عن استراتيجية ترامب للأمن القومي الأمريكي -بكر صدقي
على رغم كل ما قيل عن السياسة الأمريكية المثيرة للجدل في عهد باراك أوباما، فقد كانت، في مستوى الخطاب المعلن على الأقل، وفية لما يسمى بـ»القيم الأمريكية» القائمة على عقيدة ليبرالية في الاقتصاد والسياسة والثقافة والمجتمع. يمكن المجادلة دائماً حول مدى تطابق ذلك الخطاب المعلن والسياسات العملية المتبعة، أو نتائجها الملموسة. ولكن يبقى أن إعلان الوفاء للقيم المذكورة، له آثاره المهمة، مقابل التنكر التام لها على ما يفعل ترامب منذ عرفناه في الميدان العام حين كان مرشحاً للرئاسة، إلى اليوم الذي أعلن فيه استراتيجيته للأمن القومي للسنوات المقبلة، مروراً بالسنة العجفاء التي مرت على توليه.
يبرز في وثيقة «الاستراتيجية» التركيز على المصالح القومية للولايات المتحدة، وما يتفرع من ذلك من عناوين، كتحديد الصين وروسيا كدول «منافسة»، وكوريا الشمالية وإيران كدول «مارقة»، واحتلال «إرهاب الإسلام الراديكالي» رأس قائمة المخاطر على الأمن القومي للولايات المتحدة. لا شيء، بالمقابل، عن دور الولايات المتحدة كقوة عظمى في نشر «الديمقراطية واقتصاد السوق وحماية حقوق الإنسان» أو التعاون الدولي والأسواق المفتوحة، على ما عودتنا الرطانة الليبرالية الأمريكية أيام «نهاية التاريخ» و«الشرق الأوسط الكبير» وما إلى ذلك من يوتيوبيات أمريكية مما طواه الزمان.
لا شك أن سنوات عهدي أوباما قد أسست بشكل سيء جداً لما يجري اليوم. فقد كانت لدى المذكور فرصة تاريخية، تمثلت في موجة ثورات الربيع العربي، أساء إدارتها، فيما يتصل بما كان يمكن للولايات المتحدة أن تفعله وأحجمت عنه. فكان أن أسس لعقيدة أكثر انعزالية تمثلت في شعار «أمريكا أولاً» الذي يرفعه ترامب اليوم.
الواقع أن الإدارات الأمريكية المتعاقبة ترث أوضاعاً ومشكلات معقدة، تضع لها وصفات حلول، هي نفسها حبلى بمشكلات أكثر تعقيداً. فهي وصفات تبسيطية تتعامل مع الدول والمجتمعات والثقافات والحركات الاجتماعية، كما لو كانت إزاء عناصر في مختبر تحاليل يمكن التلاعب بها وتغييرها كيفما اتفق، تحقيقاً للمصالح القومية الأمريكية. على سبيل المثال دعم الإسلام الجهادي في أفغانستان لمحاربة الشيوعية السوفييتية، ثم إعلان الحرب على الإرهاب ودعم الإسلام المعتدل، ثم محاربة هذا الأخير أيضاً، كما نلاحظ في السنوات القليلة السابقة.
ربما يرجع الأمر إلى التداخل الكبير بين مجتمع الأعمال والمؤسسة السياسية الحاكمة، حيث يصعب التمييز بين عقلية السوق الاقتصادية وعقلية الدولة. وإذا كان الأمر نفسه ينطبق على دول كثيرة، كما لو كان «سُنّة السياسة» بالإطلاق، فهذا مما يدعو لقلق عظيم حين يتعلق الأمر بدول عظمى، وأكثر بالدولة العظمى الوحيدة ـ كما هي حال الولايات المتحدة اليوم ـ . والحال أن عقلية ترامب هي صورة شفافة عن هذه الحال، أكثر من أي إدارة سابقة. أي أن الرجل نقل نمط الحكم الأمريكي، لأمريكا والعالم، من المواربة الإيديولوجية إلى العلن. فها هو، على سبيل المثال لا الحصر، يعيد التأكيد على موضوع بناء الجدار العازل على الحدود مع المكسيك، برغم كل ما أثاره من اعتراضات. وها هو يصر على موضوع نقل السفارة إلى القدس، محملاً الولايات المتحدة عبء الفيتو الأحادي ضد مشروع قرار مجلس الأمن بشأن إبطال شرعية القرار بشأن القدس. لا أعرف كيف يمكن أن تستعيد الولايات المتحدة «عظمتها» المزعومة على لسان ترامب، وهي تقف وحيدة في مجلس الأمن ضد إرادة جميع الدول الأعضاء الأربعة عشر؟
أليس، بذلك، يعطي منافستيها المفترضتين في وثيقة الأمن القومي، الصين وروسيا، هامش حركة واسعاً في السياسة الدولية؟ هذا إذا تركنا جانباً الدول المعتبرة حليفة كبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وغيرها. ها هي الوفود الفلسطينية تقصد فرنسا وروسيا والصين للترويج لقرار منظمة التعاون الإسلامي بشأن اعتبار القدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطين، بعدما كانت الولايات المتحدة، منذ مسار أوسلو الشهير في التسعينات، هي الوسيط المفضل الذي كان الفلسطينيون يسعون إلى استمالته، على أمل الحصول على جزء من مطالبهم الوطنية.
مخيفة حقاً هذه الاستراتيجية القومية الأمريكية، إذا كانت أولى تطبيقاتها إنهاء أي أمل لدى الفلسطينيين، حتى لو كان، طوال العقود الماضية مرادفاً للسراب. مخيف أن تتخلى الولايات المتحدة عن دورها القيادي في السياسة الدولية، حتى لو كان ذلك مجرد إدارة أزمة، أكثر من كونه استنبطاً لحلول.
فالسياسة تترك هامشاً للفعل أمام مختلف الفاعلين، وتفتح دروباً لاحتمالات متنوعة، في حين أن نمط مواجهة العالم بقرارات إرادة مستبدة قائمة على القوة وحدها، ولا تأبه لأي مشروعية، هو مولد دائم لانفجارات الغضب التي يمتلئ العالم بأسبابه.
كأننا أمام الشعار الشهير لرأس النظام الكيماوي المعتوه: «الأسد أو لا أحد» الذي واجه به مطالب الشعب في الحرية والكرامة، ولكن على نطاق كوني، وبواسطة الدولة العظمى الوحيدة التي تفترض «عظمتها» هذه أن تلعب دوراً لا يقتصر على «الأمن القومي الاقتصادي» (!) على ما أتحفتنا به وثيقة الأمن القومي، أو محاربة الإرهاب، أو محاباة دولة احتلال عنصرية كإسرائيل، أو إغلاق الحدود والمطارات الأمريكية أمام حركة الناس في عالم يفترض أنه أصبح أكثر انفتاحاً في عصر العولمة.
٭ كاتب سوري
القدس العربي:21/12/2017