جنيف4: التوافق على ركاكة المعارضة-عمر قدور
من شبه المؤكد أن جلسات مؤتمر جنيف4 لن تكون أفضل من سابقاتها في جنيف2 وجنيف3، يزيد عليها هذه المرة عدم معرفة التوجه الأميركي، إذا كان ثمة توجه أصلاً لدى إدارة ترامب. المبعوث الدولي ديمستورا قال في مؤتمر ميونيخ للأمن، المنعقد قبل أيام قليلة من انعقاد جنيف، أنه لا يعرف موقف إدارة ترامب من موضوع الانتقال السياسي في سوريا. أما رد المبعوث الأميركي لدى التحالف، في النقاش نفسه، فكان أن إدارته تراجع العملية برمتها، مضيفاً بالحرف: “سنكون في غاية الأنانية في ما يتعلق بحماية مصالحنا والعمل من أجلها”. في تغييب واضح لشعارات إدارة أوباما السابقة، الشعارات التي لم تلتزم بها يوماً.
في هذه الظروف كان من المنطق تأجيل المؤتمر حتى تتبلور رؤية أميركية من الملف السوري، لكن ديمستورا مستعجل على انعقاده، تحت زعم التطورات الإيجابية في مؤتمري أستانة لجهة وقف إطلاق النار. بالطبع يتجاهل هذا الزعم فشل الهدنة كلياً، دون مبادرة أي طرف لإعلان وفاتها، ويتجاهل الهجوم الذي تشنه المقاتلات الروسية على جبهة حوران، بينما لا يتوقف النظام عن قصف أحياء ملاصقة لدمشق خارجة عن سيطرته، وصولاً إلى حي الوعر في حمص. ما يعني ألا مبرر فعلياً لاستعجال ديمستورا سوى اقتناص اللحظة التي تكون فيها المعارضة في أسوأ حالاتها، ويكون فيها الراعي الأميركي بلا رؤية إيجابية بينما الراعي الروسي يحصد نتائج تدخله العسكري.
لا يخرج عن السياق ذاته كون المبعوث الدولي يبني على إرث إدارة أوباما، بخاصة ما انتهت إليه من تخلٍّ عن مجمل الملف السوري لصالح الرؤية الروسية، بحيث آلت إلى القبول ببقاء بشار الأسد في المرحلة الانتقالية وترشحه للرئاسة بعدها. مع المراهنة في الوقت نفسه على عدم وجود تحول في هذا الجانب من قبل إدارة ترامب، إذا كرست الأخيرة جهدها لمحاربة داعش وتقليم النفوذ الإيراني عبر صفقة مع روسيا. ربما هذا ما دفع ديمستورا إلى الضغط على الهيئة العليا للتفاوض كي تقبل بمشاركة منصات أقل جذرية إزاء نظام بشار، بل يعمل بعضها تحت سقف الوصاية الروسية أو وصاية النظام نفسه. فالمطلوب في هذه اللحظة معارضة توقع على اتفاق، أو تقدّم تنازلات كبيرة تمهد له، يتم التنصل فيه من كل أهداف الثورة، وفي مقدمها تنحي قادة الإجرام والإبادة، ومن ثم تكريس حكم هذه الزمرة مرة أخرى. ذلك لا يعني اتهام المبعوث الدولي بصفة شخصية، فهو على الأرجح يراهن على تحول في النظام بطيء جداً، في غياب إرادة دولية تنبئ بالتغيير.
من باب أولى أن موسكو سعت وتسعى إلى أكبر قدر من التهافت والركاكة في خندق المعارضة وفي وفدها المفاوض، وهي من قبل عملت علناً ومن تحت الطاولة على خلق ما يُسمّى بالمنصات، غايتها جعل مسألة المعارضة في غاية الميوعة، ثم استثمار الفوضى للزعم بتساوي الجميع. لم تكن نكتة على هذا الصعيد أن تطالب منصات لا يُعرف لها أي تفويض من قوى منظمة على الأرض، ولا يُعرف لها أي أنصار، بأن تحظى بتمثيل متساوٍ مع الهيئة العليا للتفاوض التي رغم كل المآخذ على أدائها تضم كتلاً أساسية من المعارضة، فضلاً عن تنسيق مع الفصائل التي تقاتل وتسيطر على العديد من المناطق.
الطريف في الأمر أن الهيئة العليا للتفاوض أيضاً لا تبدي اكتراثاً كما في السابق بمؤتمر جنيف، أو لعلها لا تبني عليه أي أمل، فوفدها يفتقر إلى شخصيات ذات خبرة سياسية أو تفاوضية، فيما بدا أن جل اهتمامها منصب على الحفاظ على الحصة الأكبر من التمثيل، وعدم التفريط به تحسباً لجولات لاحقة أفضل. بهذا المعنى ربما تعمدت الهيئة، أو داعموها من خلفها، تشكيل وفد بلا زخم يؤهله لاتخاذ قرارات كبيرة. إذا صح هذا التصور فقد يكون أفضل ما تفعله الهيئة في ظروفها الحالية، لأن وفداً من شخصيات الصف الثاني لا يملك رصيداً يمكنه من إبرام صفقة كبرى تبحث عنها موسكو وديمستورا الآن، ولأن لعبة إشراك منصات موسكو والنظام ستقلل تلقائياً من قيمة المعارضة ككل، ولن يكون للتنازلات المتوقعة من المنصات أي أثر، باستثناء كشف ما هو معروف عن موقعها.
يلوّح البعض بأن “تصلب” المعارضة قد يقلل من المكاسب اللاحقة، طالما أن الوضع الميداني يسير لصالح النظام، ويقيس هذا البعض أحياناً على التجربة الفلسطينية التي مضت من تنازل إلى تنازل. ما يعيب القياس السابق هو عدم رؤية التجربة الفلسطينية ذاتها، فبعد توقيع اتفاقيات أوسلو لم تقصّر الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة في التنصل من مندرجاته، ولم تقصّر في ابتزاز الفلسطينيين والعدوان عليهم، ولم تخفِ مطامعها في قضم الأراضي والحقوق الفلسطينية تباعاً. في الواقع، أمام نظام كنظام بشار فاق الإسرائيليين في وحشيتهم وفظاعتهم، لا فرصة تضيع لحل سياسي، وليس لدى المعارضة ما تخسره مع مرور الوقت.
مهما كان التوافق الحالي على تمييع المعارضة، وإظهارها ركيكة، فالغاية تتهافت عندما يصل التمييع إلى حد لا تعود فيه مقنعة أبداً، الغاية التي تريدها موسكو وأرادتها من قبل إدارة أوباما، أي التوقيع على تسوية مجحفة. مكمن القوة، كان وما يزال، هو في عدم التوقيع على مثل هذه التسوية، حتى إذا كان الثمن انتصارات ميدانية أخرى للنظام. فالأخير لن يكتسب شرعية”وهو على أية حال لم يخسر بعضاً منها” من الخارج فحسب، وستظل شرعيته مفقودة داخلياً طالما لم يحظَ بتسوية تكرسها. أيضاً يعلم النظام وحلفاؤه أنه غير قادر على الوفاء بالتزامات السيطرة على البلد مرة أخرى، ولن يأتي الخارج بلا تسوية تقبلها المعارضة ليساعده على إعادة الإعمار، فلا أمريكا ترامب جاهزة لتقديم مساعدات بينما تهدد بتخفيض مساهمتها في الناتو والمنظمات الدولية، ولا الاتحاد الأوروبي الذي يتعثر بانتشال أحد أعضائه “اليونان”، وربما بموجة يمينية تهدد وجوده، قادر على دعم مشروع مكلف وغير مضمون سياسياً على المدى البعيد.
ذلك لا يعني امتداح ركاكة المعارضة خارج لوحة جنيف4، إذ تبقى قوة المعارضة مطلباً لأجل مشروع وطني مستقبلي ومستدام، مهما بدا هذا المشروع صعب التحقق الآن. استثنائية الثورة لا ينبغي أن تحجب أنها مرحلة في نضال السوريين من أجل التغيير، سبقتها مراحل مختلفة في الكم والنوع، وستليها مراحل أخرى أيضاً. من يرَى هذه اللوحة يدرك استحالة التوقيع على أبد جديد، ويدرك أن السعي الخبيث لجعل المعارضة ركيكة يهدف فقط إلى موازنة ركاكة النظام.
المدن:21/2/2017