الحدث السوري والنموذج التركي-اكرم البني

مقالات 0 admin

ثلاث انتكاسات أصابت ما درج على تسميته بالنموذج التركي للعمارة الإسلامية الديموقراطية، والذي اقترن بوصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في 2002، وهي انتكاسات مريرة ما كان لها أن تظهر وتتعمق لولا تفاقم الصراع السوري وطابع السياسات التي اتبعتها حكومة أنقرة لاستثماره ومواجهة تداعياته.

أولاً، انزلاق السياسة الخارجية لحزب العدالة والتنمية من خيار «صفر مشاكل»، يحدوها الانفتاح الايجابي على الفضاءين السوري والعربي، إلى انغماس متصاعد في الصراع السوري، لم يقف عند دعم مختلف تشكيلات المعارضة السياسية، وتشجيع عسكرة الثورة، وتسهيل عبور آلاف المتطوعين الاسلامويين لنصرة دولة الخلافة، وإنما وصل إلى تمويل ودعم جماعات عسكرية تعادي الخيار الديموقراطي وتمكينها من مد نفوذها، بما في ذلك تأليب قوى جهادية لافتعال صدامات على أساس عرقي لتطويق الأكراد في المناطق الحدودية.

وإذ يبرر البعض هذا الانزلاق بدوافع أمنية ويحيلونه إلى حسابات استراتيجية تتعلق بدرء الأخطار التي يمكن أن يسببها الوضع المتفجر في سورية على الداخل التركي، فلا يخفى ارتباطه بحنين للماضي الإمبراطوري العثماني وتوق حكومة أنقرة لتوظيف الأحداث السورية في سياق تحسين نفوذها الإقليمي، كمدخل لتعزيز سلطتها الداخلية ومصالحها القومية ولما تعتقده دورها الريادي في قيادة المسلمين السنّة ضد النفوذ الإيراني في المنطقة. وما أغراها وغذى هذا الحنين وجعله سياسة مثابرة، الوزن الذي منحه الربيع العربي لحلفائها في حركات الإسلام السياسي باعتبارهم القوة الأكثر تنظيماً وشعبية وتأهلاً لاستلام السلطة، في ظل ميل غربي لفكرة إعطاء الإسلام المعتدل فرصة الوصول إلى الحكم بغاية احتواء الحركات الاسلاموية المتطرفة ومحاصرتها.

لكن اليوم تبدو تركيا أكبر الخاسرين من إتباع خيار السعي لتعزيز تمددها ونفوذها الإقليميين، جراء فشل الإسلام السياسي في إدارة دفة الحكم في غير بلد، وما آلت إليه تطورات الصراع السوري، إن لجهة الوزن الكبير الذي باتت تحتله التنظيمات الجهادية، وإن لجهة ما حققه التدخل العسكري الروسي من نتائج لم تكن بأي حال لمصلحة الحسابات التركية، والأهم لجهة تنامي دور الأكراد السوريين وقدرتهم العسكرية ربطاً بتوجه أميركي لدعمهم ضد الإرهاب الإسلاموي، ما أفضى إلى تفارق بين واشنطن وحكومة أنقرة، وإلى ما يشبه عزلة هذه الأخيرة، مع رفضها الانضمام للتحالف الدولي ضد داعش، وتوتر علاقاتها مع موسكو، وامتعاض الأوروبيين من استخدامها المريب لقضية اللاجئين السوريين للضغط عليهم وابتزازهم.

والحال، بدل أن يشكل الصراع السوري جسراً لتعزيز نفوذ تركيا ومصالحها الاستراتيجية في المنطقة، تحول الى بؤرة تهدد أمنها الداخلي وتنذر بإجهاض طموحاتها الإقليمية، من دون أن تنفعها محاولة نقل المعركة إلى الجبهة الكردية في العراق وسورية، أو الاستقواء بما يجري في نارغوني كاراباخ للنيل من دور روسيا وهيبتها.

ثانياً، انتكاسة في الأوضاع الداخلية، مرة بما خلفه الانغماس في الأحداث السورية من إزكاء لنار الانقسامات الطائفية والسياسية ومن تصاعد للاضطرابات الأمنية، ومرة ثانية بانقلاب حزب العدالة والتنمية على مناخ المصالحة الوطنية مع حزب العمال الكردستاني وتنصله من التزاماته السلمية لحل القضية الكردية، تحسباً من الدور المتنامي لأكراد سورية، ومرة ثالثة، بتوسل التخويف من الفوضى السورية لتسويغ الأساليب التسلطية والاستبدادية ولإخماد أي صوت داخلي معارض، لنشهد تواتر قمع الحركات الشعبية والشبابية، وكم أفواه النقاد، وسجن صحافيين ومثقفين، وإغلاق قنوات تلفزيونية وبعض مواقع التواصل الاجتماعي، من دون أن ننسى الإزاحات الواسعة لمعارضين في سلك القضاء والشرطة، والاستهزاء بقرارات بعض الهيئات الدستورية، لنقف أمام مفارقة مؤلمة، بأن حكومة أنقرة التي نجحت نسبياً في سعيها الى نزع وصاية الجيش على الحياة السياسية، نجحت أيضاً ليس في تكريس الحياة الديموقراطية وحكم المؤسسات والقانون، بل دولة أمنية، إن صحت العبارة، تلبي مطامع الفئة الحاكمة وتحمي امتيازاتها وظواهر فسادها.

ثالثاً، الانتكاسة الأهم، وربطاً بما سبق، تتعلق بانحسار الرهان على تجربة أنقرة في إرساء روح المصالحة بين الدين والحداثة، الفكرة التي لا تزال المدخل والعنوان لأي تقدم حقيقي نحو الديموقراطية والحضارة في البلدان الاسلامية، والقصد أن حكومة حزب العدالة والتنمية بانغماسها في الصراع السوري وحسابات النفوذ الإقليمي، ربما أهدرت الفرصة التاريخية بأن تكون النموذج المحتذى في تجسيد ممارسة سياسية من منظور إسلامي تقوم على أساس الجمع بين معطيات الحضارة التي تفرزها التطورات العالمية والخصوصية الثقافية الإسلامية، بما في ذلك المساهمة في التأسيس لخطاب موضوعي ومتوازن حول مجموعة من القضايا الشائكة، كعلاقة الدين بالدولة، وعلاقة الإسلام بالديمقراطية وبالحداثة علمياً وتقنياً.

صحيح أن التعويل كان كبيراً على النموذج التركي الذي استفاد من انتكاسات الإسلام السياسي وهزائمه في العقدين المنصرمين، واجتهد بجدية ليخلص إلى ضرورة التصالح مع الديموقراطية وفكرة التشارك واحترام التعددية وحقوق الإنسان على أنها قيم لا تتعارض مع جوهر الإسلام، وصحيح أن هذا النموذج قد راكم حضوراً وسمعة طيبين في أوساط الرأي العام وكان مرشداً لغالبية الإسلاميين السوريين كمثال للدين المعتدل المناهض للإرهاب، وكمنهج لا يغذي فقط توجهات المسلمين في حقلي الدين والتدين، وإنما أيضاً في حقول مناهضة الاستبداد والفساد وضمان حاجات البشر وحقوقهم، ولكن الصحيح أيضاً أن الكثيرين باتوا اليوم في حالة شك وقلق حقيقيين على هذا النموذج بعد انكشاف مطامعه الإقليمية وفساده واستبداده.

فهل أضاع إغراء التدخل في الصراع السوري فرصة تاريخية بدت متاحة لحزب العدالة والتنمية لإثبات قدرة القيم الإسلامية على المساهمة في بناء دولة المواطنة وحماية الاجتماع الديموقراطي؟! أولم يؤكد بممارساته ومواقفه، عدم وفاء جماعات الإسلام السياسي بوعودها، وبأن ما ترفعه من شعارات عن الحرية وحقوق الإنسان ليس غايتها سوى التمكن للوصول إلى الحكم وتنفيذ أجندتها الإيديولوجية؟!

* كاتب سوري

الحياة-السبت، ٩ أبريل/ نيسان ٢٠١٦

Loading

الكاتب admin

admin

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة