تقييم وآفاق الانتفاضة السورية حتى شهرها الخامس 28/7/2011

لقد حان الوقت بعد مرور كلّ هذا الزمن على الانتفاضة لتقييم ما يجري، وتحديد ما يجب أو يمكن على الأقل أن يكون، ولاستشراف المستقبل، بحيث يكون هذا العرض استكمالاً فكرياً وسياسياً للعهد الوطني الجديد والبيان التأسيسي الأول والمفردات التي شكلت بداية هويتنا، إذن فلنبدأ.

أولاً: لا يفوت الفاعل أو المراقب السياسي أن يلاحظ الانتشار الأفقي الواسع للانتفاضة التي عمّت، وهي في طريقها لأن تعمّ مناطق جديدة من الوطن، كما لا يفوتهما العمق العمودي لها، بخاصة وصولها إلى شعاري رحيل الرئاسة وإسقاط النظام.. في السياق نفسه تنبغي الإشارة إلى تراجع العفوية القديمة والتشتت لصالح تقدم نسبي على صعيد وجود نوى قيادية محلية جنباً إلى جنب مع تراجع الطابع اللامركزي لها وحضور درجة ملموسة من التنسيق والتناغم بين أطرافها ومكوناتها ومناطقها، وهي بهذين المعنيين في طريقها إلى التحول نحو الحضور على الصعيد الوطني العام.

كما برزت إلى العيان محاولات متكررة- وإن تكن محدودة- لاستطلاع وتجريب أشكال نضال جديدة، قد يكون من أهمها مسألة الإضراب الجزئي أو العام، مثلها في ذلك مثل العصيان المدني السلمي الذي يعدّ من أرقى الأشكال على الرغم من أن الوقت مبكر عليه اليوم.

وإذا كان من الصحيح أن الانتفاضة الشعبية قد استمرت في بحثها السلمي واللا طائفي ضاربة عرض الحائط بكل الدعوات الهوجاء فإن النظام استطاع- عبر تجييشه الإعلامي الكاذب والمسعور، وعبر قمعه السلطوي الوحشي- استدراج بعض نافذي الصبر، أفراداً أو فئات، في بعض المناطق وفي بعض الأحيان، إلى ردّ فعل عنيف يقوم على قاعدة الدفاع عن النفس والكرامات والبيوت.. الخ ومع ذلك، وكما يُقال في الحكمة القديمة: يجب ألا تحجب بضع شجرات الغابة الحقيقية.

ومن الملاحظ أن ردود الفعل السابقة تداخلت في بعض المناطق مع الانجرار إلى ممارسات ذات بعد طائفي لعب فيه تحريض النظام الكاذب وقمعه الوحشي أيضاً دور المايسترو بامتياز، وهو الأمر الذي رفد بالمخاوف الحقيقية أو الوهمية التي تأخذ حيزاً من الوجدان الجمعي التاريخي لبعض الطوائف، مثلها في ذلك مثل الذكريات المريرة البعيدة أو القريبة في التاريخ والتي تؤثر إلى حدّ ملموس في المواقف المتخذة من الحاضر والمستقبل، بحيث يصبح الحديث عن كتلة صامتة مجازاً يخفي وراءه ما هو أسوأ.

نعم إن هناك كتلة صامتة- وهي موجودة في كلّ زمان ومكان- ولكن هناك أيضاً كتلة رافضة، بل معادية للانتفاضة يصمّ ضجيجها الآذان، الأمر الذي يوجب الاعتراف بالتنوع في المواقف داخل ما يسمى كتلة صامتة.. تنوع يبدأ من تلك المدينة- بخاصة في دمشق وحلب- التي تتسم بالشك والحذر والخوف من المجهول والفوضى والبديل والانتهازية الانتظارية  مروراً بكل أنواع الحياد الملتبس وصولاً إلى الرفض والعدوانية القائمين على الخوف المرضي اللاعقلاني من الانتفاضة والمستقبل، وهو الأمر الذي ظهرت عليه بعض المؤشرات- ليس النظرية بل العملية أيضاً- في حمص مثلاً، وقد تظهر في بعض المناطق الأخرى المشابهة، وإذا كان ما سبق محدوداً بحق، وإذا استطاع العقلاء من كل الشعب مواجهته وإطفاءه وصون الوحدة الوطنية فإنّ إبعاد الشبح الطائفي نهائياً بحاجة إلى المزيد من الوعي والجهد والحكمة والمسؤولية وهي لحسن الحظّ لا تنقص شعبنا السوري.

إن الإشارة إلى التكامل بين البعدين السلمي واللاطائفي ضروري جداً لأن النقيض العنفي والطائفي متكامل أيضاً والمسؤولية الأولى والأخيرة فيه تقع على عاتق النظام وقمعه وإعلامه التحريضي الرخيص، ولا يغير كثيراً في هذه المسؤولية إلقاء بعضها على عاتق بعض الأفراد والفئات في الانتفاضة وخصومها على حدّ سواء.

إنّ ما هو إيجابي جداً في هذا الصدد هو استمرار التحرك السلمي والوطني الوحدوي، والالتزام الصارم به وبنبذ العسكرة والطائفية جنباً إلى جنب إلى جنب مع الإصرار الواضح على الاستمرار حتى النهاية وحتى تحقيق الأهداف الأساسية مهما يكن الثمن والزمن.

ثانياً:على صعيد النظام لا داعي لتكرار ما هو معروف عن خياراته وأساليبه ومناوراته… الخ بل تقتضي الحاجة القول: إنه بعد كل شيء لم يترنح بعد، ولم توشك سفينته على الغرق بل أنه لم يتخلخل داخلياً بما فيه الكفاية كما أنه لم يقدم أي إصلاح يستحق أسمه لأنه الأعرف بأن ذلك يعني بداية النهاية وهو الأمر الذي يرفضه بشكل قاطع، وهل كل إصلاحٍ إصلاحً شكلياً وعاجزاً عن أن يطول أسس النظام وآلية اشتغاله وتمفصل القوى المهيمنة فيه والتي هي أصل وجوده واستمراره ولا معنى يذكر ـ والحال هذه ـ لبعض الإجراءات التي قام بها بعد طول مماطلة وتسويف أو تلك التي ينوي القيام بها ـ بدءاً من رفع حالة الطوارئ وانتهاءً بقانون الأحزاب ـ لأن القاصي والداني يعرفان ما يجري حقيقة على الأرض وفي المعتقلات وفي المؤسسات وعلى كل الصعد.

إن المشكلة في الأصل ليست في قوانين الأحزاب والانتخابات والإعلام، على أهمية كل ذلك، بل في أجهزة القوة والأمن والإكراه والاحتكار القائم على الأرض وفي الدستور، والتي لا يكون الإصلاح الحقيقي إلا بتفكيكها وإلغائها وإعادة هيكلتها على أسس جديدة كلياً بما يتفق مع الصيرورة الديمقراطية والوطنية العامة.

في السياق نفسه لا معنى كبير اليوم للحديث عن خلافات داخل الدائرة الضيقة ـ صانعة القرار وسيدة الموقف ـ ولا بينها وبين دوائر السلطة التالية لها لأن المعول عليه في الخلاف هو بروز مراكز قوى متصارعة ذات برامج مختلفة أو متباينة على الأقل فيما يتعلق بالأزمة الراهنة، وسبيل الخروج منها، إن الخلاف الذي يعبر عن نفسه كما سبق وفي العلن هو الذي يمكن الدخول عليه والتأثير فيه والتعويل على نتائجه وهو ما لا نراه في الأفق بعد، وفي ما عدا ذلك لسنا بحاجة إلى الضرب بالرمل لمعرفة ما إذا كانت هنالك اتجاهات أو اجتهادات بل وحتى تيارات داخل السلطة لأنها قد تكون موجودة بالفعل، ولكنها لا تملك من القرار حتى ذيله.

وحتى ذلك الوقت المتعلق بنشوء مراكز أو مركز قوى حقيقي للإصلاح فإن النظام ماض في الإستراتيجية الأمنية ـ العسكرية والإعلامية التي أسس لها ومارسها منذ الأيام الأولى، وقد يقول بعضهم: بل قبل ذلك، هذه الإستراتيجية المنفذة فعلاً بغض النظر عن بعض الأقوال هنا وهناك مع بعض الديكور الإصلاحي الضروري بوصفه جزءاً من عدة العمل.

نكرر القول: ما لم ينقسم النظام من داخله أو يفقد توازنه بوصفه كلاً فإن كل حوار معه عبث وبراءة ذمة كي لا يقال: هل هناك عاقل يقف ضد الحوار؟ هذا العبث وبراءة الذمة تلك لا تحتاج إليهما الانتفاضة الشعبية ولا الحركة الوطنية التقليدية والمستجدة، وهو قول حق من حيث المبدأ يراد به الباطل في الساحة السورية اليوم في ظل الظروف السلطوية المعروفة.

إن الحوار يمكن ويبدأ فقط عند وجود سلطة مركزية تعمل في سبيل الإصلاح قولاً وفعلاً أو في ظل انقسام سلطوي يبرز مركز قوة حقيقي راغب وقادر على الإصلاح عبر إنهاء الحل الأمني ـ العسكري وفتح الطريق بأسرع ما يمكن أمام الحل السياسي ومقوماته التي أصبحت أشهر من نار على علم، والتي من أهمها القبول، من قبل السلطة أو بعضها، بالحقيقية المرة وتجرع السم الشجاع والحكيم المتفرع عنها، حقيقة كون الإصلاح في نهاية المطاف هو ذاته الحل السلمي التدرجي لإنهاء الاستبداد والنظام والسلطة القائمة عبر جدول زمني واضح، وفي هذه الحال سيكون الحوار مدخلاً أو شكلاً من أشكال التفاوض حول أنجع السبل للانتقال الأمن وحول الضمانات الكفيلة بذلك.

ثالثاً: فيما يتعلق بالحركة الوطنية التقليدية أو المستجدة فإن دعمها للانتفاضة بدون حدود ـ وهو ما تفعله ـ هو بوصلة حركتها السياسية لأنها بذلك تتجنب كل ما من شأنه أن يشوش عليها أو يحبطها أو…الخ إلا أن هذا الموقف يجب ألا يصل إلى حد اعتبار الانتفاضة شأن طهرانياً يمنع الاقتراب منه، وهو ما يظهر أحياناً وبخاصة عند بعض الحركة المذكورة، إن مثل هكذا موقف ليس له سند تاريخي أو واقعي.

إنّ ترجمة أهداف الانتفاضة إلى لغة سياسية ـ إلى برنامج سياسي ـ إلى مخارج عملية أمر بالغ الضرورة في الوضع السوري الخاص وبالتحديد بسبب ما يسمى مجازاً “الكتلة الصامتة” وبسبب إحجامها المقيم عن الدخول إلى مسرح التاريخ.

لقد قدمت الانتفاضة الشعارات الوحدوية والطريق السلمي والاستمرارية والتصميم الهادف والدور الآن للحركة الوطنية التقليدية والمستجدة للمطالبة بوحدة سياسية في الميدان على الأقل وإذا تعذرت الوحدة الأداتية بأشكالها المعروفة تاريخياً وبحدها الأدنى سيكون من المفيد ـ بل ربما من الضروري ـ رفد الوحدة المذكورة ببرنامج سياسي مكثف يشكل علامة أولية على طريق الخلاص.

رابعاً: بعض العوامل التي يمكن أن تؤثر على صيرورة الانتفاضة:

أ ـ التغير ـ وإن يكن نسبياً وربما بدأ الآن ـ في موقف بعض الكتل الاجتماعية لصالح الانتفاضة التي يبقى اتساعها واستمرارها وتجذرها الأساس في مجمل الصيرورة، وسيكون هنالك معنى كبير للدور المدني الذي يمكن أن تلعبه المدينتان دمشق وحلب، مثلها في ذلك مثل الطابع الوطني العام الذي يمكن أن تعطيه مشاركة الكتل المتخوفة حتى الآن للانتفاضة.

ب ـ الآثار الأولية للحوار الذي نشأ ـ ويمكن أن ينشأ لاحقاً ـ في المؤتمرات التي عقدت سواءً أكانت معارضة أم غير ذلك، والتي أظهرت الأفاق المحدودة جداً ـ إن لم نقل غير ذلك ـ للحوار حتى اليوم، وهو الأمر الذي يعزز من صواب موقف الانتفاضة، ومع ذلك تبقى لهذه المؤتمرات بما فيها مؤتمر النظام نفسه ـ بل هذا الأخير بخاصة ـ فضيلة استدراج آذان خصوم الانتفاضة لتسمع كلاً أو بعضاً مما تقوله المعارضة والانتفاضة ذاتها.

جـ ـ إمكانية الخلخلة في أوساط المؤسسة السياسية والحزبية والنقابية والعسكرية التي يقوم عليها النظام نتيجة لاستمرار الانتفاضة.

د ـ منحى تطور الوضع العربي وبخاصة في الجامعة العربية، وحسم الوضع في كل من ليبيا واليمن لصالح الشعوب.

هـ –  منحى تطور الوضع الإقليمي وبخاصة الموقف التركي.

و ـ المواقف العالمية ـ الحكومية والمدنية منها ـ بما في ذلك موقف الأمم المتحدة.

ز ـ تطور الوضع الاقتصادي الذي قد يؤثر على مواقف شرائح واسعة من ذوي الدخل المحدود ـ عمال، موظفين، عسكريين، وعلى سائر الطبقات الشعبية الفقيرة ـ بل حتى الطبقات الاجتماعية الأخرى وبخاصة الطبقة الوسطى.

خامساً: المحصلة الراهنة وأفق المستقبل:

أ ـ الأرجح استمرار معركة عض الأصابع بين الانتفاضة والسلطة على قاعدة العجز المتبادل الذي يولد الاستعصاء الراهن، فلا النظام قادر بحدود القوى التي استخدمها والإصلاحات الشكلية التي طرحها أو قد يطرحها على احتواء الشارع، ولا الانتفاضة قادرة بعد لا بالتظاهر السلمي ولا بالإكراه على نقل السلطة السلمي ولا على إسقاط النظام الأمر الذي يؤدي إلى استمرار الاستعصاء المذكور بانتظار تغير موازين القوى، وهو ما قد يدفع بالسلطة في المستقبل القريب إلى معركة كسر عظم مع الشارع ـ نشهد منذ أسبوعين تصاعد القمع واتساعه وهو ما قد يكون مقدمة للقادم ـ معركة ستكون عواقبها كبيرة ولكنها غير واضحة بعد أبداً، مع أن هذه العواقب ستطال كل شيء في سورية، بدءاً من بيت السلطة وانتهاءً بالصيرورة الثورية مروراً بكل العوامل التي ذكرناها أعلاه.

ب ـ في كل الأحوال ستكون العواقب المقبلة مرتبطة بجزء رئيسي منها، بل حاسم، بموقف المؤسسة العسكرية والأمنية، نقصد استجابتها الايجابية أو السلبية للانتفاضة الشعبية بغض النظر عن السيناريو الذي ستتخذه هذه الاستجابة بدءاً من الحياد أو الانقسام السلبي أو الفعلي مروراً بشكل أو أكثر من أشكال الانقلاب الممكنة وصولاً إلى استجابة لا سابق لها ولا نسخة تقاس عليها، لم لا؟ أليست الانتفاضة السورية في بدئها واستمرارها وصمودها إبداعاً لا نسخاً فلماذا، والحال هذه، لا تكون استجابة المؤسسة العسكرية كذلك هي الأخرى.

مواطنة 28/7/2011

 

 

Loading

الكاتب admin

admin

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة