ثقافة التعفيش من بعبدا إلى مخيم اليرموك

 

ثقافة التعفيش من بعبدا إلى مخيم اليرموك

ترافق دخول الجيش السوري لبنان عام1976 مع حالة هستيرية من السرقة والنهب، تعرضت لها منازل اللبنانيين ولاسيما مدن ” بعبدا، الحدث، وعين الرمانة “. ولا يوجد سوري واحد يستطيع نكران ما فعله هذا الجيش بممتلكات الشعب اللبناني العينية والمادية، وحتى المراحيض “الإفرنجية” لم تسلم حينها من الإقتلاع والترحيل، وامتلأت جيوب الضباط بالأموال المنهوبة وفرشت منازلهم وقصورهم بأثاث “الغنائم اللبنانية” .
وفي عام 2011، ومع بدء اقتحام الجيش السوري للمدن السورية لقمع الحراك الثوري، كان ثمة مليشيات رديفة لجيش النظام، إضافة إلى عساكره، مختصة بما أسماه السوريون “التعفيش”، اقتصرت هذه المرة على سرقة ممتلكات السوريين الذين اضطروا لمغادرة منازلهم هرباً من القتل أو الإعتقال، وغالباً ما كان الثمين منها يذهب لضباط النظام وعناصر مخابراته، بينما يباع الباقي في الأحياء أو المدن الأخرى، لم يكن”التعفيش” مجرد طيش أو نزوة مقاتلين أجلاف متمردين على “عقيدتهم العسكرية”، بل كان فعلاً متعمداً يجري تشجيعه بشكل مقصود من قبل القادة، ومن ناحية ثانية شكل المصدر الأول لدخل هؤلاء العناصر وللذين انخرطوا في كتائب الدفاع مقابل “المهمة الرسمية”، مما ساعد في مراكمة مداخيل هامة لهم مقارنة برواتبهم الهزيلة.

لقد كان لإطلاق مسميات طائفية على أسواق التعفيش” ك “سوق السنة” في حمص وطرطوس دور كبيرفي تكريس الشرخ الطائفي بين السوريين، وكان  ذلك أحد أساليب النظام بهف دفع أبناء المجتمع السوري للتمترس خلف الطائفة. ومع بدء تسليح الثورة وظهور الكتائب العسكرية المتعددة الهويات، مارست هذه الكتائب “التعفيش” أيضاً، الذي استهدف الملكيات الخاصة ومنازل المواطنين، ولكنه غالباً ما استهدف ممتلكات الدولة ومؤسساتها، فلم يكن لدى هؤلاء الأفراد القدرة على الفصل بين ما يسمى السلطة أو النظام وبين مؤسسات الدولة، التي يفترض أنها ملك للشعب، بحيث يضعون الملكيات العامة تحت تصرف أشخاص مسؤولين يمكن محاسبتهم، وبالطبع يعود ذلك السلوك إلى الثقافة السائدة، التي كرسها النظام خلال سني سيطرته المديدة من عصر الأب إلى عصر الإبن، فالسوري لم يشعر يوماً بأن هذه المؤسسات له، بل هي تحت تصرف الأجهزة الأمنية والسياسية التي تسثمرها لصالح مجموعات من اللصوص والفاسدين، و”الشاطر” هو من يقضم قطعة منها بأي وسيلة كانت.

لقد كانت جميع المؤسسات في سورية، حتى الإقتصادية منها، خاضعة بشكل مباشر للسيطرة الأمنية، وعلى مدى أربعين عاماً كانت مكاناً لإذلال ونهب السوريين ومرتعاً للفساد والرشوة والمحسوبيات. المواطن الذي كان يدخل إلى هذه المؤسسات لم تحترم يوماً كرامته ومن هنا نفهم ردود الفعل الإنتقامية تجاهها. وفي الجانب الآخر كان بيع هذه الممتلكات أيضا يساهم في تمويل بعض الفصائل التي أغلب عناصرها المقاتلين الشباب هم من فئات مهمشة، فلا أحد ينسى معامل حلب التي فككت وتم بيعها في أسواق الخردة، أو تم نقلها وبيعها في الأسواق التركية.

وبعد سبع سنوات من الدمار، مازالت سياسية “التعفيش والتشويل مستمرة” فما الغاية من فك سكة حديد عفرين وبيعها خردة في السوق السوداء غير التخريب والمنفعة الشخصية؟ هذا العمل المخزي قامت به الفصائل العسكرية الموجودة هناك. كما أن المشهد الأخيرالذي انتشر كثيراً على صفحات التواصل الإجتماعي لعناصر النظام وهم يقومون بسرقة ممتلكات أبناء مخيم اليرموك يشكل فضيحة إضافية لجيش يدعي أنه جيش نظامي وليس فصيلاً أو عصابة من المارقين.

هذه المنظومة الأخلاقية التي تبيح نهب أملاك وأرزاق الآخر، عندما يكون خصماً سياسياً أو عسكرياً هي نكوص إلى مفاهيم القرون الوسطى، وقد مارسها نظام الأسدين ضد المعتقلين السياسيين في كل مراحل حكمه، ومارسها في الثمانينات، أثناء مواجهة “الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين” في حماة خاصة أثناء اقتحام المدينة، أما التطور النوعي لهذه السياسة فكان بعد ثورة 2011،  حين أطلق يد مرتزقته في المدن السورية وسمح لهؤلاء المرتزقة ببيع المسروقات في المدن الأخرى تحت مسميات طائفية ومناطقية.

يشكل تشجيع وتعميم سياسة “التعفيش” جزءاً من الإفساد المتعمد لمنظومة القيم الموجودة لدى الشعب السوري، والذي كان عنده الفساد الإداري والإقتصادي والقضائي في حدوده الطبيعية، لكن نظام الأسدين، مثله مثل كل نظام سلطوي استبدادي، كان هدفه ولا يزال إبعاد الناس عن الفعل السياسي المعارض عبر إفقارهم ونهبهم من جهة، ودفعهم لكل أشكال فساد القيم الأخلاقية من جهة ثانية، ولم تتوفر للثورة السورية الفرصة الكافية لخلق منظومة أخلاقية بديلة تنافس المنظومة المفروضة، رغم ما تميزت به بداياتها السلمية من استعداد لتميز أخلاقي وإنساني سرعان ما تم القضاء عليه.

إن التعفيش عندما يأتي من منظمات أو فصائل أو أفراد ليسوا محسوبين على النظام، هوالأقل أهمية لأنه سينتهي بنهاية هؤلاء، لكن الخطورة في أن يأتي بإسم المحسوبين على النظام، الذي لا يزال يحظى بشرعية دولية. وإذا كان “التعفيش” سلوكاً لا يتجرأُ النظام على تبنيه رسمياً، رغم معرفة الجميع بمسؤوليته عنه، فإن الأكثر خطورة منه هو التعفيش “القانوني” الذي عبر عنه النظام بإصدار القانون رقم/10/، المشابه لقانون أموال الغائبين الإسرائيلي، والذي أدانته الكثير من المنظمات الحقوقية والجهات الدولية.

إن مواجهة “التعفيش” ليست ممكنة بالدعوات الأخلاقية بعدم شراء المسروقات، وهي دعوة نادراً ما سمعناها خلال هذه السنوات، بل بالعودة إلى تأسيس دولة القضاء المستقل، دولة القانون، دولة المواطنة التي ستعيد الحقوق إلى أصحابها، وتعيد الإعتبار لمنظومة أخلاقية مرجعيتها الإنسان والمواطن.

“تيار مواطنة”

26.05.2018

 

Loading

الكاتب admin

admin

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة