عن تكوّن الدول وصناعة الأمم وتفسّخها-عصام الخفاجي
باستثناء كتّاب المناسبات ومحبي المديح، لا أظن أن كثيرين اهتموا بذكرى مرور ستين عاماً على استقلال الأردن قبل أسابيع. لا أنتمي إلى الفصيل الأول من الكتاب لكن المناسبة تهمني.
تترافق المناسبة مع مرور قرن على اتفاقية سايكس – بيكو التي يفترض أنها رسمت خريطة لدول منطقتنا لا تتوافق مع تركيباتها السكانية والاجتماعية، بل تلبي المصالح الاستعمارية. كتب كثيرون، وكتبتُ، عن توحّد العرب المتنافرين في الجزم بأن إسقاط نظام البعث العراقي ومآلات ثورات الربيع العربي وصعود داعش وإعلان دولتها الإسلامية أنهت عملية أنتجها الخارج الاستعماري. نهاية تثير نشوة كثيرين، لا سيّما الكرد لانهيار مؤامرة تقسيمهم بين الدول وحرمانهم حقّ تقرير مصيرهم، وتثير حيرة وجودية لدى العروبيّين وكثيرين من اليساريين الذين ثقّفوا أجيالاً بأن أمّتهم العربية تفتّتت بسبب هذه السايكس- بيكو وأن عليهم إعادة التاريخ إلى طبيعته بتوحيد الأمّة، فإذا بداعش ينجز في أشهر ما لم ينجزوه طوال أكثر من نصف قرن من تحكمهم المطلق بالسلطة في مصر والعراق وسورية. هم ضد ما يرونه مؤامرة جارية لتفتيت الدول القائمة لكنهم ضد داعش الذي أعلن دولة تسقط الحدود بين العراق وسورية.
لمرور ستين عاماً على استقلال الأردن دلالة كبيرة في هذا السياق. فهو البلد الأكثر اصطناعاً وفقاً للمؤمنين بجهنّمية سايكس- بيكو. وهو إذن حالة مختبرية لتفحص هذا الأمر. هو أرض حار الغرب والجيران في إطلاق اسم عليها. هو جزء جنوبي مهمل من ولاية الشام. ثمة عراق شرقها، وفلسطين غربها. لكنه ليس أيّاً من هاتين البقعتين. هو أرض تتعرف بما هو ليس عليه لا بما هو عليه. صار اسم هذه البقعة إمارة شرق الأردن نسبة إلى اسم النهر الممتدّ امتداد أرضها غرباً. ثم صار اسمها المملكة الأردنية الهاشمية بعد عقدين.
طوال ستين عاماً عايشت هذه الدولة ثلاث حروب كبرى مع إسرائيل، وحدودها أطول من حدود أي دولة عربية معها. هزّت تلك الحروب سورية ومصر وحتى العراق البعيد. سقط نظام تلو الآخر في تلك البلدان لأن القادة الجدد رأوا في من سبقهم خائناً لقضية فلسطين. وكان الأردن متّهماً على الدوام، صراحة أو ضمناً، بخيانته القضية أو تخاذله في الدفاع عنها في أحسن الأحوال. وظل البلد متماسكاً حتى وهو يخوض حرباً دموية شبه أهلية عام 1970 مع منظمة التحرير الفلسطينية، مع أن الفلسطينيين يشكلون أكثر من نصف سكانه.
تماسك الأردن يمثل حالة مختبرية لتفحص الفرضية التي انغرست في الأذهان وباتت مسلمة يبتدئ كل محلل للوضع بترديدها لإثبات استنتاجات متناقضة. والإشارة إلى هذه الحالة لا تنصرف إلى الإشادة بالبلد أو توجهه السياسي، بل إلى التذكير بأن تفتت العراق وسورية وقبله التفتت المزمن للبنان ليسا نتاج خرائط تم رسمها خطأ أو سوء نية حتى لو كان الأمر كذلك. تماسك سكان دولة أو تفتتهم هو نجاح أو فشل بناء أمّة داخل تلك الخرائط. والأمة صناعة لا معطى أزلي، وليس هذا ما يراه القوميون المتحدثون عن «روح خالدة» للأمة العربية.
الأمة منتَج نجحت دول ذات إثنيات ولغات وديانات متعددة في صناعته وفشلت فيه أخرى. نجحت الهند المتعددة الطوائف والقوميات واللغات في بناء أمة تضم مئة وثلاثين مليون مسلم وفشلت في دمج باكستان. نجحت سويسرا (التي نشير إلى كانتوناتها كمثال على التفتّت يجب تحاشيه) في تكوين أمّة من ثلاث قوميات وكان أكبر اختبار لتماسكها أن قيام الاتحاد الأوروبي لم يغرِ أيّاً من قومياتها بالتوحّد مع القوميات الأكبر التي ينتمي إليها، فيما فشلت بلجيكا في تكوين أمّة.
لا تكمن المشكلة/ المأساة في الخرائط ولا في سايكس- بيكو إذن. تكمن بالأحرى في عجز سورية والعراق، وقبلهما لبنان، عن صناعة الأمة.
الدول التي تكونت عقب انتهاء الإمبراطورية العثمانية تشكلت ضمن أُطر وطنية، أي وفق معايير حداثية، أي دول المواطنة التي تستبدل تقسيم العمل المجتمعي الذي يتحدد فيه موقع الجماعات تبعاً لإنتماءاتها الطائفية/ الدينية/ العرقية بتقسيم عمل يتساوى فيه الأفراد قانونياً ويتبلور تمايزهم الاجتماعي وموقعهم في النظام السياسي بوصفهم أفراداً لا أعضاء في جماعات لم يقرّروا انتماءهم لها. لكننا بعد قرن من الزمن ما زلنا نسعى إلى قيام دولة المواطنة المدنية. لا يزال كل من الشيعي والسنّي والمسيحي والعلوي يرى مظالمه مظالم طائفته، ولا يزال يرى حقوقه في النظام الاجتماعي – السياسي القائم حقوقاً لطائفته. وما زال يستهدف مضطهديه بوصفهم ممثلين لطائفة حاكمة تضطهد طائفته.
وسأستبــق سؤال القارئ الفطن بالقول إن استقرار الأردن ودول عربــــية أخــــرى لا يعود إلى أنها بنت دولة المــــواطنة المدنية، بل إلى أنّها وبكل بساطة لم تدّع إقامتــــها نظاماً حداثياً يرفع سقف توقعات الأفراد في لحظات الفوران الثوري لتنهار بعد انحساره. هكذا كان حال العراق الملكي وسورية ما قبل البعث. كان قادة تلك النظم يرون الوصول بمجتمعاتهم إلى الحداثة هدفاً لا واقعاً متحقّقاً.
سلطات جمهوريات الحداثة صعدت إلى الحكم معلنة نهاية التراتب ومهاجمة توريث الحكم. أعلنت أن صعودها هو صعود الجماهير الكادحة التي باتت السلطة في يدها وهي في الحكم بوصفها طليعة تلك الجماهير. بذهنيتها العسكرية – الأمنية أصدرت مراسيم تلغي التركيبات الاجتماعية القائمة وانحازت الجمهرة إليها. لكن طائفة الحاكم وعائلته تصدّرتا المشهد. باختصار، أعيد إنتاج النظام السياسي قبل الحداثي في ظل ادّعاءات ووعود حداثية.
وما يجري اليوم في العراق وسورية ولبنان إنما هو «مفاوضات» بالسلاح بين طوائف وقوميات تغيّرت مواقعها صعوداً أو هبوطاً خلال نصف قرن، ولم تكن ثمة سيرورة سلمية تعكس التوازنات الاجتماعية المتغيرة دوماً، فبات السلاح وسيلة السعي إلى صوغ عقد اجتماعي جديد بعد اهتراء سابقه.
قد تغـالي طائفة أو قومية ما في تقدير وزنها، وقد يبخس الخصم وزن الطائفة أو القومية المنافسة فيصعّد شروطه.
ربما كان علينا الرضوخ وانتظار نتائج تلك المفاوضات إذ إن فشلها سيوصلنا إلى لحظة تنصرف فيها كل مجموعة إلى كيانها الخاص لتستقل به.
الحياة-12-6-2016