حرية الرأي والتعبير، والعبث الإعلامي
حرية الرأي والتعبير، والعبث الإعلامي
قال مخاطباً زوجته : إسكتي! وقال لابنه: انكتم.. صوتكما يجعلني مشوّش التفكير! لا تنبسا بكلمة، أريد أن أكتب عن حرية التعبير”. هكذا استهزأ الشاعر العراقي أحمد مطر ببعض المثقفين.
نعم، تكاد تكون هذه الممارسة عادية لدى طيف واسع من البشر، رغم كل التشدق والتنظير، حول ضرورة وأهمية حرية الرأي والتعبير واحترام الرأي والرأي المخالف، إنها قضية شائكة وحساسة ومعقدة، وقد شغلت حيزاً مهماً من تفكير الناس ونضالاتهم، بل إنها تعتبر اليوم من أولويات نضالات الإنسان، وتشكل ركيزة هامة في قضية الديمقراطية، وبالرغم من أنها حق أساسي من حقوق الإنسان، لكنها ليست حقاً مطلقاً، فهي تحدد بمجموعة ضوابط وقوانين تتسع أحيانا وتضيق أحيانا أخرى تبعاً لسياسات الدولة و/أو البنية الثقافية للمجتمع المحلي الذي يعيش فيه الفرد (وهذه إشكالية إضافية تتعلق بوعي المجتمع المعني وجملة البنى التي يعتمدها من عادات وتقاليد….الخ.).
في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي هو محصلة صراعات تاريخية ونضالات أجيال عديدة، تؤكد المادة 19 أن “لكلِّ شخص حقُّ التمتُّع بحرِّية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحقُّ حرِّيته في اعتناق الآراء دون مضايقة، وفي التماس الأنباء والأفكار وتلقِّيها ونقلها إلى الآخرين، بأيَّة وسيلة ودونما اعتبار للحدود”.. رغم أن المادة نفسها تنتهي بالقبول بإخضاع هذه الحرية لبعض القيود عند الضرورة عندما يتعلق الأمر بحقوق الآخرين أو لاعتبارات تخص الأمن القومي أو الآداب العامة. ومن الواضح أن دمج الإعلان بين حق حرية الرأي، وهو حق مدني، وبين حق حرية التعبير، وهو حق سياسي مقيّد، لم يأت عن عبث، بل بهدف إعطاء الفرد القدرة والإمكانية على المشاركة في الحياة العامة دون خوف.
نحن هنا لسنا بصدد دراسة تحليلة بقدر ما نرغب في قراءة هذا الحق، في سياق الأزمة السورية والعبث الإعلامي الذي لازمها، وكيفية فهم حرية التعبير وممارسته في واقع تعشش فيه الشمولية والاستبداد، وبوجود تابوهات فرضتها القوة المتحكّمة بالوعي العام والثقافة العامة، حتى أصبحت جزءاً من الثقافة التي عبر عنها أحمد مطر: “أسكتوا أنا وحدي أستطيع التعبير عنها “.
يعلم أغلبنا، بالتأكيد، من هو النظام الأسدي في سورية من الأب إلى الإبن، والنقاش في طبيعة النظام نافل ومضيعة للوقت، لذا نحن نركز نقاشنا هنا على المعارضة، لأنها بطبيعة الحال وجدت في مواجهة القمع والشمولية والاستبداد فكراً وممارسة، وهي التي خرجت من أجل الحرية والكرامة، فمن المؤسف ومن الغباء، على حد سواء، أن تمارس المعارضة او تتبنى شمولية تكاد تقارب شمولية النظام في بعض من جوانبها، وتستغل وسائل الإعلام، التي انتشرت كالفطر في السنوات الأخيرة، لتفرض وعيها وثقافتها الأحادية على الجميع، وهو ما يتعارض مع فكرة النضال التي تبنتها منذ البداية لخلق وطن متعدد.
في التفاصيل الملموسة نجد الكثير من الأمثلة، بدءاً من الشاشة الزرقاء التي يهدد أصحابها بالحذف والبلوك، وليس انتهاءً بتشوية الوعي العام والحقائق اليومية عبر الصحافة المكتوبة والمسموعة والمرئية، وبث وتوزيع مواد فلمية كاذبة، وتنطح بعض جهابذة المعارضة لبث سموم الطائفية والحط من الكرامة الإنسانية، كالمقالة التي نشرها موقع أورينت نيوز: ” الشركس حكاية الغرباء الشقر”، أو مشهد نقل الأجواء الرمضانية من عفرين المتضمن تصوير المُهجرين إليها كأنهم أصحابها، دون أدنى اعتبار لمشاعر أهلها وخصوصيتهم، هو تزوير للواقع بلا شك وانتهاك لحقوق الآخرين، فحرية التعبير لا تسمح بالمس بحقوق الآخر.
وفي السياق نفسه نشاهد بعض المشاهد التي تصور الأطفال أو النساء وهم يتلقون المساعدات، أو يرفعون برقيات الشكر للهيئات أو المؤسسات المانحة، في استغلال بشع لبساطة الناس ولاحتياجاتهم الملحة لأبسط ضروريات الحياة، الأمر الذي يستدعي إلى الذاكرة المشهد المتكرر الذي عممه إعلام النظام سابقاً أو لاحقاً في المدن المهجرة.
وإذا كان يمكن تفهم مشروعية الحرب الإعلامية، فإن التضليل وتشويه الخصم وشيطنته لا مشروعية له على الإطلاق، خاصة عندما يكون في الفضاء العام، فحرية الرأي والتعبير لا تمنح الحق بتأليب الرأي العام ضد الآخرين، اعتماداً على وقائع كاذبة، أو تحريضاً لمشاعر الكراهية أو الخوف من أي نوع كان، فالتهديد، والتحريض على العنصرية، أو إهانة فئة من بني البشر، بسبب انتمائهم القومي أو العرقي أو الديني أو الطائفي، أو تأييد نظام مجرم أو منظمة إرهابية أو التعاطف معهما، كل ذلك يخرج عن إطار حرية الرأي والتعبير بل هو انتهاك صارخ لحرية الآخرين ترفضه كل المواثيق الدولية.
من هنا، فإن السكوت لم يعد ممكناً، ومثلما كنا في مواجهة إعلام الأنظمة الكاذب والديماغوجي، نجد أنفسنا جميعاً في مواجهة موجة الديماغوجية الإعلامية “الثورية”، خاصة أمام تشظي المجتمع وانقساماته العمودية، وأمام حالة انعدام الثقة، والتردي الفظيع في فهم قيم الحرية التي خرج السوريون من أجلها، فأن الاستمرار بهذه العقلية الرافضة لقبول الآخر، وهذا السلوك الأنوي والتحريضي ضد الآخرين، وتشويه الحقائق تحت أي مسمى كان، يشكل تماهياً مع نظام مستبد حكم البلد بالاستبداد من جهة، وبالتضليل الإعلامي من جهة أخرى.
“تيار مواطنة”
03.06.2018