تيار مواطنة :مراجعة سياسية
ستسير هذه المراجعة وفق تسلسل زمني لتطور الحالة السورية في كل فقرة من فقراتها, وتواصل سرد الأحداث كما وقعت, لكن بدون الدخول بتفاصيلها, لذلك يمكن الاطلاع على التفاصيل المرغوبة من خلال الروابط التي اعتمدتها هذه الدراسة, ومن خلال موقع تيار مواطنة على الإنترنت- https://mouatana.org/ – والذي يغطي جميع الأحداث منذ اليوم الأول للانتفاضة السورية وحتى تاريخ كتابة هذه المراجعة, بالإضافة إلى صفحات التيار على الفيس بوك وغيره من مواقع التواصل الاجتماعي.
جدول المحتويات:
رقم الصفحة | العنوان |
1. | تمهيد |
2. | 1- المقدمة |
4. | 2- العرض: |
4. | 2-1- عرض سريع لتطورات الثورة السورية |
5. | 2-2- مراجعة لمواقف تيار مواطنة |
6. | 3- المواقف الدولية: |
6. | 3-1- موقف الدول التي تدعم السلطة- الطغمة |
7. | 3-2- موقف الدول التي تدعم الشعب السوري |
8. | 3-3- مراجعة مواقف المعسكرين |
8. | 4- مواقف الدول الإقليمية: |
8. | 4-1- موقف الدول التي تدعم السلطة- الطغمة |
9. | 4-2- موقف الدول التي تدعم الشعب السوري |
10. | 4-3- مراجعة مواقف المعسكرين |
10. | 5- الوضع الداخلي: |
10. | 5-1- علاقات المعارضة على المستوى الدولي |
11. | 5-2- علاقات المعارضة على المستوى الإقليمي |
12. | 5-3- علاقات المعارضة البينية |
14. | 5-4- علاقة المعارضة والقضية الكردية |
17. | 5-5- الانقسام القومي في سورية |
18. | 5-6- مواقف تيار مواطنة من المعارضة |
19. | 5-7- تقييم لوضع المعارضة |
20. | 5-8- علاقات السلطة مع البيئة الموالية |
21. | 5-9- علاقات السلطة مع البيئة المعارضة |
22. | 5-10- التغييرات الحاصلة داخل النظام بعد سبع سنوات على الثورة |
22. | 6- مآلات وآفاق: |
22. | 6-1- المعارضة وآفاقها |
32. | 6-2- السلطة وآفاقها |
23. | 6-3- الحل العسكري |
24. | 6-4- الحل السياسي |
25. | 6-5- الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي ودورها خلال الثورة السورية |
26. | 7- الخاتمة |
1- المقدمة:
يا سورية الجميلة السعيدة |
كمدفأة في كانون |
يا سورية التعيسة |
كعظمة بين أسنان كلب |
يا سورية القاسية |
كمشرط في يد جرَّاح |
نحن أبناؤك الطيِّبون |
الذين أكلنا خبزك وزيتونك وسياطك |
أبدًا سنقودك إلى الينابيع |
أبدًا سنجفِّف دمك بأصابعنا الخضراء |
ودموعك بشفاهنا اليابسة |
أبدًا سنشقّ أمامك الدروب |
ولن نتركك تضيعين يا سورية |
كأغنية في صحراء. |
- رياض الصالح الحسين –
يمكن وبيسر أن نبدأ من حيث وصلنا, من الوضع العياني والملموس لسورية اليوم, المحتلة والخاضعة لنفوذ عدد كبير من دول الجوار والدول العظمى. سورية التي تشبه العظمة الصلبة التي ترفض أن تتهشم حتى اللحظة بين فكّي “السلطة- الطغمة وحلفائها والمعارضة الإسلامية وحلفائها” التي قادت هذه الانتفاضة إلى مآلها الراهن, فهل البدء من اللحظة الراهنة صحيح ويشكل مدخلاً مشروعاً للحكم على ما آلت إليه الأوضاع بعد سنوات سبع عجاف من الموت والدمار والتهجير؟ هل هكذا بداية تشكل مدخلاً مشروعاً لمراجعة تطورات الحالة السورية, أم أن العودة إلى البدايات دائماً والانطلاق من لحظة وقوع الحدث, لا بل استباقه أحياناً, هو المنطق الأجدر والأسلوب الواقعي للدراسة؟
يمكن القول أن أسلوب المراجعة من البدايات ومن المقدمات هو الأسلوب الأكثر واقعية وأخلاقية أيضاً. ولأن هذا الأسلوب يضع القارئ خطوة فخطوة مع تطورات الحدث فإن استخدامه بتفصيل شديد قد يعني كتابة مجلدات في مراجعة الحالة السورية. لذلك قد يكون من المفيد السير عبر المفاصل الرئيسية والانعطافات المهمة والحاسمة في الانتفاضة, ثم الثورة, ثم الحرب الأهلية بالوكالة وعلى المكشوف. وإذا قلنا مسبقاً أن قلة من المعارضة السورية امتلكت تلك الرؤية والشجاعة لتقول بأن الانتفاضة السورية التي بدأت منذ سبع سنوات ستطول كل تلك المدة وستتعثر خلال عمرها الطويل وفي تحولاتها الدراماتيكية فلأننا سنقدم الوثائق التي تثبت أن البعض قد امتلك رؤية صائبة لتجنب الكثير من الأخطاء الفادحة, وإن كان البكاء على الحليب المسفوح لن يفيد, لكن يجب أن ننبه أن الحليب قد سفح.. فهل من المفيد تكرار القول, أم أننا اليوم مطالبون بقول جديد يناسب المرحلة التي وصلت لها سورية بعد سبع سنوات من عمر الثورة السورية اليتيمة، المخذولة، هائلة الأثر الداخلي والإقليمي والدولي.
قدم تيار مواطنة في تقاريره السابقة الكثير من المراجعات والنقد والتحليلات، وسواءً ثبت صحة بعضها, وهو ما حصل, أم لم يثبت فقد كان التقرير([1]) الصادر عن المؤتمر الخامس لتيار مواطنة، نهاية تشرين ثاني ٢٠١٧، جزءاً مهماً من هذه المراجعة الشاملة لمجريات الأحداث في سورية، التي كانت وماتزال ضرورة ملحة على مستويين؛ يتعلق المستوى الأول بمجريات الأحداث العامة- خارج الفعل السوري المعارض- ويتعلق الثاني بسلوك المعارضة القصدي، أو المدرَك من قبلها كذات فاعلة تسعى وتناضل لدحر السلطة- الطغمة وإقامة نظام ديمقراطي.
ولأن هذه المراجعة- أيّ مراجعة- ستعتمد على التاريخ، أي على أحداث صارت من الماضي، فسيكون القصد منها ليس الماضي بذاته، بل ما يمكن أن نتعلم من هذا الدرس لمعالجة قضايا اليوم كأداة لاستشراف المستقبل.
ومثل كل المراجعات تقريباً، يمكن تقسيم هذه المراجعة إلى ثلاثة أقسام، تبداً بالتدخل الدولي ثم تمر بالتدخل الإقليمي وتنتهي بتفاعل تلك التدخلات في الساحة السورية وردّ المعارضة والسلطة تجاهها، ويبقى القسم الرابع والأخير المتعلق بالمستقبل- الممكنات والآفاق- وما يخبئه للسوريين وما يمكن البناء عليه، لذلك سيكون باعتقادنا الجزء الأهم في هذه المراجعة.
وإن تكن الآفاق والممكنات هي الجزء الأهم في أيّ مراجعة فإنها تبقى عصية عن الإمساك بها، بدقة وموضوعية، بدون العقل البارد والموضوعي والمتفحص عن كثب لما يعتبره هذا العقل الأحداث الأهم والأبرز والأكثر حسماً في الوضع السوري في التعقيدات التي نشأت منذ انطلقت الانتفاضة المتمثلة بالانقسام العمودي وبموقع سورية الجغرافي وبتعقيدات القومية العربية والقضية الوطنية السورية وبوجود إسرائيل وبوجود القضية الكردية والأقليات القومية.. الخ في بحر مضطرب من الأحداث والتفاصيل والجزئيات وهذا الكمّ الهائل من الدعاية السلطوية والدعاية المضادة.
2- العرض:
2-1- عرض سريع لتطورات الثورة السورية
مع انطلاقة الانتفاضة السورية كان لمواطنة، (مجموعة مواطنة) بداية، موقفاً واضحاً تماماً منذ بيانها الأول (18-04-2011)([2]).
ومنذ الأيام الأولى رافقت مواطنة الانتفاضة يوماً بيوم فأصدرت أول تقييم للانتفاضة بعد مرور أربعة أشهر، ويبقى لمن يرغب بقرائتها كاملة العودة إلى الرابط أدناه.([3])
وتأتي الوثيقة السياسية([4]) لتيار مواطنة، لحظة تحوله إلى تيار سياسي، لتحدد الأسس السياسية للانتقال السياسي نحو سورية الجديدة وكيفية إدارة الصراع في مواجهة السلطة- الطغمة:
” كانت انطلاقة الانتفاضة الحدث الذي دعانا إلى اللقاء وتشكيل (مجموعة مواطنة) بوصفها إطاراً فكرياً علمانياً مدنياً بشكل أساسي- وسياسياً بدرجة أقل- ولكن مع تطور الانتفاضة واتساعها وتجذرها بدأ عملنا يتطور، ويطرح علينا مهمات جديدة (دعم الانتفاضة بكل الوسائل الممكنة، والمساهمة في توحيد قوى المعارضة التقليدية والمستجدة في إطار واحد لتبني أهداف الانتفاضة وتمثيلها سياسياً) بالإضافة إلى ضرورة اتخاذ مواقف محددة من الظواهر والمستجدات المتسارعة، وبات من اللازم تحديد هويتنا السياسية بحيث تصبح (مواطنة- بالإضافة إلى ماضيها المدني العلماني- مجموعة من النشطاء السياسيين تسعى إلى إقامة نظام مدني ديمقراطي تعددي على أساس المواطنة المتساوية والحرية والكرامة للجميع.”
وفيما بعد وفي 29 تموز 2011، دخلت الثورة طور العسكرة الاضطرارية حيث بدأ بعض الضباط والجنود الانشقاق عن جيش السلطة الذي تصاعد تدخله الوحشي في مواجهة الاعتصامات والتظاهرات السلمية وشكل هؤلاء المنشقون “الجيش السوري الحرّ” والذي عنى ظهوره في حينه, ووفق الشروط المعطاة, الدفاع عن الحراك الشعبي السلمي وإتاحة المجال لتطوره في مواجهة تغول الآلة العسكرية للسلطة. وقد امتدت المرحلة المهمة في عمل الجيش الحرّ حتى ربيع 2012, فقامت مجموعات كبيرة من الشباب المدني بالالتحاق في صفوفه وبالقتال في المدن والأرياف السورية, واللافت سقوط تلك المدن والأرياف بسهولة نسبية أمام ضربات الجيش الحرّ. ومع توسع المواجهة الشاملة مع السلطة- الطغمة، صار هذا الجيش بحاجة متزايدة للمال والسلاح, وهنا بدأت الولاءات بالظهور لصالح بعض الدول التي سارعت لتقديم هذا الدعم, ولتشترط قطر وتركيا على الفصائل نهجاً سياسياً محدداً وآيديولوجيا إسلامية تطورت لاحقاً إلى آيديولوجيا جهادية. من ثم يمكن ملاحظة ما عنته تلك العسكرة من تحالفات إقليمية للفصائل المسلحة وللممثل السياسي الأبرز في تلك المرحلة “المجلس الوطني- تشرين أول 2011”. وتجدر الملاحظة أن موقف تيار مواطنة([5]) من المجلس الوطني ارتكز على دعامتين، الأولى البرنامج الديمقراطي- الوطني وتوسيع هذا التحالف إما بتوسعة المجلس أو بالعمل مع باقي أطياف المعارضة من أجل رفع سقف مطالبها وتجذيرها كهيئة التنسيق الوطني، والثانية توحيد الفصائل المقاتلة ضد السلطة تحت رأس سياسي واحد يقودها ويوجه عملها ويبتعد بالخطاب السياسي عن الإسلام المتشدد, وصحيح أن تيار مواطنة لم يعب على المجلس الوطني وجهه الإسلامي, على اعتباره إسلام وسطي, بقدر ما عاب عليه وجهه المتشدد والرافض لأي معارضة سورية لا تشبهه ومغازلته لجبهة النصرة واعتبارها بندقية تخدم الثورة، ثم ظهرت النزعة العدمية للمجلس الوطني لاحقاً أثناء صياغة وثائق القاهرة التي شارك فيها تيار مواطنة في تموز 2012 وعرقلته لكل المساعي لتوسعة جبهة المعارضة ووضع وثائق سياسية تبين وجهة الثورة السورية ورؤيتها لسورية ما بعد الأسد، تستطيع إقناع المجتمع الدولي بدعم الثورة ممثلة بالمجلس الوطني والفصائل التي كان من المفترض أن يقودها، لكن لم يتحقق شيء من ذلك. وقد يصح تقييمنا الآن لموقف تيار مواطنة من المجلس الوطني بأنه كان “رخواً” ورغم رؤية التيار لتشدد المجلس وتماديه في رفض الأطراف الأخرى من المعارضة ومن توجهه إلى الموقع الإسلامي المتشدد, رغم كل ذلك كان نقد التيار خجولاً أحياناً, لا بل صمت في حالات أخرى ولم يقدم أي نقد. وفيما بعد، سعت بعض الدول الإقليمية لاستبداله بالائتلاف الوطني- تشرين الثاني 2012 لقوى الثورة والمعارضة السورية، بضغط أمريكي- سعودي- والذي بدا حينها أكثر تمثيلية وأوسع طيفاً وأكثر مرونة تجاه المبادرات الدولية المطروحة في الأمم المتحدة.
ويمكن اعتبار سنة 2012 عام الثورة السورية لما شهده من توسع لسيطرة المعارضة على حساب سيطرة السلطة, حيث خرج أكثر من نصف مساحة سورية من قبضتها. والأهم من ذلك كله فقد شهد هذا العام اعتراف 112 دولة بالائتلاف الوطني كممثل للثورة السورية.
2-2- مراجعة لمواقف تيار مواطنة
طوال عامي 2011 و2012 كانت مطالب تيار مواطنة:
- توحيد المعارضة، وباعتباره مطلباً تعجيزياً, توحيد برامج العمل السياسية والعسكرية والاستراتيجية.
- توحيد فصائل المعارضة المقاتلة تحت قيادة المجلس أولاً ومن ثم تحت قيادة الائتلاف.
- دمقرطة الخطاب الإعلامي، والقطع مع الخطاب المتشدد والطائفي والكاذب.
- تقديم الخطاب الوطني الجامع للأقليات القومية والدينية واعتبار حقوقها جزءاً من الحلّ الوطني- الديموقراطي السوري.
وقد حاجج تيار مواطنة المجلس الوطني من خارجه والائتلاف الوطني لاحقاً من داخله، أن التمويل الإقليمي يجب أن يكون لصالح الثورة السورية في برنامجها الديمقراطي- السوري وليس لصالح ولاءات قاتلة للهوية الوطنية وللديمقراطية وداعمة للبروباغاندا السلطوية حول (إرهاب الثورة وإسلاميتها وبأنها مؤامرة سعودية- قطرية- تركية على سورية), وأيضاً كان الولاء “للأمة الإسلامية ومشروعها” أقوى من كل الدعوات الديمقراطية والوطنية وأعلى صوتاً من منابرها الفقيرة. ولا شك أن أوهام المعارضة السياسية (الإسلامية) حول سرعة سقوط الأسد قد أعمت بصيرتها عن حقائق بينة منذ تشكيل الائتلاف الوطني، وقد وردت هذه الحقائق على ألسنة المسؤولين الغربيين مراراً وخاصة إدارة أوباما, مع التساؤل الدائم عن نظرة أوباما إلى العرب وإلى الإسلام كنظرة غير جيدة وغير منصفة- والبريطانيين والفرنسيين:
- لا دولة إسلامية في سورية.
- عدم المغامرة في المستنقع السوري ولن نقدم جيوشاً فداءً لدولة إسلامية، فما زالت دروس ليبيا والعراق طازجة.
- عدم السماح لإيران بالسيطرة على سورية، لكنها ستمنع المشروع السني أيضاً.
- عدم السماح لروسيا بالسيطرة على كامل سورية، ولن نقاتلها مباشرة.
- عدم السماح لنظام الأسد بالانتصار العسكري على المعارضة.
- الحل السياسي هو الحل الممكن.
- بناء نظام سلمي في علاقاته مع الجوار والعالم, بحيث يحافظ النظام القادم في سورية على المصالح الطبيعية للدول الإقليمية وليس أكثر من ذلك.
ورغم أن هذه الحقائق بيّنة وتدعم الانتقال من سلطة الاستبداد إلى دولة القانون والديمقراطية على غرار الدول الديمقراطية سياسياً، لكنها وللأسف تتعارض مع المشاريع الإقليمية القطرية- التركية وهذا ما كان يتضح ويتعزز في كل محطة حاسمة من المحطات العديدة التي مرت بها الثورة السورية.
فبعد التفاؤل المشروع بقدرة التشكيل الجديد “الائتلاف الوطني” على تجاوز تحجر وعدمية “المجلس الوطني” ظهر جلياً هيمنة التيار المتشدد داخل الائتلاف والذي يعود في معظمه بأصوله إلى كتلة المجلس الوطني. وظهرت من جديد نزعة الولاء الشديد لقطر وتركيا ورفض المبادرات الأممية التي سعت من ورائها الدول الفاعلة في الملف السوري إلى الانتقال السياسي إلى دولة ديمقراطية بدون الأسد، لكن وهم الانتصار العسكري لدى متشددي الائتلاف دفعهم للتحريض ضد مؤتمر جنيف الأول.
قدم تيار مواطنة دفاعاً ممتازاً عن المشاركة الفاعلة والصادقة في جنيف 1-30-6-2012، واعتبر الدعوات العدمية, من قبل بعض أطراف المعارضة, لمقاطعة مخرجات المؤتمر انتحاراً سياسياً وانتصاراً لبروباغاندا النظام حول المعارضة وجمهورها, وقد شكلت في حينها مبادئ عامة مهمة جداً؛ كقبول جميع الأطراف البدء بعملية سياسية ووقف العمليات العسكرية وقصف المناطق السكنية وإطلاق سراح المعتقلين ودخول الصحافة وفتح ممرات إنسانية إلى المناطق المحاصرة وحرية تشكيل التنظيمات وحرية العمل السياسي.. الخ, وقد شكلت هذه المبادئ الست ما سيعرف لاحقاً بالحل السياسي للأزمة السورية رغم الخلاف الحاصل بين التفسير الروسي- الذي يطلب بقاء الأسد- والتفسير الأمريكي- الذي يرفض بقاءه- في تلك المخرجات.
وعندما دعت الولايات المتحدة وروسيا إلى جولة جديدة في حنيف 2 طالبت المعارضة ممثلة بالائتلاف ضمانات بتنحي الأسد عن السلطة للمشاركة في العملية السياسية وبضغط قوي من الدول الغربية والسعودية ومصر وحتى قطر تشكل وفد المعارضة من قبل الائتلاف وهيئة التنسيق للمشاركة في جنيف 2.
لم ينجح المؤتمر وأصرت السلطة على تحويل المؤتمر إلى مكافحة الإرهاب بينما أصر وفد المعارضة على مناقشة مصير الأسد.. وانتهى المؤتمر إلى عدم تنفيذ أي بند منه سوى البند الذي طالب به الروس وأصروا لاحقاً على إدراجه في كل المؤتمرات والتي على ما يبدو قد أقنعت أوباما بضرورتها الملحة مقابل تأجيل مصير الأسد إلى ما بعد الانتهاء من مشكلة الإرهاب. بالمقابل تشبثت المعارضة بفكرة رحيل الأسد ولم تعط الاهتمام اللازم, وطنياً ودبلوماسياً, لموضوع مكافحة الإرهاب وأبقت هذه الورقة بيد السلطة وحليفها الروسي كورقة قوة ومساومة مع الدول الغربية والأمم المتحدة.
في حينه ثمن تيار مواطنة الأداء الجيد لوفد التفاوض في جنيف واعتبر جنيف الأول والثاني انتصاراً سياسياً للثورة السورية يجب أن تسعى بكل إمكانياتها لتنفيذ مقرراته لجهتين:
- تفضيل الحل السياسي ورغم استحالته بدون الهزيمة العسكرية للسلطة أو ضعفها الشديد, وبالتالي الانتقال إلى عهد جديد بدون آلام الانفلات الأمني والانتقام والتدمير. الخ
- فسح المجال لتدخل أممي فاعل وبناء في الفترة الأولى لضمان الانتقال الآمن إلى الدولة الجديدة.
ولأن هذا الحل يشكل عبئاً ثقيلاً على طرفي الصراع الأساسيين (السلطة والمعارضة الإسلامية), ولأول مرة يتفقان قولاً وفعلاً ضد جنيف ومخرجاته, وهذا مفهوم من جهة السلطة لأنه سيطيح بها وبمنظومتها العسكرية والأمنية في نهاية المرحلة الانتقالية, لكن لم يكن مفهوماً أن يعادي جزء مهم من التيار الديمقراطي مخرجات جنيف الأول على أنها لا تطيح بالأسد منذ اللحظة الأولى للعملية السياسية! وطبعاً يبقى مفهوماً معارضة الإسلام السياسي لجنيف على أنه لن يسمح بقيام دولة إسلامية, وهنا يجب الوقوف طويلاً أمام هذه العدمية السياسية والفصام في الشخصية السياسية المعارضة.
3- المواقف الدولية:
3-1- موقف الدول التي تدعم السلطة- الطغمة
لقد استطاعت السلطة – الطغمة تأسيس قواعد العمل الدولي, منذ أرسى قواعدها المؤسس حافظ الأسد, على أرضية الاستفادة من التناقضات الدولية واللعب على عامل الوقت والانتظار مع التعاطي بأعلى درجات المرونة مع الأعداء قبل الأصدقاء والعناد حتى اللحظة الأخيرة والانسحاب بدل المواجهة والممانعة بدل الصدام, لكن تبقى القاعدة الأهم التي كرسها الأسد الأب أن السياسة الدولية هي خادم للسياسة الداخلية وما يمكن تقديمه خارجياً محرم في السياسة الداخلية, وباختصار فإن السلطة تعرف حجمها جيداً في السياسة الدولية وتحسن اللعب بهذه الورقة مقابل سيطرتها المطلقة في الداخل السوري.
انقلب حافظ أسد على رفاقه البعثيين أعضاء قيادة 23 شباط 1966 في 16 تشرين الثاني 1970 وأسس فوراً لمنطق جديد دولياً, وفي خطاباته الأولى أعطى إشارات قوية للغرب وللملكة العربية السعودية بأنه مختلف عن أسلافه البعثيين وهو منفتح على الجميع, وبنفس الوقت أكمل مسيرة التعاون السياسي والعسكري مع مصر السادات وأعاد علاقات سورية مع الأردن وأبدى تفهمه لطردها منظمة التحرير الفلسطينية خارج الأردن, كما نسق مع العربية السعودية وأظهر دور سورية العروبي في مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على لبنان واعتبر التكامل العربي السلاح الأمضى في مواجهة العدو الإسرائيلي, وخاض حرب تشرين الأول 1973 مع شريكه المصري واعتبرها رداً على نكسة حزيران 1967 ثم جمد الوضع على جبهة الجولان منذ اتفاق وقف إطلاق النار مع إسرائيل في 31 أيار 1974 حتى الآن. وخلال كل هذه المرحلة, وضع نظام الأسد العلاقة مع السوفييت في مقدمة أولوياته الدولية عبر “معاهدة الصداقة والتعاون المشترك” 1981 واستمرت حتى انهيار الاتحاد السوفييتي 1991 وبقي نظام الأسد يعتمد على التسليح الروسي حتى قيام الثورة 2011.
قيل الكثير عن الحظ الطيب لحافظ الأسد وعن الرياح المواتية لعهده, ولا شك أن أفضل أيامه كانت عند قيام الحرب الأهلية اللبنانية, حيث كان الجيش السوري الجيش الوحيد المهيأ للتدخل وتحقيق رؤية دولية مناسبة لإسرائيل حينها, وقد أدى نظام الأسد وقتها دوره بأمانة كانت كافية لدعوته إلى تسوية نهائية مع إسرائيل 1978, ترعاها الولايات المتحدة, لكن حافظ الأسد لم تلائمه التسوية المقترحة وبدلاً من ذلك انقلب على حليفه المصري ,أنور السادات, وعلى القوى الانعزالية في لبنان واتجه لتشكيل جبهة الصمود والتصدي عام 1979, في مواجهة التسوية التي تنهي القضية المركزية- فلسطين- وتفرط بالحقوق القومية ..الخ
إذن ليس غريباً أن تحاول جميع الدول الفاعلة في السياسة الدولية بعد الثورة السورية أن تمدّ مجساتها أولاً, ثم مخالبها وأنيابها للعب دور مهم في الشرق الأوسط عبر البوابة السورية المشرعة عبر ثورتها والسلطة الطغمة ومن ثم عبر جيرانها من العرب والأتراك. وقد تجلى الدور الدولي منذ الأشهر الأولى للثورة السورية عبر الاعتراضات الروسية- الصينية المتكررة على أي إدانة لسلطة الأسد, مقابل الدخول عسكرياً عبر قواعد بحرية وجوية تتيح للروس لعب دور سياسي مطلوب بشدة من إدارة بوتين لفرض روسيا كلاعب دولي ينافس الولايات المتحدة في الفعالية والدور في الشرق الأوسط.
قدمت السلطة- الطغمة منذ اليوم الأول للثورة السورية جميع التسهيلات لحليفها الروسي ولم تدخر جهداً في إقناعه بالتدخل بكل قواه لمنع الأطراف الدولية الأخرى التي اعتبرتها متآمرة على النظام, كالولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا.. الخ, من التدخل لصالح قضية الثورة السورية وقد نجحت السلطة بذلك إلى درجة كبيرة, وصحيح أن هذا النجاح لا يعود فقط إلى ما قدمته السلطة بقدر ما يعود إلى توافق ذلك مع رغبة الروس في توسيع المواجهة مع الولايات المتحدة والدول الأوربية الغربية خارج أوكرانيا وشبه جزيرة القرم والقفقاس (أبخازيا وجورجيا وأوسيتيا الجنوبية.)
ويمكن أيضاً تفسير الهجوم الروسي في سورية في رغبة إدارة بوتين فرض الدور الروسي في جميع المناطق التي تعتبرها روسيا مناطق حيوية “للإمبراطورية” الروسية. وقد تكون القواعد البحرية في طرطوس أهم توسع لروسيا خارج مناطق سيطرتها التقليدية, إذ تقدم هذه القواعد جميع عمليات الدعم للأسطول الروسي في المياه الدافئة وفي منطقة البحر المتوسط كمنطقة هامة جداً لجميع الدول الطامحة للعب دور رئيسي على الصعيد الدولي.
يتجلى الموقف الروسي بقوة في المناحي التالية والتي أعطته قوة وتفرداً في الوضع السوري بسبب ضعف الدور الأوربي وبسبب أكثر جوهرية تجلى في استراتيجية الولايات المتحدة اولوية سياسة اوباما في الاهتمام بالملف النووي الايراني طوال مرحلة إدارة باراك أوباما, وصفها البعض بحق بغياب الاستراتيجية في سورية؛ فقد وصل عدد المرات التي استخدمت فيها روسيا “الفيتو” 13 مرة وجميعها لحماية السلطة- الطغمة, كما سيطرت, بالتحالف مع إيران وتركيا على جميع المسارات العسكرية والتسويات والهدن والمصالحات مع الفصائل الإسلامية وخلقت مساراً عسكرياً عبر لقاءات أستانة موازياً لمسار جنيف السياسي, لكن لم تكتفِ بالمسار العسكري بل حاولت إيجاد مسار سياسي بديل لجنيف. دعت من خلال مؤتمر سوتشي نهاية 2017 وبداية 2018 إلى حلّ للأزمة السورية عبر مجموعة كبيرة جداً من الشخصيات, وليس الهيئات, مثلت السلطة والمعارضة وغلب على المؤتمر طابع التهريج, وصحيح أن البيان الختامي لم يكن كما طمح الروس والسلطة, لكن المخرجات بالعموم كانت تمثل فشلاً للمؤتمر الذي شاركت فيه السلطة مكرهة ولم تتشكل اللجنة الدستورية, المخرج الوحيد للمؤتمر حتى بعد مضي أكثر من خمسة أشهر رغم المهلة المحددة لتشكيل اللجنة بثلاثة أشهر. لم ينجح المؤتمر وبقي موضوع فشله أو نجاحه الجزئيان معلقاً على ردود الفعل الدولية والتي طرحت مبادرة سداسية (أمريكية- سعودية- بريطانية- فرنسية- الأردن- ألمانية), أسمتها “اللا ورقة”, تؤكد العودة إلى مسار جنيف ومبادئ الحل السياسي المحددة في القرار 2254 وما قبله من قرارات أممية, ولتقرر إدارة ترامب بعدها قلب ظهر المجن لسياسة أوباما الانسحابية على الأقل لجهة معاقبة السلطة من خارج مجلس الأمن الدولي, بالتشارك مع فرنسا وبريطانيا على أثر قصف مدينة دوما بالغازات السامة.
لم يقتصر الدور الروسي على المسار السياسي بل شاركت القوات المسلحة الروسية بقوة وقلبت موازين القوى لصالح السلطة منذ دخولها المعلن عنه 30-9-2015 , فقصفت جواً جميع مواقع الفصائل المسلحة غير المشمولة ضمن اتفاقات مناطق خفض التصعيد, وبعد انقضاء مؤتمر سوتشي قامت بقصف الغوطة الشرقية بذرائع مختلفة وهجرت جيش الإسلام وفيلق الرحمن وجبهة النصرة إلى الشمال.
3-2- موقف الدول التي تدعم الشعب السوري
هل يصح القول بقوة “إن الثورة السورية وُلدت يتيمة”؟ وهذا تعبير تيار مواطنة في حينه بسبب القمع الشديد وعدم وجود تدخل دولي فاعل خلال المرحلة السلمية للانتفاضة .. واليتم هنا يعني بالضبط أن تجد نفسها وحيدة في مواجهة آلة عسكرية- سياسية متوحشة من قبل السلطة وحلفاءها الدوليين والإقليميين, وإذا كان يصح هذا في المرحلة السلمية للانتفاضة فقد يكون من الإجحاف اعتبار الدعم الكبير بالمال والسلاح, الذي أسس لوجود عدد غير محدد بدقة من الفصائل الإسلامية المعتاشة على هذه المساعدات, أي درجة من اليتم وقد نكون قد مالئنا هذه الفصائل بعدم الحديث عن هذا الدعم الكبير الذي تلقته من رعاتها الإقليميين قطر وتركيا ةالجمعيات الإسلامية في الخليج عموماً وبدرجة أقل السعودية.
بالمقابل لم تحصل المعارضة السورية على الدعم الدولي التي أملت به منذ اليوم الأول للثورة؛ ففشلت جميع المساعي الدبلوماسية في مجلس الأمن الدولي بسبب الفيتو الروسي كما كرست سياسة أوباما الهيمنة الروسية على الأمم المتحدة ومجلس الأمن, وينسحب ذلك على ضعف الموقف الأوربي التابع لموقف الولايات المتحدة.
وعلى أثر الاستخدام المتكرر للفيتو من قبل روسيا والصين دعا الرئيس الفرنسي ساركوزي ووزيرة الخارجية الأمريكية كلينتون إلى تشكيل مجموعة أصدقاء الشعب السوري حيث حضر المؤتمر الأول 70 دولة في العاصمة تونس 24-2-2012 وبدأ العدد بالتراجع بعد عام ولم يبق الآن من تلك المجموعة سوى اسمها واعترافاً بالائتلاف الوطني على أنه يمثل المعارضة السورية.
كانت جميع مقررات المؤتمرات الثلاث التي عقدتها المجموعة تشدد على الحل السياسي وعلى منع تسليح المعارضة خوفاً من وقوع الأسلحة في الأيادي الخطأ (النصرة وداعش لاحقاً) وعلى الضغط الدبلوماسي على السلطة وغيرها من الإجراءات التي لم تقدم ولم تؤخر.
ومما لا شكّ فيه أن انتقال الانتفاضة إلى الطور المسلح قد حتم عليها الاعتماد بشدة على الأطراف الدولية في تأمين الدعم بالمال والسلاح, بالمقابل تركت الدول الديمقراطية المعارضة السورية تستجدي الدعم الخليجي- التركي والذي قاد الثورة في المآل الأخير إلى كارثة تعجز الآن الولايات المتحدة وحلفاؤها عن إيجاد حلول مقنعة لها.
الكارثة تحصل عندما يتراجع الطرف الأقدر على حسم الصراع وتوجيهه في الأوقات المحددة والمنعطفات الهامة عن مهمته ويترك الأطراف الأخرى صاحبة الأجندات الضيقة والرخيصة تتحكم في الوضع وتديره باتجاهات مناقضة أصلاً لأهداف انتفاضة الحرية والكرامة.
ما يهمنا هنا ما يمكن اعتباره الحاجة الماسة لأي ثورة للدعم الدولي, وخاصة في عصر التداخل المطلق للدول ولمصالحها وتأثيراتها المتبادلة, هذا إذا لم تتعرض هذه الثورات لمحاولات الإحباط الدولية وعندها يصبح تعديل التأثير أمراً مطلق الحيوية لنجاح الثورة, أي ثورة!
في الثورة السورية, يظهر أثر التدخل الدولي مضاعفاً وبنفس الاتجاه المضاد للثورة؛ الروس والصينيون ومجموعة دول البريكس تدعم السلطة في مواجهة الثورة, وتمنع مجموعة الدول “الداعمة” للثورة تمويلها وتسليحها المباشر الشفاف- لمن يتم تقديم الدعم والهدف منه وحجمه- ليمر الدعم المالي والسلاح بطريقة انتقائية مدمرة وفق شروط مجحفة بحق الشعب السوري وتضحياته وليكرس الانقسام العمودي الطائفي ويتسبب في انقسامات عمودية داخل صف المعارضة نفسها على أسس إسلامية فوق وطنية أو على أسس عشائرية وقبلية دون وطنية, مما سينعكس بقوة على توجهات الفصائل والواجهات السياسية للثورة.
3-3- مراجعة مواقف المعسكرين
لا بد والحال كذلك من العودة لبدايات الانتفاضة حيث كانت الانتفاضة السورية تملأ الشاشات والصحف ومواقع التواصل الاجتماعي ويقوم روبرت فورد- السفير الأمريكي حينها- بزيارات مهمة لتظاهرة مدينة حماه ولمجلس عزاء في داريا ولمكاتب بعض الساسة المعارضين.. ومن كان متابعاً لتصريحات الساسة الغربيين سيظن حتماً بأنهم من أشد أنصار هذه الانتفاضة ولا شك مطلقاً بدعمها القوي, لكن واقع الحال أن جميع الخطوط الحمر التي وضعها داعمو الثورة كانت خطوطاً على الماء ولم يتقيد أحد منهم بما كان قد رسمه- خط الكيماوي الأحمر لأوباما, وخط حماه الثانية لأردوغان- وظهر أن رواية السلطة التي تبنتها الدول الحليفة للسلطة- الطغمة حول الثورة الإرهابية والقوى الإرهابية والحاضنة الشعبية للإرهاب والمؤامرة الخليجية والمؤامرة التركية.. الخ قد فعلت فعلها في صف داعمي الثورة السورية وانهالت التصريحات والمواقف التي تضغط للوصول إلى صيغة يقبلها الروس لخفض سقف التفاوض إلى الحد الذي تقبله السلطة. في تلك المرحلة كان للدعم الدولي والإقليمي أهمية حاسمة في توجه الثورة, وكما عبرنا في تيار مواطنة في حينه “التوجه نحو السماء” كان سيكون في أقل درجاته أو حتى معدوماً, ولو بقيت قوى المعارضة على الأرض لما شهدنا تصاعد التطرف والتدخلات الإقليمية التخريبية, وبشكل خاص التدخل القطري والتركي وبدرجة أقل التدخل السعودي.
سارت الأمور في الحلقة المفرغة التي تخوف الجميع منها؛ العنف السلطوي المنفلت من أي عقال ولد عنفاً مضاداُ, والعنف المضاد ولد حالات من التطرف وسمح لدخول جهاديي القاعدة إلى سورية, ثم جاء تقاعس المجتمع الدولي ليولد مظلومية سنية متفاقمة, ولتولد هذه المظلومية ثنائية مانوية- الخير المطلق والشر المطلق- تدفع لأشد حالات التطرف, هذا التطرف سيمنع التعاطف الدولي الفاعل ويحرف الدعم والتدخل في مواجهة الإرهاب.. نعم إنها الحلقة التي ولدتها تظافر ثلاث حلقات مجرمة- العنف السلطوي والعنف المضاد وتقاعس المجتمع الدولي- بحق الانتفاضة الأكثر شجاعة في القرن الحادي والعشرين.
4-مواقف الدول الإقليمية:
4-1- موقف الدول التي تدعم السلطة- الطغمة
لا تحتاج هذه المراجعة للوقوف كثيراً أمام الدعم الإيراني وخلفه تقف دولة المالكي في العراق ومن ثم العبادي وحزب الله في لبنان وبعض القوى اللبنانية المحسوبة على السلطة الطغمة- التيار العوني, سليمان فرنجية, القومي السوري- والفصائل الشيعية الأخرى من أفغانستان وباكستان وغيرها, وقد تجلى الدعم منذ اليوم الأول للانتفاضة السورية في التحريض الشديد ضد الانتفاضة وقد تركز على:
- المنتفضون خونة وعملاء لإسرائيل وأمريكا.
- المنتفضون عملاء لقطر وتركيا والسعودية.
- المنتفضون مخربون وإرهابيون.
ومقابل هذه الحرب على السوريين كانت الآلة الإعلامية لهذه الدول تصور السلطة الطغمة كضحية لمكيدة ومؤامرة كونية. وهي, أي السلطة, دولة ممانعة ومواجهة وعادلة ..الخ
وفي الدعم السياسي لم تدخر إيران وسيلة سياسية أو دبلوماسية لم تستخدمها لخدمة حليفها السوري, فبقدر ما أن السلطة بحاجة لدعم إيران, فهي بحاجة هذه السلطة في مشروعها “الإمبراطوري” في المنطقة, وقد كرست خلاله المنطق السياسي الإسلامي الشيعي بوجهه الأمثل. لذلك يمكن اعتبار التدخل الإيراني كواحد من أهم محفزات ظهور وتصاعد التطرف والإرهاب في سورية والمنطقة عموماً, ويبقى في هذا السياق أن نقول لليسار العلماني أن السلطة- الطغمة التي تعتمد على الإسلام الشيعي كمرتكز تعبئة اجتماعية إنما يؤسس لقبر الديمقراطية والعلمانية في المنطقة كلها وإلى أجل غير مسمى, والغريب أن يصاب البعض من العلمانيين واليساريين العرب والكرد بالإسلاموفوبيا السنية ويقبلونها ويتحالفون معها عندما تكون شيعية. فإذا كنا نتفهم هذا التفريق بيين “الجهادية السنيّة” و”الجهادية الشيعية” لدى الغرب حكومات وأحزاب, بسبب النزعة العالمية للجهادية السنية, فإننا نجده بلا مبرر لدى اليسار العربي عموماً والسوري خاصة وخاصة أن نزعة التوسع الإيرانية تستند بقوة على العامل المذهبي الذي يزرع بذور الفرقة ويقضي على أي أمل بقيام دولة المواطنة في دول المنطقة. فنحن لا نتحدث هنا عن جهادية الإسلام الشيعي الموجهة إلى إسرائيل وأمريكا, المقبولة من اليسار العالمي والمحلي وهذا مفهوم, بل عن تدخلها في دول المنطقة من العراق إلى سورية إلى اليمن ولبنان!
وفي المجال العسكري, فمما لا شك فيه أن إيران وحزب الله والميليشيا الشيعية قد قاتلت بضراوة على جميع الجبهات السورية ودفعت الكثير من القتلى والجرحى, وأحرزت مع جيش السلطة الكثير من الانتصارات لبقاء الحلم الإيراني قائماً, لكن التغيرات الدولية قد لا تكون مناسبة لها بل على العكس قاسية, فليس كل من انتصر في معركة عسكرية فاز بالحرب وليست النتائج السياسية المناسبة حتمية للمنتصر عسكرياً.
4-2- موقف الدول التي تدعم الشعب السوري
شكل التدخل التركي في بداية الانتفاضة رافعة معنوية وسياسية مهمة للمنتفضين وخاصة عندما صرح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بأنه لن يسمح بارتكاب مجازر أخرى مثيلة لمجزرة حماه 1982, وأن الأسد مجرم ويجب أن يرحل, كما شكل الدعم السعودي والقطري والخليجي عموماً حافزاً كبيراً للمنتفضين وشعروا بأن وراءهم بحراً من السنة الداعمين لقضيتهم المحقة وخاصة أن الكثير من الجمعيات الخيرية الإسلامية قد بدأت حملات دعم كبيرة لمواجهة حالات الطلب المتزايد على التمويل المتعلق بالطبابة والأغذية والمخيمات ..الخ لكن ومع تحول الانتفاضة إلى ثورة مسلحة بدءاً من تموز العام 2011 بدأت ملامح دعم جديد نوعياً تظهر في الأفق؛ أبرز معالمه دعم بعض التشكيلات الإسلامية والتحريض ضد الجيش الحر- كفار وخونة وعملاء للنظام- وإجبار كل العناصر المنشقة على البقاء في مخيمات على الحدود التركية مالم تقبل بالعمل ضمن الفصائل الإسلامية وأحياناً الفصائل المتشددة, وظهرت عندها طريقة توجيه الدعم, خاصة بغياب الدعم الدولي الملموس, ويمكن إبراز أهم الآثار التي ترتبت على هذا الدعم بثلاث مناح:
- المنحى السياسي, إهمال التشكيلات السياسية التقليدية- إعلان دمشق وأحزابه وهيئة التنسيق الناشئة, ثم ضبط المجلس الوطني ضمن رؤية إسلامية وطاردة للمعارضة والفئات الديمقراطية.
- المنحى العسكري, الدعم الكامل للفصائل الإسلامية, رغم الخلافات العقائدية بينها, العائدة أساساً إلى البدايات العفوية للانتفاضة ومحلية الفصائل الضيقة- هذا إذا نحينا جانباً ولاءات هذه القوى للدول الداعمة وخلافاتها- لدرجة أن عددها وصل لبضعة آلاف فصيل وجميعها تحمل الآيديولوجيا الإسلامية, وتعادي الديمقراطية والعلمانية والتعددية السياسية والاجتماعية. وقد أبرزت بعض مواقع المعارضة إحصائية لأعداد القتلى في المعارك بين هذه الفصائل بما يتجاوز عدد القتلى من عناصرها على يد السلطة.
- المنحى الإعلامي, وقد ظهرت قوته المخيفة في الحالة السورية, ومقابل المطلب المحق للمنتفضين في بداية الانتفاضة للسماح بدخول الإعلام المحايد إلى المناطق السورية, أطبقت السلطة- الطغمة الخناق على الإعلام وقصفت الصحفيين الفرنسيين والأمريكيين أثناء تغطية مظاهرات حمص, فوجد السوريون ضالتهم في الإعلام الخليجي- الجزيرة والعربية- وبدأت المحطتان سيلاً جارفاً من الأخبار والتحليلات والبرامج والوثائقيات والندوات, على مدار 24 ساعة طوال الأسبوع, لكن معظم المواد امتازت بالتضخيم والكذب أحياناً, وظهر المراسلون الهواة كظاهرة ملفتة في نشاطهم وتغطيتهم الشاملة, لكن غير المهنية والكاذبة والموجهة وفق سياسة محددة جداً من قبل كل قناة.
لاشك أن الإعلام كان رافعة ثورية مهمة في بداية الانتفاضة, لكنه أسقط الوجه الإنساني والديمقراطي للثورة وعزز التطرف وخدمه بشدة وقدم له دعاية مجانية لن نتخلص من آثارها إلا بجهود جبارة وخاصة ضمن سياسة قناة الجزيرة القطرية وأقل ما يمكن أن يقال أن الإعلام الثوري أو “البديل” لم يشكل النقيض العملي ولا السياسي ولا الأخلاقي لإعلام السلطة وداعميها, بل كرّس عموماً قيم التطرف والانتقام والتسلط والكذب والفبركة. والآن وضمن هذا الجو المحتقن والمضلل, يجب الحصول- من قبل القوى الديمقراطية- على دعم كبير في مجال الإعلام للتغلب وبأقصى سرعة على الدعايتين السلطوية والإسلامية وإظهار القيم الإيجابية للتعددية والديمقراطية وحقوق الإنسان وقيم المواطنة.
4-3- مراجعة مواقف المعسكرين
منذ آذار 2011 اتسمت علاقات النظام بداعميه على المستوى الدولي بالثبات وبتقديم التفهم والتفاهمات على سوء الفهم والصراعات, وتبرز هذه النزعة خاصة عندما تقوم روسيا مثلاً بتقديم تنازلات للأتراك على حساب القضية الوطنية أو وحدة الأراضي من خلال احتلالها لعفرين السورية بدون أن تقوم السلطة بفك التحالف أو بالرد بقسوة على هذه التفاهم الروسي- التركي, أو في التفاهم الروسي- الإسرائيلي حول الوجود الإيراني في سورية وقصفها المتكرر للقوات الإيرانية بما تعنيه من قصف لحليف للسلطة على الأرض السورية, لكن هذه السلطة, على العكس من ذلك, فإنها تبدي تفهمها للموقف الروسي وتهاجم الأتراك والإسرائيليين, وبنفس السياق تقبل من حلفائها المرونة الدبلوماسية والعسكرية على حساب القضية الوطنية. يبقى أن نقول أن الاقتراب من مرتكزات السلطة- الطغمة هو المحظور الوحيد من وجهة نظرها ومن ممارساتها, سواء تم هذا الاقتراب من قبل الأصدقاء أو الأعداء.
بالمقابل, مازالت القوى الدولية الحليفة للسلطة “تحلب معها صافي” ومازالت تقوم بحماية هذه السلطة- الطغمة في كلّ المحافل الدولية وفي الميدان العسكري بالقتال إلى جانبه, ويمكن القول أنه لولا التدخل الروسي 30/9/2015 لكانت السلطة في أسوأ حالاتها إن لم تكن قد سقطت, هذا عدا عن الدعم الاقتصادي والإعلامي المباشر وغير المباشر.
ما يحل لغز هذه العلاقة بين السلطة- الطغمة والروس أن الروس قد وجدوا ضالتهم في الأزمة السورية للعودة إلى الساحة الدولية بقوة وبمحاولة انتزاع موقع لهم بالتضاد مع موقف الولايات المتحدة وحلفائها الأوربيين في المنطقة عموماً وفي الساحة السورية خصوصاً, وأثبتوا بكل الطرق أنهم حلفاء أوفياء للسلطة, وأن بمقدورهم تقديم الكثير جداً في كل المستويات لحليفهم المحتاج والمتفهم والصبور, وفوق ذلك المدعوم إقليمياً والقادر على إدارة الصراع بحنكة وبراعة والقادر على كسب شارع مؤيد متجاوز لطائفته الصغيرة إلى الأقليات الأخرى وإلى جزء مهم من الأغلبية السنية.
بالنتيجة فإن الحلفاء الدوليين- والروس أساساً- بحاجة السلطة السورية بقدر حاجتها لهم للخروج من أزماتهم الدولية وحروبهم الإقليمية والتفاوض على الورقة السورية مقابل العقوبات المفروضة أمريكياَ وأوروبياً, وما بدا ممكناً في عهد باراك أوباما, بسبب استراتيجيته المترددة, يبدو الآن غير ممكن في ظل الإدارة الجديدة للرئيس دونالد ترامب, الذي مهما كانت آراؤنا المتعلقة بشخصيته أو بطريقة تعاطيه مع بعض الأمور وما يبدو عليها من غرابة, فإن هذه الإدارة قد وضعت نصب عينيها دولتين لهما الأثر الأكبر في الحالة السورية وهي البرنامج النووي الإيراني وإخراج إيران عسكرياً من سورية وتحجيم نفوذها الإقليمي, والثانية الضغط على الروس من أجل منع تمددهم في الشرق الأوسط بأكثر مما يحتاجه الدور الروسي بحجمه الطبيعي أقل من الإمبراطوري.
- الوضع المحلي:
5-1- علاقات المعارضة على المستوى الدولي
يبدو أن أي مراجعة مفيدة لعلاقات المعارضة بالمجتمع الدولي يجب أن تعرج على بضع مسائل لأنها كانت قد حكمت المعارضة, سلوكاً وبرنامجاً, منذ اليوم الأول للانتفاضة ولأنها للأسف الشديد ما تزال تحكم بعض أطيافها على الأقل, وقد يصح هذا الحكم على جميع أطياف المعارضة السورية, لكن بزيادة عامل مقابل نقصان عامل آخر بالمقابل:
- فقدان الثقة بالدول الكبرى لأسباب دينية أو قومية أو طبقية. وفي الحالات الثلاث كانت المرحلة الأولى للثورة السورية محط صراعات بين هذه القوى على رفضها لسبب من تلك الأسباب أو لسبب اجتماعها, فمثلاً كانت هيئة التنسيق ترفض التدخل الخارجي- كأحد لاءاتها الثلاث الشهيرة- بسبب أن أمريكا وأوربا تمثل دولاً استعمارية وإمبريالية ومعادية للقومية العربية وفوق كل ذلك داعمة للعدو “الصهيوني” وبالتالي فإن أي تدخل خارجي وخصوصاً الغربي سيصب في خانة “الخيانة” الوطنية.. الخ, أما المجلس الوطني فبالإضافة إلى الرفض القومي من المكونات القومية, كان الغرب يمثل الكفر والإلحاد والعداء للإسلام لدى جناحه الإسلامي المتشدد وقد انتقل جزء من هذا العداء للغرب إلى جناح صغير, لكنه مؤثر من الائتلاف.. بينما يرى الجناح الروسي من “المعارضة” أن الغرب لا تهمه سوى مصالحه الأنانية واستغلاله لبلدان مثل سورية بينما روسيا بإرثها السوفييتي صديقاً للشعب السوري. ورغم كل ما قيل ولأسباب براغماتية صرف وليس بداعي أي ذرة من الثقة طالبت هذه القوى الإسلامية واستجدت التدخل الدولي الغربي- باستثناء معارضة موسكو وهيئة التنسيق- على أرضية أن ينصر المعارضة في مواجهة السلطة, لا بل أكثر من ذلك وكشرط لإعادة الثقة المفقودة بهذه الدول أن تقوم بإسقاط هذه السلطة وأن يسمح لها بإقامة دولتها المنشودة؛ دولة يحكمها الإسلام “الحق”.
- المانوية أو ثنائية الشر المطلق والخير المطلق. فكل من يدعم الثورة هو خير وكل من يعاديها هو شر والدعم والعداء لهما مقاييس ذاتية, خارج السياق الموضوعي والمنطقي للقياس, فالأمريكان يرغبون في إسقاط النظام, لكنهم لا يسقطونه بجيوشهم ولا يسلمون السلطة للإسلاميين, بل ويمنعون التسليح الفتاك في مرحلة لاحقة, كذلك يركزون لاحقاً على محاربة “داعش” ولا يقبلون أن يحاربوا بالقوى المدعومة من قبلهم السلطة وحلفائها, فهم الشر المطلق إذن.
والروس بنفس المنطق هم داعمي للسلطة ومحاربين معها, إذن هم شر مطلق وقس على ذلك, لكن هذه المانوية أو النزعة الثنائية سرعان ما ستظهر حديثاً بالقبول بالدور الروسي طالما سيقدم لهم حصة في التسوية الروسية- التركية المقبلة, فهل انقلب الشر المطلق إلى ملاك رحيم؟
- المظلومية, ورغم أن هذه السمة تشمل السلطة والمعارضة والقوميات والأديان والطوائف جميعها بلا استثناء, لكن مع تفاوت درجة الإحساس بالمظلومية, فإن مظلومية المعارضة الإسلامية السنية كانت هي الأعلى والأقوى, والأشد, وطبعاً لأسباب مبررة وغير مبررة.
يبرر تلك المظلومية الدور السلبي للمجتمع الدولي والهمجية والبهيمية والدموية والتدميرية للسلطة- الطغمة وحلفاؤها. أما الفائض من هذا الإحساس فيعود إلى الأنانية والترفع وما يمكن تسميته بالعنصرية الإسلامية التي تفترض أن يخدمها العالم مجتمعاً لأنها على حق وأكثر لأنها متفوقة كدين “حق”.
ـ أما الأطراف الأخرى من المعارضة فقد نجد لها عذراً لهذه المظلومية فقط في اضطهاد الإسلاميين لها أما الدول العظمى فقدمت لها أكثر مما تستحق كفعالية بكثير وأقامت لها أكثر مما تحلم به, لكن ضعفها نابع من انعدام قاعدتها الشعبية وجبنها وتعفنها المزمن.
- التفوق أو العنصرية: لا يعدم الباحث الموضوعي البينات على النفس المتعالي للمعارضة السورية وخاصة في بداية الثورة. وما الأفكار المسبقة التي ناقشناها كالمانوية والمظلومية وفقدان الثقة إلا مقدمات للنزعة المتعالية أو “النفاج” فنحن “خير أمة أخرجت للناس, تأمرون بالمعروف وتنهَون عن المنكر!” لكن العالم متآمر ضدنا لأننا “خير” أمة. وعندما تظن النخبة في أي مجتمع أنها الفئة الناجية فعندها ستتحقق بالتأكيد الكارثة ولنا أن نتخيل “داعش” تضرب في كل شبر من أرض سورية.
قد تكون مقارنة ما قلناه عن السلطة في علاقاتها الدولية كخبرة وحنكة وتوازن درساً معتبراً للمعارضة السورية, ويكفي أن نشير إلى ثلاث نقاط كانت ممكنة ومفيدة جداً في علاقة المعارضة مع الدول الغربية والمجتمع الدولي؛ أولها مركزية التواصل وعدم تعدد القنوات وهذا ما ظهر أثره الطيب في مفاوضات جنيف. وثانيها في اعتبار القضية السورية شأناً دولياً وللمجتمع الدولي مساهمة حاسمة في حله لصالح الشعب السوري في ظل تمترس السلطة- الطغمة وعناد حلفائها. والثالث أن المجتمع الدولي محكوم بفاعلين رئيسيين كالولايات المتحدة وأوربا وروسيا والصين, ومالم يكن هناك “اتفاق جدي” بين هذه الأطراف فلن يستقر الحلّ, أي حلّ.
5-2- علاقات المعارضة على المستوى الإقليمي
لعب الإسلام السني دوراً حاسماً في استمرار الانتفاضة وفي تحولها إلى ثورة “بآيديولوجيا” إسلامية, لذلك كنا, في تيار مواطنة, نقول دائماً “حسناً إنها إسلامية, لكن فلتتوحد قيادتها السياسية, ولتوحد فصائلها المقاتلة على برنامج واضح” كما كان تعليقنا دائماً “لو كان الائتلاف الوطني مشكلاً بأكمله من أفراد علمانيين وهناك إسلامي واحد داخله فسيكون توجه هذا الائتلاف إسلامياً بالضرورة بسبب الآيديولوجيا الإسلامية السائدة بين مقاتلي المعارضة”. مما سبق يتضح حجم الدعم الإقليمي الذي حصلت عليه المعارضة وخصوصاً الإسلامية والمسلحة منها. كما لم يعد مهماً الحديث عن تفاصيل الدعم وطرقه فقد ثبت بالمطلق أن مستودعات الفصائل الإسلامية كانت مليئة بالأسلحة والمؤن بما يكفي لخوض معارك طويلة, لكن بعد خروج فيلق الرحمن وجيش الإسلام من الغوطة الشرقية ومدينة دوما لم يعد هكذا تفصيل يقدم إضافة معرفية لهذه المراجعة, بل يثبت فقط أن انسداد أفق هذه الفصائل في سيطرتها على المدن والقرى لم يكن أكثر من نزوع إلى السلطة فقط, دون تقديم البديل العملي والسياسي والاخلاقي للسلطة.
المهم الآن إيضاح أن قطر وتركيا وبدرجة أقل السعودية قد قدمت الدعم المالي والسلاح وأحياناً العنصر البشري وفق رؤيتين إسلاميتين متعارضتين إلى حدّ ما؛ فالبرنامج القطري- التركي السابق اعتمد على إدخال القدر الأكبر من المتطرفين الجهاديين وتمويل فصائلهم وتسليحها وتشجيعهم على الهيمنة على القرار السياسي والعسكري في كل مناطق تواجدهم ورفض التعاطي مع المجتمع الدولي من مبدأ التكفير.
أما السعودية والإمارات فكان دورهم أقل أثراً وأقل تطرفاً, وحاولت السعودية من خلال دعمها لفصائل كبرى كجيش الإسلام تحقيق بعض التوازن ليس في الممارسة العملية بل فقط بالقبول في الدخول في العملية السياسية وهذا ما سبب بخوض اشتباكات مع الفصائل المتشددة كفيلق الرحمن وجبهة النصرة في الغوطة الشرقية.
المحصلة كانت هزيمة كبرى لهذه الفصائل في كل الداخل السوري أو “سورية المفيدة” وتمركزهم في ريف حلب الشمالي ومحافظة إدلب بانتظار الأوامر التركية- القطرية.
إن أشد مآسي الثورة السورية أن تكتشف أن مموليها لا يعملون إلا لبرامجهم الإسلامية المتجاوزة للحدود السورية والمستحيلة التحقق, والتي ستبقى بدون دعم دولي مجرد أوهام قاتلة وببقائها لن تحصل على دعم دولي, فهل سيتحقق طموحها الآن- في حكومة إسلامية في ظل سلطة الأسد- في سوتشي 2 محققاً بانجدال الاتفاق الروسي- التركي ومن خلفه الإيراني وبتدخل قطري؟
5-3- علاقات المعارضة البينية
بداية يجب أن نلقي نظرة سريعة على هيئات المعارضة السورية ومكوناتها وملامحها الرئيسية:
- هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديمقراطي: تأسست في 6 تشرين الأول 2011 وهي أول تجمع لقوى قومية ويسارية وكردية. اشتهرت بلاءاتها الثلاث؛ لا للعنف, لا للتدخل الخارجي, لا للطائفية, وقد شكل حزب الاتحاد الإشتراكي العربي الديمقراطي رافعة جيدة في ريف دمشق ودرعا والسويداء خلال مرحلة الحراك السلمي, وبقي وزن الحزب الديمقراطي الكردي (صالح مسلم) الوزن الأكبر داخل الهيئة رغم تفارقها الشديد مع الهيئة بعد 2013.
- المجلس الوطني السوري, تأسس في 2 تشرين الأول 2011 ويضم الإخوان المسلمين وإعلان دمشق والمؤتمر السوري للتغيير وبعض المستقلين. منذ تشكيله سيطر عليه الإسلاميون وأبرز مواقفه كانت رفض المبادرات الأممية والعربية واعتبر أن سقوط النظام قريب, وعارض أي تقارب مع هيئة التنسيق, وقد اضطرته قطر للانضواء تحت الائتلاف الوطني.
- الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة, تشكل تشرين الثاني 2012, ويضم المجلس الوطني السوري والهيئة العامة للثورة السورية ولجان التنسيق المحلية والمجلس الثوري لعشائر سوريا، ورابطة العلماء السوريين، واتحادات الكتاب، والمنتدى السوري للأعمال، وتيار مواطنة، وهيئة أمناء الثورة، وحركة معا، والكتلة الوطنية الديمقراطية السورية، والمكون التركماني، والمكون السرياني الآشوري ، ولاحقاً المجلس الوطني الكردي، والمنبر الديمقراطي، والمجالس المحلية لكافة المحافظات، إضافة إلى بعض الشخصيات الوطنية وممثل عن المنشقين السياسيين. وقد جرت توسعة للائتلاف واستكمل عدد أعضاء الهيئة العامة إلى 114 أعضاء. الموضوع الأهم أنه صمد كممثل للمعارضة السورية على مدى 5 سنوات كانت حافلة بالانكسارات العسكرية والسياسية, ولم يستطع أن يطور آليات عمله خلال تلك المرحلة ولم يرتق أبداً إلى مستوى التحديات التي واجهت السوريين عامة والمعارضة خاصة, ثم اتفقت الدول الفاعلة على تشكيل هيئة عليا للمفاوضات المنبثقة عن مؤتمر الرياض 2 في 2 تشرين الثاني 2017 لتسحب البساط كله تقريباً من تحت الائتلاف ولتفاوض هذه الهيئة في جنيف 8 باسم المعارضة.
بالطبع ونتيجة للتراجع الملموس في أدائه, انسحب العديد من الشخصيات والقوى السياسية الممثلة في الائتلاف وكان منها تيار مواطنة حيث كان له موقفاً نقدياً حازماً ولم ينسحب حتى قدم مبادرة([6]) لتفعيل الائتلاف قابلها الائتلاف ببرود وبغض النظر, على الرغم من ادعاء رئيسه المستقيل أيضاً بأن خطة التفعيل والإصلاح قد بدأها جناح الديمقراطيين داخل الائتلاف بدون إعلان وشوشرة. يبقى أن الائتلاف قد فقد الكثير من قواه وبقي شأناً تركياً يبارك السياسات الشوفينية ضد الكرد ويبرر ما يطلب منه بأمانة.
- الهيئة العليا للمفاوضات وبدأت أول تشكيل لها بعد مؤتمر الرياض1- ك1 2015 ثم استكملت ضم منصتي القاهرة وموسكو في الرياض2 وهي ائتلاف يمثل كل أطياف المعارضة تقريباً, وتلقى قبولاً دولياً والاختبار الوحيد لقدرتها كان في جنيف 8 الأخير وما يسجل لها أنها رفضت المشاركة في سوتشي باعتباره استبدالاً لمسار جنيف والشرعية الدولية المتمثلة في هيئة الأمم المتحدة.
- منصة القاهرة وتمثل قسماً من القوى السياسية التي ساهمت بداية في تأسيس هيئة التنسيق بالإضافة إلى شخصيات وطنية وهي مؤمنة بالحل السياسي وبالحوار السوري- السوري وتؤيد مسار جنيف.
- منصة موسكو-2014- وتمثل المعارضة التي تدعو لحوار سوري- سوري أيضاً وتعارض أي تدخل غربي وترى أن موسكو بيدها الحل والربط ويمكن عبرها الوصول إلى تسوية وحكومة تحارب الإرهاب وتبدأ مسيرة البناء. كما منصة موسكو تدعو إلى تجاوز جنيف كاملاً لصالح الحل الروسي.
لم تكن المعارضة السورية يوماً موحدة, ولا يبدو هذا الشرط منطقياً أصلاً, ولم يشهد تاريخ الثورات والانتفاضات هذه الوحدة للمعارضات. فليس عجباً إذن أن لا تتوحد المعارضة السورية أمام هذه الاشتراطات من الأطراف الدولية ومن الأطراف الإقليمية, وحتى لا يبدو موقفنا تبريرياً يمكن القول بمنتهى الموضوعية أن “برنامجاً موحداً” للمعارضة السياسية كان ومازال ضرورة مطلقة؛ يستطيع هذا البرنامج توحيد الرؤى والجهود وتكريس شكل من التحالف بين هذه القوى لم تستطع جميع ائتلافات المعارضة- الموحدة ظاهرياً- كالمجلس الوطني والائتلاف الوطني أن تنجزه بسبب تضارب وتعارض البرامج السياسية داخل المجلس والائتلاف, لا بل وأكثر بسبب تبعية هذه البرامج وأغلب هذه القوى للفصائل العسكرية التي تدين سياسياً بالولاء للدول الإقليمية الداعمة لها مثل قطر وتركيا والمملكة السعودية. وإن كان تاريخ الثورات يثبت أن جميع الثورات قد تلقت الدعم من أطراف خارجية فهذا لم يعفها من تقديم البرنامج الملائم لبلدها ومن الاتفاق على مدونة سلوك أو وثيقة شرف لضبط ممارساتها العملية ولضبط إعلامها ولضبط سياساتها فيما بينها وتجاه الرأي العام المحلي والدولي. وإن كنا قد حابينا المعارضة السورية مخافة شقّ الصف في حينها, فإننا نعترف اليوم بهذا القصور, ولا يعفينا من هذا النقد لأنفسنا أننا وجهنا بعض النقد الملطف والمخفف والخجول, فقد بقينا نمارس السياسة الخجولة أربع سنوات في الائتلاف دون أن نقول بصوت عالٍ ما يجب أن يقال في حينه ولم نقف الموقف الصريح في نقد ممارسات الفصائل وسياساتها في المناطق “خارج سيطرة السلطة” وكان لدينا الميل لمحاباتها رغم أنها كانت الوجه الآخر للسلطة في ممارساتها مع السوريين الخاضعين لسيطرتها, وفي ممارستها السياسة القمعية ضد خصومها, وفي إعلامها الكاذب. أكثر من ذلك, ورغم أننا طلبنا من الفصائل بداية الخروج من المدن والقرى وشن حرب عصابات ضد قوات السلطة والميليشيات الطائفية لأسباب تتعلق بحماية المدنيين ومنع القصف وتدمير الحواضر فقد سكتنا عن ذلك لاحقاً, ورغم معرفتنا بأن النصرة والفصائل الأخرى ستجر الويل على المناطق التي تسيطر عليها فقد طمأنا أنفسنا إلى أن الأتراك والفصائل الإسلامية التي تتبع لهم قد يعالجوا وجودها, رغم معرفتنا أن جميع الفصائل الإسلامية تتهرب من المواجهة مع داعش والنصرة ولا تخوض المعركة معهما إلا دفاعاً عن النفس..
هل العربة تجر الحصان في حالتنا؟ للأسف نعم! فمعظم الفصائل العسكرية قامت بتشكيل مجالس عسكرية ومكاتب إعلامية لتقدم لها الخدمات السياسية والإعلامية. نعم أصبحت هذه الفصائل “دولاً” في إقطاعاتها وتتجاوز الائتلاف الوطني لتقوم بتحالفاتها الإقليمية, لا بل حتى صلاتها الدولية, وتحصل على الدعم المباشر من قطر وتركيا والسعودية. ومن المفيد التذكير هنا بتجربة غرف العمليات المشتركة “الموم” و”الموك” حيث تشكلت الغرفتان المذكورتان بدعم أمريكي وبغرض توجيه الدعم للفصائل المعتدلة, ففشلت في الغرفة الشمالية لأسباب كثيرة أهمها سيطرة التنظيمات الجهادية “كداعش” و”النصرة” على أسلحة وذخائر هذه الغرفة ثم الغت تركيا برنامج التدريب الأمريكي وفرضت وضعاً عسكرياً ملاءماً لرؤيتها ومصالحها في الشمال, بينما نجحت الغرفة الجنوبية “الموك” بدعم أردني مباشر في تجنب سيطرة جبهة النصرة وبعض الفصائل الموالية لداعش بين محافظتي درعا والقنيطرة. أما الائتلاف الوطني فكان له محاولات جدية للارتباط السياسي وتقديم الدعم عبر رئيسه الثاني “أحمد الجربا” والذي نجح جزئياً في وقتها, لكن تغير الرئاسة وسطوة الإسلاميين داخل الائتلاف جعلت العلاقة مع الغرفة الشمالية في حكم المنتهية بسبب الرغبة التركية وخلافها مع الولايات المتحدة في السياسة المتبعة في إدلب وريف حلب.
بالرغم من أن الوضع القائم في الشمال السوري لا يبشر بالخير فان نقدنا للفصائل وللسياسة التركية مازال في إطار النقد الخجول. فالحكومة التركية “الإسلامية” لم تن تدفع و تدعم الفصائل الإسلامية نحو سياسة مرفوضة دولياً وغير مناسبة لمستقبل سورية العلمانية, مستندة بذلك على الحلف الثلاثي (الروسي والإيراني) في مواجهة السياسة الأمريكية والغربية عموماً ومستغلة أيضاً التفهم الأمريكي للوضع الداخلي التركي وما يفرضه هذا التفهم من عدم ممارسة الضغوط القوية على الحكومة التركية. إن محاولة تركيا ضمان حصتها المستقبيلة في سورية بعد التسوية سبب وسيسبب دائماً شرخاً قومياً وتذرراً اجتماعياً في سورية, وبالتالي يجب أن نقول أن الحكومة الإسلامية التركية قد قدمت إضافة إلى الوعود الخلبية للسوريين مشكلتين خطيرتين تؤسسان لدولة إسلامية وشوفينية مستقبلاً, وكي نبقى منصفين فإن معاملة الحكومة التركية لللاجئين السوريين كانت الأفضل بين الدول العربية ودول الجوار.
ويبقى أن نشير إلى بضع حقائق تتعلق بنشوء تحالفات جديدة, معظمها غير ذات وزن حتى الآن, وتراهن على إبراز تباينها وعداوتها لبرامج الهيئات السابقة- هيئة التنسيق والمجلس الوطني والائتلاف- لحساب برنامج ديمقراطي- تعددي ورؤية لسورية علمانية. وتنبع هذه المراهنة من حقيقة أن الدول الفاعلة تطلب من هذه القوى توجهات ومواقف غير قابلة للتحقق كما أظهرت الحوادث السابقة, ونرجو أن لا تنسى هذه التشكيلات الجديدة أن الدول الفاعلة أيضاً تبحث عن قوى لها وزنها, والمثال الساطع التحالف الأمريكي مع قوات حماية الشعب الكردي وتشكيل قوات سورية الديمقراطية في سورية في حربها ضد تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”.
5-4- علاقة المعارضة والقضية الكردية
منذ بداية الانتفاضة السورية شكل الكرد السوريون ثقلاً مهماً في إعطاء الانتفاضة طابعها الوطني- الديمقراطي, خصوصاً لجهة عدم وجود ميل ملحوظ للإسلام السياسي في الوسط الكردي. ويمكن تصنيف ظاهرة التدين في الوسط الاجتماعي الكردي بـ”التدين الشعبي”, أما الحركة السياسية الكردية فتنحو باتجاهين فكريين أساسيين؛ القومي والديمقراطي , ويمكن أن نجد الاتجاهين مختلطين لدى غالبية القوى الكردية وقد برزت النزعة القومية للقوة الأهم في الساحة الكردية- حزب الاتحاد الديمقراطي- منذ البوم الأول للانتفاضة بتوجيه من قيادات PKK في جبال قنديل ورغم ذلك كان هناك تنوع سياسي مبشر في البدايات بأن تكون الانتفاضة شاملة لكل السوريين. ويجب أن ننببه مرة أخرى أن الثورة الوطنية لا تتوافق مع البرنامج القومي أي لا يمكن أن يندرج صراع حزب الاتحاد الديمقراطي في سبيل القضية الكردية وتحقيق طموحه في إنشاء منصة للعمل في وجه الحكومة التركية من خلال الأراضي السورية,. أما موقف المجلس الوطني الكردي فإنه لا يشكل الموقف الأساسي في الساحة الكردية كونها تفتقد الدعم الشعبي.
تعود جذور القضية الكردية في سوريا إلى اتفاقية سايكس بيكو 1916 بين الإنكليز والفرنسيين حيث قسمت الكرد ووزعتهم بين أربع دول هي تركيا والعراق وإيران وسورية، وقد ساهمت عمليات القمع والصهر, إضافة إلى المشاريع التي طبقت بحق الكرد من قبل الأنظمة المتعاقبة, إلى إبقاء جذوة النضال والتحدي لديهم متقدة واستمرت محاولاتهم في نيل حقوقهم القومية والسياسية رغم كل ما تعرضوا له نتيجة لاستخدامهم من قبل الأنظمة المقتسمة لكردستان في صراعات هذه الدول بين بعضها البعض, الأمر الذي أدى إلى زيادة الشرخ والخلافات بين الأطراف السياسية الكردية وضاعف من محنتهم ومعاناتهم.
لقد واجهت الثورة السورية منذ انطلاقتها تحديات عدة كان أهمها كيفية التعامل مع القضية الكردية وضرورة اتخاذ موقف صريح يلبي طموح الكرد وينظر اليهم كمكون رئيسي من مكونات الشعب السوري وقد كان لتيار مواطنة موقف واضح([7]) من هذه القضية باعتبارها قضية وطنية سورية في مواجهة نظام الطغمة الذي ثار عليه السوريون كالتالي:
” تيار مواطنة يؤكد على موقفه المبدئي والصريح مع حق الشعب الكردي في أجزاء كردستان الأربعة- إيران، العراق، سورية، تركيا- في تقرير مصيره بالشكل الذي يستجيب لهذا الحق كما مارسته كل الشعوب الأخرى في العالم والمنطقة، وكما نصت عليه المواثيق الدولية سواء أكان ذلك الحق في نطاق كردستان الكبرى الموحدة أرضاً وشعباً أم في كل جزء على حدة، أمْ في اتحاد جزء أو أكثر مع جزء أخر والاستقلال التام أمْ في أشكال أخرى ذات حكم ذاتي أو لا مركزي……الخ وسواء كان ذلك في نطاق تكتيكي أمْ استراتيجي، وهو لا يرى في هذا الطموح الأساسي المتعلق بالحق أي تناقض مع انتماء الكرد السوريين إلى الوطنية السورية ونضالهم في إطارها. ” وقد كان للكرد نصيب للعضوية في تيار مواطنة وفي مكتبها التنفيذي ولازال العديد منهم يتبوأ مواقع في مكاتب التيار وهيئاته المختلفة على قدم المساواة دون تمييز أو إقصاء.
حيث يطور تيار مواطنة رؤيته للقضية الكردية في سورية في ورقته حول الفيدرالية([8]) بطريقة شاملة للموضوع وبرد قد يكون الأنسب على دعاة المركزية التي عنت الكثير للسلطة الطغمة عبر حكمها المديد لسورية.
ومع انطلاقة الثورة شارك الشعب الكردي في التظاهرات منذ بداياتها فقد خرجت في الأول من نيسان 2011 مظاهرة من أمام جامع قاسمو في مدينة القامشلي ورفعت لافتات ،وهتفت شعارات بالكردية والعربية تدعو إلى وحدة الشعب السوري والتضامن مع مدينة درعا وشكلوا فيما بعد التنسيقات الشبابية (ائتلاف شباب سوا- اتحاد تنسيقيات الكرد ) وكانت الثورة فرصة حقيقية لإعادة صياغة العلاقة بين المجتمع الكردي والمعارضة على أسس جديدة واقترنت هذه الفرصة بقدر من التفاعل الإيجابي حيث صارت مطالب الكرد ومظالمهم مفهومة في بعض أوساطها وسجلت حضوراً ونقاشاً في أغلب مؤتمرات المعارضة السورية وفي تظاهراتها (رفع العلم الكردي واختيار اسم جمعة “آزادي” في الأسابيع الأولى للثورة).
ومع اتساع رقعة التظاهرات في المدن والبلدات الكردية حاول النظام استمالة كرد سورية عبر دعوة الأحزاب الكردية التي بقيت حائرة ومترددة إلى دمشق لمقابلة رأس النظام ، وبعد رفض الأحزاب الكردية السورية التقليدية لتلك الدعوة وتطور الموقف التركي المؤيد والمساند للثورة السورية سارعت السلطة إلى الاتصال بحليفها القديم حزب العمال الكردستاني واطلقت يده من جديد في المجتمع الكردي السوري عبر توافق سياسي غير معلن بين الطرفين، سمحت عبره للحزب المذكور بالنشاط من جديد ضمن المجتمع، مقابل الوقوف في وجه تطلعات الكرد السوريين ومنع مشاركتهم في الثورة بحجة النأي بالنفس وعدم الوقوف مع السلطة أو المعارضة والتقى بذلك مع الاحزاب الاخرى التي كانت تنتظر استيضاح المشهد ، وبسرعة استطاع حزب العمال الكردستاني إحياء حزب الاتحاد الديمقراطي الذي كان قد تأسس في 2003 وجمد نشاطه تقريباً في سوريا بعد شهر العسل التركي- السوري وتوقيع اتفاقية أضنة التي قضت بتسليم ناشطي الحزب المذكور إلى السلطات التركية ومنع القيام باي نشاط معادٍ من الأراضي السورية.
أرسل الحزب المذكور مجموعات “الغوريلا- حرب الغوار” من جبال قنديل بقيادة صالح مسلم إلى الجزيرة وكوباني وعفرين وجند الشباب والنساء تحت مسمى وحدات الحماية الشعبية، وتحت قيادة هذه القوات بدأت عمليات الاستلام والتسليم وفي إطار إعلامي يظهر أنها ثورة كردية في مواجهة النظام وجبهة النصرة والمجموعات المتطرفة آنذاك والمعارضة المتهمة بالأردوغانية, فاستلمت هذه القوات مؤسسات الدولة وأمن المنطقة في سيناريو معد بعناية فائقة في دوائر الاستخبارات العليا.
وفي 26/10/2011 تشكل المجلس الوطني الكردي بتوجيه من قيادة إقليم كردستان العراق ودعم بالمال ودرب العشرات من الجنود الكرد الذين انشقوا عن الجيش أو هربوا إلى الإقليم خوفاً من التجنيد الإجباري، ورعى الرئيس مسعود البارزاني عدداً من الاتفاقيات بين حزب الاتحاد الديمقراطي والمجلس الوطني الكردي بدءاً من اتفاقية هولير1 وتشكيل الهيئة الكوردية العليا وهولير 2 واتفاقية دهوك الأخيرة التي كانت الأرضية التي استند إليها التحالف الدولي في تقديم المساعدة وطرد “داعش” من مدينة كوباني . ألا أن تنامي قوة حزب الاتحاد الديمقراطي و براغماتيته الشديدة وضعف المجلس الوطني الكردي حال دون استمرار وتطبيق هذه الاتفاقيات حيث ادعى حزب الاتحاد الديمقراطي بان الثورة الحقيقية هي التي حدثت في المناطق الكردية، وأن ما تشهده المناطق الأخرى هو “صراع على السلطة”، بين النظام والقوى الراديكالية وقام قبل انطلاق محادثات جنيف في 2014 بتشكل إدارة ذاتية هي في واقع الحال عبارة عن دويلة كونفدرالية، لإدارة شؤون السكان في المناطق الخاضعة لسيطرته فبدأ بتطبيق التجنيد الإجباري وفرض الأتاوات والمناهج التعليمية وبناء مؤسساته ومحاكمه الخاصة وفرض سياسة الأمر الواقع، بالرغم من مقاطعة المجلس الوطني الكردي لهذه الإدارة في اللحظات الأخيرة. وقد تعرض هذا الإجراء لانتقادات من قبل النشطاء وبعض القوى العربية بما فيه الاتحاد الكنسي في ظل صمت النظام وموافقته على ما يجري.
لقد وفرت الساحة السورية لحزب العمال الكردستاني مصادر تمويل جديدة حيث باتت المعابر والنفط والغاز والأتاوات .. الخ تحت سيطرته إضافة إلى إمداده بالمقاتلين الذين خسر منهم الكثير في حربه ضد الدولة التركية وفقد الكثير من شعبيته وقوته في مواجهة حزب العدالة والتنمية, الأمر الذي جعل حزب العمال الكردستاني يستقتل من اجل الاستحواذ على الساحة السورية كي يجعلها منصة رئيسية في حربه مع أردوغان ومنطلقاً لتطبيق سياساته تجاه الأجزاء الأخرى وخاصة تركيا والعراق, وهذا ما حدى به إلى إيقاف العمليات العسكرية في إيران التي وفرت له الدعم المالي والعسكري.
ومنذ أن تحولت الشعارات في سوريا الثورة من حرية وكرامة إلى الأسلمة ، انكفأ الشارع الكردي وتراجع النشاط الشبابي لتتقدم القوى السياسية الكلاسيكية التي لم تكن متحمسة للانضمام للشارع الثوري واخذ الاصطفاف السياسي يتبلور مع تقدم الهيمنة التركية على قرار المعارضة السورية وبروز الخطاب الديني ومن ثم طغيان التشدد على أهداف الثورة وشعارتها. هذه العوامل مجتمعة ساهمت في تقدم حزب الاتحاد الديمقراطي كقوة رئيسية وأساسية في المنطقة بالرغم من كل الانتقادات لسياساته ولسلوكه الانتهازي وعلاقات التنسيق في وضح النهار مع النظام السوري.
أما قوات سورية الديمقراطية ” قسد ” التي تشكلت من تحالف فصائل عسكرية مختلفة في محافظة الحسكة في العاشر من أكتوبر عام 2015، وهي قوات كردية وعربية وسريانية وأرمنية وتركمانية جسمها الرئيسي هو من قوات حماية الشعب، ويبلغ تعدادها بين 30 إلى 40 ألف مقاتل ومقاتلة بناءً على طلب الولايات المتحدة الأمريكية بهدف محاربة وطرد تنظيم داعش الإرهابي من الأراضي السورية وخاصة في شرق الفرات، فقد قدم التحالف لها الأسلحة والعتاد والغطاء الجوي واستطاعت هذه القوات طرد تنظيم داعش من بعض قرى وبلدات ريف حلب الشمالي، وخاضت عن طريق هذه القوات معركتي الرقة ودير الزور والآن تمّ تطهير بعض الجيوب الموجودة في منطقة الميادين من قبلها, ويبدو أن واشنطن تخطط لإعطائها دور أساسي لاحقاً عند حل المسألة السورية، وقد ظهر ذلك من خلال نوعية التسليح الكبير الذي زودت به قوات سورية الديمقراطية بغرض فرضها كمعادلة عسكرية وسياسية في الصراع السوري الدائر الآن. وكذلك في عمليات الشدّ والجذب بين أنقرة وواشنطن لنفي تبعية هذه القوات لحزب العمال الكردستاني, رغم أن هذه القوات تُدار فعلياً من قبل حزب الـPYD الكردي المرتبط عضوياً بجبال قنديل. ولذلك انعقد مجلس سورية الديمقراطي كغطاء سياسي لهذه القوات في مدينة ” ديريك ” بمحافظة الحسكة بعد دعوة وجهتها “حركة المجتمع الديمقراطي” لعقد مؤتمر يضمّ بعض القوى المحسوبة على المعارضة بتاريخ 9/12/2015 في الفترة التي تم فيها انعقاد مؤتمر الرياض الأول في السعودية والذي ضم قوى الثورة والمعارضة السورية، و انبثقت عنه الهيئة العليا للتفاوض مع النظام السوري من أجل التوصل إلى حلٍ سياسي في سورية.
وضمّ مجلس سورية الديمقراطي في صفوفه حزب الاتحاد الديمقراطي وهو الجناح السياسي لوحدات حماية الشعب الكردية بقيادة صالح مسلم, إضافة إلى قوى عديدة ذات وجود سياسي ضعيف على الساحة السورية مثل تيار (قمح) و تجمع عهد الكرامة والحقوق وحركة المجتمع الديمقراطي، وكذلك التحالف الوطني الديمقراطي السوري وتوزعت رئاسة مجلس سوريا الديمقراطي مناصفة بين هيثم مناع وإلهام أحمد إلا أن مناع أعلن عن استقالته في وقت سابق من رئاسة المجلس واستعيض عنه بالإسلامي رياض درار ، لكن مجلس سورية الديمقراطي لم يستطع أن يلعب أي دور سياسي حقيقي، لأنه لم يتعدَّ أن يكون واجهةً سياسية لحزب الـPYD باعتباره القوة الكبرى الذي تملك نفوذاً عسكرياً ودعماً دولياً من أمريكا و بعض الدول الأوربية الأخرى, رغم أن مواقفه السياسية وممارسته تتعارضان مع الأجندة الوطنية والديمقراطية للمعارضة السورية.
حزب سوريا المستقبل :
تمّ تشكيل حزب سوريا المستقبل بتاريخ 27/3/2018 تلبية لضرورات سياسية فرضتها مجريات الصراع العسكري والسياسي في سورية بعد تحرير مدينة الرقة من داعش وبعد احتلال عفرين وانعقد مؤتمر الحزب في مدينة الرقة التي تسيطر عليها “قسد” بالتعاون مع التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية.
ويبدو أن هذا الحزب سيكون واجهة لحفظ ماء الوجه لحزب الاتحاد الديمقراطي التابع لجبال قنديل في تبنيه لرؤية المعارضة السورية وفي تحميل مسؤولية استمرار الأزمة للنظام وحده،، وتأكيده على أن ما جرى في سورية هو انتفاضة من أجل بناء سورية ديمقراطية تعددية تشاركية يتساوى فيها المواطنون بالحقوق والواجبات، والتأكيد على الحل السلمي الذي تتوافق عليه جميع الأطراف الدولية والمحلية، ويشدد على الالتزام بمخرجات جنيف والقرارات الدولية ذات الشأن وخاصة القرار2254 وتأكيد سيادة الدولة السورية ورفض اقتطاع أي جزءٍ منها إضافة إلى رفض الحزب الارتباط بالأجندات الإقليمية والدولية وهي إشارة واضحة على فك الارتباط أو عدم تبني فلسفة وآيديولوجية الـ PKK أو أي تنظيم خارجي ولو على صعيد البرامج دون أن يكون هذا انفكاكاً حقيقياً.
كما أن التصدع السياسي في الساحة الكردية لا زال يقوم بمفاعليه بين المجلس الوطني الكردي وحزب الاتحاد الديمقراطي، والذي لم يسع إلى ردم الهوة مع باقي الأحزاب الكردية على قاعدة الممكن من المهام وعلى أرضية برنامج وطني ديمقراطي يشمل كل سورية، وقد جرّ هذا التصدع الويلات على كرد عفرين، والتي تسببت بها سياسة الحزب المنخرطة فعلياً مع سياسة حزب الـPKK ، وتحتاج إلى مراجعة سياسية حقيقية سواءً من الـ PYD أو من المجلس الوطني الكردي. لأن تجاوز الرؤية القومية المتزمتة في الظروف الراهنة سيساعد كرد سورية على الانخراط جدياً بالمشروع الوطني الديمقراطي السوري بما يخدم مكونات سورية المتعددة ضمن وحدتها وفق القرار 2254. وهذا هو المدخل لتشكيل دولة المواطنة المتساوية التي ينعم في ظلها الجميع بحقوقهم.
بعد طرد تنظيم داعش من مدينة كوباني ومنبج والرقة، باتت قوات سورية الديمقراطية تسيطر على مساحات واسعة من الأرض السورية تمتد من مدينة منبج غرب الفرات وحتى مدينة الحسكة، الأمر الذي أيقظ قلقاً تركياً قديماً من احتمال إنشاء كيان كردي على حدودها مع سورية، وهذا ما عدّه الأتراك تهديداً مباشراً لأمنهم القومي وخاصة مشروع (روج آفا – غرب كوردستان)، الذي يتألف من ثلاث مقاطعات أو كانتونات: ( الجزيرة – كوباني – عفرين) ومحاولة ربط منبج بعفرين عبر السيطرة على جرابلس وإعزاز، ولذلك سارعت تركيا إلى القيام بعملية عسكرية أطلقت عليها اسم (درع الفرات) بالتحالف مع الفصائل العربية المسلحة المتواجدة في الريفين الغربي والشمالي لمدينة حلب وبموافقة روسية وبصمت أمريكي وكان من نتيجتها طرد تنظيم داعش من جرابلس والباب، وقطع الطريق على ربط كوباني بعفرين.
إن ازدياد التوتر بين تركيا وأمريكا من خلال دعمها لقوات الحماية وتزويدها بالأسلحة والمعدات كان الدافع الرئيس لأنقرة لإعادة النظر في المشهد السوري والبحث عن علاقات جديدة تمكنها من تحقيق أولوياتها التي يأتي في طليعتها إبعاد خطر حزب العمال الكردستاني مُمَثّلا بجناحه السوري (PYD) عن حدودها.
ولعل الزيارة التي قام بها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى موسكو في 16 آب 2016 بعد أزمة إسقاط الطائرة الروسية جسدت التوجه الجديد في السياسة التركية وأكدت رغبتها بالتحلل من العلاقة التقليدية مع واشنطن، وتفهمها للدور الروسي, عسكرياً وسياسياً, في الشأن السوري.
لقد جاءت عملية غصن الزيتون ثمرة لتنسيق تركي روسي من خلال لقاءات (أستانا) التي أفضت إلى تفاهم ثلاثي (روسي – تركي – إيراني) وإلى البحث عن مصالح الدول الثلاث على الأرض السورية, وليس إلى البحث عن إيجاد حل للقضية السورية، وانطلاقاً من ذلك كان قرار القيادة التركية التوجه إلى عفرين نظراً لوقوعها – وفقاً لمبدأ تقاسم النفوذ – تحت نفوذ روسيا التي وجدت أن مصالحها الاقتصادية والجيوسياسية تملي عليها التنازل – ولو مرحلياً – للرغبات التركية، وهذا ما جعلها تسحب جميع قواتها ومعداتها العسكرية الموجودة في عفرين قبل بدء المعركة بيومين. أما الولايات المتحدة الأمريكية والتي شكلت مظلة سياسية لـ(قسد) فقد أعلنت موقفها بوضوح وأبلغت حليفها الكردي بأن مدينة عفرين لا تخضع للنفوذ الأمريكي من الناحية الجغرافية، لذلك فهي لن تقف في وجه الأتراك بل ستبقى في المنطقة المتفق عليها مع الروس.
ورغم ارتفاع الأصوات الكردية المطالبة بانسحاب قوات الحماية الكردية من مدينة عفرين وإعطاء مقاليد الإدارة إلى سلطة مدنية من أهالي عفرين، أو تسليمها للنظام – حميد درويش – لتفادي وقوع معركة قد تودي بالعديد من أرواح المدنيين فضلاً عن تشريد الكثير من السكان, إلّا أن هذه الأصوات لم تلق آذاناً صاغية لدى قيادة “قسد” التي قررت مواجهة ما وصفته بـ(العدوان التركي)، ولكن يبقى السؤال: على ماذا كانت تعوّل قيادة قوات الحماية في عفرين أمام معركة معروفة النتائج عسكرياً قبل أن تبدأ؟
بتاريخ 20 يناير 2018 بدأت فصائل موالية لتركيا ومدعومة من قواتها , كما قلنا, بالزحف إلى مدينة عفرين ضمن معركة أطلق عليها اسم (غصن الزيتون) تساندها الطائرات التركية والمدفعية الثقيلة التي استهدفت مواقع قوات “قسد ” في محيط مدينة عفرين والبلدات والقرى التابعة لها، بالتوازي مع حركة نزوح كثيفة بين السكان المدنيين.
مع ازدياد الحصار على مدينة عفرين بدأ تماسك قوات “قسد” يضعف، كما بدا واضحاً أن خروج “قسد” من المدينة هو مسألة وقت لا أكثر، وحينها, طالب تيار مواطنة قوات قسد بالخروج من المدن وتجنيب المدنيين الحرب, وقد كانت هذه أحدى أهم مطالب تيار مواطنة من جميع الفصائل أن تخرج من المدن والقرى أن تخوض حرب مغاوير ضد قوات السلطة وضد غيرها. وفي يوم 18 – 3 – 2018 أعلنت الحكومة التركية دخول مدينة عفرين وإعلانها خالية من أي تواجد لقوات سورية الديمقراطية.
استغرقت معركة عفرين ثمانية وخمسين يوماً، أعقبها عمليات نهب وسلب وسرقة بيوت وممتلكات قام بها عناصر من الفصائل العسكرية المتحالفة مع تركيا، بالإضافة إلى بعض شبكات اللصوص، وانتشار ظاهرة(تعفيش) البيوت والاعتداء على ممتلكات المواطنين.
وما ستفرزه عملية احتلال عفرين من عقابيل على العلاقة العربية- الكردية, وخصوصاً العربية السنّية في شمال وشمال شرق سورية قد يكرس الانشقاق السوري- السوري أكثر بكثير مما كان هذا الشقاق على المستوى الطائفي. لقد رفعت هذه المعركة واصطفاف الغالبية العربية في المنطقة إلى جانب القوات التركية الغازية من منسوب الكراهية والعنصرية والتشدد القومي إلى مستويات عليا وبنتيجتها باتت سورية تنام على بحر من العداوات الطائفية والقومية.
5-5- الانقسام القومي في سورية
من الزاوية المبدئية فان كل مقيم لمدة خمس سنوات على الأراضي السورية ويحقق شروط المواطنة يجب أن يتمتع بحق المواطنة الكاملة أسوة بقوانين المواطنة في الدول الديمقراطية, لكن وباعتبار النقاش الآن يدور حول المكونات القومية في سورية فإن الاعتبار المبدئي يبقى مجرد مبدأ نظري نسعى لتطبيقه في دولة المواطنة ويبقى النقاش ضمن الممكنات وواقع الحال الذي كرسته السلطة- الطغمة من خلال النظرة الشوفينية للأقليات القومية غير العربية.
قدمت الثورة السورية بعد تحولها إلى حرب أهلية كشف حساب تفصيلي عن الهشاشة الاجتماعية ودرجة التباغض القومي والديني والطائفي التي كانت متغلغلة في نسيج المجتمع السوري, والتي أخفاها القمع والسياسات الشوفينية للسلطات السورية المتعاقبة عبر عشرة عقود من عمر سورية المعاصرة, وجاءت السياسات الإقليمية الداعمة لطوائف محددة, كالدعم الشيعي الإيراني والإقليمي للسلطة وللأقليات الدينية بصورة عامة لترفع درجة الاحتقان الطائفي والديني إلى درجة الانفجار. كما جاءت التدخلات التركية في الشمال السوري وحربهم ضد الكرد السوريين لترفع درجة الاحتقان القومي بين العرب السنة المؤيدين والمشاركين في احتلال عفرين والكرد إلى درجة الانفجار أيضاً.
لم يكن الشعب السوري بحاجة بالتأكيد إلى كل هذه الجرعة السامة من المحرضات الطائفية والقومية لكي يتقيأ أسوأ ما عنده من البغضاء والكراهية والعنصرية تجاه أبناء جلدته المنتمين إلى فئة أخرى من الدين أو القومية, فقد فجرت الانتفاضة سلفاً الصمام الأمني الذي أحكمت به السلطة إغلاق كل سبل التعبير عن الهوية, دينية كانت أم قومية, مقابل هوية “وطنية” ضعيفة يحكمها التكاذب الاجتماعي العام. ومقابل إطاحتها بهذا الصمام, لم تنتج هذه الانتفاضة صماماً آمناً للتعبير عن هذه الاختلافات القومية والدينية والتعبير عنها بطرق آمنة ومشروعة, وأن تحيلها إلى قضايا وطنية تقتضي البحث والتقصي وإيجاد الحلول المشتركة, بما يفضي إلى حلول ديمقراطية- وطنية مناسبة.
لقد حولت الحرب الأهلية الصمام السلطوي إلى أشلاء ورفعت الاحتقان الطائفي والقومي إلى مستوياته القصوى ولم تقدم حتى الآن أي بدائل عملية ولا حتى نظرية, باستثناء المناشدات الجوفاء لبعض العقلاء, والتي لا تملك الرصيد السياسي والاجتماعي الداعم لرؤيتها. وبقدر ما تظهر الأحداث الراهنة عقم هذه المناشدات وضعف الاستجابة لها, بقدر ما تظهر الحاجة لتوحيد هذه المناشدات ومن جميع الأطراف الفاعلة في الحالة السورية بضرورة إنتاج خطاب وطني جامع, بعد أن أثبت “أسلمة” الخطاب عقمه وخطورته على مستقبل الكيان السوري, وتفضيل البعد الإقليمي على البعد الوطني. وبالمقابل أثبت الخطاب القومي المضمر المؤسس لمنصة كردية مضادة لتركيا- بعكس الخطاب الظاهري المائع والفضفاض والداعي إلى فيدرالية جغرافية- لحزب الاتحاد الديمقراطي ارتباطه بمرجعية خارجية أيضاً وجلب تدخلاً تركياً مباشراً. وقد يحاجج البعض بأنه سواءً كان الخطاب القومي لحزب الاتحاد الديمقراطي خطاباً متوازناً أم لا فإن التدخل التركي هو تحصيل حاصل, وسواءً كان سلوك المعارضة السورية وخطابها متوازناً أم لا فستكون مرجعية PYD في جبال قنديل. وبدورنا نقول بأن سحب الذرائع عبر السياست المبدأية هي السياسة الصحيحة والمطلوبة دائماً, وخصوصاً في الأوضاع القابلة للتفجر كالحالة السورية. وسواءً قبلنا بمبررات الطرفين العربي والكردي أم لم نقبل فإن الموقف الشوفيني الأصيل المرتكب من طرف الأكثرية العربية كان أساسياً ومنذ البداية, وهذا ليس خطأ خاصاً بحق الكرد, بل يتعداه إلى كل سورية, ولنعترف أن تحول الانتفاضة إلى ثورة مسلحة ببرنامج وقيادة إسلاميين قد نقلها مباشرة إلى حرب أهلية بداية بالوكالة ومن ثم بالأصالة. وبعد أن صارت حرباً أهلية فقد امتلكت كل مبررات الصدام القومي والطائفي وأطلقت جميع الأبواق الإعلامية لشن حربها المقدسة.
وقد أعطت هذه الحرب السلطة- الطغمة كل المبررات لشن حرب إبادة للمدن والقرى وحرب إعلامية قل نظيرها في الدناءة والخسة والكذب والتحريض الرخيص, وقد عملت الآلة الإعلامية لبعض قوى المعارضة بنفس الآلية وما تزال, ويبقى السؤال لهذه القوى, ماذا جنت؟ وماذا ستجني إن استمرت على هذا المنوال؟
لطالما كانت الحروب الأهلية هي البيئة الأنسب لكل أنواع التعصب والقهر والتشدد, بكل أنواعها, ولطالما بقيت نيران هذه الحروب مشتعلة حتى أطفأها متدخل قوي من خارجها في معظم الحالات, فهل سننتظر القاهر الخارجي ليطفئ لنا هذه النيران؟ أم سنعمل طوعاً وبقناعة حقيقية على إطفائها؟ كلها أسئلة مشروعة وبحاجة ماسة للإجابة عنها سورياً؛ أي من أبناء سورية قبل غيرهم, ويبقى الأمل أن نكون قد تعلمنا “أن جميع أبناء الوطن خاسرون في الحرب الأهلية” وهو الدرس الأهم لبناء سورية القادمة.
5-6- مواقف تيار مواطنة من المعارضة
منذ تشكيل أو تمثيل المعارضة السورية- المجلس الوطني- اتخذ تيار مواطنة منه موقفاً إيجابياً, لكن دون الانخراط في تشكيلته ودعا إلى موقف نقدي- إيجابي ورفض جميع الدعوات للهجوم عليه من ناحية تمثيليته واعتبرته مواطنة الأكثر تمثيلية من الزاوية التي كانت هيئة التنسيق واليسار عموماً يهاجمه منها بالضبط وهي “هيمنة الإسلاميين عليه”. بالمقابل كان تيار مواطنة ناقداً حقيقياً لعدمية المجلس ورفضه لجنيف ولتوسعته, ونتيجة لتلك العدمية والتمترس الفارغ, دعت السعودية والولايات المتحدة وقطر لاحقاً إلى تشكيل بديل عنه هو الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة, ويجب أن نضيف هنا أن أن نقدنا للائتلاف لم يكن كما يجب ولم يكن في جذر سياسة الائتلاف والتي أوصلت المعارضة إلى تفارقها مع الموقف الدولي والتصاقها بالموقف التركي الذي يوافق الموقف الأصيل للإسلام السياسي السوري في سعيه إلى دولة إسلامية أقل ما يمكن وصفها أنها ستكون معادية لحقوق المواطنة والمساواة, وقد يكون من المفيد الإشارة إلى الوضع المركب في الدولة التركية؛ فبنية الدولة العلماني والديمقراطي يتيح لحكومة إسلامية أن تحكم, وهذا بحد ذاته تعارض مع توجهات الإسلام السياسي الذي يرفض العلمانية والتعددية عموماً ولذلك يهاجم الإسلام السياسي العلمانية التركية ويمجد حكومة أردوغان ولذلك أيضاً تحاول الحكومة التركية ضمان حصتها في الدولة السورية المقبلة عبر “أخوة المنهج”.
خاض تيار مواطنة في تلك المرحلة من أيار 2011 وحتى نهاية 2012 تجربتي تحالف؛ الأولى كانت “ائتلاف وطن”[9] وضم في حينه أكثر من 10 قوى سياسية ومدنية والعديد من الشخصيات الوطنية وكان هذا الائتلاف يعد بتشكيل جبهة ديمقراطية- وطنية عريضة, لكن انفراط عقد القوة الإسلامية- الليبرالية داخله وتشكل المجلس الوطني وهيئة التنسيق الوطنية قد أدت مجتمعة إلى تحوله إلى كتلة متنافرة ثم انفرط عقده.
الثانية كانت “ائتلاف القوى العلمانية” وتشكل من بضع قوى وعدة شخصيات, غلب على عمله الطابع الفردي والرغبة بالظهور وتكبير الذات فانسحب تيار مواطنة منه سريعاً[10] ولم يبق من التجمع سوى بعض الأفراد.
وفي التجربتين السابقتين لم يكن لتيار مواطنة من هدف سوى إعلاء الشعار الديمقراطي والمعادي للطائفية والذي لا يسقط أيضاً في مطب المساومة على أهداف الثورة في التغيير الشامل. لذلك وعبر كل أدبياته كان تيار مواطنة يعتبر أن هذه التحالفات صغيرة الأثر- لكن ضرورية دائماً – وسيأتي يوم تكون لهذه النويات قدرة عالية على الفعل بتأثير التغيرات الحاسمة على قوة السلطة وعلى المعارضة الإسلامية وعلى توسع القاعدة الديمقراطية المعارضة. وتأتي مشاركة تيار مواطنة في “التجمع العلماني الديمقراطي”[11] الآن بنفس السياق, فهل ينجح أكثر من التجمعات السابقة في تشكيل قوة علمانية- ديمقراطية لها وزن نسبي مقبول داخل المعارضة, أم سيبقى كأسلافه ظاهرة إعلامية لا أكثر؟ الأمر كله مرهون بمستويين؛ الأول موضوعي له علاقة ببيئة محيطة مساعدة, والثاني ذاتي ويتعلق بقدرة هذه القوى والشخصيات على الخروج من الضعف العام- في الوسط ذي الطابع الإسلامي الطاغي- المعادي للعلمانية وللديمقراطية في سورية عبر تاريخها عموماً وبسيادة البرامج الدينية والطائفية والقبلية في مرحلة الحرب الأهلية. ومن المهم الإشارة إلى توجه تيار مواطنة بعد مؤتمره الأخير إلى الدخول في تحالفات على أسس علمانية- ديمقراطية وإلى تقوية هذا التوجه لدى جميع القوى الديمقراطية مهما اختلفت توجهاتها الفكرية من قومية أو يسارية.. الخ وتجدر الإشارة إلى نقاط الاستناد التي حددها التيار لهذا الغرض والتي تصلح كمرشد عمل عام لإقامة أوسع جبهة ديمقراطية.([12])
هل كان الرهان في محله؟ الأمل أن تتقوى النوى الجديدة كتجمعات- فالقديمة ماتت- وأن تكتسب المعارضة العلمانية معرفة كافية في تعقيدات الحالة السورية في تطورها الدائم لكي تكون رافعة حقيقية للفعل وليست مجرد أوهام وشعارات ومظلوميات.
5-7- تقييم لوضع المعارضة
يمكن بسهولة اليوم تقسيم المعارضة إلى قسمين رئيسين؛ الأولى مندرجة في الحل الروسي- التركي وتتمثل بمنصة موسكو والائتلاف على اختلاف رؤيتهما وأسسهما الفكرية- فجبهة التغيير والتحرير انشقاق عن الحزب الشيوعي, فصيل بكداش, بينما إسلاميو الائتلاف والحكومة المؤقتة كممثلة للفصائل هم إسلاميون مع الخط التركي, التقت رؤية الطرفين بعد التفاهمات والتحالف الروسي-التركي في أستانا وأخيراً في سوتشي, وليس غريباً أن نقطة التفاهم المركزية تقوم على التعارض والعداء للرؤية الأمريكية والسعودية للحل في سورية ومن ثم موافقة موسكو على حرمان الكرد من أي تواجد على الحدود التركية- والقسم الثاني من المعارضة هي المندرجة في جنيف وتتمثل بمنصة القاهرة والهيئة العليا للمفاوضات, وإذا كان القسم الإسلامي قد تمتع عبر تاريخ الانتفاضة والحرب الأهلية بدعم كبير عسكرياً ومالياً من حلفاءه القطريين والأتراك والسعوديين وبدعم سياسي دولي وتركي وقطري من خلال الائتلاف والحكومة المؤقتة فقد فرّط بكل تلك المكاسب على مذبح أسلمة الفصائل والمناطق وإقامة “شرع الله” وعلى حساب النشاط المدني والحريات العامة والخاصة ومازالت آثار هذه السياسة “!” قائمة حتى الآن في إدلب. أما معارضة جنيف فقد تلقت الكثير من المال والسلاح السعودي على يد ممثلها الأبرز عسكرياً “جيش الإسلام” وفرّطت عسكرياً وشعبياً بكل تلك المكتسبات في الغوطة الشرقية والأرجح الآن أن تلتزم بالسياسة السعودية- الأمريكية الداعمة لمسار جنيف, من هنا يكون تقديرنا العام أن الأولى ستتلقى ضربة بسبب الموقف الغربي عموماً والأمريكي خصوصاً المعادي لمسار سوتشي والمصر على شرعية دولية تنقل سورية خارج الاستبدادين السلطوي والإسلامي.
5-8- علاقات السلطة مع البيئة الموالية
كان رهان قسم من المعارضة على شق صف البيئة الموالية للسلطة- الطغمة منذ اليوم الأول للانتفاضة, وكان هذا الرهان منصباً على أن البيئة الموالية ستترك السلطة لمصيرها الأسود لأن الشعب المنتفض على حقّ والسلطة على باطل. لكن مسيرة الانتفاضة إلى ثورة متعددة التوجهات الإسلامية ومن ثم تحولها إلى حرب أهلية بالوكالة بداية ومن ثم إلى حرب أهلية مكشوفة إلى حدّ بعيد قد أثبتت خطأ جميع المسلمات التي تقوم على الحق والدوافع الإنسانية والشعارات الوطنية وبقيت بعض الحقائق العنيدة تسيطر على مخيال الجموع وعلى سلكوهم وعلى الإعلام الموالي.
ورغم أن السلطة- الطغمة لم تدخر وسيلة سياسية أو كذبة إعلامية أو حيلة اقتصادية إلا واستخدمتها في وجه مؤيديها لإبقائهم داخل بيت الطاعة الفولاذي, كما لم تتورع عن استخدام درجات من القمع والترهيب في وجه من يجرؤ من الموالين على معارضتها. وكان رهان السلطة عبر السنوات السبع الماضية على خوف الفئة الموالية من المستقبل وخاصة أن السلطة لديها من الوثائق الصحيحة- هذا عدا عن الكاذب منها- ما يخيف الكوكب بأسره من المعارضة, وبالتالي يصح أن نقول أن الانتفاضة لم تكسر جدار الخوف في سورية, بل عززته في كثير من الحالات والمناطق وأماكن العمل وخصوصاً في مناطق سيطرة السلطة وداخل بيئتها اضافة الى خوف الموالين من المنتفضين.
الرهان الثاني للسلطة- الطغمة كان على فشل المعارضة في تقديم نموذج حياة أفضل في ظل قصف وترويع تلك المناطق من قبل طائرات السلطة ومدافعها ولاحقاً طيران الروس وأيضاً هي مقولة الخوف من المآل الكارثي للانتفاض في وجه هذه السلطة, أما التهجير والجوع والعطش والحرّ والقرّ فتعتبر مواد متممة للموت والإصابات المريرة.
الرهان الثالث ويمكن اعتباره تعويلاً على المساعدة العسكرية الروسية- الإيرانية في تقديم صورة قوية ومسيطرة للسلطة تجعل الموالين يفكرون مليون مرة قبل أن يصدقوا أن السلطة باتت ضعيفة, فخلفها تقف دولتان من أقوى الدول في العالم القديم (كذا!)
القضية الأخطر في علاقة السلطة مع بيئتها الموالية هي تصويرها ونجاحها في تصوير العلاقة بين السلطة وبيئتها بأنها علاقة حياة أو موت؛ ستموتون إن سقط النظام, وقد عزز سلوك المعارضة ودعايتها السوداء هذا التصور لدى جمهورها ثم انتقلت عدواه إلى الجمهور الأكبر من الشعب السوري- أي شعب- وهو الفئة الرمادية, حيث بدأ قسم كبير من الرماديين الذين بدأوا بمحاباة السلطة بعد هذا الكم الهائل من الضخ الإعلامي والكذب “الثوري” والممارسات الإجرامية لمعظم الفصائل الإسلامية التي لا يمكن حصرها أو معرفة أسمائها حتى على امتداد الجغرافيا السورية. هذا الإعلام المتشح بالسواد والذي يهدد بأنه سيبيد الأقليات وسيطبق “حدود الإسلام” على كل مخالف لمشيئته!
كانت جرائم الفصائل الإسلامية وتبريرات الواجهات السياسية والإعلام “الثوري” لفشل المعارضة في إدارة مناطق سيطرتها أكثر من هدية للسلطة- الطغمة وأكثر من مبرر وعذر للولايات المتحدة الأمريكية والأوربيين للإحجام عن تقديم الدعم العسكري الفتاك والتدخل المباشر خلال الفترة من 2013 حتى 2017 لأن سيطرة الفكر القاعدي- السلفي الجهادي- قد بلغ ذروته في معظم مناطق سيطرة المعارضة- حوالي 40% من مساحة سورية- وكانت “داعش” و”تنظيم القاعدة- النصرة” أهم وأقوى فصيلين في المعارضة, وطبعاً من وجهة نظر تيار مواطنة لا معنى مطلقاً للقول أن داعش أو غيرها “صنيعة النظام” أو غيره من أجهزة الاستخبارات, وإنما هي نتاج الظروف المواتية موضوعياً وذاتياً وستعود للظهور كلما سنحت الظروف وقدمت لها البيئة المناسبة. إذن شكل ظهور هاتين القوتين فرصة ذهبية للسلطة- الطغمة لتقدم نفسها لبيئتها الحاضنة أولاً ولحلفائها الإقليميين والدوليين ثانياً وللمجتمع الدولي بما فيه الخصوم- الأمريكان والأوربيين- على أنه يحارب الإرهاب, وقد حاربه عندما كان ضرورياً وأدار هذه المعركة بمهارة فائقة عسكرياً وسياسياً وإعلامياً.
يكفي أن نتذكر أن الولايات المتحدة قد شكلت مجموعة دولية لمكافحة الإرهاب في سورية واستمرت في عملها من الجو وعلى الأرض منذ تشرين أول 2014 وحتى تحرير الرقة تشرين الأول 2017. وبهذا المعنى, كان ظهور داعش والنصرة حرفاً لمسار المواجهات وإطالة قاتلة لزمن المعارك على حساب الشعب المنتفض وعاملاً مساعداً على تماسك جمهور السلطة معها وعلى حساب النتائج السياسية للثورة وللحرب, فقد تعبت المعارضة وبدأ جمهورها بالتململ والشكوى والانفضاض عنها وبدأت المصالحات في بعض المناطق تأخذ شكلاً احتفالياً بالخلاص من المعارضة وسيطرتها العسكرية على المدن والقرى. فكم سيشكل هذا درساً بليغاً لجمهور السلطة وإحساساً وزهواً بالانتصار والصمود والدعوة لممارسة أعلى درجات العنف والبهيمية في وجه الشعب المنتفض؟!
يمكن قول الكثير عن السلوك المخزي لجمهور السلطة- الطغمة, لكن أخطر ما يمكن أن يقال أن هناك شرخاً عميقاً قد كرسته السلطة بوعي وكأنها ستبقى حامية لجمهورها إلى الأبد- بالطبع مراهنة على موقف المجتمع الدولي من أي فعل انتقامي- وقد قبل هذا الجمهور بسلوكه الغريزي هذه الحماية وسار على هديها حتى اللحظة, ويبقى للحكمة وللعقل في المستقبل اجتراح الحلول لرأب بعض من هذا الصدع بين مكونات الشعب السوري المنقسمة عمودياً وبحدة لا يقبلها المنطق.
وكان الخوف داخل تيار مواطنة من أن تؤول الأمور إلى هذه الدرجة من السوء مبرراً, واعتبر التيار أن الانقسام العمودي في المجتمع هو أبو الشرور في الأزمات الثورية, ليس فقط لأنه سيدمر المجتمع ويذرره إلى بنى ما دون وطنية, بل لأنه سيجيش فئات اجتماعية ضد التغيير المنشود وبالتالي سيعيق انتصار أي برنامج معادي للاستبداد ومؤسس لدولة تعددية وديمقراطية. كما راهن على بعض السياسات المتوازنة لجذب بعض الفئات الرمادية المحددة لموقف إيجابي من الثورة واعتبر على طول الخط أن هذه الفئات ستشكل صمام أمان في وجه التطرف من السلطة ومن المعارضة وأعطى لها دوراً حاسماً في المرحلة “الانتقالية” وفي مرحلة البناء الوطني والديمقراطي, وقد يكون من المفيد مراجعة سلوك السلطة والمعارضة تجاه هذه الفئة الرمادية بعمق لاحقاً.
5-9- علاقات السلطة مع البيئة المعارضة
يمكن قول الكثير عن هذه العلاقة, لكن بعض النقاط الحادة تكفي لتبيان البهيمية التي تعاطت بها السلطة- الطغمة مع ثلثي الشعب السوري. وإن كان المبدأ الإنساني والحقوقي العام يقول بأن قتل نفس واحدة هو قتل للعالم أجمعين, فإن تقييم ما انتهجته السلطة عبر السنوات السبع المنصرمة يثبت بأنها لم تمانع- بل على العكس كانت ترغب- بأن تقتل الناس جميعاً, والناس جميعاً هنا البيئة المعادية لها.
وتأتي مقولة رأس النظام عن الجراثيم ومرة أخرى الأورام, وكلها تشير إلى ضرورة الاستئصال والسحق وبالنهاية الوصول إلى مجتمع خالٍ من العناصر المنتفضة أو المعارضة, فهل يذكرنا هذا بمقولة القذافي عن المنتفضين الجرذان؟
ولا نحتاج للجدال بأن شعاري “الأسد أو لا أحد” و”الأسد أو نحرق البلد” قد حددا منذ اليوم الأول سلوك السلطة- الطغمة تجاه المجتمع السوري بعامة والمنتفض منه بخاصة, كما لا قيمة للجدال بأن السلطة تقيم حوارات مع بعض أطياف “المعارضة” أو لا تعتقلهم أو لا تقتلهم, ومعلوم أن كل معارض- وفق تصنيف السلطة- هو عرضة للتصفية وبأبشع الطرق وأخطرها, حيث تبدأ عملية التصفية بالاعتقال والتغييب ثم الموت نتيجة الأمراض أو التعذيب. ولأن مثل هذا الجدل يقود بالضرورة إلى الوقوع في قبول أن هذه السلطة تقبل الحوار فمن المفيد أيضاً إلقاء الضوء على المصالحات والهدن منذ 2013 وحتى اليوم؛ فجميع هذه المصالحات كانت تعني شيئين مهمين للسلطة: إعادة السلطة وهيبتها إلى المنطقة المعنية بالمصالحة وإنهاء ملفات المسلحين المعارضين بأحد اتجاهين, فإما الانضمام إلى ميليشيا تابعة للسلطة أو لجيشها أو التهجير خارج مناطق السلطة وفي الحالتين تستفيد السلطة من هذه العملية, والأخطر إذا نظرنا من وجهة نظر البيئة المعارضة للسلطة فسنجد أن هذه المصالحات والهدن قد أسقطت ولزمن طويل عودة هذه المناطق للفعل المعارض وأخرجتها تماماً من هذا التصنيف وأضافتها إلى مناطق سيطرة السلطة بما يعني من هزيمة نفسية وخسارة لكل التضحيات مقابل فك الحصار وإيقاف القصف, كما تعني تقديم شباب هذه المناطق إما كقوة مقاتلة مع السلطة أو كقوة محتملة لمشاريع خارج سياق الثورة تماماً على الحدود السورية- التركية.
كان المنطق الوحيد الذي قبلته السلطة من بيئة المعارضة الخضوع والتسليم مقابل الأمان الشخصي وبعض خدمات الحد الأدنى لمعيشة البشر وإلا فالقتل والتدمير والجوع والحصار انتصاراً لمقولة سنحرق البلد.
5-10- التغييرات الحاصلة داخل النظام بعد سبع سنوات على الثورة
فقدت السلطة الطغمة الكثير من قوتها البشرية والاقتصادية خلال هذه السنوات, ويكفي النظر إلى صفحات الموالاة على مواقع التواصل الاجتماعي حتى ندرك حجم الخسائر الفادحة في الأرواح والإصابات وهي تقديرات تزيد عن 150 ألف قتيل في الساحل السوري فقط, أما في باقي مناطق سيطرة النظام فلا إحصائيات واضحة ومثبتة حتى الآن, لكن وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن الجسد الأساسي لتشكيلات جيش السلطة مازالت متماسكة فأي تعويل على انهيارها يبدو ضرباُ من العبث.
أما الجانب الاقتصادي فيحتاج إلى دراسة منفصلة متخصصة عن هذه المراجعة ويمكن فقط التشديد على أن السلطة وحلفاءها قد تلافوا الانهيار الحاصل في الاقتصاد السوري ويمكن أن تصمد زمناً لا يمكن حسابه بثقة ضمن المعطيات المتوفرة.
بالطبع لا يتم هنا تناول العلاقة مع المعارضة, بل مع جزء من الشعب السوري الواقع مباشرة تحت سيطرة الطغمة وهنا الكارثة التي تؤسس لكل نظرة مستقبلية عن هذه السلطة, فإذا كانت قد ابتلعت الدولة عبر تاريخها منذ 1970 فقد أنجزت ما هو أكثر خلال الثورة, فلا دولة ولا حكومة ولا برلمان ولا أي مظهر من مظاهر السيادة الوطنية باقٍ, ولا حتى القشور منها, وفقط هياكل فارغة بدون مضمون مهمتها فقط إشاعة الفساد والدعاية السلطوية الكاذبة وممارسة الأدوار التخريبية للمجتمع.
لم نكتشف جديداً بحديثنا عن غياب الدولة في سورية, فهي شبه غائبة عبر عهد الأسدين الأب والابن ومسيطر عليها من قبل السلطة, بل أكدنا مقابل غياب الدولة على أن “السلطة- الطغمة” بألف خير فجيشها والميليشيا والأجهزة الأمنية وجيوش من الموظفين قاطعي الطرق تحت أمرتها وفي خدمة دعايتها مقابل الفتات والكسب المضمخ بدماء السوريين الضحايا.
- مآلات وآفاق:
6-1- المعارضة وآفاقها
بالعودة إلى تقييمنا لتحالفات المعارضة الدولية والإقليمية نلاحظ انقسامها وفق هذه الرؤى الدولية والإقليمية, ولنفصل هذه التوجهات ضمن المعارضة السورية بطريقة مغايرة للتقسيم السابق:
- أولاً, معارضة الحل التركي, وقولنا “التركي” يعني بالضرورة الآن أنه روسي- تركي وهو يطمح لمشاركة فاعلة للإسلام السياسي كحصة مضمونة للحكومة الإسلامية التركية في سورية المستقبلية والتي باتت تقبل بعد هزائمها الأخيرة بتسوية مع السلطة القائمة. ويمثل هذا التوجه الائتلاف الوطني كممثل سياسي والحكومة المؤقتة الممثلة للفصائل الإسلامية المحلية والمهجرة في إدلب وريف حلب.
- ثانياً, حلفاء الروس من “المعارضة” الرخوة والتي ترفض أي دور غربي وتعتبر الحل الوحيد المقبول ما تراه موسكو وتمثلها منصة موسكو.
- ثالثاً, المجموعة المتسقة مع مقررات جنيف, وتمثل الهيئة العليا للمفاوضات جزءاً مهماُ منها إضافة إلى مجموعة قوى خرجت من الائتلاف بعد محاباة القسم الإسلامي منه للسياسة التركية, مع أن الهيئة تمثل جميع الأطياف من الائتلاف الوطني إلى منصة موسكو.
وبالتالي يصبح من السهل الحكم على توجهاتها العامة ومقدار اقترابها من الواقعية وفهمها العقلاني للسياسة الدولية والإقليمية والبينية, بالإضافة إلى مقدار الحرية أو الهامش المتروك لها للحركة بمساعدة هذه الأطراف.. هذا من الجانب الموضوعي, أما من الجانب الذاتي المتعلق ببنيتها وببرامجها فهي عوامل متغيرة, وليس بالضرورة إلى الأفضل, بل على الأرجح إلى الأسوأ كما حصل بعد 2012 بسبب تبنيها لسياسة شعبوية مدمرة, ويمكن التنبؤ هنا عملياً ونظرياً بمستقبل هذه المعارضة وفق المعطيات المتوفرة فعلاً ووفق المنحى العام للسياسة الدولية والمحصلة العامة لسياسات الدول الإقليمية. ويمكن عموماً القول بأنها تمتلك فرصاً أكبر للنجاح في حال قدمت الدول الفاعلة دولياً وعلى رأسها الولايات المتحدة دفعة قوية للحل السياسي على أساس مقررات الأمم المتحدة وضغطت على الأطراف الإقليمية لقبول هذا الحل واستخدمت العصا الغليظة لردع السلطة وحليفها الإيراني عن تخريب هذه العملية.
إذن وفق هذا التسلسل “المنطقي” يمكن أن تكتسب المعارضة المتساوقة قولاً وفعلاً مع الرؤية الدولية – الولايات المتحدة والدول الأوربية الغربية- للحل السياسي في سورية قوة ونفوذاً وبالمحصلة مشاركة حقيقية في رسم مستقبل سورية وقيادتها. وكما حصل منذ بدايات الانتفاضة, ومن دروسها التي يجب أن تُحفظ جيداً, فلا حلّ سياسي بدون قوة قادرة على أن تفرضه؛ بحيث تؤسس هذه القوة للحل وتفرضه على الدول الإقليمية وخاصة أن سورية مطمعٌ حقيقي لإيران ولتركيا ولإسرائيل وسبباً للكثير من المشاكل للخليج والأردن ولبنان, عدا عن كونها مصدر قلق دولي. ووفق جميع المعطيات المتوفرة لا تستطيع أي دولة بمفردها أن تقوم بهذا الدور باستثناء الولايات المتحدة الأمريكية, وستكون دول أوربا الغربية في أثرها, وسيكون سيناريو المواجهة مع الروس محسوماً سلفاً, فالروس يريدون بقاء هذه السلطة وأكثر من ذلك يتقدمون في حال كانت سياسة الولايات المتحدة ترك المجال للروس لمعالجة الموقف, وسيدافعون عن حصتهم في سو رية المستقبل, لكنهم لن يواجهوا الأمريكيين وحلفاءهم عسكرياً وبحرب مفتوحة من أجل هذه السلطة.
ويبقى للمعارضة فرصة التقدم قريباً في ضوء عدم نجاح الروس في سوتشي الأول, وإذا كان سوتشي الثاني مفروضاً فالإصرار على تشكيل الهيئة الدستورية والمباشرة بعملها كما نص عليها سوتشي الأول من أجل إحراج السلطة وحليفها الروسي, ثم الإصرار على ملف المعتقلين والاستعداد الكامل له. يجب إفشال كل محاولات الروس على فرض حل سياسي خارج الأمم المتحدة والمجتمع الدولي والإصرار على مرجعية جنيف ومقرراته والتعاطي بأقصى درجات المرونة مع المبادرات الدولية المتعلقة بالحل السياسي, لكن ودائماً مع التمسك بمستقبل خالٍ من الطغيان السلطوي والإسلامي على السواء.
6-2- السلطة وآفاقها
في لحظات الهزيمة بدا أن هذه السلطة ستتأبد, وبدا الدور الإيراني أقوى مما هو بأضعاف مضاعفة, ولا شك أن ضعفنا الشديد قد أوهمنا بذلك, وأكثر من ذلك اعتبر الكثيرون منا أن الشمس تشرق من موسكو, وأنها كلية القدرة في الحالة السورية ضمن معطيات الانسحاب الأمريكي, وقلة من المعارضة أشارت إلى ذلك المراقب القوي الذي احتل زاوية كبيرة من الخارطة السورية وراح ينتظر الساعة المناسبة ليقلب كل الطاولة على اللاعبين الأساسيين.
وقلة فقط أيضاً ما يزال لديها الوهم أن هذه السلطة قادرة على استعادة سورية كجغرافيا موحدة وكشعب, حتى بدعم مطلق من حلفائها الروس والإيرانيين وغيرهم.
هناك متغير جوهري بدأت ملامحه بالظهور؛ فقد تعب الأمريكيون والإسرائيليون من العبث والزعرنة التي مارستها إيران وميليشيا حزب الله وبدرجة أقل من السلطة عبر عقود باسم “الممانعة والصمود والتصدي”. وهو دور كان يمكن السكوت عنه حتى قيام الثورة, وحتى خلال مرحلة القضاء على داعش, لكن الآن باتت دمشق مرتعاً للحرس الثوري الإيراني وأسلحته القادرة على تهديد جدي لإسرائيل ولتقويض قيام أي مشروع دولة مستقلة في العراق ولقلاقل لا تنتهي في لبنان الممسوك من قبل حزب الله. وجميع هذه القوى حلفاء للسلطة السورية ومقومات صلبة لوجودها, فهل يمكن التغاضي أكثر عن استمرارها, حتى لو نحينا جانباً حقوق الشعب السوري بدولة ديمقراطية؟
ما ظهر خلال الأيام الأخيرة ,منذ انسحاب ترامب من الاتفاق النووي الإيراني, من قصف للمواقع الإيرانية والميليشيات الشيعية ومواقع حزب الله يؤكد النية الأمريكية والإسرائيلية على إخراج هذا الحلف المقدس من سورية, كما تؤكد الضربة الثلاثية المحدودة لمواقع تصنيع وتخزين الأسلحة الكيميائية على نية الدول الغربية على معاقبة السلطة لاستخدامها الكيماوي وتنفيذ القرار 2118 أيلول 2013.
لهذا كله لا يبدو هذا التأبيد ممكناً حتى الآن, كما لا يبدو أن نهاية هذه السلطة- الطغمة على جدول المهام الفورية, ويكفي ملاحظة السعار الإيراني والسلطوي في إعلامهم الآن حتى نقول أن هذه الأنظمة باتت تعاني من مخاوف مشروعة من طرفها من ضربات إسرائيلية وغربية وما سيتبع هذه الضربات تالياً من قلاقل اجتماعية, وما سيتبعها من هزائم عسكرية ومعنوية بتنا ننام ونفيق على أخبارها.
وإذا كان ظهور القوى الجهادية مثل داعش والنصرة وأخواتها قد شكل أحد أهم أسباب عدم التدخل الدولي في مواجهة السلطة وحلفائها, كما أن الانقسام العمودي للمجتمع السوري وانحياز الأقليات الدينية الكاسح لصف السلطة, وأخطاء ممثلي المعارضة ووقوعهم تحت سطوة الفصائل المتشددة وكل ما قلناه عن أخطاءها الأخرى, قد أطال في عمر هذه السلطة وأضعف المعارضة إلى حدّ خسارة معظم الأراضي التي كسبتها منذ 2012, فإن ملاقاة المعارضة السورية لمتغيرات السياسة الدولية ببرنامج عمل موحد, ديمقراطي, تعددي ويعتمد مبادئ فصل الدين عن الدولة والعقد الاجتماعي الذي يؤسس لدولة المواطنة لجميع السوريين وفق خطة انتقال من سلطة الاستبداد إلى دولة القانون والكرامة والحرية, سيشكل خطوة أولى على الطريق الصحيح للسلطة- الطغمة وحلفائها مجتمعين.
6-3- الحل العسكري
هل بقي للحل العسكري من حظوظ؟ من جهة السلطة هناك احتمال ضعيف جداً, في حال تراجع الأمريكان وحلفائهم عن إضعاف الإيرانيين والميليشيات الشيعية, لكن الدلائل القائمة بقوة اليوم تشير إلى أن على حزب الله والإيرانيين الانسحاب العسكري من سورية, وهذا لا شك إضعاف كبير لقدرة السلطة على الحسم العسكري.
يضاف إلى انسحاب الإيرانيين التزام الروس بمناطق خفض التصعيد في الجنوب المضمون إسرائيلياً وأمريكياً وأردنياً, وعدم قدرتهم على ضرب قوات سورية الديمقراطية في الشمال الشرقي ولا على قصف مناطق الهيمنة التركية في ريف حلف وإدلب لأنها خاضعة لتفاهمات الدول الثلاث الضامنة.
ما بقي من سورية المفيدة في قبضة السلطة وحلفائها لا تشكل أكثر من 60% من أجمالي مساحة سورية وبدون منافذ حدودية على الدول المجاورة, فهل هي سورية التي تقبلها السلطة وهل تستطيع تحريرها بالعمل العسكري؟
يبدو أن الروس قد اقتنعوا باستحالة استكمال العمل العسكري ويريدون الآن حلاً سياسياً وهم يدركون جيداً أن التدخل الأمريكي سيعني القضاء على الحل على الطريقة الروسية لذلك يبدو أنهم مستعجلون جداً, فهل يصلون؟!
6-4- الحل السياسي
إذا عدنا بالذاكرة إلى أولى المبادرات العربية وما تلاها من مبادرات دولية وعربية أخرى, فإنها بالمجمل كانت تقول بضرورة “الحل السياسي”. ووحدها المعارضة الرئيسية في حينها- المجلس الوطني- لم تلحظ حساسية المجتمع الدولي تجاه الحالة السورية وتعقيداتها, وحينها بدا المجلس الوطني, في استجابته لتلك المبادرات, لا يريد العنب بل كل همه قتل الناطور ولا يقبل بأقل من الانتصار العسكري على السلطة, وقد ذابت ألسنتنا ونحن نردد بأن التفاوض هو الطريق الوحيد للخلاص من هذه السلطة إذا أردنا موقفاً دولياً داعماً لقضيتنا ضمن ميزان القوى الراجح لصالح الانتفاضة في تلك المرحلة, وأن التفاوض لا يعني بجميع الأحوال التسوية وإن كان يعني انتقالاً سلمياً بدون سقوط عسكري للسلطة وفق رؤية المجتمع الدولي, ويكفي أن نذكر مبادرة بعض الشخصيات لتأسيس وثائق سياسية تبين رؤية المعارضة لحاضر سورية ولمستقبلها وبدعم دولي وعربي في حينه في القاهرة- 2-3 تموز 2012- وبعد اجتماعات مكثفة وتردد وممانعة, ثم مع الموافقة الشكلية من قبل المجلس الوطني وبخلاف مفتعل مع هيئة التنسيق الوطنية, التي رأت أن سقف الوثائق عالٍ ولتقبل هي الأخرى على مضض, ثم ليتراجع الطرفان عن المصادقة على الوثائق وليخربوا الاتفاق على تشكيل لجنة متابعة لتلك الوثائق التي كانت تعني جدية المجلس والهيئة في الوصول إلى تفاهم سياسي موثق بدلاً من المهاترات- معارضة داخلية ومعارضة خارجية- وعدم الثقة المتبادلة بينهما, وبالنتيجة لم تبدأ مشاركة المعارضة الرسمية إلا في جنيف 1 وبعد تشكيل الائتلاف الوطني على أنقاض المجلس الوطني.
إذن هذه هي السياسة الدولية التي تراعي تعقيدات الوضع السوري, ومن أهم ثوابتها عدم إسقاط السلطة عسكرياً وقيام نظام إسلامي, لكنها وبكل الأحوال كانت قاسية جداً في انسحابيتها أمام همجية السلطة وحلفائها, الذين فهموا المعادلة جيداً وغزلوا عليها حتى الرمق الأخير, وقد ساهمت هذه الانسحابية بتوجه الغالبية الساحقة من مقاتلي المعارضة إلى قوى متشددة وقسم منهم إلى أقصى حالات التشدد بالتحاقهم في صفوف داعش والنصرة. بالمقابل استغلت السلطة هذا الانكفاء لتنقض بكل فنونها التدميرية ولتقلب موازين القوى لصالحها بعد التدخل العسكري الروسي المباشر 30 أيلول 2015.
ومهما قلنا الآن عن الأخطاء المدمرة للمعارضة في حينها فلسنا بمنأى عن الملامة فجلّ ما سعينا له منذ بداية 2013 كان العودة إلى مسار تفاوضي وفق رؤية المجتمع الدولي, وليس وفق رؤية السلطة وحلفائها المسلحين حتى الأسنان بكل أسلحة الفتك, مقابل سلاح المعارضة المفتقد للدفاع الجوي ولسلاح الطيران. وإذا كان حسم أي معركة لا يتمّ من الجوّ فإن حصار المناطق وتركيعها يتحقق إذا كان منع المعارضة من امتلاك مضادات الطيران سياسة دولية معلنة وصريحة مترافقة برضوخ إقليمي (تركي- قطري- سعودي) مفهوم؛ ووحدها المعارضة بقيت تصرخ بضرورة توفير مضادات الطيران ونسيت أن هناك تفاهماً دولياً بدأ بالتشكل لمواجهة داعش وأن هذا السلاح سيسقط بيد مقاتليها, شئنا أمْ أبينا, كما حصل في الكثير من مستودعات الرقة ودير الزور وحلب وإدلب وريف حمص, وهذا مرفوض بالتأكيد من قبل الأمريكان, لكن كان من المفترض أن نرفضه نحن كمعارضة ليس لفظاً بل عملياً بتحصين الفصائل ضد داعش والنصرة وأخواتها, ومن الجدير بالملاحظة حرب السيطرة الدائرة الآن بين هذه الفصائل (جبهة تحرير سورية وهيئة تحرير الشام) في محافظة إدلب وقدرة الهيئة على ابتلاع الجميع لولا الضغط الغربي على تركيا لإنهاء ملف “تنظيم القاعدة في بلاد الشام” ممثلاً بجبهة النصرة, الفصيل المسيطر داخل الهيئة.
قد نجادل طويلاً في أخطاء المعارضة, لكن الخطأ القاتل كان في عدم قبول فكرة الحل السياسي المقبول دولياً, والاعتقاد الكاسح بأن الدعم القطري- التركي سيقدم للفصائل الإسلامية مقومات النصر العسكري وبالنتيجة السياسي على السلطة وحلفائها, ويمكن القول أن هذا الاعتقاد- الوهم قد أسس لقبول فكرة “دولة إسلامية” أو دولة يحكمها الشرع الإسلامي, أو أي تنويعة على هذه النغمة, متناسين ثوابت السياسة الدولية وقدرة السلطة وحلفائها على الحشد للمشروع المقابل المضاد “للسنة” والراسخ في المنطقة من عدم قبول الأقليات الدينية وحتى القومية لفكرة الدولة الإسلامية وصراعها مع هذه الفكرة حتى الموت, وهذا صراع يخرج من منطق الاستسهال القائل “لننتهي أولاً من السلطة ولنترك شكل الحكم للمستقبل, أو حتى لصناديق الاقتراع” إلى منطق الصراع العسكري والسياسي والفكري, حيث يتناسى أصحاب هذه الفكرة المضلِّلة بأن ما تحقق في مناطق سيطرة المعارضة كان تمثيلاً واقعياً لما ستكون عليه سورية الإسلامية في حال سقطت بيد هؤلاء الإسلاميين وأن محافظتي الرقة ودير الزور قد ابتليتا بأقذر أنواع البلاء وأشده فتكاً تحت سيطرة داعش, وأن ممارسات النصرة في مناطق سيطرتها إنما هي بالضرورة تمهيدٌ لسيطرة داعش ولا يمكن قبول مرونتها إلا وفق منطق سياسة “التمكين” التي تتبعها في مناطقها, ولندع جانباً الأطراف الأشد تطرفاً كداعش والنصرة ولنلقِ نظرة على الغوطة الشرقية أو حتى محافظة درعا, حيث كان جيش الإسلام فصيلاً معتدلاً وبدعمه السعودي قد قبل بكل المبادرات العسكرية- خفض التصعيد- والسياسية مثل جنيف, ويحضر ممثلوه جميع هذه اللقاءات ويبدون مرونة إعلامية وسياسية عالية, فهل كانت دوما تحت سيطرتهم مثالاً يحتذى أو حتى مقبولاً لعيش السوري الكريم؟ هل قدم جيش الإسلام الحدّ الأدنى اللائق لمواطني دوما معاشياً وخدمياً؟ وإذا افترضنا أن هذه الحدود شبه مستحيلة بسبب الحصار والقصف, هل قدم على المقلب الآخر نموذجاً للحريات العامة والفردية وحرية الإعلام والنشاط المدني والسياسي؟ يقيناً لا, بل على العكس كان مثالاُ لقمع الحريات والأنشطة المدنية والسياسية, عدا عن سوء الخدمات والمستوى المعيشي للناس والمعاملة الظالمة ..الخ. وإذا تابعنا بنفس المحاكمة في محافظتي درعا والقنيطرة فلن نجد صورة أكثر نصاعة ولا نموذجاً يمكن البناء عليه ويجعل السوريين الرماديين, عداك عن الأقليات الدينية, تقبل بأي حكم يعيدها إلى هيمنة آيديولوجية دينية أو قومية أو حتى طبقية, وهذا منطقي في الحالة السورية, فقد جرب السوريون الاشتراكية القومية على الطريقة الناصرية ومن ثم على الطريقة البعثية, ولاحقاً السلطة الشمولية على طريقة الأسدين الأب والأبن, والنقطة المضيئة الوحيدة التي يجمع عليها معظم المهتمين بالشأن السوري في تاريخ سورية الحديث, هي مرحلة الديمقراطية الممتدة من 1954 وحتى 1958 والتي مثلت في مخيلتهم نواة الدولة المدنية والبيئة السياسية الملائمة لتطور الحياة الحزبية والمدنية والتي ندم عليها السوريون لاحقاً بعد أن فرطوا بحريتهم لصالح وحدة أشبعتهم شعارات اشتراكية وحررت فلسطين آلاف المرات في الإذاعات وقدمتهم لقمة سائغة لأنظمة أشد دكتاتورية وفساد.
وبالعودة إلى الحل السياسي, ومقابل الرفض العدمي لجنيف من قبل المعارضة الرسمية بداية والمبادرات العربية منذ 2011 وحتى الآن, ماذا كان ردّ السلطة وحلفاءها على هذه الدعوات؟ نعم لقد قبلت ظاهرياً وفوراً جميع تلك المبادرات والمؤتمرات, فهي لا تضع نفسها في موضع الرافض لمقررات المجتمع الدولي, لكنها أغرقت تلك المبادرات والمؤتمرات بالتفاصيل كما وعد وزير خارجية السلطة- وليد المعلم- والآن وبعد تسع جولات في جنيف وثمان جولات في أستانة وجولة في سوتشي, مازالت السلطة تمارس نفس التكتيك في التفاوض وتلعب على حافة الجرف وتقاوم وتمانع حتى آخر لحظة وفي النهاية تخرج من المؤتمر بأقل الخسائر, والجميع يعلم أن هذه المؤتمرات هي الطريقة الوحيدة المقبولة والمدعومة دولياً, لذلك تشارك السلطة فيها مرغمة ويسعى الروس للاستمرار بها على طريقتهم عبر نقلها من جنيف إلى سوتشي وتفعيل الدور التركي والإيراني وجعله مقبولاً من طرفي الصراع (السلطة والمعارضة). ولنعترف أن الروس قد نجحوا حتى الآن في صياغة تحالف إقليمي وفق رؤيتهم للحل؛ فمقابل رفض الأتراك للرؤية الأمريكية للحل, طالما ترتكز على دولة علمانية لا مكان للإسلاميين فيها وطالما ستقدم بعض المكاسب القومية للكرد فهي في التعارض الجبهي مع الرؤية التركية للحل في سورية, ولطالما قدم الروس المساومة التالية: حكومة مشتركة من المعارضة والنظام ودخول كبير للمعارضة في الحكومة ورئاستها مع بقاء رأس النظام وبصلاحيات محددة وبدمج الفصائل المسلحة بالجيش وبإعطائهم حصة مناسبة, وضمن ميزان القوى الخاسر الآن فقد قدمت معارضة الائتلاف نقداً خجولاً يمكن تفسيره قبولاً أولياً لهذه التسوية, وبقي أن تقبلها السلطة والتي يبدو أنها تناور لرفضها أو للتقليل من التنازلات التي ستقدمها للمعارضة بحيث تبقى تنازلات شكلية على طريقة إصلاحات السلطة المقترحة منذ بداية الانتفاضة. للاستعجال الروسي ما يبرره وبشدة, فإدارة ترامب وضعت أول أقدامها في الشرق الأوسط وانسحبت من الاتفاق النووي مع إيران, ويعرف الأتراك ذلك أيضاً ولديهم مخاوفهم من الحل الأمريكي أيضاً, ويبقى أن أسوأ كوابيس الإيرانيين قد بدأت تتحقق.. فهل سيمتلك الروس القدرة على فرض رؤيتهم في الحل بالسرعة الفائقة, وهل سيشهد الصيف القادم بداية لتحقق الحل في سوتشي؟
لا يمكن الركون لاحتمال واحد في الحالة السورية, لكن وبمتابعة ما جرى حتى الآن فإن الميل أو الترجيح لبدء الحل السياسي سيبدأ فعلاً وسيحاول الروس في سوتشي2, ومع نهاية هذا العام ستكون ملامح المشروع الروسي قد اتضحت, وقد تكون عملية طرد الإيرانيين وكل الميليشيات الشيعية عسكرياً من سورية قد بدات فعلاً, وقد تبدأ أمريكا بتوسيع المنطقة التي تسيطر عليها مع حلفاؤهم الأوربيون في الشمال الشرقي لتشمل القوس الممتدة من الحدود الإسرائيلية إلى البادية الشرقية وصولاً إلى دير الزور وبذلك تقطع جميع الطرق الواصلة بين بغداد ودمشق وبالتالي طهران, كذلك من ضمن الاحتمالات, تقوية واجهة سياسية عربية- كردية, تمتلك ذراعاً عسكرية قوية, تستطيع الولايات المتحدة فرض رؤيتها على الروس الذين لن يعارضوا طويلاً والذين سيفرضون هذا التفاهم مع الأمريكيين على السلطة السورية, ليس بدون مقاومة بالتأكيد, لكنها بالنهاية رؤية سياسية مسلحة عسكرياً ولها رصيد في الشارعين العربي والكردي. ويبقى احتمال التصادم التركي- الأمريكي وارداً, لكن بحدود الخلاف السياسي المفهوم أمريكياً والمرعي دائماً من قبلهم, لطالما كان الوضع التركي موضع مراعاة من قبل الإدارات الأمريكية المتعاقبة, نظراً لحساسيته وصعوبة ضبطه ومخاطر انفلاته.
6-5- الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي ودورها خلال الثورة السورية
ليس من اختصاص هذه المراجعة أصولاً تقديم مراجعة إعلامية أو فنية تختص بشبكات التواصل الاجتماعي أو غيرها, بل ما حرض على إدراج هذه الفقرة هو بروز دور الإعلام وشبكات التواصل بطريقة ملفتة في الربيع العربي عموماً, وخلال الثورة السورية خصوصاً, ومعلوم لكل السوريين أن مدرسة السلطة في الإعلام قد شكلت نموذجاً فريداً, فهي مزيج من الدعاية والافتراء والكذب والتشويه ونادراً الحقيقة, وهي مؤسسة راسخة منذ فترة السلم على هذا النهج, ولا تتورع هذه المؤسسة عن قلب الحقائق مهما كانت وتقديمها بالشكل الذي يخدم ديمومة السلطة الطغمة, ومن اللافت أنها قامت عبر تاريخها- أي السلطة- بحجب جميع المواقع على شبكة الإنترنت, التي تتناول الوضع الداخلي السوري مهما بلغت موضوعية هذا الموقع. وفي بداية الثورة حجبت أيضاً الفيس بوك وتويتر حتى اكتشفت أن السوريين قادرون على كسر هذه الجدران, بل وتشكل برامج كسر البروكسي جزءاً مهماً من حمايتهم الأمنية, وهنا سارعت السلطة لتشكيل “الجيش السوري الإلكتروني” وهو وإن لم يكن جيشاً بل مجموعات من ناشطي الإنترنت الذين تطوعوا لنشر دعاية السلطة وتشويه صورة المعارضة وفبركة الأخبار الكاذبة, والغريب أن هذه المحاولة قد لاقت نجاحاً ما في صفوف موالي السلطة, وبالتأكيد ليس لأنها صادقة, بل لأنها تلبي حاجة ورغبة طاغية لدى هذا الجمهور بسماع وبمشاهدة ما يريد وما يبرر سحق الخصم ودماره.
المفارقة في استخدام الإعلام شبكات التواصل الاجتماعي كانت لدى ناشطي المعارضة, وما سمي بالمواطن الصحفي, والذين قدموا خدمات جليلة للانتفاضة في بدايتها وحشدوا الرأي العام لصالحها وقدموا تضحيات جسيمة في معتقلات السلطة وفي الميادين, ولكن ومع انحطاط الإعلام الموجه إلى سورية إلى درجة من الإسفاف والتلفيق والإرادوية القاتلة كما حصل مع شبكة الجزيرة والأورينت وإلى حد ما مع العربية, فقد انساق ناشطو الفيس بوك وتويتر إلى نفس الموقع من الإسفاف والكذب وحولوا معركتهم إلى معركة بين السنة والشيعة وبين تركيا وإيران- مع أنه منذ 2016 بدأت التفاهمات التركية الإيرانية في مواجهة الخطر الأمريكي المقبل على مشروعي الدولتين في سورية- وبين الأقليات في الداخل والأكثرية ونسي الكثير منهم الأسلوب الديمقراطي والمنطق الإعلامي وبقي التحريض والتجييش فقط, فهل عدوى مدرسة السلطة معدية لهذه الدرجة أم أن انحطاط السياسة في صفوف المعارضة قد انعكس في إعلامها؟!
لا يمكن الحديث عن الإعلام بدون الخوض في المهنية والاحترافية. وهي ميزة إما قاتلة أو رافعة, وبهذا المعنى افتقد إعلام الانتفاضة لتلك الدرجة من المهنية, والمأساة أنه مجد تلك الدرجة من الخفة والاستسهال والهواية التي مارس بها “الناشط الإعلامي” عمله في تقديم التقارير وتغطية المعارك والأنشطة المختلفة, لا بل درجة البؤس التي اعتبرت فيها المعارضة سهولة الإعلام والاكتفاء المحزن بالأخبار غير المسندة, ويكفي تطبيق القاعدة الثلاثية (أين ومتى وكيف) على أي خبر حتى يتم رفضه من أي مؤسسة إعلامية تتمتع بالحد الأدنى من الاحترافية.
وأيضاً من المرغوب فيه الإشارة إلى العدد الكبير جداً من المجموعات والصفحات المتشابهة والمكررة حدّ الملل, والتي لا تجد فكرة إكثارها أو تكرارها سوى انعدام الثقة بأي مجموعة أو مشروع طالما ليس من “الجوانية”.. والجوانية في الحالة السورية هو الباطنية المغلفة بالجماعة- الحزب والفصيل والعشيرة وأهل الحارة والعائلة- ولا ثقة سوى بها وبما تقول, وقد تجد الجوانية تفسيرها في انتكاسات الانتفاضة وفي فقدان الثقة بالعالم الخارجي وفي الأنانية والذاتية المفرطة لبعض رموز المعارضة والفصائل, وأخيراً في ظاهرة التبوغ للحفاظ على الذات وسط هذا الطوفان. وإذا كانت نجاحات السلطة المؤقتة في هذا الميدان قد ألهمت الكثيرين فقد ألهمتهم خطأ وستثبت الأحداث اللاحقة أن المصداقية الإعلامية هي السلاح الأفضل لتقويم الذات ولرفعها دائماً في وجه الخصوم.
في المعايير المعاصرة لقوة الإعلام تلعب بعض العوامل أثراً مهماً في نجاحه, مما يعني بالتأكيد فشله في حال غيابها, وأهم هذه العوامل, بعد المهنية والمصداقية, النزعة الإنسانية وعدم التحريض العنصري ومراعاة حقوق الملكية.. الخ وجميع هذه العوامل كما نعلم مفقودة في إعلام السلطة والإعلام البديل مع شديد الأسف, وقد يكون توفرها في الإعلام البديل أهم نقاط القوة لتقديم الحالة السورية “كقضية رأي عام” أي كقضية تهتم بها الشعوب وخصوصاً في الدول الديمقراطية ومن خلالها تضغط على حكوماتها, وقد تعيد الألق المفقود للحالة السورية في أعين جمهورها أولاً وجمهور دول الجوار والعالم أخيراً. هل نتذكر “أبو صقّار” وكبد العسكري؟ وهل سنكسب معركة الحرية بهكذا خبر مثلاً؟! لم يعد لنا من خيار سوى تعميق الدراسات والعمل الإعلامي بوجه استبداد السلطة ومن شاكلها, وتقديم صورة صحيحة عن أنفسنا بوصفنا طلاب حرية لا طلاب انتقام وبوصفنا طلاب ديمقراطية لا بوصفنا جهاديين وبوصفنا طلاب تعددية ومساواة ومواطنة؛ أي بوصفنا البديل العملي والسياسي والأخلاقي للطغمة.
- الخاتمة:
لا يمكن لأي مراجعة أن تقدم تفصيلاً شاملاً للأحداث, وحسبها أن تقدم إحاطة بأبرز الأحداث وأن تغطي بعدين إضافيين هما المواقف من تلك الأحداث وأن ترسم منها لوحة للمستقبل على درجة من الوضوح والرزانة, وأن لا تجعل المراجعة نوعاً من التنجيم ولا أن تجعلها نوعاً من الدراسة الجافة لواقع ملموس بدون رؤية. فكل مراجعة بها روح وثابة إلى المستقبل ولا يجب خنقها في الراهن, وإن كنا أكدنا ترجيحنا للبدء بالمسار السياسي في أفق نهاية هذا العام فلأن الأحداث الراهنة تنبئ بهذا الترجيح, ولأن الكثير من التصريحات والمواقف تظهر كل يوم بعد استنقاع طويل جداً في مواقف الدول المؤثرة فإننا نرجح تغيراً شاملاً في المشهد السوري في زمن قياسي إذا قارناه بالزمن المنقضي منذ انطلاقة الانتفاضة السورية وحتى الآن, وعذر هذه المراجعة أنها تكتب في بحر متلاطم من الأحداث والتطورات اليومية, فإن عجزت عن ملاحقة الأحداث وتفاصيلها فهذا من صلب البحث في فترة شديدة الاضطراب, وإن قصرت عن الإمساك في الجوهري من الأحداث فهذا قصور لا يبرر.
تيار مواطنة 29-06-2018
المكتب التنفيذي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – https://mouatana.org/archives/12557
[2] – https://www.facebook.com/notes/citizenship- مواطَنة -1842011/218266914852635/
[3] – https://mouatana.org/archives/12940
[4] – https://mouatana.org/archives/12938
[5] – https://mouatana.org/archives/223
[6]– https://mouatana.org/archives/12043
[7] – https://mouatana.org/archives/2039
[8] – https://mouatana.org/archives/11610
[9] – https://mouatana.org/archives/218
[10] – https://mouatana.org/archives/175
[11] – https://mouatana.org/archives/12503
[12] – https://mouatana.org/archives/12447