التقارب التركي-الروسي-مركز حرمون للدراسات المعاصرة
أولًا: مقدمة
كانت المحاولة الانقلابية العسكرية الفاشلة التي تعرض لها حكم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في 16 تموز/ يوليو الجاري مفاجِئةً بكل المقاييس، وكان من الصعب فهمها وتفسيرها، خاصة أنها أُحيطت بهالة من الغموض فيما يتعلق بالأسباب والأهداف، ورافق هذا الغموض غموض آخر في المواقف الدولية المختلفة تجاهها.
ولأنها كذلك؛ فمن نافل القول إنه من السابق لأوانه تحليل هذه المحاولة الانقلابية وتفسيرها واستخلاص نتائج ودلالات منها ما لم يتم الإعلان عن كل حيثياتها. لكن بالمقابل، لا شك أن لتوقيتها معنى مهم، ومن الضروري ربطها بالتحركات السياسية التركية الأخيرة، وعلى رأسها إعادة العلاقة مع روسيا ومع إسرائيل، وتحرك القيادة التركية بشكل حثيث، وعلى أكثر من صعيد، لتغيير سياساتها الخارجية، ومحاولتها كذلك إعادة التموضع الاستراتيجي في المنطقة، بعد مرحلة من الصعوبات التي أرّقت تركيا ووضعتها في مواجهات متعددة المسارات والأشكال مع حلفاء سابقين، ومع جوار متوتر مشتعل يهدِّدها.
لا شك أن فهم الوضع الذي تمرّ فيه تركيا، وحدود التغيير الذي تسير فيه، وتركيب صورة (بانورامية) للمشهد التركي الإقليمي والدولي، سيكون عمّا قريب عاملًا مساعدًا لفهم هذه المحاولة الانقلابية، وتفسير دوافعها ومعرفة المستفيدين منها، وبطبيعة الحال المتضررين منها، إقليميًا ودوليًا؛ وفي هذا السياق لا بدّ من التركيز على الحدث الأهم والأبرز الذي شغل السياسة التركية في الأيام التي سبقت هذه المحاولة الانقلابية، وعلى رأسها عودة العلاقات مع روسيا.
ثانيًا: اعتذار غير متوقع
بعد سوء علاقة بين البلدين، استمر أكثر من ستة أشهر، في إثر إسقاط سلاح الجو التركي طائرة حربية روسية، في 24 تشرين الثاني/ نوفمبر 2015، ومقتل قائدها؛ قررت تركيا تقديم اعتذار لروسيا، على أمل أن يكون أسفها العلني -هذا- مدخلًا إلى تلطيف الأجواء، وتحسين العلاقات، والقضاء على الآثار السلبية الناجمة عن الأزمة مع موسكو، والتي تتنامى قوتها وتدخلاتها في الشرق الأوسط، بشكلٍ متتالٍ ومتسارع.
حاولت تركيا التخفيف من وطأة اعتذارها للروس، وقال رئيس الوزراء، بن علي يلدرم، إن بلاده لن تدفع تعويضات لروسيا عن إسقاط الطائرة، وأكد أن الرئيس، رجب طيب أردوغان، أعرب في رسالته التي وجهها إلى بوتين عن “أسفه” فحسب عن الحادثة، وأشار إلى أن أنقرة شرعت في اتخاذ إجراءات قانونية، ضد الشخص المسؤول عن مقتل قائد الطائرة المقاتلة الروسية، في محاولة للإيحاء بأن المسألة كانت خطأ شخصيًا.
على التوازي، وقبل يوم من الاعتذار التركي، أعلنت تركيا -أيضًا- أنها قررت إعادة العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل، بعد ستة أعوام من قطعها، وبناء على الاتفاق الذي تم توقيعه في روما؛ فإن الطرفين سيتبادلان السفراء من جديد، ويتعاونان أمنيًا واستخباريًا، كما سينسقان جهدهما في المنظمات الدولية، ومن الممكن أن يبحثا كذلك قضية مدّ خط أنابيب غاز من إسرائيل إلى تركيا، ووفق مصادر إعلامية إسرائيلية، يتضمّن الاتفاق، الذي وصفته إسرائيل بـ “التاريخي”، منع حركة حماس من التخطيط لاعتداءات ضدّ إسرائيل، أو شنّها، من تركيا، مع السماح لها -باستمرار- ممارسة نشاطاتها السياسية، وكذلك السماح لها بنقل بضائع إلى قطاع غزة المُحاصر، عن طريق ميناء أشدود.
ثالثًا: تقارب حذر
كانت العلاقات بين تركيا وروسيا قد توترت في عقب إسقاط تلك الطائرة الحربية، حيث أكدت تركيا، في حينها، أن المقاتلة دخلت مجالها الجوي، وشدّدت على أنها حذرتها عشر مرات خلال خمس دقائق، بينما قالت موسكو: إن المقاتلة كانت تحلق في الأجواء السورية، ولم تتلق تحذيرًا قبل إسقاطها، وتبع ذلك حالة من الجفاء، لامست -في بعض الفترات- حافة العداء، وفرضت موسكو سلسلة من العقوبات الاقتصادية على تركيا، من بينها منع الرحلات التجارية من السفر إلى تركيا، وحظر استيراد المنتجات الزراعية التركية، فضلًا عن بدء حملة سياسية وإعلامية روسية؛ لاتهام تركيا بتسهيل انتقال مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية إلى سورية عبرها. أما العلاقات بين تركيا وإسرائيل، فكانت قد توترت بعد هجومٍ إسرائيليٍّ على سفينة تركية، كانت تهدف إلى كسر الحصار المفروض على قطاع غزة، عام 2010، وأسفر الهجوم عن مقتل عشرة مواطنين أتراك.
لقد أثارت عودة العلاقات بين تركيا من جهة، وكل من روسيا وإسرائيل من جهة ثانية، الكثير من التساؤلات والانتقادات، وحرّضت المراقبين والسياسيين على تحليل أسباب، وأبعاد، ونتائج، هاتين الخطوتين، وتأثير هذا التقارب على أزمات الشرق الأوسط عمومًا، والقضية السورية بشكل خاص، بحكم أن روسيا وتركيا صاحبتا دورٍ وتأثيرٍ كبيرين في هذه الملفات.
من جهتها حاولت تركيا الرسمية التقليل من تأثيرات هذا التقارب، وأكّد إبراهيم كالين، المتحدث باسم الرئيس التركي، أن إعادة العلاقات مع روسيا وإسرائيل لا يعني تغييرًا في مواقف تركيا الخارجية، وقال: إن سياسات تركيا، بشأن أوكرانيا وسورية والقرم، لن تتغير، وإن تركيا ستواصل مناقشة خلافاتها في تلك الملفات مع موسكو.
أما روسيا، فقد أثنت على الخطوة التركية، وقالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، إن موسكو تؤمن بأن تركيا اتخذت “خطوة مهمة في الاتجاه الصحيح”، وأعرب وزير الخارجية، سيرجي لافروف، عن أمله في أن “يُمهّد اللقاء، بين رئيسي البلدين، الطريق الصحيح؛ لاتخاذ تدابير عملية لتطبيع العلاقات” بين بلديهما، وأشار إلى وجود “فرصة جيدة” لمناقشة الأمور التي تستدعي ذلك.
رابعًا: تسريع التطبيع
بغض النظر عن التعليقات الرسمية التركية الدبلوماسية، والتي تؤكد أن هذه الخطوات تتجاوب مع التحديات الخارجية، والتطورات التي تشهدها المنطقة عمومًا، كما تتجاوب مع المستجدات الأمنية والسياسية التي تشهدها تركيا؛ يمكن القول: إن هاتين الخطوتين مهمتان جدًا في المرحلة الحالية، ودليل على وجود مشاريع وخطط جديدة، ومؤشر مهم، يمكن -من خلاله- استقراء التوجهات الجديدة للسياسة الخارجية التركية والروسية على حد سواء، خاصة في الملف السوري، بوصفه الملف الأصعب، والأكثر تعقيدًا، من بين الملفات المشتركة بين البلدين.
في هذا السياق، التقى وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، مع نظيره التركي، مولود جاويش أوغلو، في مدينة سوتشي الروسية، بعد خمسة أيام من الاعتذار التركي، وأعلنا أنهما اتفقا على استئناف نشاط مجموعة العمل الروسية- التركية لمكافحة الإرهاب، وقالا: إنهما اتّفقا على أساليب التعاطي مع المسألة السورية، كما تم تقريب موعد اللقاء الذي أُعلن عنه بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والتركي رجب طيب أردوغان؛ فبدلًا من أن يُعقد على هامش قمة العشرين، المزمع عقدها في الصين، في أيلول/ سبتمبر المقبل، وفق ما هو مُعلن، اتّفقا -خلال اتصال هاتفي بينهما- على أن يكون في نهاية تموز/ يوليو الجاري، أو مطلع آب/ أغسطس المقبل.
كذلك نقلت أبرز وسائل الإعلام التركية عن وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، إشارته إلى استعداد أنقرة لفتح قاعدة (أنجرليك) الجوية في أضنة، أمام القوات الجوية الروسية؛ لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية، وسرعان ما نفى الوزير التركي الأمر، وأوضح أن تركيا “بإمكانها التعاون مع أي شخص في قتال تنظيم الدولة الإسلامية”، وقال إنه لم يذكر قاعدة (أنجرليك) الجوية.
يبدو من هذا التسارع، أن جملة من التغييرات ستتم -بشكلٍ سريعٍ- في السياسة الخارجية للبلدين كليهما، استنادًا إلى قناعة بأن العالم -بأسره- دخل في مرحلة صراع كبيرة، ولا تملك تركيا القوة الكافية لحل المشكلات جميعها، كما لا تملك روسيا أن تتجاهل الوجود والتأثير التركيين في النزاعات في المنطقة عمومًا، ولعل هذه التغيرات ستطال -بشكل أساسي- الملف السوري، وستؤدي إلى تنازلات وحلول وسط تُرضي البلدين، وتحقِّق الحد الأدنى من التوافق بينهما، بعد فترة من التناقض في الأهداف، والخلاف في الأساليب.
خامسًا: مواقف إقليمية ودولية
لم تتّضح -بعدُ- جميع المواقف الإقليمية والدولية من هذا التقارب بين البلدين، كما لم تتضح مواقف دول الخليج العربي ومصر، وأيضًا لم تستقر المعارضة السورية على رؤية واضحة، أو برنامج محدد؛ للتخفيف من أي نتائج سلبية، يمكن أن تنتج من هذه التغيرات في السياسات التركية والروسية، أو للاستفادة من أي نتائج إيجابية قد تنتج منها. أما أكراد سورية، فقد كانت هذه الخطوة في منزلة الصاعقة لهم، خصوصًا حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، صاحب مشاريع الإدارة الكردية الذاتية والفدرالية في شمالي سورية، والذي يمتلك (قوات سورية الديموقراطية) التي تُشكّل ميليشيات وحدات حماية الشعب عصبها الأساسي، والتي تعدّها تركيا أذرعًا عسكرية لحزب العمال الكردستاني، المُصنّف إرهابيًا، وبرز خوف كردي، خاصة أن روسيا قالت: إنها لم تأت إلى سورية من أجل إنجاز المشاريع الكردية.
من جهتها أعربت الولايات المتحدة عن مفاجأتها بهذه الخطوة التركية، وقالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأميركية: إن أميركا “مذهولة” من هذا التقارب؛ ما يوحي بأن الأتراك تصرفوا -هذه المرة- بعيدًا من أي مشاورات مع حليفهم الأميركي، الذي توترت العلاقات معه، في السنوات الأخيرة؛ نتيجة تذبذب سياسته تجاه الأتراك والأكراد والأوروبيين، ومماطلته في طلبات تركيا لإقامة منطقة آمنة على حدودها مع سورية، ودعمه ميليشيات كردية لها مشاريع قومية، تخشى تركيا أن تنتقل إلى أكرادها، لكن بالمقابل، أعربت أوساط دبلوماسية غربية عديدة عن قناعتها بصعوبة أن يجري هذا التقارب، من دون معرفة الإدارة الأميركية.
أما إيران، وعلى الرغم من أنها تخشى من أن تُحجِّم روسيا نفوذها في سورية، أو أن تنزاح العلاقات الروسية الإقليمية لمصلحة تركيا؛ إلا أنها أعلنت عن ترحيبها بتطبيع العلاقات بين تركيا وروسيا، وقالت: إنها تأمل في أن تُسهم في “الاستقرار والأمان إلى جانب مكافحة الإرهاب”، وأعربت عن أملها في أن يُسهم ذلك في تغيير موقف تركيا من القضية السورية، وهي تعني أن تتراجع عن دعم المعارضة، وتتخلى عن دعم مطالب تغيير النظام، وسرعان ما قام المنسق الأعلى بين إيران وروسيا، في ما يخص الشأن السوري، أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، علي شمخاني، بزيارة إلى موسكو، أُحيطت أسبابها ونتائجها بالكتمان.
أما أكراد سورية، وخوفًا من أن تتغير قواعد اللعبة؛ فقد سارعوا إلى الإعلان عن مشروع دستور، خاص بالمناطق التي يسيطرون عليها في شمالي سورية، في محاولة لفرض منطق الأمر الواقع على هاتين الدولتين.
سادسًا: الدور التركي في سورية
منذ انطلاق الثورة السورية في آذار/ مارس 2011، أيّدتها تركيا بشدّة، وأعلن رجب طيب أردوغان (رئيس الوزراء التركي آنذاك) أنه نصح الأسد بإجراء إصلاحات ديمقراطية من دون جدوى، ومع بداية استخدام النظام السوري قواته العسكرية؛ لقتل المحتجين أرسل أردوغان مدير جهاز مخابراته إلى سورية؛ للتباحث مع المسؤولين، ونقل التجربة التركية إليهم، وعرض على السلطات السورية تدريبها على العمل الديمقراطي، لكنه فشل، ثم أعلن أردوغان أن لديه مخاوف من أن تنفجر الاشتباكات الطائفية في سورية، وعدّها بمنزلة “شأن داخلي تركي”؛ بسبب طول الحدود بين البلدين، وأرفق تصريحاته -هذه- بدعم المعارضة السورية بكل طيفها، خاصة التيارات الإسلامية، وفتح لها أبواب تركيا؛ لتعقد اجتماعاتها ومؤتمراتها، وتطلق تصريحاتها، مهما كانت معادية للسلطة السورية، وضاعفت التصريحات والمواقف التركية آمال المنتفضين السوريين، وأشعرتهم أن لديهم عونًا إقليميًا، يُضاف إلى دعم بعض الدول الخليجية، وكان لهذا الدور التركي تأثير كبير في دفع الحوادث، وأعطى للتيار الإسلامي -في الانتفاضة- أهمية ودورًا، وللإسلاميين -بشكل عام- دعمًا معنويًا كانوا ينتظرونه.
تجاهلت تركيا كرم النظام السوري معها (الأسد الأب والابن)، واعترافهما بالحدود الحالية، وقبولهما عدّ الأنهار الدولية أنهارًا محلية تركية، وموافقتهما على ضم لواء اسكندرون لتركيا، كما تجاهلت حجم التبادل الاقتصادي المتنامي الذي وصل -عند بدء الحوادث- إلى نحو ثلاثة مليارات دولار، ولأن سورية جار مهمّ، ودولة ذات أهمية إقليمية، ولا ينبغي للسياسة التركية الجديدة أن تتبنى موقف الحياد تجاه ما يجري فيها، ولخوف تركيا من انعكاس تدهور الأوضاع الأمنية على أمنها، فضلًا عن خوفها من تشكيل أكراد شمالي سورية مناطق حكم ذاتي، قررت المضي في تثبيت موقفها من القضية السورية، كجزء من دور تركيا الإقليمي الواسع، كما قررت الاستفادة من مجالها الحيوي الإقليمي والإسلامي والآسيوي أيضًا، واستغلال الموقع الجديد؛ لتحسين شروط التفاوض مع أوروبا من جهة، وتقوية موقعها في حلف شمال الأطلسي من جهة أخرى، وكذلك، أخيرًا، لمواجهة الأطماع الإقليمية الإيرانية، بكون أن دعم الحراك الشعبي السوري، هو الوجه الآخر للمواجهة -غير المباشرة- مع إيران.
تبدّى الدور التركي في ثلاثة اتجاهات: أولًا، تبنّي المعارضة السورية، ودعمها سياسيًا، واستضافتها، وتقديم التسهيلات، والسماح لها بعقد مؤتمرات ولقاءات في مدنها، وثانيًا، استقبال ورعاية أكثر من مليونين ونصف المليون من اللاجئين السوريين، ومحاولتها إقناع المجتمع الدولي بإقامة مناطق آمنة داخل الأراضي السورية؛ لإيوائهم، وثالثًا، محاولة إقناع الاتحاد الأوروبي، والإدارة الأميركية، بتصليب المواقف تجاه المسألة السورية، وتحريضهما للضغط على النظام بمختلف الوسائل والأساليب.
لكن الجهد التركي لم يحظَ بالدعم الأميركي والأوروبي المأمول، بل على العكس، يمكن القول: إن الولايات المتحدة خذلت حليفها الشرق أوسطي، ورفضت إقامة مناطق آمنة داخل سورية، وتحالفت مع أكراد سورية المناوئين لأنقرة، كما رفض الأوروبيون تقديم تنازلات لها في ما يتعلق بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، ولم يُبدِ الناتو كبير اهتمام بدعم تركيا، بعد حادثة إسقاط الطائرة الروسية، بل وجّه إليها اللوم، وطالبها بحلّ المشكلة وديًا، وكذلك امتدّ الإرهاب إلى تركيا، عبر سلسلة عمليات انتحارية، تسببت بهزات سياسية وقلق شعبي، وأدّت كل هذه التداعيات إلى وضع تركيا في حالة من العزلة النسبية، وبرزت -خلال السنة الأخيرة- رغبة لدى القيادة التركية بفكّ هذه العزلة، عبر مراجعة براغماتية واقعية للسياستين الداخلية والخارجية، لا تقتصر على الملف الروسي-التركي فحسب، بل تطال الكثير من الملفات الإشكالية التي تعاني منها تركيا.
سابعًا: الاحتمالات المقبلة
قال مسؤولون أتراك إن الخطوتين التركيتين (التصالح مع روسيا وإسرائيل)، تمهِّدان لسياسة خارجية تركية جديدة، لكن أحدًا منهم لم يستطع الجزم بماهية وطبيعة هذه السياسة الجديدة، أو ربما لم يُرد أن يُفصح عنها في هذا التوقيت، كما راح السوريون، على المستوى السياسي والشعبي، على طرفي المعارضة والنظام، يُفسّرون الخطوة التركية، كلٌ وفق رغباته أو أمنياته.
وما يتعلّق بالموقف من القضية السورية عمومًا، تتعدّد السيناريوهات حول الأسباب والتأثيرات المرتقبة للتقارب الروسي-التركي، كما تتداخل هذه السيناريوهات مع بعضها بعضًا، تمامًا كما تتداخل تعقديات القضية السورية ذاتها، وبالعموم، يمكن وضع عدّة احتمالات مستقاة من الواقعين التركي والروسي، ومن تطور الحوادث، أهمها:
1 ـ أن تكون الخطوة التركية، بالفعل، انعكاسًا لرغبة تركية في القيام بمراجعة لسياستها الخارجية، وإعادة ترتيب العلاقات مع دول الجوار، على المستويين: الإقليمي والدولي، ويمكن عدّها تجسيدًا لسياسة إنهاء المشكلات التي واجهتها تركيا خلال السنوات الخمس الأخيرة تحديدًا، ولأن هذه التغييرات تحكمها مصالح تركيا الاقتصادية والجيوسياسية والأمنية؛ فإنها ستكون، على ما يبدو، بطيئة جدًا؛ لتعقيدات الأوضاع والحسابات الدقيقة لأي خطوة جديدة في منطقة، يشوبها عدم الاستقرار.
2 ـ كذلك يمكن النظر إلى هذه الخطوة على أنها حاجة اقتصادية مُلحّة لموسكو وأنقرة، فالاقتصاد يحكم السياسة في الكثير من الحالات، فتركيا تريد استعادة نحو 4 ملايين سائح روسي خسرتهم، واستئناف صادراتها السلعية لروسيا، وكذلك استرجاع تجارة الترانزيت المارة بأراضيها، والمتجهة إلى روسيا، والتي فقدت معظمها، كما أنها في حاجة إلى الغاز الروسي بسعره التفضيلي (تركيا هي ثاني أكبر مستورد للغاز الطبيعي الروسي بعد ألمانيا)، وفي حاجة إلى روسيا؛ لمواصلة بناء محطتها النووية (كلفتها 20 مليار دولار)، وتشير بعض التقديرات إلى أن الأضرار الاقتصادية تقارب الـ 35 مليار دولار سنويًا، أما روسيا، فتريد حصتها من السوق التركية للغاز، كما ترغب في إحياء مشروع خط أنابيب الغاز إلى أوروبا عبر تركيا، والحصول على فرص تنفيذه، وتريد إعادة أسعار الخضروات والفاكهة إلى سابق عهدها، واستئناف استيراد مواد أولية، وقطع غيار لصناعة السيارات الروسية التي تأتي من الأسواق التركية، وترغب في إنعاش سوق العقارات والمقاولات، بدعمٍ من تركيا.
3 ـ من ناحية أخرى، يرى مؤيدو النظام السوري في هذا التقارب رغبة تركية في التراجع عن معاداتها للنظام السوري، وتُسرّب بعض وسائل الإعلام أخبارًا عن وساطة جزائرية بهذا الشأن (لم ينفها الأتراك أو النظام السوري حتى الآن)، لكن هذا الاحتمال يبدو مستبعدًا، لأن تغيّر الموقف التركي من النظام السوري، قد يكون له ثمن باهظ ستدفعه تركيا، وهو كفيل بتخريب العلاقات التركية – السعودية، والتركية-الأوروبية، وستكون مخاطر تحولٍ من هذا النوع على تركيا، داخليًا وإقليميًا ودوليًا، أكبر كثيرًا مما يمكن أن تستفيده تركيا من إعادة المياه إلى مجاريها مع النظام السوري، كما لا يكفي -لتبرير هذه الخطوة- القاسم المشترك بين تركيا والنظام، والمتمثل بموقفيهما الرافض للفدرالية الكردية.
4 ـ كذلك يُعتقد أن التقارب الروسي ـ التركي هو تجسيد لتباعد روسي ـ إيراني؛ فهناك من يقول: إن علاقة روسيا مع إيران في كفّة ميزان، وعلاقتها مع تركيا في الكفّة الأخرى، تصعد الأولى فتهبط الثانية، وقد يُعزّز هذا الاحتمال تحسّن علاقات تركيا مع كل من السعودية وقطر والإمارات، ورفع التنسيق معها إلى مستوياتٍ عدة، بما فيها المستوى العسكري، بما يساعدها -جميعًا- في التصدي لمشروع الهيمنة الإيراني على المنطقة، وأيضًا وجود رغبة تركية وروسية في إعادة صوغ منظومة التحالفات في المنطقة، بما يُفضي إلى شركاء جدد، قادرين على تحقيق أسس عملية سياسية في سورية خصوصًا، وفي العراق وغيرها على وجه العموم، تعزز هذا الاحتمال -كذلك- النتائج الهزيلة التي خرج بها وزراء خارجية روسيا وإيران وسورية من اجتماعهم في طهران، قبل ثلاثة أسابيع من إعلان عودة العلاقات الروسية-التركية؛ حيث أكّدت تركيا أنها لن تتعاون مع إيران إلا جزئيًا في الملف السوري، وميدانيًا لم تحاول روسيا أن تقدّم تغطية وحماية جوّية لمقاتلي إيران وميليشياتها في ريف حلب الجنوبي؛ ما تسبب بحدوث خسائر كبيرة.
ثامنًا: استحقاقات أمام السوريين
تُشير جميع الاحتمالات السابقة إلى وجود رغبات تركية وروسية في التقارب والتلاقي، وتتقاطع في هذا التقارب مصالحهما الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية، وفي الغالب الأعم، ستسعى تركيا -خلال المرحلة المقبلة- إلى التعامل مع الحقائق على الأرض، بشكل أكثر براغماتية وواقعية، وستركز على محاربة تنظيم الدولة الإسلامية استخباريًا وعسكريًا، وستتعاون مع روسيا في هذا الإطار، كما ستضع استراتيجية جديدة؛ للتعامل مع ملف أكراد سورية، وستُنسّق مع موسكو في هذا الشأن؛ للوصول إلى غاياتها، من دون أن تُضطرّ إلى مواجهة الأكراد السوريين عسكريًا، كما ستسعى روسيا لتقريب تركيا منها، من دون أن يصل التقارب إلى الدرجة التي تُرغم فيها تركيا على تغيير موقفها من النظام السوري، والقضية السورية عمومًا، وهذا يتطلب من المعارضة السورية الاستعداد للاحتمالات المقبلة، كأن تكون بدورها براغماتية في تعاملها مع هذا التقارب، ويمكن أن تركز على:
ـ أن يكون لها موقف واضح متجانس مرن وواقعي، ووضع الخطط الضرورية؛ لإبقاء تحالفها مع تركيا تحالفًا استراتيجيًا، ينظر إلى المستقبل أكثر مما ينظر إلى الحاضر.
ـ إعادة تقويم ائتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية، والهيئة العليا للمفاوضات، لإقناع تركيا بأن رهانها على المعارضة السورية ليس رهانًا فاشلًا.
ـ الانفتاح على التعامل مع مشروع التقارب التركي-الروسي، وعدم مقاطعة روسيا بشكل مجاني وقطعي، بل التقارب معها -أيضًا- مُسلّحة بمطالب الثورة السورية الواضحة، ومحاولة التخلص من حالات (الفشل والفساد وقصر النظر) التي وصلت إليها الكثير من مؤسسات المعارضة السورية، خاصة تلك التي تتخذ من تركيا مقرًا لها.
ـ تجاوز أخطاء الماضي، وعدم وضع كل بيض المعارضة السورية في سلّة واحدة، والانفتاح سياسيًا على جميع السلال الأخرى، التي يمكن أن تُقرّب السوريين من الحصول على حقوقهم الوطنية المشروعة.
ـ استمرار عدم الثقة بروسيا أو الولايات المتحدة، إلا وفق ما تحصل عليه المعارضة من نتائج ملموسة في مصلحة الثورة.
ـ استغلال المعارضة السورية هذا التقارب؛ لتفعيل عملية وقف إطلاق النار، برعاية روسية-أميركية مشتركة.
ـ العمل على تخفيف المشكلات القانونية والإدارية التي يعاني منها السوريون المقيمون في تركيا؛ للتخفيف عن كاهل السياسة التركية، حتى لا يؤثر الضغط البشري والاجتماعي على القرار التركي.
وبانتظار أن تتبين الصورة بشكل أفضل، وأكثر وضوحًا، في الأسابيع القليلة المقبلة، تقع على عاتق المعارضة السورية مسؤولية تفكيك المتغيرات الجديدة في السياسة التركية والروسية، والوقوف مع أي فرضيات تعزز من فرص انتصار قضيتهم، والإصرار على رفض جميع المشاريع، الإقليمية منها والدولية، التي لا تخدم الثورة السورية، وأهدافها الأساسية المُعلنة والمعروفة
17تموز 2016
مركز حرمون للدراسات المعاصرة