إلياس مرقص حيال التصحر والهويات – منير الخطيب
كشفت النكبة السورية، وغيرها من المآسي العالمية، عمق أزمة العالم الراهنة، والتي تتمثل، في أحد مناحيها، في عوز عالمنا المعاصر للإنسانوية أو الإنسية. هذا العوز يستدعي الحديث عن المفكر إلياس مرقص في ذكرى رحيله (26/1/1991)، لأنه رحل مهموماً بمصائر البشرية وقضايا الإنسان، وكان، على الدوام، لا يرى قضايا العرب إلا بمنظار كوني.
عنده، لم تكن الهويّة خصوصية دينية أو قومية أو مذهبية، بل تمثل جوهراً متعالياً فوق قوانين التاريخ. في هذا المعنى هي انحدار إلى علاقة «فخذية» أو «بطنية»، بينما كان يراها رابطة تربط العرب مع الآخر، مع الكون والعالم، مع الإنسان والتاريخ، أفقاً مفتوحاً على اللانهاية، تطلّع إلى مستقبل ممكن وواجب، وليست استحضاراً لأصل سرمدي ميت، لأن «الرقص المسعور حول الذات الميتة لا يجعلها تنبعث من رمادها».
الهويّة، كرابطة في الدم أو العرق أوالدين أو المذهب، استغراق في القطيعية والجماهيرية بصفتهما أساس الاستبداد، وأساس الأصوليات المتطرفة. بينما الهوية المبنية على مبدأ الروح الإنساني، وعلى «أنا المفكرة»، وعلى استقلال الذات عن وصاية الأموات وعن أي وصاية أخرى سوى وصاية العقل والضمير، هي على خط الحرية. الهوية كتجريد ميت لا تنتج إلا فقهاً، سواء كان فقهاً دينياً أو ثورياً أو «علموياً»، في حين أن الفكر الحر الذي يستحق اسمه شقيق الهوية الحية ذات المضمون الإنساني. لذا، كان إلياس مرقص يرفع لواء الفكر في مواجهة الفقه، ويدعو إلى جعل الإنسان حاكماً على كل الأمم، وجعل التاريخ حاكماً على كل التواريخ، ويرفع لواء الكليات – المجردات (إنسان، عمل، مجتمع مدني، دولة، أمة، حرية، شعب، وطن، مواطن…)، في مواجهة نسبيات الهويّات العصبويّة التي لا تستنفد الإنسان كمفهوم كلي.
انحيازه المبدئي والنهائي إلى الروح الإنسانية بصفتها تنتمي إلى دائرة المطلق والكلي وضعه، مبدئياً ونهائياً، على المسار المناقض لكل الشروط التي أنتجها التاريخ، والتي أدت إلى استلاب الإنسان وتقييد حريته، وجعله يرى ترابط تلك الشروط وتعالقها التي فاقمت الوضع العبدي للإنسان. فترابط ثوران الهويات في المجتمعات المتأخرة مع انتشار الأسلحة النووية وتصحر الأرض ونفاد ثرواتها وارتفاع معدلات الفقر واتساع الهوة بين الشمال والجنوب والانفجار الديموغرافي وانتشار الأمراض وظهور أمراض جديدة والحروب المدمرة، بخاصة في منطقتنا… كل هذا «أوصل البشرية إلى أكبر مفترق في تاريخها الطويل، وصلت إلى نهاية، إما أن تكون نهاية تقدم وثورة تأسيس لتقدم آخر، وإما أن تكون نهاية النوع».
كما أن انحيازه إلى المطلق والكلي مكّنه من تحويل مقولتي «الله أكبر» و «جهاد النفس الأمارة بالسـوء» من مقولتين دينيتين إلى مقولتين فلسفيتين. فالذات «المجاهدة» هي الذات التي تجاهد لوضع حد لأوهامها ورغباتها ونزواتها وشططها الأيديولوجي، عبر نقد حقائقها وقناعاتـها في عمليـة يعاد إنتاجها على الدوام. و «الله أكبر» مفهوم وحدٌّ، مفهوم يحد النسبي الذي يتصور نفسه مطلقاً. فـ «من ليــس في روحه وفكره المطلق، يحول نسبيّه إلى مطلق وذلكم هو الاستبداد»، وسمو الله، في نظره، يؤسس سمو القانون. الاهتمام».
لهذا، يضع إلياس مرقص فكرة الله في مصفوفة الفكر والأخلاق والضمير والجمال والحرية والدولة: دولة الحق والقانون، وليس في صف الولي الفقيه وأحزاب الله وخلفاء الله والملثمين الرافعي الرايات السود.
الدين في مجتمعاتنا، يتراجع كوجدان وجوهر روحي، ويتقدم كعصبيات ووثنيات، ويتراجع معه مفهوما المطلق والمجال العام، وتختفي فكرة الكلي لمصلحة الجزئي والعصبوي، وسقوط «الدول» وسقوط «القانون» تعبير جلي عن هذا النكوص.
وما يزيد من حالة التصحر الإنساني «التراجع الأوروبي». فأوروبا الحالية «متأخرة» عن أوروبا في ذروتيها، عصر النهضة وعصر التنوير، والعالم المعاصر المأزوم في أمس الحاجة إلى هاتين الذروتين. وتتأتى خطورة الانكفاء الأميركي والركاكة الأوبامية من ركوبهما حالة الانتكاس العالمية تلك.
نرجو، مع إلياس مرقص، أن تتمكن البشرية من السيطرة على نتائج أعمالها، وتستطيع تقليص استلاب الإنسان الذي أوصلها إلى أكبر مفترق في تاريخها.