عن الصراع بين البرزاني وأوجلان -دارا عبد الله

مقالات 0 admin
في الأجزاء الأربعة التي يوجد فيها عموم الأكراد في منطقة الشرق الأوسط، أي، في تركيا وسورية وإيران والعراق، ثمَّة حزبان سياسيَّان أساسيَّان، يُعبِّران عن إرادتين أهليتيَّن كرديتيَّن واسعتين ومُتناقضتين، تتصارعان بحدَّة داخل المجتمع الكردي، وذلك لتسلُّمِ زعامةِ العالم الروحيّ والرمزيّ والسياسيّ القوميّ للأكراد. الأوَّل، حزب العمال الكردستاني (PKK)، لزعيمه المسجون، عبدالله أوجلان، والذي انبثق وتبلور تنظيماً سياسيّاً وعسكريّاً إقليمياً، بعد الثورة الاجتماعيَّة والسياسيَّة القوميَّة للأكراد، في جنوب تركيا وشرقها في ثمانينيات القرن المنصرم. والثاني، الحزب الديمقراطي الكردستاني، لزعيمه، مسعود البرزاني، رئيس إقليم كردستان العراق. ولكلِّ حزبٍ فصائله العسكريَّة الميدانيَّة التابعة له. فللعمال الكردستاني قوَّات “الغريلا” في جبال قنديل في تركيا، يُضاف إليها الفرع السوريّ، المُسمَّى حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)، والذي تتبعُ له قوَّات وحدات الحماية الشعبيَّة الكرديَّة (YPG) ووحدات حماية المرأة (YPJ). أمَّا حزب البرزاني، فتسمَّى قوّاته العسكريَّة المنتشرة في عموم أرجاء إقليم كردستان العراق “البشمركة”.
والحال، إنَّ مداخل فهم الخلاف بين الجماعتين السياسيّتين لا يمكن حصرها بمدخل واحدٍ وحيد. فالخلاف يتعدَّى التحالفات السياسيَّة والإقليميَّة المباشرة المتعارضِة، ليمسَّ صلب أمزجة الحياة للكتلتين الأهليتيّن وأنماطها. والجزءُ الذي تعجزُ عن تفسيره الجيو- سياسيّة، تشرحُه السوسيولوجيا. وبالتالي، إنّنا، بالفعل، أمامَ تصوُّرين متفارقين بشكلٍ جذريّ لشكل القوميَّة الكرديّة المعاصرة ومحدِّداتها. ليسَ ثمَّة طرفٌ أقلّ أو أكثر قوميَّة من الآخر. بل تشكيكٌ ودحضٌ من كل طرف على النزوع القومي الكردي لدى الطّرف الآخر. والأثمانُ السياسيَّة المباشرة لهذا الاختلاف جذريّة، حيثُ يقف حزب العمال الكردستاني، فعليّاً، ضد تجربة مسعود البرزاني في الانفصال. كما أنَّ الأخير، في إعلامه المرئي والمكتوب، يحاربُ بشكل مطلق تجربة “الإدارة الذاتيّة الديمقراطيّة” التي يحاول الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني تكريسها، منذ انسحب النظام السوري من المناطق ذات الوجود الأهليّ الكردي في الشمال السوري. كما أنَّ معبر سيمالكا الذي يربط الشمال السوري، حيث يسيطر فرع العمال الكردستاني، مع إقليم كردستان العراق، مغلقٌ منذ فترة، على الرغم من الحصار الاقتصادي الخانق المفروض على الشمال السوري من “الدولة الإسلاميَّة”. إنّها تشبه التأويلات المختلفة لمفهوم القوميَّة العربيَّة المعاصرة، والتي أدَّت، أحياناً، إلى اقتتال أهليّ وسفكٍ للدماء بين المنحدرين من أرومة الدم نفسها.
والحال، وبعد صعود حزب العدالة والتنمية، بقيادة رجب طيب أردوغان، إلى سدّة الحكم في

تركيا، حصل تقارب تاريخي بين أربيل وأنقرة، أسندته علاقاتٌ اقتصاديَّة عميقة، من عقود نفط وإعمار سكني وفتح السوق الكرديَّة أمام البضائع التركيّة، وتشابه في الرؤى الاقتصادية الليبراليّة لأردوغان والنيوليبراليّة للبرزاني. يعكَّر صفو هذه العلاقة، أحياناً، النزاع الكردي- التركماني في كركوك، كما أنَّ البرزاني مؤيّدٌ، ولو لفظيّاً على الأقل، للثورة السورية، ويعلن قربه لتركيا أكثر من إيران. أمّا حزب العمال الكردستاني، وبسبب تركيبته الأيديولوجيّة الستالينيّة وميله التسلّطي، فهو يقترب أكثر، ولأسباب سياسيَّة وتاريخيَّة أيضاً، إلى محور النظام السوري وإيران وحزب الله. ويشكّك دوماً بالثورة السوريّة، ويقف ضدّها عمليّاً بسبب اعتقاده بأنَّ هذه الثورة “تُدار من اسطنبول”. الصراع بين الحزبين الكرديّين، حزبي البرزاني وأوجلان، هو تمثُّلٌ وانعكاس للنزاع السني- الشيعي الذي يسود الإقليم، والتصارع التركي- الإيراني على المنطقة.
داخليّاً، في إقليم كردستان العراق، تتحالف عشيرة البرزاني، النافذة في مراكز الثروة، والمهيوبةُ في مواضع السلطة، بدرجة أساسيَّةٍ، مع المحافظة الاجتماعيَّة الكرديَّة التقلديَّة السنيَّة المتديِّنة، أي مع التديُّن الاجتماعي الكردي. فالبرزاني هو ابن داعية الدين، ملا مصطفى البارزاني. كتلته الشعبيّة بالدرجة الأولى مُحافِظة ومتديِّنة (مثل الكتلة الشعبيّة المحافظة لأردوغان في تركيا، لكن الإسلام الكردي لم يسيس، وهذا يفسّر جزئيّاً التقارب بين أربيل وأنقرة)، بالمعنى الاجتماعي الطقوسي، وبمعنى تكريس قيم تقليديَّة سائدة، وليس بمعنى الأسلمة السياسيَّة السلطويّة. ويعمل البرزاني دومًا، على منع تحوّل الإسلام الاجتماعي الكردي، وتحرّكه وتصلُّبه وتسيُّسه، وكذلك تحوّله إلى أشكال مُهيكَلة ومستقلّة من الإسلام السياسي، أي تشكّل إخوان مسلمين أكراد مثلاً. واستاءت الأقليَّة الطائفيَّة الأيزيديَّة (وهي طائفة دينيّة داخل القوميّة الكرديّة، يغلب خوفها الأقلّويّ الطائفيّ على انتمائها القوميّ السياسيّ) من هذا التحالف في عاصمة الإقليم. وشعروا بالغبن بسبب تهميشهم ونبذهم من المركز السني الكردي. بلْ إنَّ قوّات البشمركة تقاعست، وتركت مواقعها ولم تدافع ببسالة (كما أشارت تقارير منشورة في دوريّات أجنبيّة) عن إقليم سنجار، مكان وجود الأيزيديين الأساسي، لمَّا غزته قوات “الدولة الإسلاميَّة في العراق والشام، وشرّدت أكثر من نصف مليون إيزيدي. عندها، من هبّ لمساعدة الإيزيدين كانوا قوّات “الغريلا” من تركيا، ووحدات الحماية الشعبيّة الكرديّة من سورية، التابعة لحزب العمال الكردستاني وفروعه. ومن وقتها، يقدّم حزب العمال الكردستاني نفسه للجميع، بأنّه حام للأقليّات.

أمَّا الكتلة الشعبيَّة الأساسيَّة لحزب العمال الكردستاني في سورية وتركيا، فهي عملياً، المسحوقون والفقراء والمهمَّشون والأيدي العاملة غير النوعيّة (“البروليتاريا الرثّة” حسب الماويين). أوضاع التهميش والحرمان التي مارستها الحكومات المتعاقبة في المناطق ذات الوجود الكردي في سورية وتركيا مع القمع السياسي والثقافي، شكَّلت مُركّبَ قوميَّة- طبقة، يحتوي على خزَّان خصب من الشباب الذين يسهل حشدهم وتعبئتهم، من تنظيم سياسي أيديولوجي شعبويّ، مثل حزب العمال الكردستاني. وأدركت الأردوغانيَّة السياسيَّة هذا العطب الاقتصادي، وعملت على معالجة اقتصاديّة للمسألة الكرديَّة السياسيّة، عبر كسر الأكراد طبقياً، وتشكيّل طبقة وسطى كرديّة في تركيا، تتحالف معها في الانتخابات، ببناء مشاريع تنمويّة ضخمة في المناطق ذات الوجود الأهليّ الكردي في تركيا، وزيادة عدد الخيارات الشباب الأكراد وتوسيع الآفاق. قبل أن تسوء الحال، بعد الربيع العربي، وتشخصن الأردوغانيّة وزيادة حدّة الاستقطاب في المنطقة.
سيستمر النزاع الأوجلاني- البرزاني باشتداد النزاع السني- الشيعي في المنطقة، لتصبح لفظة “الأكراد”، كلفظة مجوهرة مجرّدة تستعمل بكثرة، غير دقيقة، لا واقعياً ولا معرفياً ولا سياسياً.

كاتب سوري

العربي الجديد 18-8-2016

Loading

الكاتب admin

admin

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة