الثورة السورية وزيف الواقع
قضيتنا ثقافة مجتمع لا تنحصرالمعضلة الكبرى بالنسبة للثورة السورية في أنها فقط قضية نظام ديكتاتوري فاشي استباح البلاد والعباد، وقمع وقتل وسجن وأذل الجميع فخرجوا ينادون بالحرية والكرامة وإسقاط النظام، بل هي أيضاً مسالة فكر وثقافة مجتمع، ظهرت وتحولت إلى ممارسة عملية على الأرض بعد انحسار النظام عن مناطق شاسعة من أرض الوطن، يطلق عليها للأسف المناطق المحررة، فبتً تشاهد محامياً قد أطلق لحيته وأمسك مسواكه، ونصب نفسه، أو نصبوه، قاضياً شرعياً في محكمة شرعية، معتبراً كل ما كان هو كفر، وأن الحاكمية لله، ويقضي بالردة والحدود، وهونفسه الذي كان يجول في أروقة القصر العدلي ساعياً لتطبيق قوانين جذرها لاتيني غربي، ويؤمن بنظريات كبار المفكرين الحقوقيين وشرعة حقوق الإنسان ،التي قبلها النظام شكلياً وتغول عليها فعلياً . أو ربما تصادف طبيباً درس في أرقى الجامعات الغربية أو أوربا الشرقية، قد أطلق لحيته هو الآخر وارتدى الزي الباكستاني، وكل حديثه هوعن الخلافة الإسلامية وإقامة شرع الله في أرضه. وطبيبة نسائية ترفض علاج مريضة بحجة عدم التزامها بشرع وحدود الله، في حين أن خاتمها الذهبي ظاهر في يدها وتفوح عطورها على الحاضرين، علماً أن عيادتها كانت سابقاً في مساكن الضباط، وكان زوجها ضابطاً منشقاً. عداك عن “صف ضباط” منشقين عن أجهزة المخابرات أصبحوا يسيٍرون أمر الحسبة وغيرها، أو ضابط جيش منشق تجده الآن أميراً ينادي بالجهاد وإقامة شرع الله في بلاد الشام، وقبل شهور كان يمجد القائد الخالد وسورية الأسد. هذه عينة من مثقفين ومتعلمين، ناهيك عن عامة الناس وأشباه الأميين الذين استلموا مقاليد الامور، وبعضهم أوصلته أقدار ثورتنا للاستانة وما بعد الاستانة، واستعرض هناك عضلاته الدينية والخطابية. هذه النماذج والأفكار السائدة، لها من يحابيها ويروٍج لها، نفاقاً أو خوفاً، في قيادات المعارضة، ومن قبل مفكريها ومنظريها وعلى أعلى المستويات، ومن أشخاص يُفترض أنهم يمثلون الثورة أو المعارضة، وأنهم أصحاب مبدأ وفكر حر وخطاب وطني جامع. في المقلب الآخر تجد جل الجمهور يعتبر الجزء” الآخر” من الشعب تكفيرياً، علمانياً، وهابياً، عميلاً لقطر أو لتركيا ويستحق الإعدام، حتى كبار المفكرين اليساريين وغير اليساريين، وبعضهم قد اكتوى بنار اعتقال النظام واضطهاده، تجده قد انحاز لأقصى يمين طائفته وبدأ يتكلم عن الثورة من منظور عدائي، وطائفي مموه غالباً. إن الصور المعروضة أعلاه تظهر الحقيقة المعروفة حول دورالأنظمة الدكتاتورية، والشمولية خاصة، في تسطيح الفكر وتشويهه وإعادته عشرات السنين إلى الوراء، وفي جعل المجتمع مسطحاً وكاذباً ومنافقاً، يعتمد التقية والمواربة في الخطاب والممارسة السياسية، وما إن يصبح هذا المجتمع “حراً” حتى تظهر للعيان قباحاته وبثوره بأبشع صورها وتجلياتها ويرتد إلى قاع يتطلب الخروج منه نضالات وتضحيات جديدة. لا نعتقد أن الاستنتاج المتعلق بأهمية العمق الفكري- الثقافي هو أمر جديد، لكن لا يزال ملحاً وضرورياً وجود فكرأوخطاب وطني سائد ومتفق عليه، يؤمن به أغلب السوريين، ويجد عمقه وصداه لدى قادة ومفكري الثورة، ليؤسس أرضية مشتركة لبناء وطن حر كريم، يقبل أفراده بحقوق بعضهم، ومنها الحق بالاختلاف والتنوع، ويقبلوا بعدم فرض مقدساتهم الدينية أو الدنيوية على الآخرين. إن هذا الفكر وهذا الخطاب يجب أن يشكلا أرضيةً للحل السياسي القادم، بعد أن تصمت، عاجلاً أم آجلاً، قعقعة السلاح، ويعود الناس إلى رشدهم ويقبلون هذا الحل السياسي الذي يجب أن يحاسب المجرمين، دون أن يقصي أحداً، ويكرس حق المواطنة للجميع، بعد الاتفاق على مسلمات ومبادئ وطنيه حقيقية، تترسخ في أذهان الناس تدريجياً، بحيث يصبح بدهياً الاعتراف بالحقوق المشروعة للآخر، والقبول أن الوطن ليس احتكاراً لأحد، إن نشر وترسيخ هذه الثقافة يقع على عاتق العاملين بالشان السياسي والفكري، في جميع الأحزاب والتنظيمات ومنظمات العمل المدني، فقد آن الآوان لحل سياسي يحقن دماء السوريين، حتى لو لم يحقق جميع طموحاتهم.