وثائق مؤتمر تيار مواطنة الرابع
مقدمة: لا يريد “ تيار مواطنة” أن يضع في ورقته هذه أحكاماً مسبقة أو جاهزة أو نهائية٬ جل ما يبغيه هو عرض منهجه في التفاعل مع مجريات الثورة وتطور وقائعها وظروفها٬ مدركاً أن وضع” ثوابت” دائمة للرؤية السياسية أمر غير منطقي ولا عملي. وهو إن ساعد أحياناً على رص الصفوف في اتجاه محدد٬ فلن يكون إلا عائقاً أمام العقل والفاعلية بعد ذلك.. نحن٬ إن أردنا متابعة الثورة٬ ندرك أن حقلها الأعمق راسخ في ميدان العقل والوعي. لذلك٬ لا نتمسك برأينا بجمود٬ ولا ندعو أعضاء التيار إلى الالتزام بما يرد هنا على طريقة” الانضباط الحديدي”٬ بل إلى جعله دليلاً للعمل المشترك٬ما لم يثبت ما يناقضه ويعاكسه٬ في إطار تفاعل الآراء وتعددها! ولعل مؤتمرنا هذا يكون نقطة انطلاق جديدة من أجل التجدد والإحياء المدني والسياسي٫ والإحياء الوطني بمعنى الوطنية الجامع لكل المواطنين تحت سقف واحد٬ يحتفظ لكل فرد بحقوقه وواجباته٬ وبحريته وكرامته! ولا بدّ هنا من الإشارة إلى استمرار صوابية ما ورد في تقرير المؤتمر الثاني٬ وخصوصاً في فقرة” مبادئ عامة ونقاط استناد ومقترحات في السياسة والممارسة والثورة السورية”٬ في خطها ونهجها العامّين. * الثورة السورية٬ من أين٬ وإلى أين: كان للثورة ربيعها٬ الذي تألق أكثر ما تألق في تموز من عام ٢٠١١ وربما كان لها صيفها لأشهر تلت.. ثم خريفها وشتاؤها! عجزت المعارضة التقليدية عن الارتقاء إلى مستوى الثورة حينذاك٬ فلم تنتج وحدتها ولا برنامجها أو رؤيتها٬ ولم تنجح في بناء علاقة ناجحة مع الشباب الذي قاد الحراك الذي وصل إلى مستوى أسطوري آنذاك.
ولكن هؤلاء الشباب أيضاً٬ عجزوا وقتها- وحتى الآن يلعب هذا العجز دوراً حاسماً- عن تأسيس هياكل سياسية تتناسب مع ظروفهم وشروطهم وحاجات الثورة.. وما زالت مشكلتنا من حيث الفعالية والدور مؤسسة على هاتين الحالتين. في ظل هذا الضعف٬ استطاع النظام ببطشه الوحشي أن يدفع أنصار الثورة إلى الانشقاق وإلى تشكيل مجموعات حماية للمدنيين في البداية ثم إلى العنف المضاد٬ وكذلك بإفلاته لبعض رموز التطرف والتسلح٬ ومع وجود قوى ذات ميول انتقامية تختزل الصراع إلى ميدان الدم والحسم استناداً إلى تاريخ وحشية النظام ومجازره.. بهذا انتقلت الثورة إلى مرحلة الصراع المسلح.. وكان ذلك رغم ما يبدو عليه من حتمية٬ انحرافاً بها عن جوهرها السلمي ومسارها٬ بل ومآلها أيضاً. الضربة القوية الثانية للثورة جاءت من خلال” أسلمتها” و”تأسلمها” وهو ما سيكون” تطييفاً” مباشراً٬ وتم ذلك باستخدام سطوة الإيديولوجيات الدينية على تعدد مصادرها من أجل تحجيم دور” الوطنية السورية” الجامع٬ والقادر وحده على إبقاء الثوار موحدين٬ بل الشعب موحداً في جهة لا يستطيع النظام اختراقها وخلخلتها.
وإذ سادت المزايدة الإسلامية وعمت مفاهيم” الإمارة” و” البيعة” و” الهيئة الشرعية” بل و” الخلافة” أيضاً٬ انفتح الباب على مصراعيه للتشدد فالتطرف فاحتضان العقل والأجسام الإرهابية٬ القادرة أكثر من غيرها على المنافسة والمزاحمة في ظروف دموية تحت غطاء الأسلمة الذي هيمن على الساحة قسراً أو طواعية أو استسهالاً. ولعل الجانب الطائفي من عملية أسلمة الثورة هو الأكثر خطراً وتهميشاً لمفهوم” الوطنية السورية”. استمدّ هذا الجانب قوته من سياسات النظام المصرة على فرض هذا السياق في وقت مبكر( مجازر كرم الزيتون والحولة في حمص)٬ إضافة إلى انتعاش الروح الانتقامية وعدتها الطائفية. لقد وصلت الثورة السورية إلى وضعها البائس بالتدريج: حيث تهمشت شرائح شباب الثورة بالقتل أو السجن أو التهجير أو الاحتواء في البنى الناشئة٬ وسادت قوى مسلحة لم تخلُ من التشدد أو التطرف أو إمارة الحرب٬ إلى جانب قوى استسلمت لذلك أو احتمت بغرف العمليات الخارجية التي لم تحمها حين جاء أوان استئصالها. وتهرأت البنى السياسية والتنفيذية للثورة وضعفت٬ بهيمنة شرائح استحواذية ومتخلفة٬ إضافة إلى حصارها من القوى الإقليمية والدولية التي تفضل بالطبع ضعفها وطواعيتها. وعموماً: تفسخت حالة الثورة وضاعت ملامحها لصالح” ثورة مضادة” تجمع بين المتناقضات على عداء هذه الثورة التي ينطبق عليها بالفعل وصف اليتيمة. هل انتهت الثورة؟ لا يمكن لها ذلك٬ بعد أن تغيرت الحالة النفسية والاجتماعية والثقافية لكل شعبنا٬ وما يمر بها كان قد مرّ في كل الثورات العظيمة على مثل هذه الحالة٬ التي انتفضت بروح جديدة ووجه جديد في المرحلة التالية.. شعبنا قادر على أن يكون له مثل هذا المستقبل٬ مع ملاحظة أنه قادر أيضاً- للأسف- على إضاعة الفرصة تلو الفرصة.
كيف يمكن الخروج؟.. لا ندري تماماً٬ وليس لدينا برنامج جاهز الآن لذلك. ولكننا نستطيع تحديد أهدافنا أولاً: إنهاء الاستبداد وقطع الطريق عليه من غير رجعة٬ ومحاربة الإرهاب والتطرف بكل أشكاله وبكل الطرق٬ والانتقال إلى دولة مدنية ديموقراطية حديثة تضمن الحرية والكرامة لكل مواطنيها ومكوناتها. وكيف تكون بداية ذلك؟ بإجراء مناقشة واسعة لاستعادة الخط٬ بما في ذلك استعادة نصوص وروح مؤتمر القاهرة ٢٠١٢ والانفتاح على كل القوى المعارضة من دون أحكام مسبقة٬ وبناء هيكلية جديدة أكثر تمثيلاً وفعلاً وثورية٬ ربما انطلاقاً من البنى الموجودة نفسها…، أو من”شرعيتها” على الأقل أو من دونها عندما يكون العجز نهائياً والظرف ملائماً وكافياً… نحن جزء متواضع من ذلك٬ جاهز للقيام بدوره على هذا الطريق. التسييس والوطنية: مفهوم جيداً أن نظام البعث والأسد قد نزع السياسة من المجتمع٬ تحصيناً لنفسه من احتمالات التغيير الذي يتيحه التسييس المفتوح للمجتمع.
وليس مفهوماً تماماً كيف تحارب “ قوى الثورة والمعارضة” عملية استعادة السياسة وتسييس حراك الشعب ووعيه! تيبس الحقل السياسي عند القوى القديمة ذاتها٬ بل ونقل اليباس إلى قوى ناشئة محدودة تحسب نفسها على الثورة٬ وانتقلت ضغوط إمارات الحرب وعقليتها إلى الجسم السياسي الراهن٬ وسادت مفاهيم هي في جوهرها مفاهيم” الغزو و” الغنيمة”٬ واستسهل القوم استخدام” التخوين” بل و “التكفير” أيضاً في الممارسة السياسية٬ من أجل ضمان الاستحواذ والهيمنة والإقصاء. إن من أهم نتائج التسييس نموّ المدني على حساب الأمني والديني المحترفين٬ واستقلال هذه الفضاءات بعضها عن بعض.. وفي حالتنا سيكون العكس أيضاً صحيحاً.
إن انتعاش المجتمع المدني الذي هرب إليه شباب الثورة من العنف العسكري وبعد استحواذه على جزء مهم من الحقل العام٬ سيكون له دور في عودة الناس إلى الشأن العام٬ ومن ثم٬ إلى المشاركة السياسية. فهمنا هذا هو الذي يجعلنا نختار العمل المزدوج في الحقل السياسي والآخر المدني معاً٬ وعلى الحد الرفيع الذي يحافظ على الاستقلالية النسبية- ولكن الحقيقية— بينهما. وكذلك٬ ينبغي التركيز على إحياء الوطنية السورية٬ بعد ما كان للأسلمة المشوهة والتطييف من تأثير على تنحيتها وتقليص أثرها٬ وما كان لفعل النظام وإمارات الأمر الواقع من تنمية للمناطقية والطائفية وكل أنواع العصبيات السابقة على الوطنية.
هذه الوطنية ليس عصبية مغلقة أخرى تتعلق بالأرض أو التراب أو الجغرافيا وحسب٬ بل هي خصوصاً٬ وبعد كل ما جرى لشعبنا٬ اجتماع ومساواة وانتماء شامل من باب المواطنة وحقوق الإنسان الفرد٬ ومن خلال سيادة الشعب أيضاً كأساس لتوزيع السلطة والثروة.
العلمانية- المدنية- الإسلامية: من الطبيعي أن يشنّ الإسلاميون في بلادنا وما يشابهها حملات متكررة ومتصاعدة على مفهوم” العلمانية” محاولين محاصرته ضمن حلقة العداء للدين والتدين٬ وليس طبيعياً أن يكون العلمانيون أنفسهم هم من خدموا هذه الحملات بحصارهم أيضاً للمفهوم ضمن الحيّز ذاته. في حين أن جوهر العلمانية وأساسها هو فصل مؤسسات الدولة وأشخاصها المفوضين عن المؤسسات الدينية وشخصياتها البارزة. ولذلك كان سهلاً التوافق بين الإسلاميين” المعتدلين” والعلمانيين” المعتدلين” على مطلب “ الدولة المدنية”! وحدث هذا قبل الثورة بسنوات عديدة٬ لكنه بقي موضع اختلاف غير صارخ عند تفسيره بين الطرفين. بالأساس٬ تبلور مفهوم الدولة المدنية حول سيادة القانون أو حكمه٬ على النسق الذي ساد عند المراحل الأولى من تأسيس الدول الحديثة. والمدنية هنا تتعارض مع” حكم العسكر” أو” الحكم الديني” أو” الدولة البوليسية”٬ ومن ضمن ذلك أيضاً٬ تكون مدخلاً طبيعياً للعلمانية في بناء الدولة. لذلك يؤكد تيار مواطنة على “ علمانيته”٬ ولا يتمسك دائماً بالكلمة ذاتها بمقدار ما يؤكد على جوهرها ومضمونها٬ وحين يذكر مطلب” الدولة المدنية”٬ يعتبر من المفهوم أن ذلك يتضمن أيضاً علمانيتها٬ على الرغم من كل ما أصاب هذه الكلمة من التشويه في منظور الإسلاميين٬ وبعين عموم السوريين أيضاً. ويؤكد التيار أيضاً على صفة” الحداثة” التي تجعل المفاهيم أكثر مصالحة بعضها مع بعض.
وفي ظروفنا الراهنة التي تحاصر السوريين بالدم والدمار والنزوح٬ يكون للمسألة أهمية خاصة مع شعبية التشدد الديني ثم التطرف فخلق القوى الإرهابية٬ ويكون للصمود مع المبدأ ودفعه إلى أمام متطلبات صعبة لا بد من مراعاتها٬ ما دمنا في حقل السياسة٬ وليس في حقل الثقافة مجرداً عما حولنا!
شكل الدولة في المستقبل٬ وتركيبها المتعدد: المسألة الكردية نؤكد هنا أيضاً على استمرار صحة الموقف المبدئي الذي ورد في التوصيات الواردة في تقرير المؤتمر الثاني للتيار حول المسألة الكردية٬ وأن للشعب الكردي حقه في تقرير مصيره بنفسه طبقاً للشرائع والمواثيق الدولية٬ في نطاق كردستان كلها أم في أجزائها٬ وأننا لا نرى في هذا الطموح الأساسي المتعلق بالحق أي تناقض مع انتماء الكورد السوريين إلى الوطنية السورية ونضالهم في إطارها٬ الأمر الذي يكتسب أهمية خاصة ومختلفة لدى الكرد السوريين بسبب طبيعة التواجد الجغرافي غير المتصل وتداخل هذا الوجود في أكثر من مكان٬ بما في ذلك مدينتي دمشق وحلب. إضافة إلى دروس التاريخ البعيد والقريب٬ فإن كل المؤشرات٬ والتطورات في الأعوام الماضية منذ بداية الثورة٬ تؤكد على أهمية التفكير في شكل الدولة السورية في المستقبل بشكل منفتح وخالٍ من العقد على الطرفين المعنيين أكثر من غيرهما: العرب والكرد. شكل الدولة هذا ينبغي أن يخضع لمتطلبات المصلحة الوطنية والعلم الحديث معاً٬ وربما تكون اللامركزية عنواناً واضحاً لها منذ الآن٬ هذه اللامركزية التي يمكن أن تكون على النسق الفدرالي الذي يراعي كل الشروط الموضوعية بالحذر الكافي٬ الذي لا يصل إلى حد التحفظ المسبق. وربما يكون المفهوم الذي ينبغي اعتماده منذ الآن هو مبدأ التراضي٬ وانتظار الفترة التي يمكن فيها إجراء الدراسات والمناقشات واتخاذ القرارات بهدوء وروية.
حول التحالفات: لقد رسم المؤتمر السابق للتيار خطاً صحيحاً للتحالفات٬ يضع لها أساساً مبدئياً وسياسياً وعملياً٬ وينحو إلى الخروج من التحالفات الثابتة التي لا ينطبق عليها هذا الخط٬ من دون إهمال دور المرونة في حشد التأييد الممنهج لكل موقف على حدة أحياناً. وعموماً٬ نستطيع إجمال المحددات الأساسية التي تنطلق منها تحالفاتنا٬ أو لعلها مبادئ لما نراه” سياستنا الخارجية”..على الشكل التالي:
الموقف الجذري من النظام ومن الاستبداد٬ وتغييره أو الانتهاء منه إلى غير رجعة. الحرب على الإرهاب٬ واستهداف التطرف وأسبابه٬ سواءاً كان هذا التطرف قومياً أم دينياً أم طائفياً. اعتبار حقوق الإنسان كما نصت عليها الشرائع الدولية مبدأ لا تنازل فيه٬ والإنسان هو القيمة العليا. الاعتراف بالحريات الأساسية والانطلاق منها في السلوك٬ ونحوها في العمل السياسي. الانطلاق من مبدأ المواطنة المتساوية لكل فرد سوري٬ لرسم مستقبل لسوريا كدولة مدنية ديموقراطية حديثة٬ تقطع الطريق نهائياً على عودة الاستبداد٬ أو لأي وجه آخر له٬ دينياً أو طائفياً أو قومياً أو بوليسياً يعتمد على فرد أو طغمة طاغية،وتكريس الوطنية السورية جامعاً للسوريين وأساساً لوحدتهم واجتماعهم٬ ونفي العصبيات الأخرى السابقة لها طالما تعارضت معها ونفتها.
الحالة واتجاهات تطورها: تكاد الحالة السورية تصل إلى نهاياتها الممكنة من حيث درجة التعقيد والتأزم٬ وما يمكن لها أن تنتجه من الأذى على المنطقة والعالم. عبرت هذه الحالة عن نفسها في العام الماضي كله من خلال استفحال مشكلة اللاجئين والإرهاب المتنقل٬ واستمرت في ذلك مع التدخل الروسي الذي أنهى عامه الأول مؤخراً٬ واستطاع تعديل الواقع على الأرض لمصلحة النظام في عدة أماكن وعموماً٬ وفرض معادلة جديدة تقارب الاحتلال في عين كثير من السوريين٬وإضافة إلى ذلك٬ سوف يكون طبيعياً أن يفرض الدور الروسي أثراً مهماً على طبيعة الحلول السياسية والتسويات٬ على حساب منافسيه الخارجيين الآخرين٬ وأيضاً على حساب النظام والمعارضة. تضاف إلى وجود إيراني فظ بشكل مباشر وعلني بفيلق القدس٬ وبالواسطة من طريق الميليشيات الشيعية القادمة من العراق وأفغانستان والتدخل الخاص من حزب الله اللبناني. ومن جهة أخرى٬ أدت إستراتيجية السيطرة على المدن والبلدات التي كانت خاطئة في الأساس والعمق إلى آثار سلبية من دمار وضحايا مدنيين وحصارات تضعف تكتيكياً واستراتيجياً٫ومن نمو في المشاريع السلطوية الصغيرة والمشوهة٬ مع كل ما يفعله ذلك بالروابط بين المقاتلين و” حاضنتهم” الاجتماعية. تستمر هذه الإستراتيجية على الأرض حتى الآن من دون أي تراجع أو مراجعة حقيقية لها٬ في فترة يبدو أن سمتها الغالبة هي استعادة زمام المبادرة من قبل النظام وحلفائه٬ وقد أدى ذلك إلى تفاقم أزمة المناطق المحاصرة٬ وإلى نمو عدد الهدن المحلية التي أصبحت من أركان سياسة النظام والروس والإيرانيين. وفي العديد من المناطق٬ أخذت هذه الهدن في بعض الحالات شكل التهجير القسري أو مضمونه٬ بعد استخدام التجويع والتدمير الشامل أداة للإجبار على التراجع وقبول تلك الهدن. وفي الأشهر الأخيرة٬ أصبحت حلب عنواناً لسياسات النظام وحلفائه٬ وتحولت الأوضاع فيها إلى حالة حصار أيضاً٬ مع ضغط عسكري متصاعد يهدف إلى استعادة النظام لسيطرته هناك٬ بمساعدة نوعية وحاسمة من الطيران الروسي ومن الميليشيات الشيعية الغريبة٬ ومن أجل تعديل الموازين بشكل يساعد على حفاظ الأسد على موقعه في التسوية وبعدها. ترافق ذلك مع اشتغال على اقتراح أميركي مع الروس- منفردين- للتوصل إلى اتفاق يهدف إلى تحقيق هدنة شاملة أو وقف للأعمال العدائية كما أطلق عليه٬ يركز على حلب٬ وعلى استهداف جبهة النصرة إضافة إلى داعش بشكل مشترك ومتشابك. وانطلاقاً من تشديد الروس على مسألة الفصل بين النصرة والمعارضة المعتدلة٬ رفعوا مستوى عملياتهم مع النظام وحلفائه الآخرين واستطاعوا تهديد مصير حلب الشرقية بشكل جدي٬ وإحكام حصارهم عليها. فاجتمعت بذلك عرقلة اتفاق الهدنة المقترح مع ذلك الهجوم الصارخ. أعلنت جبهة النصرة انفكاكها عن القاعدة٬ وتحولت إلى اسمها الجديد” فتح الشام”٬ في محاولة للتقارب مع قوى مقاتلة أخرى٬ ولتجنب النيران الدولية القادمة٬ ولم يفلح ذلك إلا لمهمة مؤقتة هي الاشتراك في هجوم معارض من الجنوب الغربي المحصن لحلب. في حين لم يقنع إلا القلائل بأن فتح الشام ليست النصرة٬ وفشل ذلك” التحول” دولياً بشكل كامل. هنا لا بد من التأكيد على ضرورة مواجهة المعارضة المعتدلة السياسية والعسكرية لاستحقاق تحديد الموقف من النصرة وتحولاتها٬ مهما كان للنجاح بالمماطلة وشراء الوقت من إغراء للبعض الذي لا علاقة له ملموسة لا بالإستراتيجية ولا بالوطنية في النتيجة على الأقل! وللأسف أيضاً٬ يساعد على مماطلة قوى المعارضة المذكورة تشجيع ضمني من أطراف إقليمية ودولية٬ على خلاف المعلن من مواقفها.
وبتواقت مع الهجوم المذكور- والذي أدى الرد عليه لاحقاً إلى وضع أكثر تعقيداً وحصاراً من السابق- تم تنسيق هجوم في ريف حماة الشمالي٬ حقق انتصارات سريعة ثم توقف.. أدى هذا إلي تعزيز تساؤلات حول حدود ترسم تحضيرا لمرحلة من الركود واضح التوزيع الجغرافي٬ أو ربما لتقسيم على أساس الأمر الواقع فيما بعد! وربما الموضوع الأكثر أهمية الآن هو الحشد الروسي غير المسبوق والجاري الآن ويجمع كامل أسطول الشمال وغالبية أسطول البلطيق باتجاه شرق المتوسط.. ربما بهدف شن هجوم نهائي على حلب الشرقية لتحقيق نصر حاسم يدعم مواقع النظام من جهة ويتيح لبوتين وضعا مريحا يمكنه من سحب جزء مهم من قواته.. هذه وضعية بالغة الخطورة٬ وتضعف الهدنة الجزئية المطروحة حاليا وبشكل أعرج… فينبغي وضع استراتيجية مضادة شاملة تتضمن الطلب من” الأصدقاء” تحمل مسؤوليتهم الدولية وتوحيد قوانا واستراتيجيتنا على الأرض وسياسياً وإعلامياً. في ظل هذه الأوضاع٬ التي تترافق مع استمرار تصميم الإدارة الأمريكية الحالية على سلبيتها٬ وغلبة حالة انتظار الإدارة القادمة٬ وتطورات موازين القوى على الأرض٬ مع كل المستجدات الإقليمية والدولية الأخرى٬ في ظل ذلك تراجع الحديث عن الحل السياسي٬ وخصوصاً على الشكل المفهوم من بيان جنيف ١ والقرار ٢١١٨ الذين ينصان على تشكيل هيئة حكم انتقالي كاملة الصلاحيات التنفيذية٬ الأمر الذي كاد الجميع يتواضعون على أن معناه الذي لا يقبل المجادلة هو غياب الأسد عن المرحلة الانتقالية… وابتدأت تظهر تراجعات هامة على هذا٬ بالقبول بدور للأسد خلال المرحلة الانتقالية٬ وأقل من مدتها٬ أو أكثر حتى ما يليها. شمل هذا التراجع قوى إقليمية هامة( تركيا مثلاً) وتبلور أكثر من أي وقت مضى على المستوى الدولي. نحن في تيار مواطنة لا نقف أبداً عند الأمور حين تكون محض شكلية٬ ونهتم بالتوصل إلى حل سياسي في أسرع وقت لوقف سفك الدماء وعملية تدمير البلاد قبل أن يصبح الحفاظ مستحيلاً على الكيان الوطني والإمساك بمسار التطور وبناء الدولة الحديثة… ولكننا ما زلنا لا نرى موضوعياً إمكانية الانتقال المطلوب بحده الأدني٬ في وجود من كان سبباً لكل كوارث الماضي٬ ولأم الكوارث الحالية.
باختصار٬ نحن نرى الالتزام بقرارات الشرعية الدولية وآخرها القرار رقم ٢٢٥٤ المبني على بيان جنيف١٬ وعلى أهمية التوصل لتشكيل هيئة حكم انتقالية بالتراضي٬ تكون كاملة الصلاحيات٬ من أجل قيادة مرحلة انتقالية تثمر انتقالاً نهائياً من حالة الاستبداد إلى دولة ديموقراطية مدنية حديثة لكل مواطنيها٬ ولكل مكوناتها! خلاصات ومواقف: يدعو تيار مواطنة جميع قوى المعارضة المسلحة والسياسية٬ تلك التي لا تقع تحت تعريف الإرهاب ولا تصنيفه أصولاً٬ إلى المبادرة إلى تحقيق أرفع شكل من أشكال الوحدة وأكثرها روحاً عملية٬ من دون تلكؤ أو تذرع بالأعذار ما تحت الوطنية.. إن حالة الطوارئ الاستثنائية التي تعيشها بلادنا٬ تلك التي تهدد الكيان والكائنات٬ لا تحتمل التأخر الآن! يدعو تيار مواطنة كافة القوى الوطنية الديموقراطية إلى التحالف على أساس البرنامج الممكن٬ لفرض التراجع على النظام وقوى التطرف والثورة المضادة٬ واستعادة زمام الأمر من الأطراف العبثية التي تتلاعب بها القوى الخارجية..
ومن أجل تعديل الموازين بحيث تظهر قوى الاعتدال المتنحية الآن٬ تلك القوى الجديرة بالتأثير الفعلي لإحداث التغيير الجذري المطلوب بعد أن ضل طريقه! يؤيد تيار مواطنة كل المحاولات الرامية إلى تحقيق تسوية تاريخية في سورية٬ وحل سياسي على أساس مضامين مؤتمر جنيف ١٬ ويعترض على أشكال” الممانعة” التي تظهر هنا وهناك في أوساط المعارضة٫ وبين أمراء الحرب والسياسة. هذه الممانعة شكل مؤكد للتفريط بالقضية السورية في لحظة تنكسر فيها إرادة السوريين وترجح كلمة الاستبداد والتشدد. يؤيد التيار العمل في إطار الائتلاف الوطني حتى الآن٬ لكنه يرى عيوبه التي استدامت تحت المجهر٬ ولن يتردد لحظة في النظر في خيارات أخرى تطرأ وتكون أفضل للقضية السورية. يدعو التيار كل القوى العسكرية المعتدلة والوطنية إلى رفع الراية الوطنية٬ وتوحيد بناها وتنسيقها٬ والالتزام باتفاقيات جنيف ومبادئ حقوق الإنسان٬ وإثبات أنها للشعب السوري كله وليست لفئة من دون فئة.. مع بيان استعدادها للالتزام بخخط بناء جيش وطني محايد وللجميع وملتزم بالقرارات السياسية الشرعية حيث تتحقق شكلاً أو مضموناً. يؤكد التيار التزامه بمستقبل حديث لسورية٬ يقطع مع الاستبداد٬ مدني يحكمه القانون٬ تعددي وبرلماني٬ لا ديني ولا طائفي٬ عادل مع مكونات المجتمع السوري٬ ويجهد لإيجاد أفضل الأشكال لدستور المستقبل المنفتح على كل الاحتمالات من دون عقد ولا مخاوف مسبقة.
الموقف الدولي والرأي العام
حول الرأي العام الدولي والاقليمي والعربي والمحلي
ليس من الضروري الاستفاضة بالكلام حول هذا العنوان لأن التقارير السابقة للتيار وافتتاحيات الموقع غطت كثيرا من المواقف ومع ذلك ليس من نافل القول ولا من باب الغرور الذاتي ومقولة ألم نقل لكم التذكير بأن التعقيدات العيانية في الوضع السوري قد ساهمت ولا تزال في صياغة الموقف الدولي جنباً الى جنب مع المصالح والرؤى والاستراتيجيات الموجهة لتلك المواقف ومن هذه التعقيدات تلك المتعلقة باعتبار السلطة السورية سلطة يسارية مقاومة للأمبريالية وبخاصة الأمريكية بصرف النظر عن مدى صحة ذلك الأمر الذي جعل اليسار العالمي والاقليمي والعربي وجزءا غير صغير من المحلي يؤيد السلطة تأييدا شبه اعمى وقد زاد في الطين بلة على هذا الصعيد بنية الانتفاضة الشعبية السوري والمآلات التي آلت اليها بما في ذلك بالطبع طغيان الفصائل الاسلامية الارهابية أو تلك الشديدة التطرف التي تجمعت في بلادنا من أصقاع العالم كافة التي تعيدنا برامجها وممارساتها الى أبشع أزمنة الظلام البشرية.
لقد شكل هذا الأمر بالاضافة الى ماسبق القاسم المشترك ليس لمواقف اليسار فحسب بل ومواقف القوى والتيارات الليبرالية والعلمانية والديموقراطية والغالبية العظمى من الشعوب والبرلمانات والأحزاب والقوى السياسية والمدنية بشكل عام الأمر الذي جعل مواقف الحكومات الغربية مثلا اقل سوءا بكثير من مواقف شعوبها ومؤسساتها البرلمانية وهذا أمر لافت للنظر ومخالف الى حد كبير للأسطورة التي تزعم دائما أن مواقف الشعوب جيدة ومواقف الحكومات سيئة بما يتعلق بقضايا شعوبنا ويمكن لكل ذي عقل أن يحاول تفسير هذا الموقف السلبي ولكن مالا يمكن قبوله هو انكار ذلك او لاعتراف الجزئي به واتهام الحكومات والاعلام أو توزيع الاتهامات بالجهل او اللامبالاة أو….الخ
قد يكون كل ذلك جزءا من التفسير ولكن مايجب الاعتراف به هو أن الرأي العام بشكل واسع لا يرى في السلطة السورية مانراه نحن ولا في الصراع السوري ما نعتقده وليس غريبا والحال هذه ألا نشهد اي عمل أو نشاط أو مظاهرة تستحق الاعتبار مؤيدة للشعب السوري وقضيته في طول العالم وعرضه فلا الشعوب ولا البرلمانات إلا ماندر ولا القوى السياسية والمدنية بهذا الصدد رد وإذا كان بوسعنا أن نجد مايكفي من الأسباب لتفسير هذا الموقف وتفهمه فإننا لا نستطيع إلا رفضه وليس هذا فحسب بل إن هذا التفهم يتهاوى عندما نكون بصدد الشعوب والقوى السياسية العربية والإسلامية بحيث ترتفع هنا علامة استفهام كبرى عندما لا نشاهد نشاطا واسعا أو مظاهرة ذات معنى تستحق الإشارة مؤيدة لشعبنا ومنددة بالسلطة الطغمة الوحشية وعندئذ ألا يجدر بنا والحال هذه مع هذا الواقع العنيد أن نفكر ونعمل ليس على فهم الأسباب الكامنة في صلب ذلك فحسب بل على كيفية تغييره أي الموقف وصولا الى كسبه في نهاية المطاف وعدم الاكتفاء بهذا الصدد بالشكوى والشتيمة وتوزيع الاتهامات في كل اتجاه والحط من شأن الشعوب والانسانية بشكل عام أو الانكار والتجاهل وادراة الظهر وكأن الأمور ليست بذات بال ألا يجدر بنا البحث عن سبيل وخطاب مختلف عن خطابنا الذي لا يتجاوز كثيرا النجوى الذاتية العبثية . ثم ألا يلفت النظر أن تكون الدول وبخاصة مجموعة بريكس ذات الطابع القومي الشعبي اليساري والتقدمي بمعنى ما تصب الحب جميعا في طاحونة السلطة (حتى لو كانت على حق وعلى افتراض ذلك على الرغم من عدم صحته وهل يحق لصاحب الحق أن يتحلل من كل المحرمات والحقوق والمواثيق والمقدسات ويطلق اليدين دون أي قيد او شرط للدفاع عن حقه) إن الدول المذكورة والرأي العام المقصود والقوى المعنية تبرهن بجلاء مابعده جلاء على افتقاد الحساسية الضرورية ضرورة الحياة لأخذ الحياة البشرية وحقوق البشر على محمل الجد حتى في حال كون الطرف المعني على حق مطلق وهو ليس كذلك بل نقيضه المطلق.
والأن إذا اقتربنا أكثر من المنطقة أليس من حقنا السؤال أن يختلف موقف القوميين والوطنيين العرب وغير العرب مما يجري في سورية عن الموقف الذي جئنا على ذكره قبل قليل . ألا يرون الممارسات الطائفية والوحشية وحتى البهيمة الحمقاء التي تقوم بها هذه السلطة وحلفاؤهم وهل أصابهم العمى في البصر والبصيرة كي لا يروا إلا ما يحصل على الخندق الآخر وهل يلغي ما يحصل هناك على افتراض همجيته المطلقة ما يحصل على الخندق هنا وهل الانطلاق من مقولة أهون الشّرين على افتراض ذلك وهم لايرون في الأصل شراً في السلطة السورية يؤدي بنا الى هذا الموقف المستنكر على طول الخط أليس بوسع المرء أن يقاتل ضد الشر الأسوأ مع نقد وتعرية الشر الأهون ، نعم يمكن ذلك بل يجب ذلك وبخاصة عندما يكون الشر الأهون غير عابئ على الاطلاق بأي شرع أو ميثاق أو حقوق أو حياة مادية أو معنوية.
هل يمكن أن يكون السبب في الانحطاط العقلي والوجداني والأخلاقي ؟ أم في الايديولوجيا العمياء التي لا ترى الا ذاتها أم في كل مع أمر آخر هو الخوف؟
إن الخوف الحقيقي وبالحجم الحقيقي مشروع كل المشروعية ولكن الذي لا يمكن قبوله هو الخوف المرضي الذي يعطل العقل والفعل على حد سواء وربما كان حال المذكورين كذلك ولو لم يكن الخوف كما ذكرنا لاستطاع هؤلاء رؤية الحقائق الدولية الساطعة التي ترفض بما يشبه الاجماع قيام أي دولة اسلامية متطرفة في أقصى العالم ناهيك عن مركزه هنا في الشرق الأوسط وبالذات في سورية ولكن بعض الهوى قتّال كما يبدو والعين حسيرة وعلى صعيد آخر صعيد الممانعة ومفرداتها ومظلتها نجد أنفسنا أمام حالة في غاية العجب قادرة على عكس الحقائق والوقائع دون أي ذرة من الخجل أوالشك ولنتمعن في هذه الحال البائسة الى أقصى حد بحيث نرى أن الغالبية الساحقة من البشر في كل مكان يشهدون ويعرفون بما لايدع مجالا للشك بأن وجود اسرائيل وموقفها شديد الحذر من الاسلام السياسي ناهيك عن الفصائل الارهابية والمتطرفة يستدعي موقفا مماثلا الى حد كبير من القوى العالمية صانعة القرار في مشرق الأرض ومغربها الأمر الذي يجعل هذه المواقف تصب الحب في طاحونة السلطة خوفا من الفصائل المذكورة وهذا باعتراف الجميع وهذا ما سعت السلطة اليه وما نجحت فيه الى حد كبير ومع ذلك فإن كل ذلك لا يثير في نفوس الممانعين وعقولهم أي اعتراف بالواقع علنا على الأقل لأننا لا نعرف المضمر وذلك على الرغم من اعتراف القادة الصهاينة بذلك وتصريحاتهم على مدار الساعة.
وعلى الرغم من التنسيق التام بين حليف الممانعة الا الرأس أي الروس مع اسرائيل في الوضع السوري وبدون الاستفاضة ينسحب الأمر نفسه على قاعدة الانقسام العمودي بين السنة والشيعة في المنطقة وبين مكونات المجتمع السوري بحيث نرى ذلك الخوف المرضي على قاعدة انكار الوقائع والمواقف الواضحة وضوح الشمس.
إن تيار مواطنة إذ يعتقد ان الخوف من المنظمات الارهابية والقوى الاسلامية المتطرفة مشروع جدا يرى أن المبالغة المرضية لا أساس لها وبخاصة لأن الموقف الدولي والجزء الأعظم من الموقف الاقليمي والعربي قائم على بذل كل الجهود لقطع الطريق على الارهاب والتطرف المذكورين لابل إن الاستراتيجيات كلها تقريبا اليوم ان لم يكن البارحة وحتى تلك المتعارضة فيما بينها متفقة على ماذكرناه والمشكلة لم تعد هنا بل في كيفية الاتفاق على الموقف من السلطة الطغمة ومستقبلها وهو الأمر الذي يبدو في غاية الوضوح والعمل يجري على قدم وساق لدحر الارهاب والتطرف وهما مدحوران آجلا أم عاجلا بل عاجلا ولكن المشكلة في عدم تفعيل مواجهة السلطة تفعيلا كافيا يدفع بها الى الرحيل مكرهة بالتأكيد ولعل السبب الأساسي في عدم تفعيل تلك المواجهة يكمن في مواجهة الارهاب قبل كل شيء فمن أين يجىء الخوف في هذه الحال الذي يعطل كل قرار عقلاني يمكن أن يؤدي الى الحل المنشود و الى شكل من الإطمئنان لدى المكونات المذعورة.
إن المخاوف المذكورة أضحت مرضا فتاكا يغذي العنف الوحشي بأبشع صوره كما ونوعا في سعار مجنون يعمي الأبصار عن الحقيقة السابقة التي تقول بما يشبه الاجماع لا لدولة اسلامية في سورية لا إرهابية ولا متطرفة بقوة السلاح وعندئذ أليس من الضروري تفكك هذا الخوف اليساري القومي الليبرالي والاقليمي والعربي جنبا إلى جنب تفكيك الخوف على أحد طرفي الانقسام العمودي المحلي واستعادة العقل الواقعي فالخوف أسوأ رفيق والانصراف الى أس المشكلة البدئي الذي هو السطلة الطغمة وفي غير هذه الحال أليس من حقنا القول إن العمى الايديولوجي والأوهام المورووثة الانحيارات الخاطئة والمصالح المتراكمة هي لب المشكلة أكثر مما هو الخوف المشروع .
لقد بدأنا بما بدأنا به كي نقول : إن التعقيدات السبعة أو العشرة التي اخترقت انتفاضة الشعب السوري لا تزال كما يبدو فاعلة بل أضيف إليها عند كل محطة ومرحلة من تطور هذا النضال تعقيدات أخرى جديدة أو متفرعة عنها تفسر الى حد كبير ولا نقول تام بالاضافة الى كل الأسباب الأخرى الفاعلة على طول الخط والتي لا يختلف عليها كثيرا ما صرنا اليه وما نحن عليه وجملة المواقف والممارسات على كل صعيد قريب أو بعيد.
في الموقف الروسي:
وهو اليوم لا يختلف كثيرا عما كان عليه الأمر فيما يتعلق بالأهداف التي جاء من أجلها في (30 أيلول 2015م) و التي أشرنا إليها بما فيه الكفاية بدءاً من إعادة التموضع على كوكب الأرض في مواجهة الغرب وأمريكا بخاصة وانتهاءً بشكل من أشكال مواجهة الارهاب مرورا وهو المهم بحماية السلطة من السسقوط وتحصينها وتحصين مناطق وجودها على حساب المعارضة المسلحة الموجودة في هذه المناطق بل مد هذه المناطق بقدر الامكان في وقت لاحق وهو ماحصل بدءا من الجنوب وانتهاء بالشمال مرورا بالساحل والوسط وصولا الى تدمر والعمل على تدعيش المعارضة المسلحة بشكل عام وضربها أولا بأول مع تأخير ضرب داعش قليلا أو كثيراواستخدام تكتيك الجزرة والعصا والأخيرة بشكل خاص في مواجهة الأطراف المضادة للسلطة جميعا .ودق اسفين على الصعيد السياسي في قلب المعارضة السياسية لخلق معارضة منقسمة أكثر مما هي عليه أو تجميعها في سياق معارضة مدجنة أو تشجيع المصالحات الجزئية وتسوية بعض الأوضاع في بعض الأماكن واللعب على الزمن وشراء الوقت وإلهاء المجتمع الدولي بمشاريع ومبادرات وتسويات غير قابلة للحياة وخلق حالة من الإحباط واليأس لدفع الجمهور للقبول بأي شيء لوقف القتال وتلغيم القرارات الدولية أو تعديلها أواستبدالها وإضعافها إلى الحد الذي يفرغها من مضامينها بما يسمح بالوصول الى تسوية تضمن ليس استمرار الدولة فحسب كما يدعي الروس بل والنظام السياسي والسلطة السياسية الراهنة وحتى الشخصيات الأبرز فيها وعلى رأسها رأس هذه لسلطة وحمايتها وحمايتهم من أي مساءلة أو إدانة أو أي شكل من أشكال العدالة المحلية أو الدولية بشتى السبل وبخاصة عبر استخدام الفيتو ضد أي قرار يشتّم منه ذلك – استخدم حتى الآن خمس مرات- وعلى الصعيد العسكري كانت أهدافهم تطمح الى استعادة ادلب وحلب وشمالها وصولا إلى الحدود التركية في غضون شهور قليلة والعمل في الاتجاه نفسه وبالتزامن معه لا ستعادة العديد من المواقع في المنطقة الوسطى لكن حساب البيدر لم يتطابق مع حساب الحقل بالتأكيد ومع ذلك فأن التدخل الروسي يسير نحو أهدافه بكل الوسائل الهمجية وان يكن بشكل أبطأ بكثير مما توقع وها هو اليوم على أبواب حلب الشرقية وهو الأمر الذي سنخصص له لاحقا فقرة خاصة في سياق ما سوف نسميه معركة حلب.
إذا كان ذلك كله معروفا للجميع ويعطي الانطباع بأن الروس هم سادة الموقف وأن أمريكا قد سلمت لهم بالأمر فإن الواقع الفعلي لا يطابق هذا المظهر وما ذلك إلا لأن الروس على الرغم من تدخلهم الكثيف والمباشر واستعراض العضلات العسكرية الجوية والبحرية والبرية فإنهم لا يريدون في الحقيقة الانخراط في معركة شاملة مفتوحة في سورية ككل ناهيك عن أنهم لا يريدون مواجهة جبهية مع الغرب وعلى رأسه أميركا فمثل هذه المعركة ولاحقا مثل هذه المواجهة تشكل ورطة كبرى لا قِبل لهم بها اقتصاديا وسياسيا ومعنويا الأمر الذي يجبرهم في معظم الأحوال على البحث عن تسويات مع التحالف الدولي الغربي وعلى الأخذ بعين الاعتبار جزئيا على الأقل ميزان القوى الفعلي والرأي العام الدولي وهو ما يظهر بشكل أو بآخر مماراستهم التكتيكية على الأقل إن لم نقل في استراتيجيتهم او الطموح الروسي لاعادة التموضع على مساحة الكرة الأرضية ولتحقيق الأهداف أو بعضها على التي جاء من أجلها إلى سورية وللدخول في علاقة شبه ندية مع أمريكا في سياق ضعف الأطراف الدولية الي جاء من اجلها الى سورية وللدخول في علاقة شبه ندية مع أمريكا -في سياق ضعف الأطراف الدولية الأخرى- أدى الى وضع يجد فيه الطرفان الروسي والامريكي أنهما سيدا الموقف في سورية وربما في ساحات دولية أخرى ,وعلى الرغم من الصراع والتنافس الشديدين بينهما على النفوذ فإنهما مرغمان في سياق استراتيجية بوتين الهجومية وأوباما الدفاعية عىلى أشكال من التنسيق والتفاهم إن لم نقل التعاون والتوافق.
إذا صح ماسبق ونعتقد أنه صحيح فإن بوسع تحالف دولي غربي غير دفاعي ونشط استثمار هذا الظرف وإلزام الروس بحدودهم ولكن ذلك غير موجود للأسف في ظل استراتيجية أوباما المعروفة التي ثبت اخفاقها في سورية على الأقل كما اعترف هو بذلك. وعند هذا الحد من المفهوم أن يكون التقدم النسبي للروس وللسلطة السورية وحلفائها قائما لا على قواهم -وهي غير مطلقة بالتأكيد- بل على حساب التردد القاتل للطرف الآخر ومع ذلك يبقى من الصواب القول :إن التدخل الروسي في سورية غير قادر على تحقيق مجمل الأهداف التي جاء من أجلها وإن يكن قادرا على التقدم الجزئي نحوها وبخاصة عندما يتعلق الأمر بإعادة التموضع على الساحة الدولية وليس على الساحة السورية فقط والروس يعرفون ذلك على الأرجح.
إن الحقيقة الصادمة قبل كل شيء وبعده كون الأمر يجري على حساب الشعب السوري وعلى أرضه ودمه ومصيره راهنا وفي الأفق المنظور ناهيك عن العنف البربري الروسي وانتهاك القوانين الانسانية الدولية بما في ذلك ارتكاب جرائم حرب أو جرائم ضد الانسانية وعلى رأسها قصف المستشفيات وهو ما سنأتي عليه لاحقا
في الموقف الأمريكي:
حسنا فعل أوباما عندما اعترف بإخفاق سياسته في سورية الأمر الذي كان واضحاً منذ زمن كاف بغض النظر عن المصطلحات التي أطلقت على هذه السياسة من مثل الانسحاب ،الخذلان، الانعزال، التردد، التسليم للروس ، التواطؤ, إدارة الظهر للمنطقة والبحث عن ساحات أخرى -اليأس منها- بل حتى عدم وجود استراتيجية في الأصل كما يعتقد بعضنا و…..الخ
إذا كان ماسبق واضحا فإن ماهو غير واضح هو حصة أمريكا من هذا الاخفاق وحصتنا نحن لأن الغالبية الساحقة من نقاد السياسة الأمريكية يتحدثون بالفم المليء عن حصة أوباما ولكنهم يبلعون ألسنتهم عندما يتعلق الأمر بحصتنا وهذا ليس غريباً بالتأكيد المشكلة هي في الخارج والمشجب جاهز وما أحلى عودة حليمة لعادتها القديمة.
إن ما يجب الاعتراف به هو غياب البديل المحلي -وهذا حصتنا- الذي يمكن أن يكون وطنياً ديمقراطياُ عسكرياً وسياسياً ونحن نعتقد أنه في حال وجوده سياسياً يفتقر كل الافتقار إلى ذراع ضاربة يمكن أن تؤسس للنظام المنشود وكل كلام غيرذلك مدعاة للجدل ومجافاة الواقع لأن من شبه البديهي أن الفصائل المسلحة الاسلامية ليست جمعيات خيرية ولم تقدم كل هذه الدماء والتضحيات من أجل أن تقدم السلطة عندما تكون قادرة على ذلك على طبق من ذهب لمجموعة من الساسة الوطنيين الديموقراطيين ليقطفوا ثمار النصر ويصنعوا سورية التي يريدون.
إذا صح ذلك -وهو صحيح- فإننا نعتقد أن البديل الوطني القادر ذاتياً سياسياً وعسكرياً لم يكن موجوداً في أي لحظة من سياق الثورة السورية وليس فقط بعد تفاقم هيمنة الفصائل الارهابية والمتطرفة وذلك على عكس ما يقال من أن هذا البديل كان موجوداً والذي هو الجيش الحر ويذهب بعضهم إلى الوراء أكثر للقول : إن البديل كان في صلب المظاهرات السلمية.
ولمناقشة هذا الأمر نقول لم نشهد وضعاً إلا فيما ندر جداً تدخلت فيه دول عظمى أو اقليمية كبرى لإيصال التظاهر السلمي إلى السطلة عبر ارغام الأخيرة على الاستجابة أو الرحيل إلا عندما تكون هذه الدول ذات دالة عميقة على النظام المعني ليس ذلك فحسب بل عندما تكون القوات المسلحة وأحياناً الجهزة الأمنية في وضع الحياد أو الانحياز إلى جانب الشعب كما حصل في تونس ومصر وبدرجة ما في اليمن مع اخفاق البديل اليمني لاحقاً.
وفي غير هذه الحال وبعد تطور النزاع فإن حله يحتاج الى أحد أمرين إذا كان المقصود نصرة الشعب الثائر:
تدخل عسكري خارجي سافر ومباشر كما حصل في ليبيا ومن قبل في العراق وأفغانستان ـ 1
2ــ أو دعم بديل موجود بالقوى الضرورية لتحقيق الهدف المقصود أو بناء هذا البديل في حال عدم وجوده ولما كانت الولايات المتحدة و أوروبا وسائر الدول الاقليمية والعربية والاسلامية عدا ايرن بشكل خاص لادالة فاعلة لها على السطلة السورية ولا جود لها داخل مفاصل النظاام العسكرية والأمنية والاقتصادية ، فإنها كانت عاجزة ولاتزال بالتأكيد عن تحقيق الانتقال المنشود هذا إذا أرادت بالدالة المعنوية والسياسية والاقتصادية في حين كانت الدول التي لها دالة على السلطة السورية عالمياً واقليمياً وعربياً تصب كل جهودها لافي تحقيق الانتقال بل دعم النظام وحمابته وتحصينه كلياً في مواجهة تطلعات الشعب وعندئذ ليس ثمة من مجال لحديث ذي معنى بفعل الضغط الخارجي العادي لذا فإن البديلين المذكورين أعلاه هما اللذان كانا على بساط البحث وعند هذا الحد لا بد من إعادة التركيز على حكاية البديل الوطني المحلي الذي كان معلقاً في الهواء للكثير من الأسباب ومن بينها:
1ـ الافتقار الى جيش حر سوري موحد عسكرياً وسياسياً واستراتيجياً قادر على ادارة الصراع والوصول به إلى نتائجه .
المنشودة -جيش حر فعلي وليس انشائياً قائماً على الورق- وذلك لأن المؤسسة العسكرية لم تنقسم في الأصل- نتاجاً للبنية الطائفية المهيمنة- على طريقة ليبيا واليمن الأمر الذي أدى الى غياب قوة فعلية وازنة في العدد والعتاد -مختلف أنواع السلاح -والقيادة والخبرة وما كان يحصل في الحقيقة عدا بعض الحالات الايجابية لايعدو الانشقاق الفردي أو الفئويو ليس هنالك وضع نشأ فيه انشقاق سرية بكاملها أو كتيبة في لواء أو لواء في فرقة أو فرقة أو …..الخ بل نجرؤ على القول لم يكن هناك انشقاق فصائل بأكملها، وإذا حصل فإنه نادر جداً.
وكان المنشقون يعودون إلى قراهم وأحيائهم وبلداتهم ومناطقهم على الرغم من إعلان تشكيل الجيش الحرفي 29/7/2011م ليشكلوا مع المدنيين المتمردين فصائل صغيرة متفرقة بحيث بلغ عددها في أواسط 2013 م حوالي 4000 فصيل ولم يستطع الجيش الحر أن يشكل القوة الضاربة في أي وقت بل إنه لم يشكل حتى القوة الرئيسية على الرغم من كل محاولات الاحياء والنفخ وأشكال الهيكلة والدعم المحدود بالسلاح. إذاً لم تكن هنالك قوة عسكرية موحدة لا داخل ولا خارج الجيش الحر مسيطرة على اقليم جغرافي مهما يكن محدوداً ولها استراتيجية موحدة لكامل سورية جنباً إلى جنب قيادة سياسية تستحق اسمها -وهذا كان مطلوباً بالحاح- قادرة على إدارة الصراع السياسي والمسلح ولو وجدت لكان للثورة السورية شأن آخر.
هذه القوة وبهذه الكيفية لم توجد قط لا بسبب نقص الدعم فحسب -على افتراض صحته وهو سيبقى موضع نقاش- بل للأسباب التي ذكرت غير مرة.
2ـ الانزياح نحو العسكرة ذات المضمون الاسلامي- بصرف النظر عن درجة اعتداله أو تطرفه- الذي كان نتاجاً طبيعياً
للوضع شديد التعقيد في سورية وعلى رأسه البنية الوحشية والطائفية للعنف السلطوي والاتجاه الكاسح للداعمين الاقليميين نحو الفصائل الاسلامية القائمة أو إنشاء المزيد منها وعجز الجيش الحر الفاضح عن الدفاع عن نفسه وسلاحه عندما تم دعمه ولو متأخراً الأمر الذي أدى الى ذهاب الأسلحة الى الأيدي الاسلامية المتطرفة وتزايد تآكل المذكور ومما زاد في الطين بلة أن معظم الفصائل الاسلامية الفاعلة ناصبت الجيش الحر العداء وعملت في السر والعلن على إضعافه المستمر.
3ـ التغذية الراجعة التي نشأت على قاعدة نقص الدعم في البداية للجيش الحر الذي أدى إلى تغذية الضعف التي أدت بدورها الى مزيد من الضعف الذي جعل من محاولة بنائه أو إعادة بنائه أمراً بعيد المنال لأن الوقت كان قد فات حين تم اتخاذ القرار.
4ـ النقص الفاضح في العنصر البشري المكون للجيش سواء أكانوا من المنشقين أم من المتطوعين والذي ساهم في تغذيته انحياز الجسم الرئيسي من الشعب السوري (خارج الاسلام السياسي والشعبي السني) إلى السلطة منذ الأيام الأولى للثورة وفي زمن الممارسة السلمية القصير الأمر الذي جعل كل المحاولات اللاحقة الأمريكية وغير الأمريكية لبناء بديل عسكري وطني مضاد للسلطة الطغمة والارهاب والتطرف الاسلاميين نقول جعلها تنوء بالاخفاق .وهذا الوضع هو مسؤوليتنا بالتأكيد وهي الحصة التي لاما تزال تجعل من بناء هذا الحامل أمراً صعب المنال إلى أقصى الحدود بل إن الحديث عن امكانية بنائه في البدايات كما تقدمه المعارضة لا يعدو أن يكون حديث خرافة يا أم عمرو وإذا كان من الصحيح أن التوجه الأمريكي لبنائه على قاعدة مواجهة داعش والارهاب فقط أضعف إلى حد كبير صيرورة البناء فإن هذا التوجه هو نصف الحقيقة وهو حصة أمريكا ولكن النصف الآخر هو مسؤوليتنا وله أسباب عدة جئنا على بعضها حتى الأن ولما كان السياق الحقيقي للوضع السوري مختلفاً عن أي سياق آخر فإن محاولات بناء البديل عبر الدعم المباشر وغير المباشر ستكون على غرار قصص العجائز والأمنيات وحتى في حال تحققه فإنه سيكون أقل سوءاً بالتأكيد ولكن بالمعنى الكمي وليس النوعي وهو ما لا تريد المعارضة الاعتراف به.
5ـ نترك جانباً الأسباب الأخرى منعا للاستفاضة وبخاصة لأنها ذكرت في غير سياق وبأشكال مختلفة ونقول :لم يبق في هذه الحال إلا التدخل العسكري المباشر بدون لف أو دوران أو دعم ناقص أو كثيف فلنذهب لنقاشه ولنبدأ بالقول:
هل كان التدخل في أفغانستان والعراق وليبيا بخاصة ـخطأـ وبالتالي فإن الامتناع عنه في سورية كان صائباً وبخاصة قبل التدخل الروسي وهل كان التدخل المحتمل في سورية عاجزاً عن تحقيق الهدف وسبباً في الدفع نحو الأسوأ كما يعلل دعاة عدم التدخل وعلى رٍأسهم بالطبع أوباما.
إن تيار مواطنة يعتقد أن ثمة وجه حق في هذا الكلام ولكنه في المحصلة غير دقيق وإذا كان من الصحيح أن الاطاحة بالسلطات الطغم في غياب البديل الوطني سوف يؤدي الى أوضاع خطرة كما حصل في العراق وليبيا على قاعدة تفكك هذه المجتمعات المفككة في الأصل والتي كان الاستبداد يرغمها على الوحدة الظاهرية تحت قبعته على الرغم من أنه أصل رئيسي في تفككها الحقيقي غير المعلن نقول إذا صح ذلك فإن المشكلة ليست في التدخل بل في نقص التدخل في الزمن والبنية والكم والممارسة بمعنى نقص التدخل الجذري, التدخل الكفيل برأب الصدوع الوطنية في سياق زمني كافٍ لحدوث ذلك وبالقدر الضروري من استخدام القوة عند الضرورة واستخدامها بشكل جذري جنباً إلى جنب مع الديموقراطية حتى استتباب الوضع وقيام حالة وطنية اجتماعية وسياسية واقتصادية, وبكلمة لم يكن التدخل العسكري المباشر في العراق وليبيا خطأ بل كان الخطأ في نقصه طبيعة ومدة وقوة وهذا ما كان ينقص التدخل في العراق حيث انسحبت القوة الأمريكية قبل تأسيس الوضع المذكور على الرغم من استمرار التدخل لمدة 8سنوات على الأقل في حين أن التدخل في ليبيا علق بعد سقوط الطاغية حين كانت الحاجة اليه في أوجها تماماً.
قد يقول قائل لقد طال الزمن بالتدخل في أفغانستان وبدرجة أقل في العراق ومع ذلك لم يتحقق المراد وهذا صحيح ولكنه لا يدل على عقم التدخل بقدر ما يدل على الأوضاع المحلية المعقدة وعلى عمق التفكك الاجتماعي والسياسي والثقافي والأمر الذي يغذي مرة أخرى قضية ضرورة التدخل الجذري المديد بدل أن يضعها على الرف. وأياً يكن الحال فإن السجال سوف يستمر وليس أدل على ما ذهبنا إليه إلا تلك العودة من النافذة في العراق ومن الباب في أفغانستان وبشكل موارب في ليبيا ونترك للسجال المفتوح هذه العودة ونقول ليس من الضروري أبداً اعتبار الوضع الراهن في أفغانستان والعراق وليبيا أسوأ مما كان عليه في زمن الطغاة بل على العكس يمكن القول إن الوضع الراهن على علاته الهائلة مفتوح على عدد من الاحتمالات ومن بينها بالتأكيد الاحتمال الايجابي وهو متوقف على مجموعة من العوامل من بينها أيضاً طبيعة التدخل الجديد ومداه وتعدده وتنافسه وتناقضه في حال تعددت الأطراف في حين كان الوضع في زمن الطغاة مغلقاً على التغيير بالقوة الذاتية فقط إن سلماً وإن عنفاً وفي هذا وحده ما يسمح بترك السجال مفتوحاً وعدم الانغلاق على عدم التدخل من أيه جهة جاء هذا الانغلاق.
لقد سبق للمفكر البارز عبد الرحمن الكواكبي أن أشار إلى الضريبة التاريخية التي يتوجب على المجتمعات التي ترزح تحت نير الاستبداد أن تدفعها والتي قد تصل دائماً أو في بعض الأحيان إلى دمار المجتمع نفسه أو ما يشبه ذلك.
وما دام الحال كذلك ما المطلوب في سورية ؟ ليس المطلوب هو الامتناع عن التدخل أو الدعوة إليه حيث صار وراءنا فيما يتعلق بالسلطة وبشكل مباشر ووراءنا فيما يتعلق بالمعارضة بشكل غير مباشر الى حد كبير وبشكل مباشر الى حد ما ولذلك ولغيره من الأسباب فإن المطلوب البارحة واليوم وغداً هو تدخل عسكري جذري مديد لصالح البديل الوطني ولصالح الشعب السوري قبل وأثناء وبعد بناء هذا البديل بحيث نجرؤ على القول :إن غياب هذا التدخل هو لب المشكلة بالاضافة بالطبع إلى بؤس وفرقة وتشرذم المعارضة الداخلية العسكرية والسياسية ولب الضعف والاخفاق في السياسة الأمريكية وسياسة حلفاء الشعب السوري وهو ما فهمه جيداً حلفاء السلطة السورية وعملوا على التعامل معه بشكل مباشر وصريح.
والآن رب قائل : إن مثل هذا التدخل كان ممكناً قبل التدخل الروسي ولكنه لم يعد ممكناً الآن وقد يؤدي إلى حرب كبرى تذهب بالوطن والشعب السوري إلى كارثة لا تقارن بما يحصل الآن وهو ما تروج له بعض المنابر والقوى والدول والأشخاص…الخ.
إن تيار مواطنة يعتقد أن ذلك غير دقيق وإن يكن فيه بعض الحق لأن التدخل صار أصعب بالتأكيد ولكنه لم يصبح مستحيلاً بل إن طبيعة الموقف الروسي كما جئنا على ذكره بدون تكرار هنا وعلى الرغم من كل أهدافهم ومصالحهم الكبرى عالمياً ومحلياً يسمح بالقول : إن الروس لن يغامروا على الأرجح في الدخول في هكّذا حرب وإن بوتين على الرغم من حماسه واندفاعه واستعراض عضلاته العسكرية والسياسية مضطر لأقصى درجات الحذر ولإجراء الحسابات الدقيقة وبخاصة إذا أظهرت أمريكا العين الحمراء وبوسعنا القول إن أمريكا وغير أمريكا المباشرة بالتدخل الأوسع وهذا ما فعله الأتراك -حتى لو كان بفضل فض الطرف الروسي- المحمول على قاعدة المواجهة الجذرية للارهاب بكل صنوفه وأسمائه بدلاً من فعل ذلك في العراق فقط ومحاولة مواجهته وا حتوائه في أن معاً وحتى إشعار أخر في سورية وما دمنا بهذا الصدد فإن من المناسب الاشارة الى أن موقف أمريكا حتى الآن من النصرة أقرب ما يكون إلى الاحتواء أو حتى التواطؤ غير المباشر الاكراهي الأمر الذي يعود الى رغبتها في عدم اضعاف المعارضة المعتدلة ولذلك فهي ترفض الفصل بينهما وتماطل في ذلك أي بين النصرة والمعارضة المذكورة لمعرفتها العميقة بأن الفصل الذي سوف يؤدي إلى ضرب النصرة بقوة لا يؤدي إلى ضعف أو تحطيم المذكورة بعد داعش بل قد يؤدي الى تفكك فصائل وجبهات عديدة لصالح النصرة في حال بقائها أو إقامة ما يشبهها في حال غيابها الملموس إن هذا التصور هو الذي دفع أمريكا كما نعتقد إلى عدم الضغط الكافي للفصل بين النصرة وباقي الفصائل المسلحة منذ شباط هذا العالم وحتى الآن وهو نفسه الذي لم يسمح بقيام عمل مشترك مع الروس ضد النصرة وأمثالها بانتظار انتزاع التنازلات الضرورية من الروس والسلطة وحلفائها المتعلقة بالحل السياسي إن يكن في مضمونه أو زمنه أو صيرورته المستقبلية أو هياكله السياسية ولأن التنازلات المطلوبة لم تتحقق فإن الفصل بقي معلقاً والتنسيق ممتنعاً حتى إشعار آخر وهذا ما أسميناه تواطؤاً غير مباشر مع النصرة عبر التواطؤ المباشر مع المعارضة المسلحة الأخرى.
والغريب في الأمر أن المعارضة بشكل عام إما أنها لا ترى ذلك أو قد ترى العكس وإما أنها تراه ولكنها لا تريد الاعتراف به كي تستمر في هجومها ونقدها اللاذعين على السياسة الأمريكية لتسليمها البلد بالكامل للروس وإما لأنها تريد الاستمرار في تكذيب الروس فيما يقولونه حول هذا الموضوع وهو مايسمح لها بالتبسيط المستمر والرافض بل العدمي للسياسات الدولية وبخاصة سياسات العملاقين الأمريكي والروسي.
بقي أن نقول : إن التفاهمات الأمريكية الروسية المتكررة وعدم تنفيذها أصبح مادة للتندر أو التحسر في حين يقود الأمر إلى كون الخلاف بينهما أكبر في الحقيقة مما تعترف به المعارضة وربما كثير من الاستراتيجين حول العالم والاقليم وإلا لكانت هذه الاتفاقات دخلت حيز التنفيذ منذ زمن بعيد وهو مالم يحصل بعد.
معركة حلب الكبرى:
لقد حان الوقت بعد هذا العرض الانتقال إلى معركة حلب الراهنة التي هي الأخرى مؤشر على التجاذب والتفاهم والاختلاف المذكور بعيداً عن القاعدة الذهبية في تفسيرها التي تقوم على أطروحة المؤامرة والصفقات والتسليم وتوزيع الأدوار بين روسيا وأمريكا والسعودية وتركيا …الخ
إن نظرة فاحصة تقول : لو كان الأمر كذلك لزج الروس قواهم الفعلية الموجودة في سورية وحولها جواً وبحراً وبراً وهو ماتقوله المعارضة بالطبع وتكذبه الوقائع العنيدة حتى كتابة هذه السطور على الأقل من أجل حسم المعركة في زمن قصير إذا كان ذلك ممكناً كما يتخيل كثيرون لابل إن بوسع المراقب أن يلاحظ عدم التطابق الفعلي حتى الآن بين المواقف الروسية من جهة والمواقف الايرانية والسلطوية وحفائها من جهة أخرى.
هل يصح القول والحال هذه أن الروس على الرغم من رغبتهم العميقة في السيطرة السلطوية على حلب وعلى الرغم من تحركهم بهذا الاتجاه يأخذون بعين الاعتبار الأهمية النوعية لحلب بالنسبة لكل الأطراف أمريكا ـ تركيا ـ السعودية ….الخ.
وبالتالي فإنهم يعملون على الوصول إلى ما يريدون بوسائل ووتائر لا تطابق حلفاءهم الآخرين الأمر الذي يسمح حتى إشعار آخر بالحديث عن محاولات من وراء الستار لحل قضية حلب وكسب معركتها دون الدخول في نزاع جبهي مفتوح مع الطرف الاخر وبخاصة التركي ـ الأمريكي الأمر الذي يعني أنهم مستعدون -وهم سائرون لكسب المعركة- لبحث بعض الصيغ التي تحفظ ماء الوجه للطرف الآخر وقد بدا ذلك واضحاً في الصمت الروسي عن مبادرة ديمستوا ورفضها القاطع من قبل السلطة السورية مع تصريح حمال أوجه لسفيرها في موسكو مع ميله الى القطع أيضاً.
وفي كل الأحوال لا بد من الحساب الدقيق لهذا التعقيد في معركة حلب بما في ذلك كل الاحتمالات بدءاً من امكانية المقاومة الطويلة والقضم البطيىء والعمل على تقسيم الشرقية و تقديم العروض والمشاريع الوسطية وانتهاء بالاحتمال الراجح حتى الان والذي هو ذهاب بالسلطة وإيران وحزب الله والميليشيات الشيعية لحسم المعركة في أقرب وقت وبخاصة إذا تبين أن الأتراك والروس بينهما تفاهم ما حول المدينة وشمالها إن سلماً و إن حرباً.
وفي كل الأحوال فإن تيار مواطنة يأخذ بعين الاعتبار كل المسائل المذكورة بما في ذلك الأهمية النوعية وإن تكن غير الحاسمة لمعركة حلب ولكنه في الآن ذاته ينطلق من موقفه المبدئي من الحرب الثورية التي هي حرب الحركة المستمرة الأمر الذي يجعل من تحولها إلى حرب مواقع دفاعية حرباً أقرب ما تكون إلى حرب كلاسيكية حرب جيوش الأمر الذي قد يؤدي إلى استنقاع الوضع وتعفن الثورة وطغيان أمراء الحرب وسلطاتهم المطلقة القائمة على القوة العارية -كل السلطة تنبع من فوهة البندقية – ووضع السدود العالية أمام السياسة والمجتمع المدني والادارة الذاتية وهو ما يحيلنا إلى الوضع الذي يتفاقم فيه الاحباط واليأس وانفكاك الحاضنة الشعبية وبخاصة عندما تكون حرب المواقع الدفاعية داخل المدن وهو ماكان عليه الحال في كثير من المدن السورية وفي حلب اليوم . إن حرب المدن كانت خاطئة في الأصل ويجب العمل مع الاقرار بذلك على التحول نحو استراتيجية أخرى هي استراتيجية حرب العصابات وصولاً إلى جيش موحد عسكرياً وسياسياً وعندئذ لكل حادث حديث.
إن التداعيات الخطرة المذكورة للحرب الدفاعية وحرب المدن يجب أن تكون حاضرة في الذهن عند بحث مستقبل حلب وبخاصة لأن كل المدن التي بسط المقاتلون السيطرة عليها بل والريف ايضاً لم تشكل ابداً ظلاً لنموذج يمكن الاقتداء به والعمل على تعميمه بل على النقيض من ذلك أدت تجربة ماسمي تدمير المدن والبلدات إلى طغيان نموذج استبدادي بشع مع كل ما يحمله هذا الطغيان من آثار مدمرة على الثورة السورية والشعب السوري والوطن والأرض والعيش الموحد.
انطلاقاً من مما سبق ليس من الصعب تفهم الموقف الذي يعتقد تيار مواطنه انه يجب الامساك به والوقوف عنده والذي هو:
1ـ على الرغم من الأهمية الكبرى لمعركة حلب فإن حسمها لصالح السلطة لن يكون نهاية العالم أبداً فالصراع أشمل وأعمق من أن تكون نهايته أو حتى بداية نهايته في حلب وإذا كان من الصحيح أنه سيوضع على رأس أي طاولة في حال استئناف المفاوضات فإن الحل السياسي القابل للحياة لن يبنى على ذلك من الناحية الرئيسة.
2ـ وفي حال تم انتصار الفصائل المقاتلة فإنه لا يعني الكثير لأنه عودة إلى المواقع السابقة القائمة اليوم والذي هو وضع لا يشكل مدعاة للاعجاب وفي حال كان الانتصار يشمل الاستيلاء على حلب بالكامل من قبلهم وهو غير ممكن على ضوء التوازن الراهن وحتى إذا أمكن ذلك فإنه هو الاخر ليس مدعاة للفرح إلا من زاوية جزئية تتعلق بسياق المفاوضات وهو الأمر الذي يبدو أن المقاتلين لا يأبهون به مثلما أن الحل السياسي مرة أخرى يجب أن يقوم على عناصر قابلة للحياة وليس انتصارا هنا أوهناك وفي غير هذا السياق فإن الأمر لا يشكل سوى إضافة جديدة مثلها مثل ادلب إلى سيطرة نمط لا يستجيب أبداً إلى مصالح وتطلعات الشعب السوري فمن أين يجب أن يأتي الفرح إذن إذا كان المقصود تحقق الحرية والكرامة والعدالة والدولة المدنية الديموقراطية ناهيك عن حجم الدمار والخراب والموت والآثار الأخرى شديدة الضرر ثمناً لانتصار أي من الطرفين وهو الأمر الذي يسمح او يوجب التفكير العقلاني البعيد كل البعد عن التفكير العدمي وإن شئتم عن الراديكالية العدمية العمياء.
3ـ إن التفكير العقلاني هذا قبل تغيير ميزان القوى في حلب وقبل فوات الأوان يدفع للقبول بمبادرة ديمستورا حتى لو كانت تتضمن خروج جميع المقاتلين ـ وليس النصرة فقط ـ من حلب إلى أطرافها وبقاء قوة مناسبة على خطوط التماس دون أي سلطة على الادارة المدنية الذاتية للشرقية لا للمقاتلين ولا للسلطة السورية مع فتح القسمين على بعض على كل الصعد الممكنة.
وإذا كان من المفهوم أن ترفض السلطة ذلك لأسباب لا يجهلها أحد فإن من غير المفهوم في ظل الوضع الراهن أن ترفضها المعارضة ـ نترك جانباً الفصائل المقاتلة ـ ناهيك عن الكلام المتذاكي السخيف الذي صدر عن الهيئة العليا حول اعتبار رفض السلطة لمبادرة ديمستورا مكيدة إعلامية.
4ـ أياً يكن الحال وأياً كان الخاسر فإن على المعارضة والمجتمع المدني والأهلي العمل لانتزاع زمام المبادرة لإحياء العمل السياسي والمدني في حلب وغيرها ورفض الاستمرار تحت هيمنة السلاح والقوى السلطوية الغاشمة ويجب الاهتمام والاستعداد منذ الآن للذهاب في هذا الاتجاه بعد كل هذا الاستنقاع المدمّر.
5ـ وقبل الخروج من هذه الفقرة لابد من معالجة الموقف الروسي من استخدام العنف الوحشي وهو ما وعدنا به سابقاً بما في ذلك الانتهاك الفظ لأبسط قواعد الحرب والقانون الانساني الدولي والقانون الدولي لحقوق الانسان وإدانة هذا العنف والانتهاك بأوضح وأقسى ما يستحق وبخاصة عندما يتعلق الأمر بالمستشفيات والمدارس والأطفال والنساء والمخابز …. والخ .وهو ما أكدت عليه مؤسسات ومنظمات دولية ومدنية حقوقية مستقلة وكذلك أيضاً كل المنظمات والهيئات واللجان المنبثقة عن الأمم المتحدة وهي اللجان المختصة والمخولة قانوناً وواقعاً.
ليس هذا فحسب بل إنه حتى في حال افتراض ان الروس ليسوا من يقوم بذلك -وهذا غير صحيح- بل هو النظام السوري فإن الاصرار الروسي على تغطية ذلك وحمايته في المحافل الدولية وبخاصة في مجلس الأمن وعدم الضغط على الحليف السلطوي السوري وحلفائه للكف عن ذلك , -بل حتى تكذيبه- يشكل في حد ذاته جريمة موصوفة لا تغتفر بأي حال من الأحوال وعلى صعيد آخر وفيما يتعلق بأي تحقيق عن انتهاكات السلطة السورية وبخاصة فيما يتعلق باستخدام السلاح الكيميائي -وبالتحديد غاز الكلور – كذّبت روسيا نتائج كل اللجان الدولية الرسمية الشرعية المختصة المنبثقة عن الأمم المتحدة على الرغم من أنها هي وحدها المخولة بذلك وعندئذ ألا يصح القول :إن الروس يعملون على قاعدة “عنزة لو طارت” و ألا يشير ذلك إلى الحضيض اللئيم والرخيص الذي وصل إليه بوتين والروس بحيث تكون اللجان النزيهة الوحيدة هي تلك التي تبرئ الروس والسلطة السورية وحلفائها أي اللجان ذات الضمير الميت بحق.
حول الحل السياسي:
كثير من القوى والأشخاص والدول التي تتحدث عن ضرورة الحل السياسي بوصف الحل العسكري غير ممكن وبهذا المعنى يحق لنا الاستنتاج أن الأخير لو كان ممكناً لما ذهبنا أو بحثنا عن الحل السياسي وهذا الاستنتاج صحيح على ما يبدو وتيار مواطنه على الرغم من تفهمه لهذا الموقف يعتقد أن البحث عن الحل السياسي والذهاب إليه يجب أن يتم ليس على الأساس السابق فحسب بل لأن انتصار أي طرف من أطراف الحرب المركبة والمعقدة في سورية هو كارثة على الشعب السوري وحاضره ومستقبله وعلى الوطن السوري بكل مافي الكلمة من معنى فانتصار السلطة وحلفائها يعيدنا إلى أسوأ أيام عاشتها سورية خلال /53/عاماً في حين أن انتصار الفصائل الاسلامية يأخذنا إلى وضع ليس أقل سوءاً وإلى صراعات لاحقة لا تقل دماراً وخراباً وموتاً عما هو قائم الآن ولذا فإن تيار مواطنة يعتقد أن من الضروري العمل بصدق وشرف ومسؤولية من أجل الحل السياسي دون الرطانات المعهودة ومعها استحالة الانتصار العسكري ولكن ما هذا الحل السياسي الذي يستحق العمل من أجله بشرف وصدق ومسؤولية وعقلانية .إنه الحل السياسي القابل للحياة.
إنه الحل السياسي القابل للحياة والذي يحقق الحد الأدنى من تطلعات الشعب السوري والذي يقوم في نهاية المطاف بغض النظر عن الزمن المستغرق والكيفيات والجداول والهياكل والصيرورة و….الخ نقول يقوم على رجلين هما:
1ـ رحيل السلطة وتفكيك النظام وبقاء الدولة -مرة أخرى مع كل المرونة في الزمن والقضايا الأخرى المذكورة في السطر السابق.
2ـ عدم السماح بقيام دولة الفصائل الاسلامية المسلحة بالقوة العارية وفرضها بوصفها الأمر الواقع الاكراهي وترك الخيار الحر للشعب في تقرير مصيره حتى لو أدى هذا الخيار إلى دولة بحكومة إسلامية ولكن عن طريق صناديق.
الاقتراع.وحتى يتحقق مثل هذا الحل الذي نسميه القابل للحياة -لأن أي حل سياسي آخر قد يكون وصفة مجربة لعودة اشتعال حريق كبير وصراعات دامية في سورية لا حدود لها – نقول حتى يتحقق لا بد من مقدمات على رأسها:
اقتناع جميع الأطراف أن العالم في المحصلة لا يسمح بانتصار ساحق لأحد الطرفين كما لن يسمح باستعادة الماضي مع ترقيعه إلا لدى البعض ومنهم روسيا وإيران وحزب الله ولن يسمح بالنقيض الاسلامي المسلح في مركز الشرق الأوسط وفي سورية بالذات لألف سبب وسبب ومن أجل ذلك لا بد من:
1ـ تحقيق الضغط الضروري والكافي على السلطة السورية وحلفائها ولابد قبل كل شيء من الضغط متعدد الأشكال على الروس بالتحديد في الميدان والسياسة والاقتصاد أي ضربة على أنفهم تعيدهم وتعيد حلفاءهم لاحقاً إلى جادة العقل.
2ـ ممارسة الضغط الضروري -في السياسة والميدان والاقتصاد والفكر- على الفصائل الاسلامية المقاتلة لاقناعهم بما مر أعلاه أو مواجهة الهزيمة المحققة.
3ـ ومن أجل ذلك سنعيد التأكيد مرة أخرى على ضرورة التدخل الدولي الجذري والمباشر من أجل حل الواقع الكفيل بإيصال الأطراف جميعاً إلى القناعة المطلوبة.
4ـ هذا التدخل ضروري جداً ليس فقط من أجل ماسبق بل من أجل بناء وضع مستمر لاحق للحل السياسي مستقر بما فيه الكفاية بعيد عن الثأر والانتقام والاكراه وفرض الأمر الواقع والمحاصصة أو التقسيم الواقعي أو اعادة اشعال النار من جديد.
المشروع الإيراني- التركي في سوريا:
1ـدشن التدخل الروسي في (أيلول 20155)، مرحلة جديدة في سوريا، عنوانها الأساسي العمل على الحسم العسكري وتصفية المعارضة.وأصبحت المشاريع الدولية والإقليمية أكثر وضوحا، بعد أكثر من خمس سنوات على انطلاقة الثورة. وعلى الأرض السورية الراهنة تعمل العديد من الدول الإقليمية والدولية على تنفيذ مشاريعها. أولهما مشروعان إقليميان هما المشروع الإيراني، والمشروع التركي، وينضم إلى هذا الأخير السعودية وقطر. ومشروعان دوليان هما المشروع الأمريكي والروسي، والمشروع الأوروبي ملحقا بالأمريكي. ومشروع داخلي هو المشروع الكردي.. ومن الصعب الفصل بين هذه المشاريع المتناقضة، أو المتوافقة في أهدافها، والتحالفات والتفاهمات الدائمة والمؤقتة بينها. كما أن تبعية الدول الإقليمية للقوى العظمى أمريكا وروسيا، ليست مطلقة. فالسعودية مثلا والخليج عموما قد تكون أكثر انصياعا لأمريكا، في تنفيذ مشاريعها في المنطقة، لكن ذلك لاينطبق بنفس القدر بالنسبة لإيران وتركيا، وهما الدولتين الأكبر في منطقة الشرق الأوسط. وهذه الورقة ستهتم بالمشروع الإيراني والمشروع التركي.
2ـ تعود بدايات المشروع الإيراني إلى تاريخ انتصار الثورة الإيرانية عام(19799)، وبداية تصدير الثورة إلى خارج إيران، وهو احد أهم الاستراتيجيات لولي الفقيه في إيران، وكما تم تجسيدها في الدستور الإيراني. وبذلك يتميز المشروع الإيراني عن غيره من المشاريع بأنه ليس محصورا في سوريا فقط، إنما ممتدا إلى كل دول الشرق الأوسط خاصة، وانه سابق على انطلاقة الثورة السورية، وثورات الربيع العربي عموما.
ويهدف المشروع كهدف استراتيجي للسيطرة على منطقة الشرق الأوسط. ويعتمد المشروع أولا، وبالدرجة الأساسية على العقيدة الشيعية ألاثني عشرية، و”تقاليد الأجيال الغابرة التي تجثم كالكابوس على أدمغة الأحياء” وفق تعبير ماركس، وملخصها المظلومية الشيعية التاريخية. وبغض النظر عن المشروعية التاريخية لهذه المظلومية أو عدم شرعيتها. لكن كدولة إسلامية لابد لها من التستر وراء هذه العقيدة والمظلومية لإنجاح سياستها التوسعية في المنطقة، مترافقة مع شعار “الموت لإسرائيل والشيطان الأكبر أمريكا”.وثانيا، يعتمد المشروع على تناثر الشيعة في منطقة الشرق الأوسط ذات الأغلبية العربية(السنية)، باعتبار العلويين في سوريا من المسلمين الشيعة ألاثني عشرية وفق الفتوى التي أصدرها موسى الصدر رئيس المجلس الشيعي في لبنان عام(1973)، وهي فتوى سياسية، ردا على اتهام الرئيس الأسد بأنه ينتمي “لطائفة من أهل “البدع”.
وعمل الإيرانيون منذ ثمانينات القرن الماضي على تثبيت أولى الركائز خارج إيران. في لبنان تم تأسيس “حزب الله” الذي أعلن التزامه بقيادة “ولاية الفقيه” والتي تتجسد في “الخميني”. وهو حزب سياسي-عسكري قاوم الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان، وأيضا قام بتصفية المقاومة الوطنية اللبنانية في الجنوب، واحتكر المقاومة وتمثيل الشيعة في لبنان. والركيزة الثانية، في سوريا وتحالفه مع النظام السوري، الذي وقف إلى جانب إيران في حربها ضد العراق، وفتح لإيران الأبواب في سوريا، كي تنشر أدواتها الثقافية والدعاوية بأشكال وأساليب عديدة، مثل: المستشاريات الثقافية، والمجمع العالمي لأهل البيت، والحسينيات، والحوزات، والمدارس..الخ وكلها تعمل على تجسيد ثقافة “ولاية الفقيه”، وتجنيد الشباب عقائديا وسياسيا وعسكريا.والركيزة الثالثة وهي الأهم جاءت من أمريكا حين أسقطت النظام في العراق عام(2003). وانفجار المجتمع العراقي اظهر إلى السطح كافة المكونات مقابل الوطنية، الدينية المذهبية، والعشائرية والعرقية..الخ. وكانت هي الأقوى بالمقارنة مع القوى الوطنية الديمقراطية. ووجدت إيران الأرض الخصبة للسيطرة وتشكيل، نظام طائفي شيعي جديد، ادخل العراق في حرب طائفية لم تتوقف حتى الآن. وأمريكا لم تبذل الجهود اللازمة والتي كان يمكن أن تساهم في بناء دولة ديمقراطية علمانية، كما عملت بريطانيا-مثلا- حين فرضت على تركيا إلغاء الخلافة، وإعلان تركيا دولة علمانية للتوقيع على معاهدة لوزان(1923)، وتجاوز معاهدة (سيفر1920
3ـ مع اندلاع ثورات الربيع العربي كانت إيران جاهزة للتدخل مباشرة. وسوريا بالنسبة لإيران الركيزة الأهم بعد السيطرة على العراق.والميزة الخاصة للمشروع الإيراني، بأنه ليس تدخلا عابرا ينسحب بعد انتهاء الأزمة. إنما يعمل في أقطار الشرق الأوسط كي يبقى، ويسيطر كما هو الحال في لبنان.
وقد توضحت معالم المشروع الإيراني في سوريا خلال السنوات الخمسة الماضية وأدواته، وأساليبه المتعددة، مستفيدا من تجربته في بغداد، والتغيير الديمغرافي الذي عمل عليه لصالح الشيعة في بغداد ومحيطها.
ويعمل الإيرانيون، على تشكيل حزام حول دمشق يمتد من مناطق القصير على الحدود اللبنانية ومضايا، ومنطقة السيدة زينب جنوبا، واتصاله يداريا غربا، يهدف في النهاية إلى السيطرة على دمشق وريفها، وحمص إلى القلمون والساحل والحدود اللبنانية السورية. وهذا الحزام والسيطرة على العاصمة دمشق، هو جزء من الهلال الشيعي التي تسعى إيران لإنشائه والممتد من إيران حتى ساحل المتوسط.ولذلك يعملون على شراء الأراضي والعقارات في قلب دمشق(الشاغور مثلا)، وريفها، والمناطق المحيطة بالمراقد الدينية(السيدة زينب). وفي حال تعذر الشراء، يلجؤون إلى الحصار والتجويع ثم التهجير القسري، وإحلال شيعة عراقيين وإيرانيين وأفغان بدلا عن السكان الأصليين، بأساليب يشبهها البعض بأساليب الحركة الصهيونية وتهجيرها للفلسطينيين. وأيضا مشاريع واتفاقيات اقتصادية مع النظام، وتملك الإيرانيين للعديد من الشركات الاقتصادية، بالإضافة إلى الحوزات الدينية والمدارس الموجودة تاريخيا.
والعامل الأهم هو القوة العسكرية، وهي الأداة الأهم في نجاح الاستيطان الإيراني. وتشير التقديرات إلى وجود أكثر من خمسين إلفا من الميليشيات الإيرانية والعراقية واللبنانية. وهذه القوات تعمل منفصلة عن قوات النظام. مثلا يسيطر “لواء أبو الفضل العباس” على جنوب دمشق بحجة حماية مرقد السيدة زينب، و”حزب الله” يسيطر على القلمون، ويتحكم بها، ويشرف على الهدن والتهجير. والعرض العسكري الذي أقامه “حزب الله” في القصير في يوم الشهيد، منتصف الشهر الحالي، وجه أكثر من رسالة للنظام بأنه موجود كقوة عسكرية مستقلة، وللدول الإقليمية بأنه قادر على التدخل في أية دولة كانت ومن المتوقع في المستقبل بروز حزب سياسي عسكري شيعي على منوال حزب الله اللبناني.
4ـ ورغم مساندة الميليشيات الإيرانية وحزب الله للنظام ومنع انهياره. إلا إن النظام بعقليته الاستبدادية الطائفية يتحسس خطر تعاظم هذا الوجود في المستقبل وعمله المستقل عن النظام. ولم تفيد فتوى موسى الصدر القديمة اعتبار العلويين من الشيعة ألاثني عشرية. لأن العلويين يختلفون بعقائدهم وثقافتهم وعاداتهم وطقوسهم عن الشيعة. ورغم أن التدين، أو التشيع تراجع للوراء كهدف إيراني في هذه المرحلة، وتوافق المصالح هو الأهم، لكن الافتراق في المستقبل لابد من أن يحصل، وخاصة إن النظام وإيران ينتميان إلى العقل الاستبدادي المغلق والمتمايز دينيا.
وبغض النظر عن الهدف الروسي من التدخل في سوريا، بافتتاح أول وجود عسكري ضخم على سواحل المتوسط، ليثبت انه دولة عظمى كما كانت في السابق مقابل أمريكا، ومصلحته للعودة للشرق الأوسط من البوابة السورية. وقد جاء هذا التدخل كمنقذ للنظام، على مستويات عديدة:
أولا، حسم المعركة عسكريا لصالح النظام وبسرعة، كما كان يأمل الروس،وبالتوازي العمل على إعادة تجديد النظام سياسيا،للخروج من حالة المراوحة في المكان للصراع على الأرض.
وثانيا، التقليل من خطر تعاظم الوجود الإيراني. لان إيران لاتسعى إلى حسم الصراع بسرعة، ومن مصلحتها إطالة أمد الحرب لنجاح مشروعها الاستيطاني على الأرض،وقد تصبح في المستقبل مزاحما قويا على السلطة، في حين إن الروس لن يكونوا محتلين لسوريا، على الطريقة الأفغانية.
وثالثا: الروس يتفقون مع النظام على عدم تقسيم سوريا، والعمل على حسم المعركة في كل سوريا، في حين إيران لاتهمها سوى جزء من سوريا، وهو الذي تعمل عليه كما ذكرنا سابقا.
ويتفق الروس مع إيران على ضرورة الحفاظ على النظام ورأسه، بسبب الطبيعة الطائفية الصلبة وخاصة للجيش والأجهزة الأمنية. وان رحيل رأس النظام في هذه المرحلة، كما تطالب المعارضة، سيؤدي إلى انقسامات في صفوفه وانهياره.
5ـ مخاطر المشروع الإيراني في سوريا عديدة:
أولا: إنه استيطاني، والتهجير ألقسري للسكان الأصليين يجعل منه قوة احتلال عسكرية تفرض سيطرتها بالقوة
ثانيا: والتهجير والتجييش الطائفي يقسم المجتمع إلى مكوناته المذهبية، ويمهد الأرض لحروب أهلية دينية مدمرة، وقد تستمر عدة عقود. وهذا قد يؤدي لفدراليات مذهبية مغلقة.
ثالثا: انتعاش الايديولوجيا الإسلامية المذهبية، وانتشار الإرهاب الديني المذهبي مثل داعش والنصرة، وعصائب أهل الحق، وأبو الفضل العباس وحزب الله..الخ.
6ـ على الطرف الآخر من المشروع الإيراني يبرز المشروع التركي. ويطفو إلى السطح الصراع التاريخي الممتد لخمسة عقود خلت بين المشروعين للسيطرة على المنطقة. ودائما كانت سوريا والعراق هي الساحة الدموية لهذا الصراع. ومن يسيطر على هذه الساحة يسيطر على المنطقة برمتها. وقد خسرت تركيا العراق بعد إسقاط النظام على يد الأمريكان(2003) لأنها لم تجد حلفاء فعليين على الأرض. وبقيت سوريا جوهرة الصراع الإيراني التركي
والفرق جوهري بين المشروعين. إيران دولة دينية مذهبية، تحاول أن تمتد في المنطقة تحت الراية الدينية، وتستميت للدفاع عن “الهلال الشيعي”، الذي تعمل على إنشائه منذ عقود، وتقع سوريا في قلبه. وأما تركيا فهي نموذج للدولة العلمانية في العالم الإسلامي، ووجدت نفسها في مواجهة ثورات الربيع العربي، وخاصة سوريا، تخرج من صيغة(صفر المشكلات)، التي وضعها “داوود اوغلو” كأساس للسياسة الإقليمية التركية منذ صعود حزب العدالة والتنمية للسلطة في (2002). والتي عملت على إقامة علاقات حسن جوار وشراكات اقتصادية إستراتيجية واجتماعية وسياسية، مع دول المنطقة وخاصة سوريا والعراق وإسرائيل، ودون معاداة لإيران. وبهذه السياسة استطاعت تركيا أن تنجز نهضة اقتصادية كبيرة، وان ترسخ دعائم الحكم الديمقراطي على المستوى السياسي والاجتماعي، واكتسب حزب العدالة بذلك حضورا قويا في المجتمع التركي.
والخروج من الصيغة السابقة، وجدت الحكومة التركية نفسها في قلب الصراع الدائر. وأعلنت منذ البداية وقوفها إلى جانب ثورة الشعب السوري، ضد النظام الذي وصفته بالهتلري، ونظام يقتل شعبه. وانضمت إلى أمريكا وأوروبا بمطالبة النظام بالرحيل.
وشاركت قطر في احتواء المعارضة وتأسيس “المجلس الوطني”، ثم تحويله إلى “الائتلاف الوطني” لقوى الثورة والمعارضة.وتقديم الدعم العسكري للفصائل العسكرية، بالإضافة إلى فتح الحدود أمام اللاجئين، وكانت من الدول الأفضل في المنطقة تجاه اللاجئين.
وفي حين دخلت إيران بقوة إلى جانب النظام عسكريا وسياسيا، بقيت تركيا في إطار الدعم العسكري المحدود بالمشاركة مع السعودية وقطر والإشراف الأمريكي، وأيضا الخطاب المطالب للنظام بالرحيل، ووضع الخطوط الحمر لتقدمه دون أن تكون قادرة على التدخل المباشر على الأرض. وذلك بسبب عدم ضمان دعم حلف الأطلسي وخاصة أمريكا، وهي لم تكن جاهزة لأن تغرق في مستنقع الحرب السورية بمفردها.
7ــ حتى نتفهم أكثر المشروع التركي، من المفيد التوقف عند بنية حزب العدالة والتنمية الحاكم برئاسة أردوغان. هو حزب إسلامي إيديولوجيا، في دولة علمانية. والنزعة القومية الاتاتوركية حاضرة بقوة. ثلاث هويات في حزب واحد. وهي هويات متنازعة، وليست متكاملة. إذ لو كانت متكاملة لما وجد النظام في تركيا نفسه في حالة تخبط في الداخل والخارج.
حيث لم يتخلص بعد من القومجية برفضه حقوق الكرد في تركيا. والانقلاب على مبادرة السلام التي أطلقها أوجلان، ثم الانقلاب على المشاركة السياسية للكرد عبر حزب “الشعوب الديمقراطي” واعتقال نوابه مؤخرا. ولم يتخلص أيضا من إسلاميته وهو يدير دولة علمانية. ولذلك كان السند القوي لجماعة الإخوان المسلمين، والداعم للفصائل العسكرية الجهادية في سوريا، وهذا ساهم إلى حد كبير في تشويه صورة الثورة وتصييفها. والانقلاب الأخير يشير إلى حد كبير إلى عدم استقرار الدولة التركية كدولة علمانية، وأيضا الطبقة السياسية الحاكمة والمعارضة. وهذه البنية الهوياتية المتشابكة منع تركيا من التدخل كدولة علمانية ديمقراطية ومحاولة فرض نموذجها، والذي كان من الممكن أن يكون قدوة لدول المنطقة.
8-وجدت أمريكا بأن أل(pyd) ـ و “قوات سوريا الديمقراطية” هما أفضل تشكيل عسكري تنظيميا يمكن الاعتماد عليهما في ساحة الصراع، ودعمته عسكريا ولوجستيا، وإعلان فدرالية “روج آفا” في الشمال السوري. وعندما أصبح الهدف الاستيلاء على الحدود الجنوبية لتركيا، من قبل القوات الكردية، شعرت تركيا بالخطر، واتخذت قرارها بالتدخل البري وبموافقة أمريكية، وانصياع روسي، وليس كما يشاع اتفاق روسي تركي. أو اتفاق مقايضة على حلب للروس مقابل منطقة غرب الفرات. لأن التدخل التركي البري مع بعض قوى المعارضة والاستيلاء على غرب الفرات ليس لمصلحة النظام وإيران، مستقبلا.
ومع ذلك من المفيد التوضيح بأن الخطوة التركية ضد الكرد كانت متوافقة مع موقف النظام وإيران التي تتخوف أيضا من فدرالية كردية في أراضيها، مترافقا مع اشتباكات النظام مع “قوات حماية الشعب” الكردية في الحسكة. وهنا تجتمع المشاريع المتناقضة حول هدف واحد وهو الكرد. ولم يعد مهما التناقض الديني والمذهبي الذي يغلف صراع المشروع الإيراني مع النظام من جهة، وتركيا والسعودية من جهة ثانية.
صحيح إن التدخل التركي البري هو لمصلحة تركية بالدرجة الأولى، لكنه أيضا يتقاطع مع مصلحة المعارضة، وان كل موقع يخسره النظام سيكون استراتيجيا لمصلحة سيرورة الثورة. وخاصة أنه ليس عند الأتراك أهداف استيطانية كما هو عند إيران. رغم تلميحات رموز الحكم في تركيا إلى المعاهدات التي رسمت الحدود بعد الحرب العالمية الأولى.
9ـ يتقاطع المشروع التركي مع المشروع القطري والسعودي في دعم الثورة عسكريا وإيديولوجيا. لكن عدم الاتفاق على مشروع مشترك، وتأسيس غرفة عمليات موحدة، أدى لأن يلعب المال السياسي في تفرقة الكتائب العسكرية وتناحرها، وعدم تشكيل جيش وطني ثوري وهذا بدوره ساهم في تحول الكثير من الكتائب نحو النصرة وداعش.
بعض الأسئلة استكمالا لما سبق:
– إذا كانت بنية الدولة التركية كما رأينا فهل هي المسؤولة عن اسلمة الثورة وتضييفها.؟ أم هي مسؤوليتنا بالدرجة الأولى، مسؤولية سياسيينا الديمقراطيين الذين احتموا بالإخوان المسلمين و جلسوا بكل حرية في أحضان تركيا وقطر والسعودية مطالبين باستجداء التدخل الأمريكي. بمعنى أخر تعاملت تركيا مع سياسيينا وفصائل الثورة العسكرية وفق بنيتهم وهي بنية إسلامية مشوهة، والجواب هي مسؤوليتنا بالدرجة الأولى.
ـ هل قدم سياسيونا برنامج أو خطة سياسية عسكرية وحاملها ديمقراطي علماني ورفضتها تركيا مثلا؟
ـ ماهي مهماتنا في المرحلة الراهنة تجاه المشاريع المتعددة، وخاصة تجاه المشروع التركي، والذي يكتسب أهميته من الموقع الجغرافي، والذي مازال داعما للمعارضة على طريقته وبنيته والذي يتميز عن المشروع السعودي والقطري.
الوضع في كردستان سوريا …
لم تطرأ تطورات مهمة على الوضع الكردي منذ مؤتمر مواطنة الثالث في 14 تشرين الثاني 2015 فالسيطرة المطلقة لا زالت لحزب PYD الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني ، المحظور في سوريا بعد طرد عبد الله اوجلان واعتقاله عام 1999من قبل الدولة التركية ، ومن ثم احتجازه في جزيرة ايمرالي ،اعقبه منع عمل الكردستاني في سوريا ، اضافة الى تسليم عدد من مقاتليه الى الدولة التركية ، استنادا الى اتفاقية اضنة التي وقعت بين الدولتين ، لكن الثورة السورية دفعت النظام الى طلب المساعدة من حليفه السابق ، بغية منع انخراط الكرد السوريين وتحييدهم عن الثورة ، واستقدم من اجل هذا الهدف ، عددا من مقاتلي العمال الكردستاني من جبال قنديل ، وكرسها كقوة كبرى في خدمة النظام ، للسيطرة على الوضع الكردي وعدم انفلاته ، وكان له ما اراد ، حيث يعد PYD من افضل الامثلة التي تستخدم القوة العارية في سبيل توطيد سيطرته ونفوذه ،جنبا الى جنب مع النظام الذي اوكل اليه مهمة الامن في المناطق الكردية ، وقد برر PYD الوضع المزدوج تحت عناوين وذرائع الخط الثالث والدفاع عن المناطق الكردية في وجه كل من يحاول الاعتداء عليها ، مركزا على محاربته لقوى الارهاب والتطرف الاسلامية التي اتجهت نحو الطغيان والتوحش ، وارتكاب جرائم انسانية يندى لها الجبين ،لذلك اعلن عن ادارته الذاتية في كل من الجزيرة وكوباني و عفرين،هذه الادارة التي اسست ونمت في كنف النظام ومؤسساته في كل من القامشلي والحسكة ، مع اعتقاده بان القوة العسكرية التي باتت تحت سيطرته ليست كافية لتحصين الوضع الكردي، لكنها خطوة ضرورية لخلق واقع جديد يستطيع التفاوض حوله مع من يخلف بشار ، مما دفعه الى التوسع في السيطرة على مناطق واراضي خارج حاضنته الكردية التي يدعي حمايتها كالشدادي والرقة واماكن اخرى . بالتزامن مع موقف المعارضة التي لم تستطع تناول القضية الكردية ببراغماتية منفتحة ، بحيث تصبح ركيزة ودعامة اساسية من دعائم نضال الشعب السوري في مواجهة نظام الاسد ، فسلكت نهجاً سلبياً تجاه القضية الكردية من خلال بعض المواقف والتصريحات اللامسؤولة لبعض رموزها ، وفشلت في بناء تحالفات حقيقية مع القوى الكردية المنتجة ، الامر الذي اثار حساسيات متبادلة بين الكرد والعرب في بعض المناطق المختلطة بحجة تاريخية سوريا وجغرافيتها ، بعيداً عن الحق القومي الكردي والاعتراف به سياسياً ودستورياً وممارسة هذا الحق وفقاً للأوضاع العيانية الملموسة ، ودون تلازم العلاقة بين هذا الحق وشكل الدولة وبنية نظامها السياسي، سواء كان مركزياً او لا مركزياً ام فيدرالياً ، كما تم رفض فيدرالية روجافا –شمال سوريا التي اعلنها PYD – في مؤتمر الرميلان في 16-17 اذار 2016 – من قبل البعض تحت عناوين مختلفة منها بأن الشعب السوري سيقرر مستقبلاً طبيعة دولته ونظامه السياسي ، عبر دستور جديد –وهو صحيح- بعد الانتهاء من اسقاط الاسد ، لكن يبدو بأن وراء الاكمة ما ورائها ، لان هذا القول يأتي من أجل الاختباء ورفض الحق القومي الكردي او أي مناقشة جدية لشكل تحققه في كردستان سوريا .
ان تيار مواطنة يحذر من سياسة PYD القائمة على اللعب على الخصومات والتموضع في محور حلفاء السلطة ، وعلى العقلية الاستبدادية في التنظيم والممارسة ،واستغلال تحالفاته -مع النظام والروس والتحالف الدولي -واطلاق العنان لشهوته في التوسع والسيطرة وادارة الظهر للمعارضة السورية ، لان ذلك سيؤثر بشكل سلبي وعميق على عمق العلاقة التي تربط الكرد السوريين مع باقي اطياف الشعب السوري وعلى PYD نفسه ، وكي لا يصبح اداة بيد الدول الاقليمية والدولية ويكرر مأساة الكرد مع هذه القوى مجدداً ، لذلك فان حوارا جديا بين السوريين بما فيهم الكرد يصبح اكثر من ضرورة لترتيب الاوضاع وتوحيد الجهود والطاقات في مواجهة السلطة –الطغمة لان الاسد اذا انتصر في معركته مع الشعب السوري سيرتد على الكرد ، وسينقلب حتى على PYD ، ورغم كل التطمينات التي يقدمها PYD من خلال نظرية الامة الديمقراطية واخوة الشعوب ، وفشل الدولة القومية ، فان الريبة والترقب ظلا يسودان الاوساط الغير كردية –لابل يسود حتى بين قسم كبير من الكرد انفسهم- مع عدم اخفاء المخاوف من القدرة على توسع مالات مشروع حزب PYD خاصة بعد اعلانه لفدرالية روجافا-شمال سوريا بمعزل عن ارادة الشعب السوري ومصالحه الحيوية ، وتشكيل وحدات حماية الشعب والمرأة ، وقوات سوريا الديمقراطية بدعم من التحالف الدولي ، نتيجة لوضعه وتجربته الطويلة في الكفاح المسلح ضد الدولة التركية ، ومحاولاته الاخيرة في بناء قوة عسكرية واقتصادية بالاستفادة من المال المتدفق الى خزينته من معابر سيمالكا ومبروكة ومنبج ، وحزمة الضرائب العالية التي اثقلت كاهل المواطن في مناطق كانتوناته ، وتلقيه العتاد والسلاح الثقيل من النظام والتحالف الدولي ، واليوم يبدو جليا للعيان بانه لا يمكن لجم قوة PYD دون تغيير حقيقي في موازيين الصراع او السير باتجاه الحل السياسي الذي بات ينشده معظم السوريين اكثر من أي وقت مضى ، وفي خضم التغييرات العميقة التي جرت في مسار الثورة ومالاتها وبخاصة في السنة الاخيرة 2016 اصبح PYD يجاهر بعلاقته مع النظام وحلفائه عبر لقاءات صريحة برعاية روسية في قاعدة حميميم ، في الوقت الذي يظهر نفسه كشريك حقيقي مع التحالف الدولي واقرب اليه في محاربة الارهاب ، فاغلب فصائل الجيش الحر اسلامية واقرب الى التطرف والارهاب ومعاداة الغرب وامريكا ، وعلى ضوء التنافس القوي مع المجلس الوطني الكردي الذي انضم الى الائتلاف عام 2013 من خلال وثيقة برنامجية موقعة بين الطرفين ، استطاع PYD ان يضيق عليه الخناق ويتهمه بالعمالة لأروغان ، والعمل في خدمة الفصائل الارهابية والاخوانية ،كما ان انصار المجلس الوطني الكردي لازالوا يتعرضون للاعتقال والتصفية ، اضافة الى التضييق على الحريات الفردية والاعلام ومنظمات المجتمع المدني ، الامر الذي ادى تراجع دور واداء المجلس الوطني الكردي كثيراً رغم وجوده في مؤسسات المعارضة(الائتلاف –الهيئة العليا) والدعم المقدم من البارزاني ، ولم يعد له من تأثير حقيقي على ساحة الصراع الكردي، بسبب ابتعاده عن الفعل السياسي والميداني المنتج ، واكتفائه ببيانات التنديد والادانة . التغير اللافت هو سيطرة PYD على مدينة منبج رغم المقاومة العنيفة لتنظيم داعش فيها ، وكذلك مناطق الشدادي والجبسة الغنية بالنفط جنوب مدينة الحسكة ، وبناء قواعد امريكية في كل من الرميلان والشدادي وكوباني (عين العرب) وجبل العزيز واماكن اخرى ، اضافة الى قاعدة فرنسية في جبل مشتى النور بكوباني ، يضاف الى كل ذلك تأسيس قوات سوريا الديمقراطية التي يتكون قوامها من وحدات حماية الشعب والمرأة الكردية ، التي استطاعت ان تحيط نفسها بقوى تعبر عن مكونات المنطقة الاخرى كالعرب والتركمان والاشوريين والسريان والارمن .كما ان عملية درع الفرات التي اطلقها الجيش الحر بدعم واسناد مباشر من القوات التركية في منطقة جرابلس وما حولها ، نقل الصراع بين الدولة التركية وحزب العمال الكردستاني من تركيا الى سوريا ، بحيث اصبحت سوريا ساحة لمعركة كسر العظم وتصفية الحسابات ، لا يمكن التكهن بنتائجها .وفي معركة الرقة فاجأ PYD ببدء حملته “غضب الفرات” من أجل عزل مدينة الرقة بالتنسيق مع التحالف الدولي رغم كل الاعتراضات التركية ،ومحاولة الولايات المتحدة إشراك قوى عربية محلية في معركة الرقة لكسر هيمنة الطرف الكردي وتطمين ابناء الرقة نفسها ، وهنا يبقى التساؤل الاهم ، ما هي التطمينات التي حصلت عليها تركيا من الولايات المتحدة ،وهل الدور التركي مؤجل ومرتبط بتطورات الميدان ، لان معركة الرقة محكومة اساساً ببعدها السياسي لا العسكري . وهناك اعتقاد لدى البعض بانها لن تبدأ قبل انتهاء معركة الموصل وهزيمة (داعش) هناك، كما أنها مرتبطة بمآل الحرب التي تجري في حلب.
المعركة الحاسمة ستدور حول مدينة الباب- معقل داعش شمال شرق حلب – ومن سيدخلها اولا ، لان PYD يحاول ان يسيطر على مدينة الباب ، في الوقت الذي يحاول فيه الجيش الحر المدعوم من تركيا السيطرة على كامل الشريط الحدودي لمنع وصل كانتوني كوباني (عين العرب ) وعفرين ، و رفض تركي لأي وجود لقوات وحدات الحماية او سوريا الديمقراطية في تلك المنطقة – غرب نهر الفرات- وهو ما صرحت به مرارا حول ضرورة خروج قوات PYD من مدينة منبج وعودتها الى شرق نهر الفرات ،بحجة تهديدها للأمن القومي التركي . ان تركيا تعي جيدا بان الساحة الكردية في سوريا هي ساحة صراع ثانوية ، لان الساحة الرئيسية للاشتباك هي في الداخل التركي ، وان PKK سيستخدم مستقبلا هذه الساحة –كما كان يفعله سابقا- كنقطة انطلاق باتجاه الداخل التركي ، لأن مشروع PKK قائم بالأساس على كردستان تركيا لاعتبارات مختلفة ، وكل ما يمكن ان يقال عن الاجزاء الاخرى هو لتضليل الرأي الكردي وايهامه بمركزية هذه الساحة .
اما التطورات الميدانية الاخرى التي حصلت في الوضع الكردي خلال السنة الماضية فهي مرئية ومعروفة للجميع ولا داعي لاستعادتها، لذلك سيتم التركيز على التقدم الذي حققته قوات سورية الديمقراطية في محافظات سورية عدة بدءأً من جنوب الحسكة إلى شمال وشرق مدينة حلب، بحيث أصبحت تستولي تقريباً على معظم الشمال السوري باستثناء شمال حلب وادلب وتتحرك اليوم باتجاه الرقة ،وتطمح في الوقت نفسه للسيطرة على مدينة الباب لوصل كانتوناته الثلاث ، ولذلك تضغط بوتيرة مدروسة اخذة بالاعتبار كل العوامل المحلية والإقليمية والدولية .
ليس هذا فحسب بل أن الـ /PYD/ والـ/YPG/ استمرا بالتعاون والتنسيق مع قوات التحالف جنباً إلى جنب مع استمرار التنسيق والتعاون مع الروس والسلطة ، فالتطورات العاصفة سياسياً وميدانياً أعد لها بعناية وبشكل مدروس ،و تم الاستعداد لها في كل الحقول بما في ذلك الحقل العسكري من قبل /PYD/الذي تلقى دعماً واسعاً بالسلاح والمقاتلين من جبال قنديل – قيادة /PKK/ بالتنسيق مع السلطة السورية وايران – وأحيانا بالدعم المباشر بالسلاح – بدءاً من غض الطرف إلى القتال في الميدان جنباً إلى جنب، ومثل ذلك مع بعض الفصائل العربية الانتهازية – الصناديد- ومع المكون السرياني الآشوري في الجزيرة وقد مكنت ضربات التحالف الدولي الجوية الحاسمة من انتصار PYD هناك وفي مناطق أخرى، ويمكن القول دون مجانبة للصواب: إن YPGتعمل بشكل فعال من خلال التنسيق المثلث بينها وبين السلطة والتحالف الدولي، لا بل لقد ذهبت الى التنسيق مع الروس وطلب دعمهم ، ليس في مواجهة داعش و النصرة بل ربما في مواجهة سائر الفصائل الأخرى في مناطق حلب، وبكلمة أخرى على طول الشريط الحدودي الشمالي الذي يبلغ طوله /911/كم عدا بعض الاستثناءات المعروفة في شمال حلب.
من الصعب أن يفهم أحد خارج سورية كيف يمكن لل PYD التنسيق مع السلطة ومع عدو السلطة- التحالف الدولي -في آن واحد، واليوم مع الروس و ايران – وربما حزب الله – على قدم وساق من خلال جبال قنديل، وتيار – جميل بايق – في حزب ال/PKK/ وثمة محاولة قديمة وربما جديدة لكسب موقف تركي متفهم….
والحق إن ذلك كله مفهوم تماماً ليس فقط بسبب البراغماتية الواسعة من قبل PKK وهي مشروعة سياسياً بشكل عام وإلى حد كبير بل أن الواقع والمصالح الفعلية للأطراف المذكورة تلتقي بشكل أو بآخر في منطقة مشتركة بينها تسهل إلى أقصى حد سلوك ال/PYD/ وال /YPG/، وهذه المنطقة هي مواجهة داعش، إلا ان البراغماتية المذكورة تصل في بعض الأحيان من قبل PYD إلى شكل خطر من الانتهازية الرخيصة ، وبخاصة عندما تمدّ اليد للسلطة والروس وذلك لأن التحالف مع هذين العدوين للشعب السوري-حتى وإن كانا عدوين لداعش- يجعل من أي طرف متحالف معهما مقامراً على مستقبله ومستقبل البلاد ، بما في ذلك مستقبل الكرد بالطبع، وهنا تكمن المشكلة في انتهازية PYD ، التي تنطلق من أفق ضيق يقوم على الأنا الحزبية وفي أحسن الأحوال على الأنا الكردية القومية. إن تيار مواطنة الذي يتفهم السلوك المذكور تمام التفهم على قاعدة الظلم والقهر والاضطهاد الفادح الذي وقع على الكرد طيلة ما يزيد على القرن الأخير ، يجد من الصعب إن لم نقل من المحال ، قبول ذلك أياً تكن الذرائع والمسوغات المطروحة ، الأمر الذي يستوجب القيام بالمراجعة الضرورية لتعديل السلوك الممارس وبخاصة مع الروس والايرانيين.
وبهذه المناسبة يعيد تيار مواطنة التأكيد على موقفه المبدئي والصريح من حق الشعب الكردي في أجزاء كردستان الأربعة – إيران، العراق، سورية، تركيا- في تقرير مصيره بالشكل الذي يستجيب لهذا الحق كما مارسته كل الشعوب الأخرى في العالم والمنطقة، وطبقاً لما نصت عليه المواثيق الدولية سواء أكان ذلك في نطاق كردستان الكبرى الموحدة أرضاً وشعباً أم في كل جزء على حدة، ام في اتحاد جزء او أكثر مع جزء آخر أم… الخ، وسواء اكان ذلك في الانفصال والاستقلال التام أم في أشكال أخرى ذات حكم ذاتي أو لا مركزي…الخ، وسواءً أيضاً أكان ذلك في نطاق تكتيكي أم استراتيجي، ونحن لا نرى في هذا الطموح الأساسي المتعلق بالحق أي تناقض مع انتماء الكورد السوريين إلى الوطنية السورية ونضالهم في إطارها.
والآن وبعد ذلك نقول: على الرغم من الموقف المبدئي السابق فإن من الضروري أن يأخذ الكرد بعين الاعتبار الجدّي الحازم الوضع الكردي في كردستان سورية بما هو وضع طرفي بامتياز على كل الأصعدة وبما هو وضع يفتقر للاتصال الجغرافي ولذلك فلا غرابة في وجود ثلاثة كانتونات – وبما هو وضع سكاني هامشي تقريباً بالقياس إلى وضع كردستان تركيا وحتى بالقياس إلى كردستان العراق وإيران.
إن تيار مواطنة يعتقد أن كرد سورية يعرفون ذلك جيداً بل يعرفون ما هو أكثر، ولكن الانتهازية تنبع من اعتقادهم -ونقصد PYD – بأن بوسعهم استغلال الظروف الراهنة ودعم التحالف الدولي للوصول إلى تحقيق أمر واقع يصعب التراجع عنه لاحقاً عند استقرار الأوضاع، وعلى الرغم من الكثير من الصواب في هذا الاعتقاد فإنّ مكمن الخطر في تحققه على حساب الشعب السوري وبخاصة بالتحالف مع أعدائه.
ليس هذا فحسب بل ان القوى المذكورة تدرك انه حتى لو تسامح الشعب السوري بكل مكوناته مع الممارسة الكردية فإن الموقف التركي سيكون للمطامح الكردية بالمرصاد، ولأن الحال كذلك فإن أي مغامرة غير محسوبة جيداً لن تكون في صالح الكرد أبداً وهو ما حذرنا منه سابقا ، ان تيار مواطنة يلفت النظر إلى هذه الحقائق على سبيل الواقع العنيد لا على سبيل المماطلة أو التسويف أو التحايل على الحقوق القومية المشروعة للكرد، كما لا يغيّر من هذا الحق الاتهامات الرخيصة التي تسوقها الأوساط الشوفينية الفارسية والتركية والعربية، أو تلك الأشكال من الرفض الصريح أو الخجول أو أي شيء من هذا القبيل.
نبادر هنا إلى القول : أين في غير سورية يمكن لطرف مهما يبرع في السياسة أن يمدّ اليد او ينسق أو يتعاون أو يدعم او يتحالف مع ايران والسلطة وبعض العرب في سوريه وربما حزب الله ومع روسيا ، ومع الجانب الآخر الذي هو التحالف الدولي وبعض مؤيديه، وبكلمة مختصرة مع أعداء الشعب السوري وأصدقائه. إننا نعتقد ان القوى المذكورة يمكن أن تحقق اليوم بعض المكاسب على القاعدة الذهبية – مواجهة داعش- لأنها تواجه داعش بحق وبجدارة عالية، ولذلك يمكن ان تدعم من الجميع، لكننا نحذر في الوقت نفسه من ان هذه المكاسب وبخاصة تلك التي تتم بالتحالف مع أعداء الشعب السوري وعلى حسابه، سيكون لها دور سلبي جداً في المستقبل على طبيعة العلاقة بين العرب والكرد وعلى الكرد انفسهم، وعلى سورية المستقبل مرة أخرى.
إن التعويل على PYD في مواجهة داعش ينطلق من اعتمادهم على ايديولوجية قومية ذات طابع علماني ومناهض للتطرف الاسلامي بشكل عام، ومن واقع ان الدين لم يقدم شيئاً يذكر للكرد في إيران والعراق، وربما تركيا لان حلّ القضية الكردية ليس حلاً دينياً بل هو حل سياسي بامتياز ، قومي ديمقراطي اولاً وأخيراً. .
ولقد كان للتعويل المذكور ما يدعمه، ومع ذلك فإن من الضروري بمكان الاشارة إلى ان ما يعيق ذلك ويضعفه بل ويبهته في عيون الكرد والعرب وسائر المكونات الأخرى – هو تلك الممارسة السياسية الاحتكارية للـ /PYD/ سلطة الحزب الواحد المعروفة سياسياً وأمنياً وعسكرياً واقتصاديا وثقافياً- تلك الممارسة ذات الطابع الشوفيني – على الرغم من أن البرنامج قد لا يكون شوفينياً في الظاهر – ناهيك عن الممارسات الأخرى- حتى لو لم تكن منهجية ونهائية – والتي تقف عائقاً سافراً امام المجموعات الأخرى وأمام مشاركتها الفعالة والتي من بينها بعض أشكال القهر والاضطهاد ذات الطابع الديمغرافي بما في ذلك أشكال الانتقام وبعض التهجير -حتى لوكان قليلاً جداً جداً -وغياب المجالس الشرعية التمثيلية الحقيقية في الاجتماع والسياسة على حد سواء.
توصيات:
- إن تيار مواطنة يحذر من انجرار القوى الكردية الى مزيد من الانخراط في محور ايران-دمشق ودعم الاحتلال الروسي في سوريا مما يوسع الهوة بين الكرد والعرب والمكونات الاخرى في المنطقة ويجعلهم في جزيرة معزولة، الا من محيطها العدائي، وهذا المحيط سيشكل عاجلا ام اجلا الشريك الحقيقي للكرد في اطار سوريا مدنية تعددية ديمقراطية تصون حقوق مكوناتها القومية بما فيهم حقوق الكورد والسريان….الخ.
- يرى تيار المواطنة أن قوات الحماية الشعبية تشكل قوة اساسية لمواجهة تقدم القوى الدينية المتطرفة في المنطقة الكردية والان باتت هذه المنطقة تتمدد على حساب الاسلام الراديكالي المتطرف، من هنا لابد من تفهم تجربة الادارة الذاتية ، رغم استمرار التعاون مع النظام وهو تعاون غير معلن ولكنه غير مستتر في اغلبه، لأنها عززت قدرات الناس المدنية والادارية والامنية.
- ليس لدى كرد سوريا أي مستقبل خارج سوريا المدنية الديمقراطية على الاقل في المدى المنظور بانتفاء خيارات التقسيم والفدرلة،
- يعتقد تيار مواطنة بان السلوك العدائي من قبل المعارضة السورية، وبالأخص بعض اعضاء الائتلاف والهيئة العليا ,تجاه مطالب الكرد السوريين لا يخدم الثورة ولا القضية الوطنية السورية وانما يزيد الاحتقان والعداء وعدم الثقة.
- رغم الموقف المبدئي لتيار مواطنة الواضح والصريح من القضية الكردية الا انه يحاول التذكير الى ضرورة تمثل البعض من اعضائه لقيم وجوهر هذا الموقف المبدئي ، وتطبيقه في اي نقاش او اتفاق او تحالف ،وان يحاول ترويجه وتعزيزه في المجتمع السوري سواء من خلال الممارسة اليومية او من خلال الاعلام، لان ما هو مكتوب شيء وما يجري في الواقع شيء اخر بعيد كل البعد عن جوهر وموقف التيار.
انتهى