من جنيف السويسرية إلى أنقرة التركية

 

من جنيف السويسرية إلى أنقرة التركية

انتقال المكان من جنيف السويسرية إلى أنقرة التركية، والسنوات الستة الفاصلة بين مؤتمر جنيف 2012 وقمة أنقرة2018،ليسا فقط تغييراً في المكان والزمان، بل هما يحكيان مأساة سورية في العصر الحديث، والتحول من حلم الحرية والكرامة إلى كابوس القتل والاعتقال والإغتصاب والنزوح والهجرة والتهجير، ومن حلم سورية الموحدة إلى واقع سورية مناطق النفوذ.

“جنيف” السويسرية التي كانت تعني المرحلة الإنتقالية، والعدالة الإنتقالية، وإعادة صياغة الكيان السوري الموحد بعيداً عن الإرهاب والتطرف وعن الإستبداد والطائفية، أصبحت “أنقرة” التركية التي تتحدث عن سورية الموحدة في حين يتقاسم الثلاثي المؤتمِر فيها مناطق النفوذ والغربلة الديموغرافية، بحجة مواجهة “الإرهاب”، ذلك المصطلح الذي تم توسيع مجال عمله ليشمل كل من يعارض مصالح  ثلاثي أنقرة، حتى ولو كان مشاركاً في مفاوضات سابقة برعاية الروس رأس الهرم الثلاثي أو لو كان مشمولاً في مناطق خفض التصعيد، أو كان مشهوداً له بمحاربه الإرهاب ومندرجاً ضمن الخطة الدولية الخاصة بهذا الموضوع .

بالنسبة إلى أطراف دولية أخرى كانت سورية مسرحاً للتجارب السياسية، فقد تم فيها تجريب سياسة التدخل المحدود، مع سياسات هي أقرب للإنسحاب أو الإنكفاء، وتم تجريب الدعم المحدود لبعض الفصائل ثم التخلي عنها، أما دور البطولة، الأكثر فعالية وقوة، فكان في المواجهة العسكرية للإرهاب تلك المواجهة التي غدت عند الجميع، بغض النظر عن تبريراتهم السابقة، كلمة السراللازمة لمباشرة الفعل السياسي في الوضع السوري، ورغم وجود قواعد عسكرية أمريكية خاصة و أيضا فرنسية وبريطانية وقوات متعددة الجنسيات، فإن الاستراتيجية السياسية التي توجه هذا الوجود ليست مستقرة، وهي تتراوح بين ضرورة البقاء وضمان التأثير والفعالية، رغم التصريحات المتكررة أن معركة داعش شبه منتهية، وبين ممارسة الضغط على النظام السوري لإجباره على التغيير السياسي، أو يكون لهامهمات أو مضامين أخرى من مثل الحد من النفوذ الإيراني، الذي يزعج خاصة الحليف الإسرائيلي، لكن، و دون حدوث تطورات نوعية أو حتى مرور فترة زمنية ذات قيمة، سرعان ما يصبح الوجود الأمريكي غير ضروري فيصبح الخطاب الجديد، انتهت معركة داعش و”سنترك الآخرين يهتمون بسورية”، ثم من جديد تتفاوت مراكز القرار الأمريكي العسكرية والسياسية في طريقة مقاربتها لضرورة البقاء لفترة أطول وعدم الانسحاب الفوري، بالقول أن الانسحاب قد يسمح بانبعاث الإرهاب من جديد، أو في إبراز موضوع الكلفة الإقتصادية، الذي قد يكون مجرد طريقة لإبتزاز التمويل من دول الخليج.

لكن، والحق يقال، فإن ثلاثي ” انقرة” هو العائلة الأفضل التي تليق برعاية نظام الأسد المنبوذ دولياً، فصورة النظام الإيراني الطائفي الذي فصل شكلا ” ديموقراطيا” للحكم مُسيطرٌعليه بإحكام من قبل أصحاب كبار العمائم، نظام يحاول ادعاء الحداثة لكنه لا يتوانى عن قمع أية معارضة شعبية إصلاحية أو قومية أو سياسية، يطلق الشعارات الإيديولوجية، لكنه يمارس السياسات البراغماتية التي تحاول تأبيد سلطة الملالي. هذه الصورة تناسب تماما النظام الأسدي، الذي لا يمنعه مظهره “العلماني” من ممارسة براغماتية دينية داخلية وطائفية كأدوات مفضلة في ممارسة السيطرة الداخلية، وبالطبع من ممارسة براغماتية سياسية على الصعيد الخارجي ليست العلمانية مرجعيتها في جميع الأحوال.

أما صورة النظام التركي العلماني ذي الطبيعة الإسلامية، الذي اتجه إلى تقنين كل أدوات ومناخات الممارسة الديموقراطية، بما يكرس بقاء واستمرار الحزب الحاكم والزعيم الحاكم، ولا ننسى أن العلاقة التركية السورية شهدت تطوراً سياسياً واقتصادياً ملحوظاً قبل الثورة السورية، فالعلاقة العائلية الحميمة بين أردوغان وبشار الأسد تركت أثاراً سيئة على الفعاليات الصناعية والتجارية السورية في بعض المجالات، فلا مكان لنظرية تآمر النظام التركي على نظام الأسد.

ويجمعُ النظامين التركي والإيراني، مع النظام السوري، العداءُ الشوفيني المفرط للكرد الموجودين في هذه البلدان.

النظام الروسي، الذي يحاول استعادة أمجاد الدولة ” السوفييتية”، يشكل هو الآخر نموذجاً مناسباً للنظام السوري الحالي، أو الذي هو في طور إعادة التأهيل، تلك التي لن تكون بالضرورة ناجحة، فالديموقراطية الروسية تعطي الإنطباع بأنها تماثل الديموقراطيات الغربية، لكنها تمارس كل الألعاب ” الديموقراطية” التي تسمح بشبه تأبيد لحكم الفرد، وبالطبع هي تمارس كل أشكال الإحتيال الإقتصادي والمالي أيضاً بما يسمح باستمرار شكل من أشكال السلطة الاوليغارشية.

أخيراً إن هذه الانظمة، إضافة لتشابهاتها وتماثلاتها مع النظام الأسدي، أوجدت لنفسها نفوذاً حقيقاً في الداخل السوري، كل واحدة بأسلوبها الخاص، فالميليشيات الإيرانية كانت سبَاقة في الوصول  بهدف حماية النظام وبحجة حماية ” المراقد الشيعية”، والروس مارسوا دعمهم غير المباشر حتى 2015 حيث أخذ تدخلهم شكلاً نوعياً حاسماً في تاثيره على  مسار الصراع، بعد إقامة قاعدتي حميميم وطرطوس وربما قواعد أخرى أقل أهمية، وأيضاً يكتسب الوجود الروسي قوة إضافية عند قطاعات سورية كثيرة ربما هي ممتنة للدور الإيراني في حماية النظام، لكنها لن تستطيع قبول دوره الإيديولوجي الذي يعبر عن نفسه في محاولة نشر “التشييع”.أما الأتراك فبقي تدخلهم في الوضع السوري محسوباً لصالح دعم المعارضة على طريقتهم، وكان هذا يعني إدخالا لداعش والنصرة، وعلى الأقل أسلمة بقية الفصائل العسكرية،  لكن تدخلهم الملموس أخذ شكله الأوضح بعد عملية “غصن الزيتون” وبعد دخول عفرين وتوجيه ضربة جديدة للعلاقة العربية-الكردية، المتأزمة أصلاً في سورية.

أمام كل ماسبق لم نعد ننتظر أن يعود “جنيف” ليكون البرنامج المطروح على جدول الأعمال فقد أجبره ” ثلاثي انقرة” على التحول لصالح مخرجات الاستانة وسوتشي وأنقرة وقريباً طهران. جنيف صنعته المنظمة الدولية لكنها لا تستطيع ترجمته واقعياً طالما يمتلك الروس الفيتو المعطل الذي استخدم حتى الآن 11 مرة، أما ما يمكن أن يطرحه ثلاثي أنقرة فهو مصنوع بقوة السلاح ومناطق النفوذ، وطالما لا يوجد منافس له ستكون له الغلبة.

أخيراً و رغم الصورة الكئيبة التي ينطوي عليها العرض أعلاه ،لا نعتقد أن علينا الاستسلام والتخلي عن حلم التغيير في سورية، فإذا انتهت الحرب ضد داعش والتطرف عموماً، وربما ستنتهي كل مظاهر التسلح، يصبح التغيير السياسي مطروحاً وإمكانية استمرار نظام الأسد كنظام مندمج في المجموعة الدولية ليست سهلة خاصة وأن اثنين من داعميه على الأقل، روسيا وايران، يتعرضان لعزلة دولية ولا يمكن أن يعيدا له وحدهما الشرعية الدولية اللازمة، ولا أن يتكفلا بإعادة بناء سورية، ولا بحل مشاكل المرحلة السلمية، بعد أن تنتهي مرحلة تجريب واستخدام السلاح الروسي، وتبقى الرؤية الديموقرطية لسورية، مع وجود روحية منفتحة على حل مشاكل الأقليات القومية على أساس بلد المواطنة لجميع مواطنيه هي الحل الكفيل بقيامة سورية واستعادة دورها الإقليمي والعالمي .

” تيار مواطنة” مكتب الإعلام

07.04.2018

 

Loading

الكاتب admin

admin

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة