المكوّنات السورية ومفهوم الشعب- منير الخطيب
الشعب ليس معطىً قبْلياً، فهو يخضع لسيرورة تشكّل معقّدة متداخلة مع مسارات تشكّل الدولة والأمة والمواطنة والمجتمع المدني والحرية والهوية الوطنية. فهذه مفاهيم مترابطة، تتقدم معاً وتتراجع معاً كمصفوفة واحدة.
يختلف مفهوم الشعب، جذرياً، عن مفهوم المكوّنات، فهذا الأخير يخالط مفاهيم العيش المشترك والملة والعرف و «الدولة « السلطانية والمجتمع الأهلي ومنظومته التقليدية. ليس الشعب مجموعاً حسابياً للمكونات الإثنية والطائفية والمذهبية القائمة، فجمع حسابي كهذا لا ينتج شعباً، بل يفضي إلى «مخلوطة» طوائف وإثنيات، عاجزة عجزاً كلياً عن تأسيس حياة عامة، تنتفي فيها العلاقات ما دون الوطنية كعلاقات سياسية، فيما يرتبط مفهوم الشعب بفكرة العمومية، ويحيل على مجموع المواطنين الأحرار الذين انتظموا في إطار هوية وطنية عامة، تنفي وتعيد تركيب العلاقات بين هويّاتهم الجزئية، بما يؤمّن الانتقال من واقع التعدد والاختلاف المجتمعي إلى الوحدة في مجال الدولة، ولا يتضمّن مسار تشكّيل الشعب إلغاء وجود المكوّنات، بمقدار ما يتضمّن «إعدام» العلاقات المذهبية والإثنية والطائفية في الحيّز السياسي.
لم يتشكّل السوريون كشعب بعد، فهم تلمّسوا بدايات متعثّرة للدخول في هذا المسار المركّب مرتين في تاريخهم المعاصر: الأولى أثناء المرحلة الاستقلالية، وقد أجهضها الانقلاب القومي، والثانية مع بداية الثورة السورية عام 2011، وقمعتها بوحشية آلة «الدولة التسلطية»، التي أدارت السياسات طيلة العقود الماضية في سورية وفقاً لمفهوم المكوّنات في مواجهة مفهوم الشعب.
وأصبح واضحاً أن تلك السياسات السلطوية التي لم تر «الشعب» السوري يوماً، إلا بوصفه تراصفاً للمكوّنات المحشورة قسراً في بنية مجتمعية سديمية ذات طبيعة توتاليتارية، هي من الأسباب المهمة التي تقف في خلفية المأساة السورية الراهنة، وأن الحرب الحالية الدائرة على طول الجغرافيا السورية وعرضها تتغذى من معين تلك السياسات الهوويّة، التي أطاحت فكرة الشعب ومرتكزاتها، وأنتجت حزمة من الظواهر المتشابكة، احتجزت نشوء تفاهمات وطنية سورية.
فتراكبت حرب السلطة على المجتمع، مع واقعة المكوّنات والانقسام المجتمعي، فما كان لشعار «الأسد أو نحرق البلد»، أن يُطبّق ويحرق السوريين ويهجّرهم، لو لم تكن «الشعوب» السورية مستنفذة في مكوّناتها العرقية والمذهبية، وأيضاً أسهم التخارج بين صلادة المكوّنات الهوويّة وهشاشة فكرة الشعب في استقدام الخارج، دولاً وميليشيات مذهبية، لتعبث بالسوسيولوجيا السورية وفقاً لمصالحها المتصادمة مع مصالح السوريين. وهذا في حين صعدت قوى التطرف القومي والديني، ذات الطبيعة الفصائلية، المعادية لبناء فضاء وطني سوري، استناداً إلى سياسة المكوّنات التي أرستْها المرحلة البعثية.
كما أعاق غرق السوريين في هويّاتهم الحصريّة نشوء معارضة سياسية سورية موحدة ومكتّلة للسوريين حول خريطة طريق للخلاص الوطني مستلهمة مفهوم الشعب.
وما يهدّد المستقبل السوري جدياً هو تحويل وضعية الانقسام والتشظّي الوطني إلى وضعية دائمة مولدّة لنزاعات وحروب لا تنتهي، بسبب نقل العلاقات المذهبية والإثنية والطائفية إلى الحيّز السياسي من طريق «التسوية»، التي تسعى القوى الدولية (أميركا وروسيا) والإقليمية (إيران وإسرائيل وتركيا)، إلى بلورتها في سورية وفقاً لتقاطع مصالحها، وارتكازاً على رؤيتها للسوريين بصفتهم مكوّنات متصارعة، وليسوا شعباً واحداً، وفي ظل حضور طاغٍ لقوى الحرب الحاملة لفكرة المكوّنات بجدارة، وغياب قسري للفئات والشرائح والنخب المدنية الحاملين لفكرة الشعب ومصفوفتها الأخلاقية والسياسية.
* كاتب سوري
الحياة 1 ايلول 2016