حين تمسك الأسد بأوراق اللعبة.. الأكراد نموذجاً
ربما جميعنا قرأ في طفولته، قصة الفراشة التي خرجت من شرنقتها وقررت الطيران باتجاه الضوء بعد أن ضاقت بها الحياة في سكنها الضيق، وتكاد حكاية تلك الفراشة أن تبقى في سياق ذاكرة الطفولة المنسية، لولا أن أحيتها ثورة الشعب السوري في آذار 2011، عندما أعلن عن رغبته في الخروج من شرنقته التي حبسه فيها نظام بشار الأسد لأكثر من 40 عاماً.
وقد تتماثل رغبة الفراشة والشعب السوري برغبة التحرر من الأغلال، لكن وبكل تأكيد فإنها تتمايز أشد التمايز في الثمن المدفوع للحرية، ففيما لم تتكلف الفراشة في حكاية الطفولة أكثر من تمزيق الشرنقة والتمتع بالتحليق والطيران، إلا أن الشعب السوري دفع ولا يزال من دمه ومستقبله ثمناً باهظاً لرغبته في تحطيم الأغلال التي كبّلته على مدى تلك السنين. ولأن جوانح فراشة الشعب السوري لم تحترق، كما كان يعتقد الأسد، فقد اضطر لإخراج أوراق اللعبة التي احتفظ بها (محلياً وإقليمياً) لمواجهة هذه اللحظة الحاسمة من بقائه في السلطة.
لقد تعلّم نظام الأسد خلال مسيرته الطويلة، كيف يدير أوراق اللعبة في المنطقة مستغلاً عمق وأهمية الجغرافية السورية والتي عرف كيف يوظفها ويوظف كل من عليها لخدمة مصالحه.
وظّف نظام الأسد ورقة “الجهاديين – الإرهابيين” بكثير من الحنكة والدهاء، وجعل سجونه مدارس لتخريج الإرهابيين أو مكاناً لتصفيتهم، ومع انطلاق الثورة السورية أطلق من سجونه سراح عدد كبير من النزلاء المحسوبين على تنظيمات إرهابية إسلامية، وعلى رأسهم محمد الجولاني زعيم “جبهة النصرة”، وزهران علوش قائد “جيش الإسلام”، الذين سبق أن ألقي القبض عليهما ضمن إطار صفقة السجون السرية الأميركية، والتي سهّل نظام الأسد وجودها على الأراضي السورية، بإيعاز أميركي بعد احتلال العراق عام 2003، بنفس الوقت الذي سهّل فيه نظام الأسد دخول كل إرهابيي العالم إلى سوريا، حتى وصل عددهم إلى أكثر من 60 ألفاً، بحسب أحدث تقارير الوكالة الأميركية لمكافحة الإرهاب، وذلك بهدف وأد الثورة في مهدها وتحويل مسارها باتجاه غير الذي انطلقت لأجله، الأمر الذي سيجعله يستعيد شرعيته أمام المجتمع الدولي، عبر شمّاعة محاربة الإرهاب.
وعلى المستوى المحلي: استخدم النظام السوري ورقة إفساد المجتمع عبر السماح بضخ الكثير من الفاسدين داخل المجتمع السوري، بالتعاون مع كبار التجار الدمشقيين والحلبيين، وازداد شراء الذمم وتوسعت دائرة الفساد حتى بدأت تطال أصغر عامل في أبعد قرية نائية، ما فسح المجال لتوسيع دائرة العصابة وكل بمقدار، هذه السياسة التي أشرف عليها النظام وراكمها طيلة سني حكمه، تجعل التخلص من المفسدين أمراً في غاية الصعوبة، نظراً لاتساع سطوتهم وتأثيرهم وتمددهم في بنية المجتمع السوري بكل طوائفه وقومياته.
كما لم يغفل الأسد الأب ومن بعده الابن من خلال نظامهما الأوليغاريشي (الأقلوي)، فكرة وأهمية توريط الطائفة العلوية معه في الحكم، من خلال تمريرها كوسيلة ضغط يرهب بها عموم السوريين، من خلال إبراز سلطتهم في المجتمع عبر إمساكهم بزمام المهام الأمنية والعسكرية فيه، فكان العلويون ـ شاءوا أم أبوا ـ ورقة أخرى لا يمكن الاستغناء عنها في ترسيخ نظام الأسد في الحكم.
فقد استطاع حافظ الأسد من خلال مدرسته الانعزالية التي أسّسها، والتي تقوم في أحد أهم أبعادها على الطائفية والإمساك بها بإحكام، أن يؤطر العلويين في جميع أجهزة النظام الحسّاسة (مالياً وأمنياً)، فأحال عائلته وأقاربه إلى خزان مالي لنظامه، فيما الجزء الأكبر من الطائفة، تحول إلى خزان أمني بشري، يضرب بيد من حديد معارضي النظام، بمن فيهم المعارضون العلويون، وما أكثرهم خلال ثمانينيات القرن الماضي. ولهذا، لم يكن عسيراً على نظام الأسد الابن أن يحصد ثمار ما زرعه الأسد الأب بين أبناء الطائفة العلوية، فزجّ بهم لمواجهة الشعب السوري، وهو ما أثمر عن مقتل أكثر من 90 ألف شاب علوي قضوا خلال هذه الثورة، دفاعاً عن سلطته، دون أن تتجرأ أية أسرة علوية على التصدي لوقف هذه المذبحة التي تطال أبناءها مجاناً.
وفي السياق ذاته، يمكننا فهم الأسلوب الذي تعاطى فيه النظام الأسدي مع قضية الأكراد السوريين، والتي استندت في جزء منها على آلية تفكير حزب البعث الحاكم، والقائمة في أساسها على إنكار استقلالية شخصية المواطنين الأكراد ومنعهم من تعلم لغتهم وتطوير ثقافتهم أو الاحتفال بأعيادهم، فقد عانى الأكراد الذين يزيد عددهم عن مليوني شخص معاناة كبيرة ألغت معها كل فرصة لمستقبل عقلاني متحرر ليس للأكراد فحسب وإنما لكل السوريين على حد سواء. هذا التمييز اللاإنساني واللا تنموي الذي مارسه نظام الأسد بحق أكراد سوريا، تسبّب في احتقان متراكم لدى الكرد تجلى بأوضح صوره عام 2004 في انتفاضة القامشلي التي راح ضحيتها نحو 40 شخصاً، فضلاً عن مئات المعتقلين والجرحى.
وإذا كانت انتفاضة القامشلي تشير إلى أمر ما، فإنها تدلّ في جوهرها على أن سياسة آل الأسد قامت على عدم منح الأكراد استقلاليتهم في تعاطيهم مع خصوصيتهم المحلية، فضلاً عن عدم منحهم حتى هويتهم السورية المشروعة، فأُجبروا على خيارين لا ثالث لهما، (إما أن يكونوا عرباً وإما لا وجود لهم في سوريا الأسد). والحقيقة أن ممارسة النظام لهذه السياسة مع أكراد سوريا، لم تكن نتيجة المنطلقات النظرية لحزب البعث العربي فقط، وإنما لأنه كان يرى الأكراد ورقة مهمة يمكن استخدامها مع الجار التركي الكبير والقوي، وهو ما يفسر لنا كيف دعم حافظ الأسد، زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان، وسماح له بالعمل على الأراضي السورية وسهل البقاع اللبناني الذي كان يخضع للسيطرة السورية المباشرة، ثم تخليه عنه في لحظة غضب تركية؟
فلو كان نظام الأسد يرغب فعلاً في تحرير الأكراد أو أنه كان يريدهم أن يحصلوا على حقوقهم المشروعة، فلم يكن الأمر يحتاج منه سوى قرار سياسي لمنح الهوية السورية لأكثر من 300 ألف كردي يعيشون على الأراضي السورية بدون هوية؟ هذا فضلاً عن الحقوق الأخرى التي حرموا منها ككتلة مجتمعية أسوة ببقية أبناء الشعب السوري. غير أن دعم أوجلان لا يشبه بأي حال دعم حقوق الشعب الكردي السوري المشروعة، تماماً مثلما يدعم حاليا النظام الأسدي حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)، وذلك بهدف خلق فجوة جديدة بين الأكراد أنفسهم من جهة، وبين الأكراد ومحيطهم العربي من جهة أخرى، إذ لا الأسد الأب ولا الأسد الابن ينظران لقضية أكراد سوريا أكثر من ورقة ضغط يشتري بها رضى إقليمي أو دولي، أو يبعد عن نفسه ضغوطاً إقليمية عند الضرورة.
وفيما تبقى القضية الكردية، كغيرها من القضايا الكثيرة الشائكة في منطقة الشرق الأوسط والتي تمكن نظام الأسد أن يلعب بها ويروّضها لمصلحته، إلا أن القضايا الأهم التي تأسس على أساسها نظام الأسد كان وستبقى قضايا الجولان والقضية الفلسطينية وما يتبعها من قضايا الممانعة والصمود التي تعتبر الأكثر ربحاً في الحصول على جوائز الترضية العالمية والإقليمية على حد سواء، لا سيما وأنها تتعلق بشكل مباشر في أمن إسرائيل. والمتابع للشأن السوري، لا يصعب عليه أن يلاحظ كيف أن أكثر شعب تأذى من قضية احتلال إسرائيل لهضبة الجولان كان الشعب السوري، حيث وبسبب هذه القضية تمكن نظام الأسد من استعباد الشعب السوري بكامله وعلى مدى أكثر من 40 عاماً، بعد أن لجأ النظام باسم معركته المصيرية لاستعادة الجولان، إلى تخوين واعتقال وحتى قتل، كل من حاول إبداء وجهة نظر مغايرة عما يُصدّره إعلام ورأس النظام السوري حيال هذه القضية، في الوقت الذي كانت جبهة الجولان على المستوى الحربي والعسكري “تحديداً”، أكثر الجبهات سلمية وأكثرها أماناً طيلة حكم آل الأسد!.
فقد استغل حافظ الأسد قضية الجولان بأبشع ما يمكن للاستغلال وتم بسببها تركيع الشعب السوري بأكمله، تماماً مثلما تم استغلال قضايا المقاومة والممانعة والقضية الفلسطينية المركزية للعرب العاربة والمستعربة على حد سواء، ومثلما استغل بناء الجوامع التي ازدهرت في عهده “العلماني”!، حيث تعمّد إدراج كل هذه الثوابت القومية والوطنية والدينية، في سبيل وضع الشعب السوري تحت السيطرة ونجح في ذلك على الأقل طيلة أكثر من 40 عاماً.
أما على مستوى القضية الفلسطينية، فهو لم يتعامل معها كقضية مجتمعة وإنما تعامل معها كفصائل منفردة، كل فصيل على حدة، مستغلاً اختلافاتها الإيديولوجية والفكرية، وحاجتها للجغرافية المحيطة بإسرائيل لتنفيذ عملياتها عليها. فباشر نظام الأسد باحتواء هذه الفصائل من أقصى اليسار (الجبهات الشعبية) إلى أقصى اليمين (حماس والجهاد)، في الوقت الذي ناور فيه كثيراً ياسر عرفات الذي لم يتمكن منه، إلا أنه حاربه حتى أخرجه من لبنان قاضياً بذلك على جمهورية الفاكهاني التي جعلها عرفات معقلاً من بيروت لعملياته ومؤامراته العسكرية والسياسية.
لقد حارب نظام الأسد جميع الفصائل الفلسطينية بنفس الوقت الذي لم يتردد في دعمها، لكن ليس خدمة للقضية، وإنما بما يبرز دور وحضور النظام في تلك القضية لتشكل ورقة ضغط لا يمكن الاستغناء عنها في سبيل السيطرة على سوريا وتشبيك العلاقات في منطقة الشرق الأوسط ككل.
أما قضية حزب الله الذي أوغل في دماء السوريين جهاراً وبدون أي حرج بعد اندلاع ثورة الكرامة في 2011، فهنا كان لتعاطي الأسد معه شكلاً آخر استند على مستويين أساسيين، أولهما البعد الطائفي وتكريسه في المنطقة بعد حصر المقاومة بفصيل شيعي وحيد يمثله حزب الله، وثانيهما المكتسبات السياسية والقومية العربية التي حصدهما نظام الأسد من خلال تبنيه لحزب الله المقاوم والممانع للاحتلال الإسرائيلي، الأمر الذي سهّل لنظام الأسد أن يقضي من خلال حزب الله على جميع حركات المقاومة للاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان.
فتحول الحزب إلى مطيّة بيد الأسد الأب، وتمكن من أن يصبح دولة داخل دولة في لبنان، برعاية نظام الأسد الابن وحليفته إيران، في استغلال فاضح لفكرة تحرير الجنوب عام 2000، فأصبح الحزب هو من يعطي شهادات الوطنية وهو من يقرر الإنسان الخائن، ليصبح سلاح حزب الله مشرعاً ليس ضد إسرائيل ومقاومة الاحتلال وإنما ضد الشعبين اللبناني والسوري، وكل من يفكر بالاعتراض على فكر ولاية الفقيه في إيران.
لقد عرف نظام الأسد كيف يبني شبكة علاقات واسعة مع الكثير من الدول الغربية التي لا تريد له أن يسقط، فانتزع حق التحدث باسم جميع السوريين بلا استثناء، ورسم سياساته الداخلية والخارجية كما يشاء بعد أن أفرغ البلد من كل الأصوات، فيحارب وقت يشاء ويعقد اتفاقيات السلم وقت يشاء، لم يأخذ رأي أحد بالاشتراكية الوهمية، ولا بالرأسمالية الضائعة وغير المفهومة، وحصر البلد بيد أشخاص محدودين يلعبون به كما يشاؤون ويتاجرون بالقضايا الإقليمية كما يرغبون.
إزاء هكذا نظام أدرك جيداً كيف يتحرك ليحافظ على وجوده كل هذا الوقت، يضعنا أمام حقائق ينبغي على المعارضة أن تتخلى عن هزالتها وميوعتها وأن تعلن للملأ وبكل شفافية ما هو برنامجها وماذا تريد فعلاً وأي شكل من أشكال الدولة تضع نصب أعينها، إذا ما سقط نظام الأسد. فعلى هذه المعارضة أن تعترف بفشلها وتفكر بإعادة بناء نفسها من جديد، بحيث تكون قادرة على بناء دولة ديمقراطية علمانية وطنية محايدة لجميع أبنائها وعلى رأسهم الأكراد، لا سيما وأن المأساة التي قادنا إليها نظام الأسد وأمراء الحروب الذين توالدوا كنبات الفطر في سوريا، تزداد يوماً بعد يوم، فلا الدمار توقف ولا اللاجئين عادوا إلى منازلهم، والإرهاب في ازدياد، والنتيجة أزمة تؤرق الجميع باستثناء أمراء الحروب وصُنّاع الإرهاب، فهل حان الوقت للعمل بطريقة مؤسساتية تفسح المجال للسوريين كي يعبروا عن رأيهم ببلدهم دون أية مصادرة من أية جهة كانت.
بشار عبود