الافتتاحية :معركة التفاوض وسط حقول ألغام إقليمية 25-01-2016
ربما ليس من الصعوبة على أي مراقب معني بأحداث الشرق الأوسط، أن يفصل ما بين توتر العلاقات السعودية الإيرانية وبين ما يحدث من تصعيد عسكري على الأرض السورية، فسوء العلاقات بين هذين البلدين بدأ ينعكس ـ رغم كل التصريحات بعكس ذلك ـ ، على أدق تفاصيل الأزمة السورية، خصوصاً وأن مسؤولي البلدين اللدودين ينظران إلى ما يحدث في سوريا كواحد من دوائر الصراع بينهما على النفوذ في منطقة الشرق الأوسط ككل. فلم تمض ساعات قليلة على إعلان السعودية إعدام الشيخ الشيعي نمر النمر، حتى سارع المبعوث الأممي إلى سوريا ستيفان دي ميستورا إلى زيارة الرياض وطهران، في محاولة منه لمنع امتداد التوتر إلى الملف السوري أو للحد منه قدر الإمكان، حيث بدا واضحاً حجم خوف ديمستورا بالتصريح الذي أدلى به من العاصمة الرياض والذي أكد فيه أن “الأزمة في العلاقات بين السعودية وإيران مقلقة جداً. وقد تتسبب بسلسلة عواقب مشؤومة في المنطقة”، وزاد على تصريحاته قبل أيام باتهام طرف لم يسميه، لكنه يقصد السعودية بأنها تعرقل الجهود المؤدية إلى المفاوضات. وفي الوقت الذي يشبّه فيه البعض، سوء علاقات الرياض وطهران بلعبة “عضّ الأصابع”، كل منهما ينتظر كي تصرخ أولاً لتتوقف اللعبة، حيث لا إيران ولا السعودية ترغبان بالمواجهة المباشرة، فقد ظهرت الأرض السورية كتربة خصبة لحربهما بالوكالة، عبر إيجاد وكلاء سوريين لهما على الأرض، لا سيما وأن السعودية لا ترغب في تكرار تجربة الحرب المباشرة التي تقودها على حدودها وفي اليمن، إذ ليس من مصلحتها الغوص في معركة مباشرة أخرى على الجبهة السورية، فيما أوكلت إيران لميليشياتها المرتزقة كحزب الله وكتائب أبو فضل العباس لهذه المهمة. وإزاء مزيد من تعقيد الوضع الذي فرضه التدخل الروسي العسكري المباشر في سوريا وتحديداً بعد مقتل زهران علوش المحسوب على الرياض بغارة روسية، فإن السعودية خشيت أن يضعف موقفها، فسارعت إلى تقريب وجهات النظر مع تركيا حيال الشأن السوري، ولم تتردد في تهدئة مواقفها حيال تنظيم الإخوان المسلمين الذي كان على أشده في عهد الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز من خلال دعمه اللامحدود للرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في مواجهة التنظيم، كما سعت لتهيئة الظروف الدولية ودعمها في تبني المعارضة السورية في مؤتمر الرياض والذي خرج عنه تشكيل الهيئة العليا للمفاوضات والتي ننتظر جلساتها خلال هذا الشهر أو مطلع الشهر المقبل في جنيف. لا شك أن مؤتمر الرياض دفع باتجاه إيجاد بارقة أمل لإيجاد حل سياسي يبدأ بإنهاء الوضع الكارثي للشعب السوري برمته، إلا أن الواقع على الأرض لا يشي بمثل هذا التفاؤل لاعتبارات كثيرة لعل أبرزها هو عدم نضوج مثل هذا الحل على المستوى الإقليمي والدولي، وهذا ساهم في ازدياد حدة حصار النظام للمدن السورية وتجويع أهلها، فضلاً عن القصف الروسي اللامحدود للبلدات السورية، واستعادة قوات النظام المدعومة بسلاح الجو الروسي لعدد من البلدات المهمة له، وخصوصاً في منطقة الساحل. والسؤال الذي يبرز هنا هو ما الذي يمكن أن تفعله مفاوضات جنيف المنتظرة، في ظل هذه الأوضاع المتوترة على الصعيد الإقليمي بشكل خاص، وهل يمكنها أن تكون طرفاً في حل يوقف فاتورة الدم التي يدفعها الشعب السوري بالنيابة عن كل شعوب المنطقة؟. سيخوض وفد المعارضة في جنيف إذاً معركته التفاوضية مع النظام، وسط أوضاع معقدة وتشعبات كثيرة فرضتها الأقطاب المتنافرة والفاعلة في آنٍ داخل الأزمة السورية، لكن يبقى أهم قطبين متنافرين يجب على وفد التفاوض أن يتعامل معهما بمنتهى الجدية والحذر هما السعودية وإيران، فإيران ومعها الحليف الروسي يدعمان بقوة نظام الأسد وتساندانه من أجل تحقيق تفوق عسكري على الأرض، وهو ما تبلور بوضوح في معارك الساحل الأخيرة واستعادته عدداً من مدن وبلدات الساحل السوري بما يعزز حضوره وسط مواليه، فيما السعودية تعمل جاهدة لمد المعارضة العسكرية السورية بأسلحة نوعية جديدة بهدف التصدي لهذا التقدم الذي قد يؤثر على مجمل جهودها مؤخراً في تجميع المعارضة السورية وتشكيل وفدها التفاوضي الجديد. وفي المقابل، فعلى وفد المعارضة أن ينظر إلى دعم البلدين المتنافرين للأطراف السورية المتحاربة، على أنه دعم يكفل قوة وحضور كلا الدولتين على مائدة التفاوض من خلال رعايتهما للقوة الأكبر على الأرض، والوفد في هذه الحالة هو يعمل في حقل ألغام وأن المفاوضات المنتظرة تمر بالعديد من العراقيل والتعنت والتصلب في الرأي بين الرياض وطهران، حيث ستدفع إيران إلى تنسيق أكثر مع روسيا في مواجهة المعارضة التي تدعمها السعودية، وهو ما قد يزيد من تعقيد فرص تحقيق أي تقدم في سوريا وبقاء الأزمة بلا حل سياسي ليبقى الشعب السوري هو الضحية الأولى والأخيرة نتيجة كل هذا الصراع. ولذلك، ولكل هذه التشابكات السياسية والإقليمية، فإنه ليس أمام الهيئة العليا للمفاوضات سوى أن تشتغل على العامل الذاتي لديها وتبرز للعالم كله مدى ثقتها بنفسها وتماسكها، مستفيدة من أن المجتمع الدولي لا يمكنه العمل من دونها، وفي هذه الحالة يمكنها أن تصر على تمسكها بما صدر عن قرار مجلس الأمن 2254 والتي جاءت في صيغة إجراءات ملزمة التطبيق الفوري، وأهمها وصول المساعدات الإنسانية إلى المناطق المحاصرة، والإفراج عن المحتجزين بشكل تعسفي وإيقاف الهجمات ضد المدنيين والمراكز المدنية وخصوصاً القصف الجوي والمدفعي، فإن استطاعت انتزاع هذه المطالب بشكل مبدئي وتنفيذها على أرض الواقع تكون قد بدأت في إزاحة بعض من تهم الفوضى والترهل والخذلان التي التصقت بعمل المعارضة خلال السنوات الخمس الماضية.