ركّز علم الاجتماع الحديث، في توصيفه للنظم السياسية، على الجوانب الطبقية أو السياسية أو الأيديولوجية، في إعطاء اسم وتوصيف للنظم السياسية، فيُقال -مثلًا- عند أخذ الجانب الطبقي لطبيعته إن نظامًا ما هو برجوازي أو إقطاعي أو عبودي… إلخ، ويُقال عند أخذ الجانب السياسي لطبيعته إن نظامًا ما هو نظام ديمقراطي أو ديكتاتوري أو فاشي… إلخ، ويُقال عند أخذ الجانب الأيديولوجي لطبيعته إن نظامًا ما هو ليبرالي شيوعي أو قومي أو ديني… إلخ. وإذا كان هذا صحيحًا، في توصيف النظم التي تقوم في شروط التطور الطبيعي للمجتمع، بما يعني أن الإطار التاريخي لوحدة ووجود وصراع القوى داخل المجتمع يتم ويتكون في إطار علاقات الإنتاج التي تنسج حولها مجمل خيوط ومكونات البنية التحتية للنظام الاجتماعي السياسي، وحيث البناء الفوقي السياسي، كالدولة والسلطة، يأتي كانعكاس طبيعي مُعبّر عما هو موجود من توازنات في الطبقات العميقة للبنية التحتية الاقتصادية، وحيث تكون توازنات قوى المجتمع الطبقية والسياسية والاجتماعية هي المحددة لوجود وحركة وتطور البناء الفوقي، كما المحددة لعلاقة البناء الفوقي، ولا سيما الدولة والسلطة لعلاقتهما بالمجتمع بشكل عام، وعلاقتهما بالمجالات الثلاثة: الاقتصادية والسياسية والأيديولوجية المكونة للبنية الاجتماعية، وحيث يكون هنا للمؤسسات التحتية الاقتصادية والمؤسسات الفوقية السياسية والأيديولوجية الدور الحاسم في بناء ووجود النظام السياسي، وحيث الدولة هنا هي نتاج عقد اجتماعي بين أفراد الطبقة السائدة، في النظم الاجتماعية السياسية الطبيعية العبودية أو الإقطاعية، وبين أفراد كل المجتمع في النظم الطبيعية الرأسمالية، إذا كان كل ذلك صحيحًا في شروط النظم الاجتماعية السياسية الطبيعية، أو لنقلْ في شروط التطور الطبيعي للمجتمع؛ فإن الأمر لا يكون صحيحًا البتة في شروط وجود وصعود نظم الاستبداد المعمم التي هي نظم سياسية استثنائية لنظمٍ اجتماعية استثنائية، تقوم الدولة فيها بوصفها دولة الاستبداد المعمم، وحيث الدولة هنا هي نتاج عقد أيديولوجي ديني -في حالة النظم العبودية والإقطاعية غير الطبيعية، أو وضعي في حالة النظم الرأسمالية، أو ما بعد الرأسمالية غير الطبيعية- بين السلطة/ الدولة والمجتمع في البداية، ثم بعد مسار وصيرورة تصبح الدولة هي نتاج عقد إذعان، بين رأس السلطة/ الدولة والمجتمع برمته، وحيث هنا يصبح الإطار التاريخي لوحدة ووجود وصراع قوى المجتمع قائمًا في إطار كيان الدولة (مؤسساتها وأجهزتها المختلفة الاقتصادية والسياسية والأيديولوجية… إلخ) حيث يتم هنا استبطان نمط الإنتاج، وعلاقات الإنتاج في أحشاء الدولة، أو لنقل في بطانتها الداخلية، وحيث تحدث هنا وتنشأ -بسبب ذلك- علاقة شاذة ومعكوسة، بين البناء الفوقي والبناء التحتي للمجتمع؛ ما يعني علاقة شاذة ومقلوبة في علاقة التأثير والتحديد بين البناءين التحتي والفوقي، حيث تقوم الدولة/ السلطة، في لحظة من تاريخ وجود المجتمع، وتحديدًا في لحظة هيجان وتجييش حاد للمجتمع ضد الطبقة السائدة المالكة للثروة، بابتلاع المجتمع في أحشائها، عبر سطوها على المجالات الثلاثة: الاقتصادي والسياسي الأيديولوجي المكونة للبناء الاجتماعي الكلي، حيث يقع ويقيم ويتواجد كل المجتمع في هذه المجالات.
هنا تتوالد الطبقات الاجتماعية، بوصفها طبقات دولة، كما يُبنى الهرم الاجتماعي الطبقي من خلال الدولة، فالصعود والهبوط على سلم الهرم يصبح من خلال العلاقة مع الدولة/ السلطة، لا من خلال العلاقة بوسائل الإنتاج أو العلاقة بالثروة، أو لنقل يصبح العبور للثروة من خلال العبور من بوابة السلطة/ الدولة. وهنا يكون للفرد القائد المتربع على رأس البناء الفوقي، وفي أعلى هرم الدولة والسلطة الدور الحاسم في بناء النظام السياسي والقواعد التي يرتكز عليها نوع كهذا من النظم السياسية، ففي هذه الشروط من علاقة البناء الفوقي المعكوسة مع البناء التحتي تفتح كل الاحتمالات والإمكانات، لتؤسس الدولة/ السلطة قواعد ارتكاز غير طبقية، أو لنقل تفتح إمكانية أن تؤسس الدولة/ السلطة، إضافة إلى قاعدة ارتكازها الطبقية قواعد ارتكاز إضافية غير طبقية، حيث نجد مثلًا إمكانية الارتكاز على العصبيات القبلية أو الطائفية، أو نجد الارتكاز على المجتمع الريفي على حساب المجتمع المديني (من المدينة)، أو نجد هنا تأثير الخصائص التاريخية والجغرافية والبيئية والمهنية للقاعدة الاجتماعية التي يرتكز عليها النظام السياسي، كما نجد هنا أن للخصائص الشخصية لرأس النظام السياسي مضافًا إليها الخصائص التاريخية للقواعد التي يرتكز عليها، دورًا حاسمًا في تحديد صفة النظام السياسي.
هنا، لا تكون الجوانب الثلاثة: (الطبقي أو السياسي أو الإيديولوجي) كافية لتحديد صفة دقيقة لنوع كهذا من النظم، فهنا علينا أن نضيف جوانب أخرى إلى الجوانب الثلاثة المذكورة، كي تكون قادرة على الإحاطة الكاملة بصفات النظام السياسي، وأعني هنا الجانب المتعلق بالبيئة الاجتماعية الحضارية التي ينتمي إليها نظامٌ ما، كأن نقول -مثلًا- إضافة إلى الأوصاف السابقة: إن نظامًا ما هو نظام مدني أو نظام ريفي أو نظام فلاحي أو رعوي… إلخ، فإذا نظرنا -مثلًا- إلى أغلب نظم الاستبداد المعمم التي عرفها الواقع العربي، في الستينيات من القرن العشرين، إن كانت الناصرية أو البعثية أو مشتقاتها القومية، والتي قيل عنها إنها نظم البرجوازية الصغيرة في دلالة على منبتها وصفتها الطبقية، كما قيل عنها إنها النظم القومية دلالة على الأيديولوجيا التي حكمت وصعدت باسمها، كما قيل عنها إنها النظم الدكتاتورية دلالة على كونها صعدت إلى السلطة عبر الانقلابات العسكرية، وعلى جثة الحياة البرلمانية الديمقراطية، في أكثر من ساحة عربية. وإذا كانت كل هذه الصفات صحيحة في بعض وجوهها، لكنها رغم ذلك لا تحيط بكل صفات هذه النظم؛ فقد كان علينا أن نضيف أنها كانت نُظمًا ريفية، كونها جاءت على حساب وجثة النخب السياسية والطبقية والاجتماعية والثقافية المدنية التي أسست دولة الاستقلال في الواقع العربي الحديث. إن إغفال هذه الصفة -فضلًا عن كونه يُشكّل إغفالًا لجانب من الحقيقة الموضوعية- يُغطي ويخفي المخاطر التي نتجت عن هذا الإقصاء للمدنية، وتقدم وسيادة الصفة الريفية التي عكست ذاتها في الواقع العربي، لا من خلال ترييف المدن العربية فحسب، بل من خلال ترييف السلطة والثقافة والقيم، وكل ما يمت بصلة إلى الحياة العامة لهذه المجتمعات، وبما يعني إقصاء قسم لا يستهان به من المجتمع، بالمعنى الثقافي والاجتماعي والطبقي والسياسي والحضاري.
إن الأخطر من عدم رؤية صفة الريفية في النظم هذه هو عدم رؤية التطور اللاحق للكثير من هذه النظم، حين انتقلت في ارتكازها، بعد سلسلة من الانقلابات والتصفيات في صفوفها من الحالة الريفية -إن صح القول- إلى الحالة الطائفية أو القبلية أو القومجية أو الشوفينية القومية، أي حين انتقلت إلى قاعدة للارتكاز أضيق في تمثيلها قياسًا لعموم المجتمع، وأخطر في وجودها وسيادتها بالمعنى السياسي والوجودي على هوية وتماسك المجتمع، هذا إذا ما أضفنا عدم رؤية –خصوصًا في صفوف اليسار السوفييتي السوقي- تطور صيرورة هذه النظم، وتحولها من نظم برجوازية صغيرة إلى نظمٍ أصبحت، بالمعنى الطبقي، تُشكل الطبقة العليا للدولة الاستبدادية، وحيث تم هنا إعادة بناء الطبقات والهرم الطبقي على أسس لا علاقة لها بكل الاقتصاد السياسي، إن كان الماركسي الكلاسيكي أو حتى السوقي الذي كانت تُروّج له النظريات السوفييتية الرخيصة والسوقية، وهنا من المهم الإشارة والقول إن اليسار الذي غرد خارج السرب السوفييتي لم يُدرك، عندما كان يناقش أزمة ما كان يُسمى “حركة التحرر الوطني” والتي لم يكن فيها شيئًا من التحررية ولا من الوطنية في عالمنا العربي أو في العالم بشكل عام، وحتى هنا فقد كان البحث يتركز بشكل أساس وحاسم على البنية الطبقية والسياسية والأيديولوجية للفصائل التي كانت بقيادة هذه الساحة أو تلك، دون رؤية وإدراك أن أزمة “حركات التحرر الوطني” كانت في أساسها في نموذج الدولة الذي بنته الفصائل التي وصلت إلى السلطة، وتم اقتباسه من المعلف السوفييتي الاستبدادي الستاليني، أي لم تكن تُدرك أن أزمة “حركات التحرر الوطني” بدأت بتلك العلاقة الخاطئة والمدمرة بين الدولة والمجتمع، والقائمة على استبداد الدولة بالمجتمع، وقيام ما نُطلق علية الدولة الاستبدادية المعممة التي يتربع على رأسها نظام استبدادي مُعمم.
إن ارتكاز هذه النظم على الهويات الطائفية أو القبلية أو القومية الشوفينية، يفرض علينا أن نضيف في توصيفنا لهذه النظم -إضافة إلى الصفات السابقة- صفة الطائفية أو القبلية أو الشوفينية، كما ينبغي أن يُضاف إلى كل ذلك الخصائص البيئية والمهنية التي ينتمي إليها، وينحدر منها نظام ما أو تنحدر منه قاعدته الاجتماعية الطائفية أو القبلية، كأن نقول -مثلًا- نظام رعوي أو تجاري… الخ، كما يمكن أن يُضاف إلى ذلك الخصائص الجغرافية التي تنتمي إليها القاعدة الطائفية أو القبلية التي يرتكز عليها النظام، ولا سيّما عندما توضع هذه القاعدة في مواجهة المجتمع، كأن نقول: نظام صحراوي أو نظام حرشي (من الحرش)… إلخ.
إن ما كان خطيرًا، في عملية ارتكاز نظم الاستبداد المعمم في الواقع العربي على الهويات والعصبيات ما قبل الوطنية، لم يكن في بناء هذه العصبيات، ولم يكن في أن هذا الارتكاز قاد إلى تفتيت الهوية الوطنية للمجتمع، أو لنقل قاد إلى إحداث تشققات وتصدعات كبيرة في جسم الهوية الوطنية فحسب، وإنما في عمل بعض هذه النظم، ولا سيما في الحالة السورية على مدار عقود وعقود من عمر حكمها على دحرجة عقل العصبية التي استندت إليها إلى الوراء، وصولًا إلى أقسى المحطات إيلاما في ذاكرتها، وحيث هنا تعيد المخيلة البشرية إنتاج كل صور الحياة في الماضي بدءًا بصور الصراع مع الطبيعة، وصولًا إلى صور الحياة الاقتصادية والمهنية وطعم مرارتها، مرورًا بصور الحياة الروحية والثقافية والسياسية التي عاشتها بشكلها الباطني خوفًا من الآخر، أي هنا تم إنتاج وإعادة إنتاج عقل الجماعات البشرية التي تعيش في الحاضر، وفق سرديات المخيلة عن الماضي، وهو الأمر الذي أنتج جماعات بشرية تعيش حالة فصام وجودي تاريخي حضاري، حيث تعيش حياتها المادية في الملبس والمأكل والمسكن والتنقل بوسائل وأدوات الحاضر، في حين تعيش عقليًا وسياسيًا في زمن الماضي، إنها حالة إنتاج الإنسان الذي يعيش في الغابات والأحراش القديمة، ولكن بلباس وأدوات الحاضر، إنه نوع من السلفية في الحد الحضاري والهوية، إذا صح التعبير، على غرار السلفيات الدينية التي كانت تنشأ في الواقع السوري وتتدحرج بالتوازي والتقابل مع الأولى، وتأخذ طابعًا رعويًا بدويًا بتأثير نظم الاستبداد الرعوية في دول الخليج العربي، أي إن العصبية الطائفية التي استند إليها النظام السوري، على هيئة سلفية في الحد الحضاري والهوية، كانت تنتمي إلى حد حضاري قديم ثقافيًا وسياسيًا -على شكل طائفية سياسية- وتنتمي في الوقت نفسه إلى حد حضاري حديث ماديًا، أي حالة الانتماء إلى زمنين: زمن الحاضر الذي كان ضروريًا للنظام كي يشد عصب هذه الجماعات، ويرتكز عليها في زمن الاستقرار، من خلال إعطائها ومنحها بعض الامتيازات المادية. وزمن الماضي الذي كان ضروريًا للنظام للدفع بهذه الجماعات، كي تدافع عن كرسي الحكم في زمن الأزمة بعقل وثقافة الماضي.
إن تسليط الضوء على هذه الجوانب وكثير غيرها، وعدم الوقوف فقط عند الجوانب الطبقية والسياسية والأيديولوجية، هو ما يجعلنا نفهم الماهية الحقيقية الكلية التي تميز هذا النظام عن ذاك، ولا سيما في اللحظات التي ينساق فيها النظام في لحظات أزمته ومواجهته للمجتمع للكشف عن الطبقات العميقة التي تُكوّنه وتحدد سلوكه السياسي والثقافي والحضاري بشكلة العاري، فكل الأعمال البربرية التي مارستها نظم الاستبداد العربي بحق شعوبها، ليست خارج كون بعضها في العمق نظامًا فلاحيًا أو رعويًا أو حرشيًا أو الكل معًا، حتى يمكن القول إن نظم الاستبداد العربي التي عرفها الواقع العربي، بدءًا من النصف الثاني من القرن العشرين، كانت في وجه من وجوهها نظمًا سلفية من زاوية حدها الحضاري، على غرار السلفيات الدينية التي أنتجت في مقابل هذه النظم وبتأثيرها، كما يمكن القول إن المجتمعات العربية قد تم تدميرها في الوقت المعاصر على يد نوع كهذا من النظم، وإن الخراب الذي لحق بأهم وأغلب الحواضر العربية، في العقود الخمسة الماضية وبلغ ذروته في السنوات القليلة الماضية على شكل دمار كلي وشامل، والذي بدأ بترييف المدن، ومن ثم ترييف وتطييف أو قبلنة (من قبيلة) السلطة والدولة، ذلك الخراب تنتمي أسبابه إلى الجنس نفسه الذي قاد في قرون ماضية إلى خراب أول حاضرة عرفها المجتمع الأوروبي، في انهيار مجد روما في نهاية القرن الخامس الميلادي، على يد القبائل الجرمانية المتوحشة التي أتت من شمال القارة الأوروبية، وتغلغلت شيئًا فشيئًا في جسد الإمبراطورية الرومانية، كما يمكن القول إن تدمير المدن السورية فوق رؤوس ساكنيها لا يمكن تفسيره على أنه دفاع عن مصالح سياسية أو طبقية أو أيديولوجية فحسب، بل ينبغي أن نضيف أنه يكمن خلفه عقلًا سلفيًا قديمًا على هيئة سلفية في الحد الحضاري، تم إنتاجه على مدى عقود وعقود، عقل ينظر إلى المدينة على أنها العدو اللدود، أي عقل من كان يسكن معزولًا في غابات وأحراش الجبال النائية، وينظر إلى المدينة فلا يرى فيها سوى صورة عدوه الذي رسم حدود وجوده من جهة، ويحلم بالسيادة عليها، ولو كانت ركامًا وحطام مدن.
إن دعوة الموالين للنظام السوري إلى تدمير المدن الثائرة في وجهه فوق رؤوس ساكنيها، ليتم من بعدها حراثتها وزراعتها بالبندورة والبطاطا -على حد قولهم- لا يُدلل على عمق عدائهم السياسي للمجتمع الثائر فحسب، بل يُدلل على مجمل الثقافة السلفية الكامنة خلف هذه الدعوة، وحيث يأتي في مقدمة تلك الثقافة العداء الحضاري للمدينة والمدنية، فهذا التدمير قد يكون ضروريًا لإرواء عقدة نقصهم التاريخية تجاه المدينة والمدنية، وقد يكون حاجة تاريخية قديمة ضرورية لإرواء عقدة نقص من سكن معزولًا في الجبال والأحراش تجاه المساحات الواسعة من الأراضي الصالحة للزراعة، ولكن المروية -للأسف- بدم الإخوة الأعداء.