اصمتوا…. انه الوطن!
اصمتوا…. انه الوطن!
منذ أكثر من قرن طغى خطاب الوطنية على مضمون كل الأدبيات والمواقف السياسية للجماعات والأفراد في سوريا، بدأ قبل الاستقلال، حينما كان ذلك مبرراً ومفوماً، لكن مضمونه اتخذ منحى آخر مع الاحتلال الإسرائيلي لتصبح فلسطين هي القضية المركزية فيه، إلى درجة أن أصبح الاهتمام بفلسطين المعيار الأساسي للوطنية، وأخذت المعارضةُ تصنف الأنظمة بأنظمة وطنية أو لا وطنية وفقاً لقربها أو ابتعادها عن القضية الفلسطينية، مع تجاهل البعد الاجتماعي والسياسي الداخلي لسلوك وممارسات هذه الأنظمة ومدى اتساقه مع مصلحة ومقتضيات عيش المواطنين. فيما بعد اقترنت الوطنية، فضلاً عن مواجهة اسرائيل، بمواجهة الإمبريالية، وذلك في المرحلة اللاحقة للحرب الباردة، وبشكل خاص مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها الداعم الأساسي لإسرائيل.
إن ترويسة مناهضة الإمبريالية ودعم القضية الفلسطينية، في برامج الأحزاب والحكومات أصبحت أحد أهم معايير الوطنية، ودليلاً حاسماً على صدق الرغبة في إجراء تغيير حقيقي، فكيف يمكن لحركة وطنية أن تدعو إلى التغيير، في حين تتجاهل القضية الفلسطينية !وهل يجوز مثلا لأي حركة وطنية أن تقيم علاقاتها وتحالفاتها السياسية متجاهلة مناهضة الإمبريالية الأمريكية، ومكتفية بالدعوة إلى مناهضة الاستبداد وإلى إقامة الديمقراطية، أو الدعوة إلى انتخابات نزيهة يقرر الشعب فيها مصيره بنفسه؟
اليسار واليمين، الإسلاميون والعلمانيون، السلطة والمعارضة تشاركوا في مفهوم الوطنية هذا، فلم يعد المواطن العادي يميز بين أدبيات الأقطاب المختلفة والمتعارضة أيدولوجيا فيما يتعلق بهذه القضية، حتى عند أولئك الأشد معارضة للنظام كان معيار وطنية النظام، مدى انسجامه وجديته في دعم القضية الفلسطينية ومواجهة إسرائيل، فأصبح النظام السوري، المتحالف مع حزب الله وإيران، وطنياً رغم طغيان القمع وامتلاء المعتقلات، وانتشار الفساد والمحسوبيات، وغياب التنمية الحقيقية، وتراجع الحريات السياسية والعامة إلى حدودها الدنيا، وتم اعتبار المعارضين للنظام خونة ومارقين .
هذا الاستنفار “الوطني” الشعبوي، شكل دعامة أساسية للاستبداد ومصدر شرعيةٍ لمن لا شرعية له، بل إنه غيب مفهوم الشرعية السياسية التي تعني تقويم العلاقة بين السلطة والمجتمع، بينما ارتبطت”سوريا الوطن” باستمرار رأس النظام فغدت “سوريا الاسد”، ورُسِخ في لاوعي السوريين، حتى المعارضين منهم، أن الفشل الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والإنساني مرده أمريكا وإسرائيل والغرب عموماً، وقد شاهدنا طغيان هذا اللاوعي في صورة الأهازيج التي أطلقها السوريون مع انطلاقة انتفاضة الكرامة والحرية “يا بشار ويا جبان يا عميل الأمريكان”.
مناسبة هذا الحديث، بعض الطَفوح التي ظهرت بعد الضربة الأمريكية الفرنسية البريطانية على مواقع النظام السوري، فقد عاد إلى الواجهة مفهوم الوطنية المبتسر، ليس من لدن النظام وحده بل من لدن بعض أطراف “المعارضة”، التي اكتوى بعضها بنار النظام، لتعتبر أن الهجوم هو انتهاك للسيادة الوطنية وأن المستفيد الحقيقي منه هو إسرائيل، وغاب عن ذهن هذه المعارضة أن النظام قتل وشرد نصف سكان سوريا، وأن إسرائيل لا تهم النظام إلا بالقدرالذي يصون حكمه، وأن السيادة السورية التي يتحدثون عنها مزقتها الميليشيات اللبنانية والإيرانية والروسية ولم تعد السيادة تهم حتى النظام نفسه، إلا إذا كان جلوس الجعفري على كرسي سورية في الأمم المتحدة، ليدافع عن هذا النظام، يُعدّ دليلًاً على وجود السيادة الوطنية السورية المزعومة!!
لقد كشفت الانتفاضة السورية عن عورة النظام وتلك المعارضات على حد سواء، فلم يكن للهم الوطني الزائف، بالمعنى الذي ساقته الأنظمة المتعاقبة في سوريا، وخصوصا الناصري والبعثي، لم يكن له حضورٌ يذكر في الانتفاضة السورية، بل كان الهم السياسي والإنساني وربما الاجتماعي، الحرية والكرامة والعدالة، في الواجهة، ولم يكن موضوع الجولان، رغم أهميته الوطنية، حاضراً، ولم تندرج القضية الفلسطينية في صلب المطالبات و”أعراس الوطن”، كما كانت العادة. ولم تستطع الضربات الإسرائيلية للنظام السوري “لم شمل” المعارضة والنظام كما حدث أثناء حصار غزة في عام 2010، ولم تشكل الضربات الأمريكية البريطانية الفرنسية الأخيرة خلخله للشعور الوطني العام إلا لمن جعل الوطنية دينٍاً، استعبد الناس بها، فقد أدرك الناس أن «هذه الوطنية لم تكن سوى خدعة اخترعتها الحكومة لكي يحارب الجنود مجانا”، على حد تعبير غبراييل ماركيز.
لا شك أن الوطنية التي تخضع للمعيار السابق هي وطنية كاذبة، فالوطنية والسيادة ليس لهما معنىً بدون وجود المواطن الفرد الحر الكريم المتساوي. تكثفت الوطنية الزائفة باستمرار رأس النظام الاستبدادي، في حين أن الوطنية التي يريدها السوريون تكثفت بالشعار الذي أطلقه المنتفضون في 2011 “سوريا بدها حرية”.
“تيار مواطنة”
21.04.2018