين لمصادر رزقهم وارتفاع تكاليف النقل والطاقة… الخ.
3-3) المناطق الخارجة عن سيطرة سلطة الأسد وتنظيم الدولة
هي المناطق التي تسيطر عليها فصائل المعارضة غير تنظيم الدولة، وتتوزع على مختلف أنحاء البلاد: من حلب شمالاً إلى درعا والقنيطرة في الجنوب، مروراً بمحافظة إدلب وبعض مناطق ريف حماه وريف حمص ودمشق وريفها. وتعتبر هذه المناطق الأكثر معاناةً وبؤساً نتيجة الحصار أو قلة الدعم الدولي أو التعرض لنوائب قوات الأسد من قصف وتدمير وبراميل وصواريخ بشكل شبه يومي تقريباً. وقد ركزنا في هذا التقرير على محافظة إدلب ومحافظة درعا والغوطة الشرقية في ريف دمشق.
3-3-1) المنتجات النباتية والحيوانية
عرفت الفترة بين عامي 2010 و2015 تراجعاً عاماً في الإنتاج الزراعي بشقيه النباتي والحيواني في تلك المناطق، وهي مناطق لطالما عرفت بإنتاجها الكبير من الحبوب والخضار والفواكه وتربية الماشية (إدلب ودرعا والغوطة الشرقية بريف دمشق)، فمعظم المحاصيل تراجعت بنسب كبيرة، نتيجة المعارك والنزوح والاضطراب الأمني عموماً. ففي الغوطة الشرقية على سبيل المثال التي تعاني من حصار خانق من جانب قوات الأسد، تراجع إنتاج معظم المحاصيل إلى أقل من النصف بكثيرة (القمح، الزيتون، الفول، المشمش… الخ)، والأمر نفسه ينطبق على محاصيل محافظة درعا (القمح، الزيتون، الحمص، البندورة… الخ)، ومحافظة إدلب (الزيتون، التين، القمح، الشعير، البطاطا، الفستق الحلبي، الشوندر السكري، القطن والتبغ).
أما المنتجات الحيوانية فقد تأثرت بشكل أسوأ من المنتجات النباتية، سواء من حيث نسب التراجع أو استمراريته دون أي تحسن، وإن بدرجات متفاوتة بين تلك المناطق، وسواءً بالنسبة لأعداد رؤوس الماشية أو منتجاتها. فالتراجع الأكبر كان في الغوطة الشرقية يليها محافظة إدلب.
3-3-2) المعامل والمشاغل في القطاع الخاص
شهدت المعامل والمشاغل في القطاع الخاص في الغوطة الشرقية نمواً حتى عام 2010، وتحديداً في المنشآت الكبيرة جداً والكبيرة والمتوسطة والصغيرة. لكن الآية انعكست بين عامي 2011 و2015، حيث شهدت المنشآت من مختلف حجومها تراجعاً كبيراً، باستثناء المشاغل الأسرية التي ارتفعت نسبة نموها. وهذه نتيجة طبيعية ومنطقية. فمن تبقى من الأسر وبخاصة النساء يضطررن للعمل في بيوتهن لإعالة أنفسهن والأطفال.
أما في درعا وإدلب فقد انخفضت أعداد المنشآت بمختلف حجومها وبنسب متفاوتة بين عامي 2010 و2015، وإن كان الانخفاض أشد وقعاً في إدلب.
3-3-3) أسعار مواد البناء والعقارات
معظم مواد البناء في دوما إما تتوفر بصعوبة بالغة، أو أنها غير متوفرة. وإن توفرت فأسعارها مرتفعة جداً. وتراجعت أسعار جميع أنواع الأراضي في دوما بنسبة 50%، نتيجة تراجع الأعمال وتراجع الطلب عليها، ومنطقياً زيادة العرض. كما تراجع لنفس السبب سعر المتر المربع من الشقق السكنية والمحال التجارية والصناعية من نحو 20 ألف ليرة عام 2010 إلى نحو 10 ألف في عامي 2014 و2015. ومن الطبيعي بالنسبة لمنطقة مصدّرة للنزوح ومحاصرة أن تتراجع أسعار إيجارات البيوت والمحلات.
أما في درعا فتكاد تكون عمليات بيع الأراضي والعقارات متوقفة كلياً. مع ارتفاع ضئيل في أسعار الإيجارات وقد يعود سببه إلى انخفاض سعر الليرة السورية أكثر منه إلى ارتفاع الطلب على الإيجارات.
وتشهد محافظة إدلب ارتفاعاً في أسعار مواد البناء نتيجة قلة هذه المواد وارتفاع تكاليف النقل. وتخضع أسعار الأراضي والعقارات حسب بعدها أو قربها من حواجز النظام، وحسب وجود معارك قريبة من المنطقة، فحيث تكون المعارك يحل الكساد وتتوقف حركة البيع والشراء. علماً أن أسعار العقارات لم ترتفع كثيراً بسب ضعف القوة الشرائية، باستثناء المناطق الحدودية بسب تركز النزوح والتجارة، فقد شهدت ارتفاعاً كبيراً في أسعار الأراضي والعقارات. وتنطبق الفروقات في أسعار الأراضي بين الريف والمنطقة الحدودية على الفروقات في الإيجارات أيضاً.
3-3-4) أنواع الأنشطة الاقتصادية
تراجعت جميع الأنشطة الاقتصادية في الغوطة الشرقية، ووصل التراجع إلى نسب عالية في عام 2014 قياساً بعام 2010. ثم عاد معظمها لينمو بنسب أقل في أوائل عام 2015. ويتحكم بنسب التراجع أكثر من عامل، فمن الطبيعي أن تتراجع الأنشطة الضرورية مثل البقاليات ومحلات الخضار بنسب أقل من نسب التراجع في المطاعم والمقاهي. كما أن توفر المادة أو فقدانها يلعب دور في هذه النسب، فعلى الرغم من الضرورة القصوى لمادة المحروقات إلى أن ندرتها الشديدة رفعت نسبة تراجعها.
أما في درعا، تكاد حركة معظم الأنشطة الاقتصادية تتوقف، باستثناء البقاليات ومحلات بيع الخضروات التي تراجعت إلى النصف. ومحلات النجارة والحدادة والأدوات الصحية والكهربائية، والأدوات المنزلية التي تراجعت بنسبة 80%.
وبينما شهدت مدينة إدلب وريفها نمواً في معظم الأنشطة الاقتصادية وتراجعاً في بعضها، لم تشهد المنطقة الحدودية سوى النمو دون أي تراجع، والفروقات بين نسب النمو في المدينة والريف من جهة والمنطقة الحدودية من جهة ثانية كبير جداً (أضعاف مضاعفة) لصالح المنطقة الحدودية. وحتى الفروقات بين الريف والمدينة كانت لصالح الريف، النمو أعلى والتراجع أقل. بسبب أن الريف محرر والمدينة شبه محاصرة في الفترة المدروسة. أما الأنشطة التي حصل فيها تراجع في كل من المدينة والريف، مع حفظ الفوارق، لم يحصل في المنطقة الحدودية، لكن حصل العكس فقد نمت بأضعاف مضاعفة هي الأخرى. والأنشطة المتراجعة في الريف والمدينة هي: محلات الحدادة والنجارة والأدوات الصحية والكهربائية، ومحلات الكومبيوتر، ومحلات المفروشات والأدوات المنزلية.
3-3-5) أسعار المواد الغذائية وسعر صرف الليرة السورية
يلاحظ أن أسعار الدولار في المناطق المحاصرة أضعف من باقي المناطق الأخرى، ويبدو أن ضعف الحاجة إليه نسبياً خفض الطلب عليه. فقد ارتفع الدولار من 50 ليرة عام 2010 إلى 165 ليرة في أواخر عام 2014، ثم هبط إلى 150 ليرة أوائل عام 2015، ليعود للارتفاع إلى 270 ليرة في ربيع 2015 في الغوطة الشرقية.
أما بالنسبة لأسعار المواد الغذائية فإن الحصار الخانق يؤدي إلى أسعار مجنونة. فقد وصل سعر صحن البيض (30 بيضة) إلى 4500 ليرة وكيلو السكر 4500 ليرة وكيلو الرز 2500 ليرة. كيلو البرغل 2000 ليرة، وربطة الخبز 1000 ليرة. فكيف يتدبر الناس أمورهم؟ إنها المجاعة! صحيح أن دوما لم تشهد ظاهرة الموت الجماعي جوعاً مثلما حصل في مخيم اليرموك، بسبب اتساع محيطها الطبيعي، إلا أنها شهدت حالة تشبه ما عبّر عنه الشاعر المصري صلاح عبد الصبور: “أمي ما مات جوعاً … أمي عاشت جوعانة”. وما من مادة غذائية متوفرة بشكل طبيعي في الغوطة الشرقية، كثير من المواد غير متوفر، مثل معظم الخضار والفواكه، البقوليات غير متوفرة، والفروج غير متوفر أيضاً. وباقي المواد متوفرة بصعوبة.
أما في درعا، فتعد الأسعار رخيصة لمعظم المواد نسبياَ، فأسعار أهم المواد الغذائية في بداية عام 2015 كانت معقولة، ومعظم المواد الضرورية متوفرة بشكل محدود، مثل الخبز والبيض والسمن والرز والفول والبندورة والخضار والفواكه واللحم والفروج.
وفي إدلب وصل سعر الدولار إلى 320 في ربيع 2015. وأسعار معظم المواد الغذائية معتدلة نسبياً، ليس قياساً بالمناطق الساخنة وحسب وإنما بالمناطق الباردة. وهناك مواد متوفرة بكثرة مثل: البيض (أغلبه تركي). الزيت (أغلبه تركي). السمن. السكر. الرز. البرغل. المعكرونة. اللبن. اللحم (أغلبه تركي). الفروج (أغلبه تركي). بقية المواد متوفرة بشكل محدود.
إن ما يميز المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة غير تنظيم الدولة أنها خسرت الكثير من اليد العاملة فيها إما بسبب النزوح واللجوء أو بسبب لجوء الكثير من أبناء هذه المناطق إلى القتال مع الفصائل المقاتلة، نتيجة ما تؤمنه هذه الفصائل من دخل لا بأس به للمقاتلين. وينطبق هذا الكلام بصورة أساسية على الغوطة الشرقية المحاصرة من قوات النظام التي شهدت خراباً لكثير من أعمالها ومصالحها الاقتصادية ما دفع اليد العاملة إلى اختيار أحد الخيارين المذكورين. وتشهد درعا نفس المنحى وإن يكن بدرجة أقل بالنسبة للنزوح أو العمل مع الفصائل المقاتلة أو استمرار بعض الأعمال الخاصة. لكن محافظة إدلب تتميز بميزة خاصة، حيث ظهرت مصادر دخل جديدة، مثل استثمار أرض حدودية لإقامة مخيمات تستقطب جهات إغاثية. كذلك تأمين دخل من خلال ورشات تصليح الأسلحة وتصنيع الذخيرة.
3-3-7) ملاحظات واستنتاجات خاصة
تعاني المناطق المحررة على العموم من أوضاع اقتصادية متردية أكثر من المناطق الأخرى في البلاد (المناطق الخاضعة لسيطرة سلطة الأسد وتلك الخاضعة لسيطرة تنظيم الدولة)، بيد أن التباينات في الأوضاع الاقتصادية بين تلك المناطق كبيرة جداً أيضاً، فالمناطق المحاذية للحدود تشهد على العموم أوضاعاً أفضل من غيرها بسبب المنافذ المفتوحة لها للحصول على الدعم والإغاثة من الخارج إضافةً إلى التهريب، بينما تغرق المناطق المحاصرة والبعيدة عن الحدود في أتون يقترب من المجاعة في بعض الحالات، لا بل وصلتها في حالات خاصة كمخيم اليرموك.
3-4) المناطق الخاضعة للإدارة الذاتية شمال وشمال شرق البلاد
هي مناطق تخضع بمعظمها اسمياً أكثر منه فعلياً لسيطرة سلطة الأسد، فلا تزال قوات الأسد ومراكزه الأمنية ومؤسسات الدولة الأخرى متواجدة فيها (كالتربية والتعليم والصحة والقضاء… الخ)، لكن هذه القوات انكفئت إلى مقراتها وتركت السيطرة الفعلية على الأرض لقوات الحماية الكردية ومؤسسات الإدارة الذاتية الأخرى التي أعلن عن قيامها الحزب الديمقراطي الكردستاني (PYD)، بمشاركة متفاوتة من المكونات الأخرى للمجتمعات المحلية في تلك المناطق. تتميز هذه المناطق بأن القوى المسيطرة على الأرض فيها لم تعلن خروجها عن سيطرة سلطة الأسد المركزية، لكنها اتخذت وضعاً خاصاً بها، وهي تتعرض لهجوم متكرر من قوات تنظيم الدولة الإسلامية ونشبت خلافات متكررة بينها وبين قوات المعارضة الأخرى، إضافة إلى بعض المناوشات مع قوات الأسد في هذه المنطقة أو تلك. لذلك سنتناولها بطريقة تختلف عن طريقة معالجة المناطق السابقة.
3-4-1) المنتجات النباتية والحيوانية
لم تشذ هذه المناطق عن السياق العام للاقتصاد في سورية فيما يتعلق بالمنتجات الزراعية النباتية والحيوانية، فقد تراجع إنتاج المحاصيل الزراعية (القمح، العدس، الكزبرة والحمص والشعير) الفترة الراهنة عن عام 2014 بنسب متفاوتة تتراوح بين 25 و40%. ويعود سبب عدم تراجع هذه المحاصيل بالنسب التي عرفتها بقية المناطق إلى غزارة الأمطار هذه السنة وارتفاع أسعارها في السوق المحلية وإمكانية تصديرها إلى الخارج. أما المنتجات الحيوانية فتراجعت خلال تلك الفترة بنسب مشابهة للنسب السابقة. ويتواجد في هذه المنطقة بعض البيوت البلاستيكية لإنتاج الخضار في موسم الشتاء. كما يوجد بعض المداجن التي تزود السوق المحلية بالبيض والفروج. أغلب هذه المنشآت لا تجد مصدراً للدعم قادراً على تقديم بنية تحتية رئيسية على أقل تقدير (أرض – مياه – كهرباء-محروقات…). ويدفع سوء الأوضاع وإطالة عمر الصراع المستثمرين الصغار إلى إغلاق مداجنهم ومنشآتهم الصغيرة, والانتقال إلى الربح السريع من فتح مكاتب للصرافة، أو العمل في شبكات التهريب أو الاستيراد من معابر شبه رسمية كمعبر سيمالكا الحدودي.
يعاني السكان نقصاً في السيولة في مثل هذه الأوقات من السنة وذلك لصرف ما تبقى منها في شراء مستلزمات الحصاد من أكياس ودفع مبالغ مسبقة لأصحاب الآليات واليد العاملة وغيرها, حيث تشكل قلة اليد العاملة أحد أبرز المشاكل.
3-4-3) المواد الغذائية والدوائية:
أغلب المواد السلعية المتوفرة في السوق إما تركية أو عراقية (كردستان العراق). أما الأدوية فما تزال سورية الصنع. ويشتكي أغلب الأطباء من قلة فعاليتها في ظل غياب الرقابة الدوائية. فقد تزعزت الثقة العامة بالدواء السوري، وعلى الرغم من ذلك ما يزال يحظى بثقة أعلى من غيره (عراقي – تركي-أردني…)؟؟ السؤال الرئيسي حول كيفية وصول الدواء من المعامل التي يقال أنها توقفت في حلب؟؟ هل تصنع في تركيا تحت اسم صناعة سورية؟ وإذا كانت تصنع في سوريا كيف لها أن تصل إلى أقصى الشمال الشرقي في سوريا في ظل الضرائب الباهظة التي يفرضها تنظيم الدولة وكتائب إسلامية أخرى على السيارات المحملة بالبضاعة؟ فهي تصل بأسعار رخيصة جداً مقارنة مع سعر الدولار المتصاعد؟؟
3-4-4) الصناعة الاستخراجية والتحويلية:
تكاد تكون المنطقة خالية من أية منشآت صناعية، باستثناء حقول الرميلان النفطية باعتبارها صناعة استخراجية. وبعض الصناعات التحويلية مثل، المعامل البلاستيكية ومعامل المنظفات الصغيرة (لودالين-صابون).
في سياق الحديث عن حقول الرميلان النفطية ما تزال عمليات إنتاج النفط مستمرة بحدودها الدنيا, 215 بئراً من مجموع 1300 بئراً إنتاجياً, تنتج أقل من 20% من إجمالي قدرة الحقول على الإنتاج. وحوالي 65% من إجمالي الطاقة الإنتاجية للغاز الطبيعي، التي تولد حوالي 40% من إجمالي إنتاج الطاقة الكهربائية للعنفات العاملة على الغاز الحر والمرافق، وحوالي نصف قدرة معمل الغاز على الإنتاج الغاز المنزلي، وهذه المنشأة الكبيرة تدار فعلياً من قبل كوادر حزب العمال الكردستاني بالتنسيق الكامل مع مؤسسات سلطة الأسد وفقاً لوثائق وعقود رسمية.
السلة الغذائية
وتغيراتها بين عامي 2010 و2015
لأغراض دراسة تغير أسعار المواد الغذائية الضرورية لمعيشة المواطن السوري، اعتمدنا سلة غذائية مكونة من المواد الأساسية اللازمة لمعيشة أسرة سورية مكونة من 5 أفراد وسطياً على مدار شهر كامل ضمن مستوى معيشي متوسط. وقمنا بجمع المعلومات عن الأسعار في ثلاثة نقاط زمنية محددة، هي: عام 2010، أي في الفترة قبل اندلاع الثورة، وفي عام 2014، ثم في أواسط عام 2015. وبمقارنة تكلفة السلة الغذائية بين مختلف المناطق المدروسة وبين المراحل الزمنية المختلفة، نحصل على صورة عن الوضع المعيشي من الناحية الغذائية بصورة أساسية للمواطن في تلك المناطق.
الجدول رقم 1: مكونات السلة الغذائية وكمياتها
اسم المادة | الكمية اليومية | الوحدة | الكمية الشهرية |
الخبز | 2 | كغ | 60 |
بيض | 0.1 | صحن | 3 |
زيت | 0.25 | ليتر | 7.5 |
سمن | 0.1 | كغ | 3 |
سكر | 0.3 | كغ | 9 |
رز | 0.3 | كغ | 9 |
برغل | 0.2 | كغ | 6 |
معكرونة | 0.075 | كغ | 2.25 |
فول | 0.05 | كغ | 1.5 |
حمص | 0.05 | كغ | 1.5 |
عدس | 0.05 | كغ | 1.5 |
بندورة | 0.5 | كغ | 15 |
خيار | 0.5 | كغ | 15 |
باذنجان | 0.1 | كغ | 3 |
كوسا | 0.1 | كغ | 3 |
بطاطا | 0.5 | كغ | 15 |
فاصولياء | 0.15 | كغ | 4.5 |
برتقال | 0.1 | كغ | 3 |
تفاح | 0.1 | كغ | 3 |
جزر | 0.1 | كغ | 3 |
لبن | 0.1 | كغ | 3 |
الجبن | 0.05 | كغ | 1.5 |
حليب | 0.5 | كغ | 15 |
لحمة حمراء | 0.05 | كغ | 1.5 |
الفروج | 0.2 | كغ | 6 |
مقارنة تكلفة السلة الغذائية في المراحل الزمنية المختلفة في كل منطقة مدروسة
المناطق المدروسة هي:
- مناطق خاضعة لسيطرة سلطة الأسد: السويداء – اللاذقية – حيي القصور والجورة في دير الزور.
- المناطق الخاضعة لسيطرة تنظيم الدولة الإسلامية: دير الزور – الرقة.
- المناطق الخارجة عن سيطرة الأسد وتنظيم الدولة الإسلامية: دوما – إدلب.
- المناطق الخاضعة للإدارة الذاتية في شمال وشمال شرق البلاد: القامشلي.
افترضنا في مقارنة الأسعار على قيمة أساس لعام 2010، وافترضنا جدلاً أنها موحدة في عموم أنحاء البلاد في تلك الفترة، وهذا الفرض مقبول إلى حد كبير، على اعتبار أن التفاوت في الأسعار في تلك الفترة بين المناطق والمحافظات السورية طفيف، ويمكن إهماله في حالتنا هذه لأن الغاية هي معرفة الاتجاه العام للأسعار وتحديد تقريبي لدرجة تراجع القيمة الشرائية للعملة السورية، وتفاوت المستوى المعيشي للناس في مختلف المناطق المدروسة.
وبحساب تكلفة السلة الغذائية في كل منطقة مدروسة وفي المراحل الزمنية المذكورة أعلاه، ينتج لدينا الجدول التالي:
الجدول رقم 2: تكلفة السلة الغذائية في المناطق المدروسة (ليرة سورية شهرياً)
المنطقة | عام 2010 | أواخر عام 2014 | أواسط عام 2015 |
محافظة السويداء | 9439 | 34680 | 43286 |
محافظة اللاذقية | 9439 | 22866 | 28541 |
حيي الجورة والقصور بدير الزور | 9439 | 34204 | 43204 |
دير الزور (مدينة – ريف) | 9439 | 38704 | 37178 |
محافظة الرقة | 9439 | 27330 | 35078 |
مدينة دوما (الغوطة الشرقية) | 9439 | 211770 | 130050 |
محافظة إدلب | 9439 | 36812 | 42312 |
مدينة القامشلي | 9439 | 28939 | 36120 |
ويبين الشكل التالي (الشكل رقم 1) كيفية تغير تكلفة السلة الغذائية في كل منطقة في المراحل الزمنية المذكورة. ويلاحظ أن الارتفاع الأكبر حصل في مدينة دوماً في أواخر عام 2014، نتيجة الحصار الخانق الذي تفرضه قوات الأسد على الغوطة الشرقية عموماً. وينطبق الكلام السابق نفسه على منطقة مخيم اليرموك، وربما بدرجة أكبر أيضاً، الأمر الذي يدل على أن الوضع كاد يقترب من المجاعة في تلك المناطق (ولا ننسى أن مخيم اليرموك تعرض لمجاعة حقيقية في لحظة من اللحظات). لكن بالنسبة لباقي المناطق، فإن تكلفة السلة الغذائية كانت متقاربة إلى حد ما من بعضها البعض، وكان اتجاه تغيرها باتجاه الارتفاع الكبير والمتواصل، باستثناء مناطق دير الزور الخاضعة لسيطرة تنظيم الدولة الإسلامية، حيث شهدت تكلفة السلة تراجعاً طفيفاً في عام 2015 عن أواسط عام 2014، فقد تضاعفت كلفة السلة الغذائية بين عامي 2010 وأواسط 2015 بحدود: 459% في السويداء، و302% في اللاذقية، و458% في حيي الجورة والقصور بدير الزور، و394% في باقي مناطق دير الزور المدينة والريف، و372% في محافظة الرقة، و1378% في مدينة دوما (الغوطة الشرقية)، و448% في محافظة إدلب و383% في مدينة القامشلي.
[1] ) نقصد هنا جيش سلطة الأسد وأجهزة الأمن التابعة لها، وسنعتمد هذه التسمية إلا إذا اقتضى السياق التنويه إلى غير ذلك.
[2] ) المقصود بالدوليتين هنا: سلطة الأسد وتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش).
[3] ) تحررت مدينة الرقة من سيطرة سلطة الأسد في 4 آذار/مارس 2013، ما يفسر توقف معمل السكر–كما سائر المنشآت الحكومية- عن العمل.