دراسات- النظام، داعش، المعارضة
دراسة مقدمة لبرنامج التنمية السياسية لتيار مواطنة:
إن العلاقة بين أطراف هذا المثلث ومآلاته شائكة ومعقدة إلى حد لا يخطئه البصر، فكيف البصيرة. ويمكن مناقشة هذا المثلث بوصفه كلا موحدا، كما يمكن معالجة كل طرف فيه بشكل منفصل عن الآخر، ودون أن يعني ذلك – بأي حال من الأحوال – أنه مستقل وقائم بذاته، وسيكون مفيدا للموضوع قيد المعالجة، ولكل معني بالأمر، وبخاصة لأولئك الذين هم في قلب التنمية السياسية محاضرين كانوا أو مشاركين. البدء بتمهيد أولي يكشف باختصار شديد الذهنية العربية والإسلامية وآليات اشتغالها وتكوين مواقفها، الأمر الذي يسمح لنا بفهم أفضل لما يجري. كما يمكن أن يشكل نقاط استناد أولية للفهم المثلث المذكور أعلاه و النواظم التي تحكم فعله .
من المفهوم في هذا السياق التركيز على بعض القواعد الدالة، التي ماانفكت تعمل بأشكال وطرائق مختلفة ومن بينها :
* قاعدة الأنا الملاك، والآخر الإبليس التي تترجم على الصعيد الإسلامي على مستويين الإيمان والكفر، دار السلام ودار الحرب. عندما يتعلق الأمر بالإسلام و الآخر بشكل عام. حيث يجسد الإيمان ودار السلام الأنا، أي المسلم المؤمن. في حين يجسد الكفر ودار الحرب الآخر بكل أطرافه بصرف النظر عن اختلافه وتباينه وتدرجه ….الخ. كما تترجم القاعدة المذكورة داخل الحقل الإسلامي – أي داخل الأنا الكبيرة – على الشكل التالي :
– الأنا – الفرقة الناجية
– الآخر – كل ماعدا ذلك ومن السهل في هذه الحال أن يكون الآخر مرتدا أو مشركا بل وحتى كافرا، وحتى لا نذهب بعيدا يكفي النظر إلى المثال الساطع ( داعش).
وتترجم القاعدة المذكورة على صعيد الفكر السياسي القومي الوطني ثنائية مشابهة لما سبق. ثنائية الوطني من جهة الأنا -والخائن العميل من جهة الآخر، والأمر نفسه على صعيد الفكر الطبقي اليساري، حيث تتجسد الثنائية المذكورة بصيغة الثوري من جهة الأنا – والخائن الانتهازي اليميني من جهة الآخر .
وبكلمة حاسمة يمكن القول إن الفكر المتخلف وكل فكر يندرج تحته، وفكرنا منه في جله ينتظم على الثنائية المانوية الشهيرة (إله الخير وإله الشر) حيث يكون من الضروري شيطنة الآخر إلى أقصى الحدود كيما يستدعي الوجه النقيض الذي هو الأنا الملاك الخير إلى الحدود نفسها. إن القاعدة الذهبية المشتقة من هذه الثنائية يمكن التعبير عنها بالشكل التالي :
كن مسلما أصوليا وافعل ما شئت، كن قوميا وطنيا وافعل ما شئت، كن ثوريا طبقيا وافعل ما شئت في كل الحقول وبخاصة ضد الخصم. وعند هذا الحد ألا يصح القول إن التاريخ في معظمه قد انعدم على هذا الشكل، وإن من الصعب فهم ممارسة الأطراف في سياق الثورة السورية دون النظر بعين مفتوحة إلى هذه الثنائية، بحيث لا تبقى هنالك غرابة غير مفهومة في موقف السلطة وحلفائها من حزب الله إلى إيران إلى روسيا إلى الموالين في الداخل، وهم لا يرون أي ضير في دمار سورية وقتل مئات الآلاف، ناهيك عن الاعتقال والتعذيب حتى الموت والحصار والتجويع والتركيع….الخ. لا بل قتل آلاف الأطفال وعشرات آلاف النساء والشيوخ الأبرياء. نقول لا تبقى غرابة في ذلك، مادامت الأطراف المذكورة تنظر إلى نفسها بوصفها الأنا الحق الذي يحق له فعل كل شيء في الآخر الباطل .
إن الدنيا تقوم ولا تقعد – وهذا عين الحق- إذا قتلت إسرائيل طفلا فلسطينيا واحدا مثل (محمد الدرة) أو دمرت بيتا. والأمر نفسه ينطبق من وجهة نظر هذه الأطراف على أي موت أو دمار يلحق بالشعب اليمني أو أطفاله ونسائه وشيوخه – وهو عين الحق أيضا – ولكن الأطفال السوريين الأبرياء وكذلك النساء والشيوخ ليسوا بشرا كما يبدو، بل في الأصل ليس هناك شعب سوري يحب النظر إلى مآسيه. مثله في ذلك مثل الشعبين الفلسطيني أو اليمني، وإذا كان ثمة من شعب فهو شعب السلطة السورية فقط، لا بل إن الأمر يتجاوز هذه الحدود عندما ينام هذا الحلف الأسود قرير العين مرتاح الضمير معتبرا أن الطرف الآخر يقتل ويدمر نفسه ،أو على الأقل هو المسؤول عن قتل وتدمير نفسه، ولكن الله وحده يعلم لماذا لا تطيق هذه المعايير على حماس وحزب الله والحوثيين وصالح – ونحن ضد مثل هذا التطبيق بالتأكيد – وعلى العكس فإن المطلوب هو أن يشمل الموقف الإنساني الأخلاقي المبدئي كل إنسان وكل مدني وكل من ليس في خندق القتال، بل وحتى هؤلاء، وأن تطبق على الجميع دون استثناء المعايير والقيم والقواعد التي وصلت إليها البشرية، وعلى الأقل قواعد وقوانين الحرب.
هل هناك حاجة للمزيد من الأمثلة لفضح الثنائية المذكورة؟ نعم.
لنأخذ على سبيل المثال لبنان في حرب تموز للعلاقة الوثيقة لحزب الله بها. وهو الحزب الذي يجسد إلى الحد الأقصى ما ذهبنا إليه أعلاه. لقد دمرت إسرائيل في هذه الحرب التي استمرت 33 يوما قدرا لا يستهان به من البنية التحتية اللبنانية، وقتلت ما ينوف على الألف شهيد، واعتبرت المسؤولة بشكل مطلق عن هذه الجرائم. وهذا هو الحق والصواب والأخلاق لدى الغالبية العظمى من شعوبنا، الأمر الذي جعل من اختباء حزب الله بين المدنيين سلوكا جهاديا وتكتيكا ذكيا، في حين لا يطبق المعيار نفسه على الشعب السوري ومقاتليه، بل يصبح قتل الأبرياء والدمار هنا ضريبة لابد من دفعها في أحسن الأحوال. والمسؤولية في ذلك كله ليست على القاتل بل على المقتول والمدمر. ليس ذلك فحسب بل إن خروج ملايين المتظاهرين السلميين قبل العسكرة هو فعل خيانة وإجرام بحق النظام الوطني الممانع..الخ المعروفة .
هل لنا الحق بعد كل ما سبق في القول :
إن الثنائية الوقحة وازدواج المعايير أمران في غاية الأصالة في فكرنا وسياستنا وممارستنا. ونحن إذ ندين الآخر داخلنا أو في الشرق والغرب على حد سواء , إنما نصدر إليه فكرنا المسموم دون أن يعني ذلك على الإطلاق أن قدرا من هذا الازدواج غير موجود هناك، وكل ما في الأمر أن الظاهرة المذكورة مفصلة على قدنا بالتمام والكمال. إن الناظم في كل ما سبق هي القاعدة البدائية القبلية المتخلفة التي تقول: إن الفعل وليكن الغزو مثلا إذا صدر عن الخصم أو العدو فإنه غير أخلاقي وباطل ولكنه في منتهى الأخلاق .وعلى حق مطلق إذا صدر عن الأنا ولذلك دعا العرب القدماء وحتى اليوم للغزاة بالعودة أحياء سالمين وغانمين. بمعنى، تغزو الآخر فتقتله وتنهبه وتسلبه وتسبي أهله وهذا هو الغنم المترافق مع البقاء حيا والعودة سالما.
*2- نظرية المؤامرة :
وهي من أعرق الظواهر في فكرنا. ولذلك هل ثمة غرابة في أن الأطراف المتناقضة والمتصارعة تكيل لبعضها الاتهام نفسه، فالسلطة وحلفاؤها فرحون وفخورون بالكلام السخيف عن المؤامرة الكونية ضدها، ولا بد أن تكون أمريكا والصهيونية وإسرائيل رأس الحربة، الأمر نفسه في خندق الثورة، حيث تكون الأطراف المذكورة نفسها هي رأس حربة المؤامرة على الثورة والشعب السوري. وبعيدا عن الدخول في المطلقات نقول :
من النادر جدا – إن لم نقل شبه المحال – حصول ذلك في التاريخ والواقع. إن هذا التبسيط المخل بالفهم والمتناقض داخليا، يشتق منها في جزء على الأقل من القاعدة السابقة (الثنائية المانوية) كما يشتق في جزء منه من المرحلة التاريخية التي يمر بها المجتمع والفكر والفعل الإسلامي والعربي. ويصبح القول إنه يعود في جزء ثالث منه إلى العجز المقيم في بلداننا عن السيطرة على مصيرنا وقرارنا. ولا بد أن تكون الشعبوية والشعار الديني والقومي والإخفاقات المتلاحقة جزءا لا يتجزأ من أرضية النظرية المذكورة دون إغفال الأسباب الأخرى التي تتجسد في ان التاريخ في جزء منه لا يخلو بالتأكيد من شكل من أشكال المؤامرة دون أن يكون ذلك هو الأصل، ناهيك عن أن التاريخ القريب إلينا كان في بعض عناصره البارزة مختبرا لبعض المؤامرات ما ظهر منها وما خفي.
لذلك لا غرابة – على الرغم من بطلانه – في أن يكون العالم كله أو قسم منه أو حتى طرف واحد فيه، يأكل ويشرب وينام ويصحو ويتكاثر وينتج ويتعلم ويتقدم …..الخ لا ليحيا حياته الخاصة والعامة، بل ليتآمر علينا فقط من وجهة نظر الإسلامي المتشدد والقومي المتعصب و..الخ
كما يمكن فهم الدوران في فخ المؤامرة والوطنية والخيانة بوصفها مفردات تشتق منها أو تعود إليها أو تتداخل معها طيلة عقود طويلة منذ إخفاق النهضة العربية الإسلامية في العصر الحديث.
ومن المفيد أخذ مثال واحد على العقل المذكور، وهو ما جرى للحزب الشيوعي السوري في زمن الوحدة عام 1959 عند احتدام الصراع بينه وبين عبد الناصر ونظامه الديكتاتوري. فبدلا من أن يقول الحزب انه يناضل ضد الديكتاتورية الناصرية من اجل الحرية والنظام الديمقراطي. ركز خطابه على الحقل الوطني مدعيا أن عبد الناصر هو صنيعة الامبريالية الأمريكية بالاستناد إلى كتاب( كوبلاند) لعبة الأمم..الخ.
والآن لماذا كان هذا الانزياح عن الحقيقة؟ لسبب بسيط يعود إلى طبيعة الذهن السائد والذي هو على استعداد للاستنفار على قاعدة الوطنية الخيانة بقدر يفوق بأضعاف استجابتة للاستنفار على قاعدة الديمقراطية الديكتاتورية. ولمغازلة هكذا ذهن لابد من الدجل الرخيص ولو كنا بوضع معافى وكان الحزب الشيوعي نفسه معافى، لسمعنا الخطاب الواقعي الصحيح الذي يقول:
إن عبد الناصر وطني ولكنه ديكتاتور وطاغية ولأن الأمر كذلك لا خير كبير يرجى من الصيرورة الوطنية. في هذه الحال. ناهيك عن الأصل والذي هو حقوق الإنسان والمواطن، ونمط الحكم والعيش الديموقراطيين والتي هي أكثر من كافية لتفسير حق المعارضة، وحق النضال والصراع المقدس ضد كل طغيان وطنيا كان أم غير ذلك .
*3- مفهوم الوطنية : إن الأسوأ في هذا المفهوم وهو متداخل بالتأكيد مع الثنائية المانوية ونظرية المؤامرة – هو تجمده عند محطة واحدة فقط من محطات التاريخ. التي تؤول إلى أن الوطنية وعكسها الخيانة والعمالة، تعرف بدلالة خارجية سلبية ضدية. بمعنى أن الوطنية هي ضد كذا ومواجهة كذا ودحر كذا والانفكاك عن كذا. وهذا مفهوم بالتأكيد وهو حقيقة واقعية تاريخية إذ أن الكثير – وليس الكل – من الدول الأمم نشأت على قاعدة المواجهة مع الآخر أيا يكن هذا الآخر. إلا أن المسألة لا تختزل في هذا الجانب السلبي، لأن الوضع العياني الملموس لشعوبنا، يجعل من الجانب الآخر الإيجابي شأنا ذا أهمية بارزة. بل ربما كان الجانب الأهم بما لا يقاس. والذي هو ليس مواجهة الآخر الطامع أو المتآمر أو الرافض ….الخ فحسب بل هو الفعل المتكامل الذي يقوم على بناء نسيج وطني متناغم وموحد يعلو على كل الانتماءات ما قبل الوطنية ويدخل في تفاعل خلاق مع الانتماءات الأخرى ما فوق الوطنية. بحيث ينتهي مرة وإلى إشعار آخر من النوسان والتأرجح والتجاذب والتباين الخطير ما بين الانتماءات الثلاثة المذكورة، بمعنى القبول بهوية وطنية – وفي حالنا سورية – تصهر كل ما قبلها فيها على قاعدة المواطنة المتساوية. وتملك القدرة على عدم الضياع في الحلم المستقبلي على أهميته. الأمر الذي يعني عدم التضحية بالحاضر والهوية القائمة عليه في سبيل المستقبل مع الاستعداد التام والعمل الدائب وإزاحة كل العراقيل وصولا من الدولة الأمة الوطنية إلى الدولة الأمة القومية في سياق التطور التاريخي والممكنات التي يحبل بها. وبكلمة واحدة، بناء وطن حقيقي ومجتمع موحد ولكن غير نهائي وأبدي بل مفتوح على التاريخ القومي والإنساني العام. ولأن هكذا مفهوم إيجابي للوطنية والذي جوهره الهوية والمواطنة والحرية غائب، فإن الفهم الأسبق الفقير بحق خلق ولازال الكثير من المشكلات والعقبات والأوهام والمواقف السلبية الضدية التي أضرت بنا ولا تزال. وبخاصة في المخاض الثوري العنيف الذي نعيشه اليوم .
ولأننا كنا قد قلنا منذ البداية أن الأطراف الثلاثة (داعش – النظام – المعارضة) يمكن أن تعالج مجتمعة أو منفصلة فإننا سنعود مرة أخرى بعد المقدمة المختصرة التي جئنا عليها إلى الدخول في فهم الوضع الراهن في سورية وبخاصة ظهور وصعود داعش والنصرة وأمثالهما داخل المعارضة السورية المسلحة فلنبدأ إذا بالقول:
إن المدخل السابق بعناصره الثلاث (الثنائية المانوية، نظرية المؤامرة، الفهم الخارجي للوطنية) يشكل الأرضية المناسبة لفهم الاتهامات المتبادلة بين جميع الأطراف حول السلطة وحلفائها والثورة وأصدقائها. وحول داعش ومن صنعها أو عزز صنعها، ومن استغلها لأهدافه الخاصة..الخ إلا أن ذلك لا يكفي لتفسير كل شيء لأن ثمة أسبابا أخرى لسوء الفهم المقيم لداعش وأمثالها يعود في جزء منه إلى أن المحصلة العامة لسلوك داعش واتجاه ضرباتها في سورية على الأقل وحتى وقت متأخر كانت ضد الفصائل الأخرى أكثر مما كانت ضد السلطة. الأمر الذي ألحق ضررا ساحقا بالفصائل المذكورة، وأراح السلطة منها، لا بل شكل أيضا التغطية الأهم والأنجح لممارسات السلطة القمعية المدمرة ذات الطابع البهيمي ضد الشعب السوري على كل المستويات وفي كل الحقول، ولذلك فإن من المفهوم أن تتبادر إلى الذهن مسألة وجود علاقة ما بين السلطة أو حلفاءها وداعش , ليس هذا فحسب بل إن إخلاء سبيل الإسلاميين المتطرفين العائدين من القتال في العراق ضد حكومته وضد أمريكا وضد الشيعة أيضا. ونقول إن إخلاء سبلهم من السجون السورية الذي بدأ في 30/5/2011 والذي استمر شهورا عديدة والذي شمل أشهر القادة المتطرفين بكل الفصائل على الأرض (بدء من زهران علوش 5/6/2011 وانتهاء بآخر قيادي منهم مرورا بحسان عبود وأبي عيسى بما في ذلك حتى بعض قادة داعش) جعل الأنظار كلها في الخارج والداخل تتجه إلى المغزى التآمري لهذا الفعل ومما زاد في الطين بله إطلاق المالكي في العراق سراح ما يقارب 2000 من عتاة التطرف الإسلامي الذين توجه قسم منهم إلى سورية قبل استدارة داعش إلى العراق في حزيران 2014، وهو ما يجعل السلطة السورية وسلطة المالكي مسؤولة عن صعود داعش.
على المقلب الآخر كانت السلطة وحلفاؤها وبخاصة حزب الله تشير بإصبع الاتهام الدائم إلى أمريكا والصهيونية وإسرائيل وبعض العرب بوصفها صانعة داعش. وقد استمر ذلك حتى وقت قريب عندما حاول نصر الله وضع الأمر في نصاب آخر لاحسا الكثير من بصاقه السابق الكاذب. معتبرا أن داعش وأمثالها من جماعات الفكر التكفيري، هم نتاج الفكر الوهابي السلفي التكفيري السعودي..الخ مؤكدا في ذلك على دور الثقافة أي الدين والعقيدة وليس الوضع الاقتصادي والاجتماعي في ظهور وصعود الجماعات المذكورة معتبرا بحق إلى حد كبير هذه المرة انها الأخطر على المنطقة وشعوبها وعلى البشرية بشكل عام بما في ذلك السعودية نفسها. ولقد دفع في هذه الحال إلى الخلف كل اتهاماته السابقة والكاذبة دون أن يتخلى عنها كليا لأنه ما زال يستخدم بهذا القدر أو ذاك الماكينة السابقة عن أمريكا والصهيونية وإسرائيل. مؤكدا على أن الجماعات المذكورة لا علاقة لها بإسلام محمد الرسول بل بمحمد بن عبد الوهاب. والآن وانطلاقا من المدخل السابق، وبعيدا عن كل الهراء الذي انهمر ولا يزال حول الوضع في سورية والمنطقة وحول داعش وأمثالها من قبل كل الأطراف بوسعنا القول ثمة أسباب حقيقية تاريخية وراهنة للظواهر التي نعيشها والتي يجب تحليلها بسلوك فكري وعملي حازمين دون أي محاباة للذات أو رضى عنها أو ترحيل بؤسها لتعليقه على مشاحب الآخرين أو التعامل بطريقة دبلوماسية مائعة مع قضية بهذه الدرجة من الخطورة، وفي ممارسة مثل هذا الفعل الذي نطالب به نجرؤ على القول إن من بين الأسباب الحقيقية لما وصلنا إليه أو التي يمكن أن تكون قد ساهمت فيه على الأقل العناصر التالية:
1- ثمة نسغ أصيل وربما حتى جوهري في النص الإسلامي في يثرب المدينة، وبخاصة في طوره الثاني بعد غزوة الخندق يشرع كل الأبواب أمام التطرف الذاتي ضد الآخر أيا يكن ذلك الآخر والذي هو في نهاية المطاف سائر البشر غير المسلمين. ولقد تكفل هذا النسغ في المنعطفات التاريخية الحرجة بالتغطية على سائر الوجوه الإسلامية وبخاصة على الإسلام المكي وأجبرها على التواري إلى الخلف حتى إشعار آخر، ودفع بدلا من ذلك إلى المقدمة الطور المذكور أعلاه، والأمثلة على ذلك كثيرة بدءا من القصاص من القبائل اليهودية الثلاث بذريعة تآمرها وصولا إلى العصر الحاضر بقاعدته وطالبانه وداعشه ونصرته..الخ. مرورا بأن تيمية وغيره في مراحل مواجهة المغول والصليبيين بل وسائر التيارات الإسلامية غير السنية التي لم تقصر هي الأخرى أبدا في مواجهة التيار السني السائد وغير السائد بالقدر نفسه. الأمر الذي يسمح بالقول : سيكون من الخطأ الفادح إنكار النسغ المذكور لدى الإسلام بشكل عام ضد الآخر الخارجي. بل لدى تياراته المتصارعة حتى الموت أحيانا فيما بينها داخليا مثله في ذلك أي الإسلام مثل ديانات أخرى عاشت الوضع نفسه إلى حد كبير، وهي واقعة تفقأ العين إلى حد يسمح لنا بالقول مرة أخرى: ؟إن معظم الذرائع التي قدمت عبر التاريخ لتفسير ما حدث أو للدفاع عنه لا تعدو أن تكون تبريرات متهافتة. نقول ذلك على الرغم من قناعتنا التامة بأن النسغ العدواني المذكور يتكاثر كالفطر في ظروف تاريخية خاصة اقتصادية اجتماعية سياسية داخلية وخارجية في حين يبقى هاجعا إلى حد كبير في الشروط الطبيعية العادية .
2- ضياع تراث النهضة العربية والإسلامية التي قادها رجال بارزون أمثال الطهطاوي وعلي مبارك والأفغاني ومحمد عبده والكواكبي وخير الدين التونسي..الخ بل والتقهقر الشديد والمخيف عن ذلك الأمر الذي يعني أننا اليوم أبعد بما لا يقاس عن الإصلاح الإسلامي والنهضة مما كنا عليه في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. وما لم يستطع المسلمون استعادة الإصلاح المذكور والدفع به إلى الأمام بكل استقامة وجرأة نحو القبول بالقيم الإنسانية العليا التي وصلت إليها البشرية فلا خير يرجى من كل اللغو الفكري والسياسي والدبلوماسي الذي نسمعه من الدول والمؤسسات التمثيلية والجامعات والمؤتمرات والندوات … الخ. ولعل المثال الأبرز على هذا اللغو هو منطق الأزهر المتهافت في مواجهة التكفيريين وحربهم ضد العالم. هذا المنطق الذي يكشف وقوف الطرفين على قاعدة ايديولوجية عنصرية واحدة مع الاختلاف وإن شئت الكثير منه في الوسائل والأساليب والكيفيات التي تتعلق بالعنف العنصري وممارسته وبخاصة فيما يتعلق بالظرف الذي يسمح يه وصاحب الحق في ذلك والمدى الذي يمكن الذهاب إليه والأسباب التي تشرعه..الخ .
3-إن المحصلة العامة لما سمي بالصحوة الإسلامية كانت حتى الآن ما عدا بعض الاستثناءات المعروفة للجميع وهي ذات أهمية لصالح الفصائل الإسلامية السياسية وبخاصة منها تلك المتطرفة عقيديا وممارسة والتي على رأسها الفصائل الجهادية التكفيرية بل وتلك التيارات الدعوية السلفية الحنبلية. والأمثلة على ذلك لا تحصى نظريا وعمليا، بدأ من أفغانستان وباكستان وصولا حتى المغرب مرورا بكل مكان تقريبا بما في ذلك حتى في أوساط المسلمين في أوروبا وأمريكا وأستراليا إلى حد يبدو فيه أن الصحوة المذكورة ليست إلا الوجه النقيض لوجه النهضة والإصلاح السابقين. الأمر الذي يجعلنا نعول باهتمام بالغ على ما أسميناه استثناءات هامة ومنها التجربة الإسلامية التركية والتونسية والأندونيسية والماليزية بل وحتى على تجربة بعض الاتجاهات الإخوانية في كل مكان.
4- هناك بالطبع ما يسمى الوجدان الجمعي للشعوب والاثنيات والطوائف الناشىء عن الصراعات التاريخية والاضطهاد متعدد الأشكال والمضامين والمآسي التي ترتبت على ذلك مما يشكل مجتمعا الإرث الأسود والاحتقان الجاهز لتزكية كل أنواع الصراعات الراهنة التي تحكم في الكثير من الأحيان بشعارات تاريخية تجاوز عمرها الزمني ما ينوف على عشرة قرون واللافت للنظر القدرة الفائقة لهذا الوجدان على الرغم من تقادم الزمن على الحشد المتطرف حتى الموت وكأنه ابن الساعة الراهنة والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى الأمر الذي يفرض على الباحث إذا أراد أن يكون موضوعيا أن يفتش على هذا العامل الوجداني التاريخي من بين عوامل أخرى حقيقية راهنة لتفسير الصراع القاتل بين الهويات على اختلافها بدءا من القبيلة الهوتو والتوتسي في أفريقيا والعقيدة والدين في بورما والقومية والدين في البلقان والدين والمذهب والطائفة عندنا في الشرق الأوسط ..الخ
5- الشرط التاريخي الراهن لمجتمعاتنا العربية والإسلامية بدءا من التخلف العام على كل الصعد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والتعليمية بما في ذلك الطابع العنصري والتمييزي الحاد في الكثير من مضامين البرامج التعليمية على كل المستويات بدءا من الأسرة وانتهاء بالجامعة وانتهاء بالفقر والتهميش والإقصاء وانسداد الآفاق أمام فئات اجتماعية واسعة وأمام أجيال عمرية وبخاصة أمام الشباب الصاعد مرورا بطبيعة الأنظمة السياسية وبخاصة منها تلك الأنظمة الاستبدادية بنمطيها القديم والشمولي المعاصر. وليس جديدا القول إن الاستبداد هو الحاضنة الفظيعة لكل أشكال الفساد والتطرف وعدم المساواة والتمييز والعنصرية وانحطاط القيم والأخلاق والعلم بل والنزول بالإنسان إلى منزلة الحيوان عبر انتزاع جوهره منه والذي هو الحرية والكرامة. وعند هذا الحد يصح القول إن العين لاتخطئ هذه المظاهر في مجتمعاتنا ولا غرابة في هذه الحال أن يشكل هذا الشرط بالاضافة إلى كل ما سبق خزانا مشتعلا لكل أفكار التطرف الديني والقومي والطائفي والمذهبي والقبلي والاثني. فالإنسان في نهاية المطاف يبحث عن تحقيق وجوده وعندما تكون الشروط التاريخية والراهنة ما ذكرنا فإن هذا التحقق يتخذ أشكالا مرضية خطوة على قاعدة تكامل وتفاعل العوامل المذكورة والتي لم تذكر بعد.
6- ضعف الاندماج الوطني وهشاشة النسيج المحلي لشعوبنا وقوة التيارات الأممية ما فوق الوطنية والقومية وما دونها أيضا. الأمر الذي يلعب دورا هاما في ما أشرنا إليه حيث تعلق الهوية الوطنية حتى إشعار آخر وتصبح المجتمعات والدول نهبا للتيارات المذكورة وبخاصة في ظل ما أسميناه بالمقدمة غياب الجانب الايجابي في مفهوم الوطنية والذي هو البناء المجتمعي الداخلي والحضور الطاغي للمفهوم بوصفه استدارة نحو الخارج الملعون بكل اللغات.
إن غياب الدولة والأمة وغياب المواطنة المتساوية الناشئة عنها والمؤسسة لها، والاختلاط المدمر بينها وبين الدين يقدم الزاد الوفير للتطرف والانشقاق والانقسام والصراع القاتل بغض النظر عن وجهة هذا التطرف وهذا الصراع الذي يشكل السياق التاريخي المختلف في الزمان والمكان بتجسيداته المختلفة.
7- إن الحروب والثورات والصراعات والدول المارقة أو المخفقة أو المستبدة أو غيابها بل وحتى ضعفها المديد كافية لولادة الفسحة التاريخية المناسبة لنمو التيارات المتطرفة واستئسادها. والأمثلة على ذلك كثيرة تبدأ من البلقان ولا تنتهي في أفغانستان مرورا بالصومال وليبيا وسورية ولبنان والعراق واليمن…الخ
8- ومن الأسباب المساعدة على التطرف التدخل الشرقي والغربي على حد سواء في شؤون بلادنا بغض النظر عن ضرورته أو صوابه أو خطئه ويشكل المثال الأفغاني أفضل دليل على ذلك. إذ أدى التدخل السوفيتي إلى تفجير مقاومة محلية تحولت بفعل عوامل عديدة لاحقا إلى أسوء أنواع التطرف والعدوانية ليس ضد السوفييت المهزومين بل ضد الحلفاء السابقين بدءا من أمريكا وانتهاء بباكستان مرورا بالسعودية نفسها. الأمر الذي أدى إلى تدخل غربي لتدارك الوليد الذي ساهم في استيلاده إن لم نقل استئصاله .
وفي السياق نفسه ولد التدخل الأمريكي في العراق. أو على الأصح ساهم في تعزيز المنهج التكفيري الجهادي المتطرف في المنطقة وفي العراق خاصة. ويجيئ التدخل الأمريكي اليوم في العراق وفي سورية بالشكل الذي هو عليه، وعلى الرغم من ضرورته وإن يكن بشكل أكثر تكاملا. نقول جاء ليصب الزيت على النار في الكثير من الأوساط الدينية والشعبية إلى حد أعاد فيه إلى الأذهان والواجهة الحروب الصليبية.
وسوف يحتاج الأمر إلى كثير من الذكاء والجهد وأشكال التحالف وربما الزمن كي يستقيم التدخل المذكور. وكي يوضع على السكة التي تفضي إلى تحقيق الهدف الذي هو ليس أقل من الإطاحة بالاستبداد ودحر التطرف المجنون.
9- وغير بعيد عما سبق يشكل التمدد الامبراطوري الفارسي الإسلاموشيعي بالأشكال التي يتخذها أحد أهم الأسباب المساعدة لتفاقم ظاهرة التطرف التكفيري على الضفتين وبخاصة على الضفة السنية وذلك لسبب بسيط هو الهيمنة الفارسية الإمبراطورية الواقعية على عدد من الساحات العربية والدعوة إلى توسيعها جهارا نهارا بدون أي وازع بدءا من عراق ما بعد صدام وصولا إلى اليمن مرورا بسورية ولبنان والخليج وحتى السعودية الأمر الذي يجعل الإسلام السني وبخاصة المتطرف منه في غاية الاحتقان والغضب والعدوانية وصولا إلى تصوير الوضع برمته على قاعدة المؤامرة الأمريكية الإسرائيلية الفارسية الإسلاموشيعية .
وحتى الآن لم تفلح على ما يبدو كل الوسائل لنزع فتيل هذا الاحتقان الذي ينذر بحرب شيعية سنية أشد خطورة مما جرى ويجري حتى اليوم .
10- وسوف يكون التحليل ناقصا إلى حد كبير إذا لم نشر إلى الدور الخطير الذي لعبته ولا تزال بعض الدول العربية والإقليمية في تفاقم الوضع في سورية بدءا من إيران وانتهاء بتركيا مرورا بقطر والعراق…الخ وكذلك الأمر في الدعم المتعدد الوجوه من قبل التيار السلفي الدعوي الجهادي عبر الأفراد والمؤسسات والجمعيات الخيرية والبنوك وبكل الوسائل الأخرى الممكنة. نقول دعم هذا التيار المتطرف التكفيري فكريا ومعنويا وسياسيا وماليا وتنظيميا وجسديا وتقنيا وهو الأمر الذي لم يعد بالإمكان التغطية عليه وبخاصة عندما يصل الأمر إلى الدعم الفني الذي تشهد عليه أفلام الفيديو الداعشية .
11- وأخيرا إذا نزلنا إلى الأرض في سورية فإن بوسعنا أن نضيف إلى كل ما سبق العديد من الأسباب الداخلية التي تفسر الوضع الراهن بكل ما فيه بما في ذلك ظاهرة التطرف التكفيري الوحشي ومن بين هذه الأسباب الإنقسام العمودي للمجتمع، والوضع الجيوسياسي والاستراتيجي للمنطقة وفي القلب منها سورية والقمع السلطوي البهيمي والطابع الطائفي السافر لهذا القمع وإنكار الآخر وحقوقه بشكل مطلق الأسد أو لا أحد الأسد أو نحرق البلد وحجم الدمار والموت والعذاب الهائل والانفلات من كل الأعراف والقوانين والمواثيق واستعمال كل وسائل الدمار دون اي ظل من أي وازع..الخ. وانسداد الأفق واستنقاع الوضع حتى وقت قريب على الأقل وعجز المجتمع الدولي عن فرض أي شيئ ذي معنى ناهيك عن الحل السياسي الذي يدعو اليه ليل نهار .
ومن المعتقد أن الأسباب الثلاثة في المقدمة والعشرة الأخرى في تفسير ظاهرة التطرف والأسباب الأخيرة المذكورة في البند (11) هذا كفيلة بتفسير ما يجري، الأمر الذي لا يحيجنا أبدا إلى الاتهامات التي تتراشقها الأطراف المتصارعة من مثل المؤامرة الكونية والكفر والخيانة والعمالة وهي لا تفيد في الحقيقة في تفسير أي ظاهرة بما في ذلك ظاهرة داعش وباعتبار هذه الأخيرة ضلعا في الثلاثية. السلطة – داعش – المعارضة فإننا سنحاول فيما يأتي دحض بعض الحجج والدلائل التي يقدمها المتراشقون بالتهم، وبخاصة لأن ظاهرة داعش كانت ولا تزال محل تجاذب وتدافع شديدين وفي هذا السياق نقول:
1- لا معنى على الاطلاق لاعتبار قادة التطرف في سورية والعراق ومن بينهم كثر من قادة القاعدة وداعش عملاء للسلطة في سوريا أو العراق بذريعة إخلاء سبيل الإسلاميين في سياق الثورة كما ذكرنا من قبل. وكل ما في الأمر أن السلطة السورية ودعمتها بذلك سلطة المالكي كانت تريد الالتفاف على الثورة السلمية وطابعها الوطني عبر أبلستها وتطييفها وإضفاء الطابع المتطرف والمعولم عليها لكسب الرأي العام العالمي والاقليمي والعربي والمحلي وكانت تعرف جيدا أن الاسلاميين في سجونها والعائدين من القتال في العراق وبلدان أخرى وآلاف غيرهم من شتى بقاع العالم يمكن أن يكونوا الأداة المطلوبة. من جهة أخرى كان عتاة الاسلاميين المخلى سبيلهم وأولئك القادمون من الخارج مستعدين كل الاستعداد وجاهزين بطبعهم وانطلاقا من عقيدتهم وتاريخهم القتالي للذهاب بالثورة إلى مذهبهم الخاص بكل طيبة خاطر وهذا ما حصل بالفعل.
ولكن هذا لا يعني بأي حال من الأحوال بأن الاسلاميين المتطرفين عملاء للسلطة أو أن الأخيرة عميلة لهم بل هما على العكس على طرفي نقيض وهذا ما يعلمنا إياه التاريخ إذ في الكثير من الأحوال يكون هناك تقاطع موضوعي بين الأعداء التاريخيين وحتى بين الخصوم المباشرين مما يوحي بالتواطؤ أو التحالف الذاتي أو العمالة أو أي شيئ من هذا القبيل وبخاصة عندما ينجح الطرفان أو أحدهما بتحقيق كل أو بعض أهدافه من هذا التقاطع وهو ما حصل في سورية إلى حد كبير حتى وقت قريب. حيث نجحت السلطة بطبع الثورة بالطابع المتطرف عبر الأطراف الإسلامية المذكورة الأمر الذي دفع إلى الإعتقاد – وهو اعتقاد خاطئ- بمفهوم العمالة وبخاصته لأن داعش قد وجهت رأس حربتها طيلة شهور إن لم نقل أكثر ضد الفصائل المقاتلة الأخرى متجاهلة إلى إشعار آخر السلطة الغاشمة. ولكن كان لابد من وقوف الحقائق على قدميها في نهاية المطاف وانقلاب السحر على الساحر كما حصل في أفغانستان سابقا مع أمريكا والسعودية وباكستان حيث وجدت السلطة وداعش نفسيهما في المواجهة من جديد. الأمر الذي جعل من النجاح النسبي للسلطة في أبلسة الثورة والمراهنة على قهرها وقهر داعش في النهاية بالتعاون مع المالكي في العراق وعبر تأهيله دوليا واقليميا وعريبا ومحليا حديث خرافة يا أم عمرو. لأن نجاحه النسبي عبر التقاطع الموضوعي مع داعش وأمثالها في أبلسة الثورة وفي احتلال الأطراف التكفيرية موقع القوة والصدارة شبه المطلقة في خندق المعارضة لم يؤدي إلى إستعادة تأهيله على الصعد المذكورة أعلاه وبدلا من ذلك فقد دخل منذ بعض الوقت في مواجهة مع عدو شرس هو داعش ولاحقا النصرة التي تستعد للحلول محل المذكورة اذا تم القضاء عليها دوليا. وفي كل الأحوال فإن السلطة اليوم هي أبعد من أي يوم مضى في تحقيق حلمها في القضاء على هذا العدو .
إن التصور السلطوي الميكانيكي السابق والمستند في جزء منه على الفوبيا العالمية من التطرف الإسلامي أثبت على الرغم من منطقيته الصورية أنه كان قائما على سوء تقدير فادح عمليا الأمر الذي وضعها وحلفاءها في مأزق لا تحمد عقباه وبخاصة لأن استعادة التأهيل تحولت إلى أضغاث أحلام إن لم نقل أكثر وبخاصة عندما نسمع من بعض الدول صانعة القرار في العالم والمنطقة القول في اعتبار الإطاحة بالسلطة الأسدية شرطا لازما لمواجهة جدية ناجحة للإرهاب والتطرف، كل أشكال الإرهاب والتطرف حتى لو لم يقترن هذا القول بالفعل.
2- لا معنى كذلك أيضا للاستقواء بصراع داعش وخليفتها اللاحقة المحتملة النصرة. ضد الفصائل الأخرى باعتبار ذلك عمالة للسلطة السورية على الرغم من أن هذا الصراع يخدمها بالفعل خدمة كبرى لكنها غير مضمونة النتائج وهذا ما حصل فعلا. والصحيح أننا لسنا هنا بحاجة إلى مفهوم العمالة على الإطلاق. لأن داعش وأمثالها خارج المفهوم المذكور كليا. وعلى اعتبار أنها لا تقترن بالمطلق بمفاهيم الوطن والشعب والثورة والحرية والديمقراطية والسياسة والحقوق الإنسانية غير قادرة على التعايش إلا مكرهة مع أي طرف له علاقة بهذه المفاهيم مدنيا كان أم عسكريا. ولذلك فإن من المفهوم تماما أن تعمد – حين تتمكن – إلى تصفية كل من يمت بصلة إلى المفاهيم السابقة. ومما يزيد في حدة هذا التوجه التصفوي كون داعش وأمثالها لا تقر أبدا بأي وجود صائب خارجها، لأنها تحتكر الحق والصواب والإيمان والإسلام، وكل الآخرين كفرة أو مشركون أو مرتدون يجب قتلهم وتصفيتهم شرعا، وهذا ما حصل. وعندئذ فان مفاهيم مثل العمالة والتصنيع والتواطؤ الذاتي والموضوعي، تتبخر في أتون الحقيقة ولا يبقى لها من وجود إلا ذلك الذي تسبغه عليها الذهنية المتخلفة القائمة، كما ذكرنا على الثنائية المانوية ونظرية المؤامرة والمنظور السلبي لمفهوم الوطنية، والفائدة العابرة التي يجنيها هذا الطرف أو ذاك من التقاطع الموضوعي لمصالحهما.
ليس هذا فحسب بل بوسعنا الذهاب إلى أبعد من ذلك بالقول: حتى لو لم يكن الأمر كما هو الحال فيما يتعلق بداعش وأمثالها وفي علاقتها بالفصائل الأخرى وبالسلطة. وحتى لو كانت كل الفصائل غير متناحرة، بل وحتى لو كانت متقاربة، فان التجربة التاريخية تعلم أنه من أجل المواجهة الإستراتيجية مع العدو ومع الطرف الآخر لابد للفصائل المقاتلة في الملعب الآخر أن تتحد أو أن يصفي بعضها بعضا وصولا إلى وحدة إستراتيجية عسكرية وسياسية طوعا أو كرها. وذلك في مرحلة من مراحل الصراع إن لم يكن منذ بدئه. والأمثلة على ذلك كثيرة بدءاً من اليمن الجنوبي في المرحلة الأخيرة من صراعه مع الاستعمار البريطاني وصولا إلى أفغانستان نفسها، إن يكن قبل المواجهة أو بعد انتصارها مرورا بما حصل في سياق الحرب الأهلية في لبنان في بيروت الشرقية والجبل في تموز من عام 1980حيث أجبر بشير الجميل قائد القوات اللبنانية سائر الفصائل العسكرية المسيحية على الالتحاق به لتوحيد البندقية المسيحية وقد ذهب بعيدا في ذلك إلى درجة تصفية من رفض, وعلى رأسهم قائد المردة (طوني فرنجية وعائلته) وقد نجح إلى حد كبير في تحقيق الوحدة المطلوبة. ومثل هذا الفعل حصل في التاريخ وحصل في سوريا وسوف يظل يحصل مادام هناك أوضاع تستدعي ذلك. حتى ولو كان في حصوله خدمة كبرى موضوعيا وواقعيا للعدو، للخصم، للطرف الآخر، ولكنها خدمة حتى إشعار آخر فقط. وهي بهذا المعنى ضريبة تاريخية تقدم ظرفيا ويتم تجاوزها لاحقا، في زمن يقصر أو يطول حسب الظروف التاريخية الملموسة. وفي الغالب تنعكس إيجابا على الطرف الذي قدم الضريبة، وسلبا على الذي استفاد منها بشكل عابر. ومن هذا المنطلق التاريخي نقول : إن ما فعلته داعش والنصرة وأمثالهما لا يعدو أبدا أن يكون تجسيدا للقاعدة المذكورة ولا علاقة له على الإطلاق بالعمالة أو أي شيئ من هذا القبيل .
تيار مواطنة 23 حزيران 2015