الجزيرة السورية – مرة أخرى 12-02-2019


في الافتتاحية السابقة حول الجزيرة، كنا قد رجحنا احتمال بقاء الوضع على ما هو عليه في المدى القصير، مع بعض المتغيرات المحدودة، وهو كذلك حتى الآن، وسيبقى كذلك حتى إشعار آخر.
ومع ذلك فقد تركنا الباب مفتوحا أمام الاحتمالين الثاني والرابع في تناقض جدلي بينهما، ويمكن القول الآن: إن الاحتمال الرابع –الذي هو إقامة منطقة عازلة- آمنة دولية هناك – هو الذي كما يبدو- بدأت تظهر ملامح السعي إليه، ولكنه لايزال حتى الآن موضع خلاف حقيقي بين الفاعليين الأساسيين، وبخاصة أمريكا وتركيا، على الأقل فيما يتعلق بالقوى التي ينبغي أن تسيطر هناك.
أما الاحتمالات الأخرى التي ذكرناها سابقاً، فإنها لاتزال تراوح مكانها، وعلى الأرجح لن يكون لها مستقبل في المدى القصير للأسباب نفسها التي ذكرناها في حينه.
ولأننا نعتقد أن التطورات سوف تنشأ في سياق الاحتمال الرابع، مع هذا القدر أو ذاك من الاقتراحات والتعديلات المتعلقة بكل الأصعدة، لهذا نسارع إلى القول: إن هذا الاحتمال لم ينضج بعد، لأننا لم نصل إلى منطقة التقاطع الوسطى، التي تتحقق فيها مصالح الأطراف الفاعلة، أو لا تتصادم جذرياً على حساب طرف أو أكثر، ومادام الأمر كذلك، فلنسلط الضوء بما يكفي على هذا الاحتمال.
1- قد تتحول المنطقة الآمنة – العازلة إلى منطقة عازلة فقط، للفصل بين المتصارعين بما لا يسمح بنشوب مواجهة عسكرية ذات أبعاد خطرة.
2- ستكون هناك محاولات حثيثة لإيلاء العنصر العربي الدور الطبيعي القائم على الوضع الديمغرافي والسياسي هناك على الأصعدة كافة: السياسية والإدارية والعسكرية، ومن الممكن في هذه الحال توظيف بعض الوجود العشائري وبخاصة تلك القائمة على طرفي الحدود السورية العراقية، وعلى سبيل المثال قبيلة شمر ، وربما كانت المحاولات لإسناد دور لأحمد الجربا وقوات النخبة التابعة له تجيء في هذا السياق، وكذلك الأمر فيما يتعلق ببعض الحضور السياسي العربي وعلى سبيل المثال حزب سوريا المستقبل، وفي كل الأحوال علينا أن نكون حذرين من المحاولات الفجة لنفخ “الجربا” التي لا أساس واقعي لها حتى الآن.
3- في السياق نفسه يمكن التفكير أيضا بإيلاء دور ما لكردستان العراق، وقوات بيشمركة روجا آفا السورية، والممثل السياسي لها والذي هو المجلس الوطني الكردي، وعلى الرغم من الرفض الحازم من قبل قسد ومسد فإن ثقباً صغيراً قد ينفتح في الحائط، عندما نسمع بشروط من قبل الأخيرة – قسد ومسد- بالتعامل مع هكذا اقتراح.
4- انطلاقاً من العلاقة الإيجابية لقبيلة شمّر على الضفة الشرقية العراقية مع قيادة إقليم كردستان ومن علاقة مشابهة إلى حد ما لشمر على الضفة الغربية السورية مع الإدارة الذاتية، على الرغم من الانقسام النسبي حول ذلك وعلى الرغم من الانتهازية السياسية في قلب هذا الموقف نقول: انطلاقاً مما سبق قد تكون قوات “الجربا” وبعض العشائر الأخرى وبعض قوات روج آفا والمجلس الوطني الكردي، وبعض القوى السياسية العربية هي نقطة التقاطع الوسطى الضرورية المفقودة حتى الآن، وبخاصة عندما تكون المنطقة عازلة فقط ، وعندما تكون محصلة القوات السابقة سياسياً وعسكرياً هي حزام الفصل الحدودي أياً يكن عمقه بين جبهتي الصراع.
ولأن الأمر كذلك فإننا نعتقد أن الضغوط الأمريكية والعربية بقبول هكذا حل على الإدارة الذاتية سوف تكون محسوبة بدقة، بما لا يتجاوز الحدود التي يمكن عندها ارتماء هذه الإدارة في حضن السلطة السورية، وبالقدر الكافي من الضمانات الدولية لكل طرف وبخاصة للكرد والترك، وربما كانت الوعود التي قدمها ترامب لوفد الإدارة الذاتية تأتي في هذا السياق، سياق التطمين وإن يكن القلق.
5- يمكن أن يدعم هذا الخيار بحضور شكل من أشكال الوجود العسكري العربي الذي قد يشكل ضمانة من نوع ما لكل الأطراف بما في ذلك الطرف الكردي، لأن الوجود العربي الإقليمي اليوم- عدا قطر- على تناقض بشكل أو بآخر مع تزايد الحضور التركي في الإقليم بعامة وفي سوريا بخاصة، الأمر الذي يعني أن على الأطراف السورية المعارضة كرداً وعرباً التعامل الإيجابي مع هكذا خيار، وفي غير هذه الحال فإن المنطقة قد تذهب إلى أحد الخندقين، الخندق التركي أو الخندق الروسي الإيراني السلطوي السوري، ولا مصلحة في ذلك لا للعرب ولا للكرد، لا اليوم ولافي المستقبل.
6- من الملاحظ ازدياد التصريحات التركية – وبخاصة الرئاسية منها- في الآونة الأخيرة التي تجيء في سياق “البارانويا” الأردوغانية التركية القائمة على الوحدة الجدلية بين عقدتين: عقدة جنون العظمة وعقدة الاضطهاد، وهذا واضح في الحديث عن القدرة والعظمة التركية والتفرد ….إلخ جنباً إلى جنب مع الشكوى المريرة من الحلفاء، وبخاصة الاتحاد الأوربي وأمريكا والعرب، وبالتحديد أمريكا، ولعل أبسط تحليل يكشف هذه “البارانويا “، والتي هي المواجهة الفعلية لمطامح وخطط أردوغان في تركيا وفي المنطقة وفي الجزيرة السورية وهذا خبر سار بالتأكيد لنا، ونأمل أن يزداد الإحباط الأردوغاني المذكور بما لا يصل إلى حد ارتكاب مغامرة مجنونة رداً على ذلك على أية أرض سورية .
7- من الممكن -بل هذاهو الواقع -أن تستغل السلطة السورية الانقسام العمودي في الجزيرة عرب- كرد، والانقسام الذاتي في كل منهما، بمافي ذلك التطرف القومي وبخاصة العربي الذي يصل إلى حد الشوفينية، جنباً إلى جنب مع الخرافات الكاذبة في جوهرها – وليس كلياً- عن ممارسات الإدارة الذاتية، للعب أسوأ الأدوار في الجزيرة السورية.
ولنا الحق في هذه الحال، وفي هذا السياق النظر إلى ما يشاع عن وجود بعض الاحتجاجات العلنية الصغيرة على قسد ومسد، والمطالبة بعودة السلطة السورية، وبالتأكيد فإن إحراق العلمين الفرنسي والأمريكي -إذا صح- يدخل في هذا السياق، والأخطر أن هذا الاتجاه مرشح للتصاعد، إذا لم تحسن الإدارة الذاتية الكردية والمعارضة العربية العمل لإسقاط الذرائع التي تقوم عليها هذه الاحتجاجات وهي غير قليلة، وفي هذا المفصل نجرؤ على دعوة الإدارة الذاتية على الانسحاب من المناطق العربية سياسياً وإدارياً، وترك الأمر لمجالس محلية منتخبة بنزاهة مع الإبقاء-حتى إشعار آخر- على الوجود العسكري بعيدا عن الحواضر المدنية لحماية هذه المناطق من السلطة السورية، حتى يتمكن أهلها من إنشاء قوة الدفاع الذاتي في أقرب فرصة، وسيكون من المبادرات الجيدة أن تساهم قسد في ذلك مساهمة نشيطة وصادقة.
8-انطلاقاً من تعقيد الوضع في الجزيرة ،والتأجيل القسري لتنفيذ التهديدات التركية اليومية، ومن ضرورة احتفاظ أردوغان بقدر من المصداقية وبخاصة أن تركيا مقدمة على انتخابات محلية في آذار هذا العام انطلاقا من كل ذلك نقول: قد تتحول منبج إلى مكسر عصا أو جائزة ترضية بديلاً من الجزيرة – حتى إشعار آخر-ويمكن أن تكون الأسابيع القليلة التي حددها أردوغان بهذا الخصوص ذات مغزى على هذا الصعيد، وعلى الرغم من أننا نتعامل مع هكذا خيار بوصفه احتمالاً ليس إلا فإن التصريحات الروسية ،التي تنتقد تركيا في إدلب والحديث عن عمل عسكري محدود منظم بدقة وفعالية، واستبعاد هجوم عسكري واسع نقول: قد يكون من شأن ذلك أن يشجع أردوغان في منبج، بل لقد وصل به الأمر أن يتحدث عن اتفاق روسي تركي على خريطة منبج في حين كانت هذه الخريطة أمريكية تركية في الأصل .
9-ثمة قضايا مهمة في هذه المرحلة من تفاقم الصراع وبخاصة المتعلقة بالمعارضتين العربية والكردية – والتي كنا قد أشرنا إليها في سياق الافتتاحية السابقة- لكننا مضطرون إلى تأجيلها، ونعد بتناولها لاحقاً بالقدر الكافي من الوضوح والصراحة والتفهم والنية الحسنة والأمل في أقرب وقت وربما في الافتتاحية القادمة.

تيار مواطنة    12-02-2019

Loading

الكاتب admin

admin

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة