رد المكتب الإعلامي على منتقدي افتتاحية “لمن ترفع القبعات”!
فريدريش أنغلز، “عن برنامج اللاجئين البلانكيّين”
جريدة در فولكستات، 26 حزيران 1874
«في أثناء الثورة المضادّة التي تتبع كلّ ثورةٍ مهزومة، ينشط اللاجئون الذين أفلتوا من القمع وتتبادل تيّاراتهم الحزبيّة الاتهامات عن مسؤولية كلّ منها في غرق السفينة، عن الخيانات والأخطاء المشينة التي ارتُكبت أو لم تُرتكبُ (…) ولذلك تخيب آمالهم جميعاً كما خابت من قبل. فحين تُنسب الهزيمة إلى بعض الأخطاء الطارئة وليس إلى الظروفٍ التاريخيّة الموضوعيّة التي ينبغي دراستها وفهمها، يسهل تبادل الاتّهامات، وينتهي الأمر بالتحسّر والنواح.
هذا حال جميع الهجرات، من الملكيّين الفرنسيّين في 1792 إلى اللاجئين السياسيّين في أيّامنا، لا يشذّ عنهم إلّا الذين يتمتّعون برؤيةٍ صائبة ووعيٍ تاريخيّ، فلا يُشاركون في هذه المشادّات العقيمة، ويُحدّدون لأنفسهم مهمّاتٍ مُجدية”
-1-
كل شيء يجب أن يبرر وجوده أمام محكمة العقل أو يكف عن الوجود.
” مقولة من عصر الأنوار”
يرغب مكتب الإعلام في “تيار مواطنة” أن يمهد للحوار وللنقد في مدخل ذي طابع عام، كما يأمل من جميع المهتمين بأن يعودوا إلى الافتتاحيات الثلاث المتعلقة بقسد وأمريكا والجزيرة، وهي الافتتاحيات التي تبدأ الأولى منها بعنوان الجزيرة السورية إلى أين، وتنتهي بالثالثة بعنوان الجزيرة السورية أيضا وأيضا، كما نأمل بالعودة إلى دراسة عن السلطة السورية وداعش والمعارضة كتبت قبل أربعة أعوام وهي موجودة على الموقع وذلك بغاية أن يقف الحوار على أرض صلبة، ولأننا سوف نحيل إلى ما سبق، في بعض الأحيان، أثناء الرد المفصل على بعض الانتقادات.
كما يهم “مكتب الإعلام” أن ينوه إلى أن هذه الافتتاحية ستكون ذات طابع عام، على أمل الرد بشكل مفصل لاحقاً على بعض الانتقادات في افتتاحيات قادمة، والآن إلى المدخل.
من الممكن القول: إن النقد الذي يستحق اسمه هو أحد المحركات الأساسية لعجلة التاريخ بالمعنى المليء للكلمة، كما أن الحوار الموضوعي هو أحد صمامات الأمان السياسية والثقافية والاجتماعية ضد العنف المادي والمعنوي واللفظي، وهو الوسيلة المفضلة للبحث عن القواسم المشتركة بين البشر وتسوية النزاعات والخلافات، والمساهمة جنباً إلى جنب في توليد الحقائق وتعديلها وصقلها.
ولأن الأمر بهذه الدرجة من الأهمية لابد أن يقوم النقد والحوار على الموضوعية والمسؤولية والوقائع والممكنات وأن يتطلع إلى القيم الإنسانية العليا وأن يتحرى الصدق والوضوح والشفافية والإنصاف، وأن يلتزم بقواعد ومبادئ الحوار والنقد في الشكل والمضمون واللغة وأن يفرق بين نقد الأفكار والممارسات والبرامج والمواقف ونقد القوى والأشخاص، حيث يمكن مع صون كرامات البشر، أن تقول ما تريد عن أفكارهم وممارساتهم، لأن الحرص على كرامة الآخر وحريته – أيا يكن هذا الآخر- هو أحد معايير الحوار الموضوعي والمثمر.
وتتفرع عن هذه القواعد العامة دراسة النص المنقود جيداً تجنباً للخطأ وسوء الفهم أو أي شيء آخر من هذا القبيل، كما ينبغي عدم تقويل الآخر ما لم يقله، والابتعاد عن الغوص في النوايا والتأويلات الذاتية التي لا تتفق مع النصوص والأفكار والممارسات المنقودة، والتركيز بدلاً من ذلك على الوقائع وعلى مبدأ قرع الحجة بالحجة والدقة والإنصاف والابتعاد عن الهجاء المجاني والإنشائي ولغة الشتائم والتخوين والتكفير والإهانة…
وما دمنا في سياق هذا المدخل فإن مكتب الاعلام يهمه أن يشير إلى أن النقد والحوار على الرغم من أهميتهما ليسا عصاً سحرية قادرة على حل كل المشكلات وذلك ببساطة لأن البشر يدخلون التاريخ والمعترك الاجتماعي والسياسي بانحيازات قَبْلية، وبانتماءات مختلفة وباصطفافات سياسية محددة ليس من السهل تغييرها بالحوار حتى في أرقي المجتمعات، فكيف الحال في المجتمعات المتخلفة التي ترزح تحت نير الاستبدادين السياسي والاجتماعي الثقيلين وفي زمن استثنائي هو زمن الانفجارات الاجتماعية العاصفة.
وما ذلك إلا لأن ظاهرتي النقد والحوار الأصيلتين في الاجتماع البشري تفقدان الكثير من سماتهما الإيجابية في زمن الأزمات والكوارث والحروب، وبخاصة الحروب الأهلية التي هي أسوأ أنواع الحروب نتيجة التخندق الحاد الذي ينسف أغلب الجسور – إن لم نقل كلها- بين الأطراف المتصارعة على طرفي الخندق بل حتى داخل الخندق الواحد، ومما يزيد في الطين بلة تضافر عدد من الأمور الأخرى التي لسنا بصدد ها الآن لكن من المهم الإشارة إلى أمرين من بينها وهما:
1- النتائج والتداعيات المترتبة على انزياح الثورة السورية لأسباب لا يجهلها أحد نحو ماهي عليه الآن، بما في ذلك الخروج الكلي أو النسبي من الميدان والنزوح واللجوء الكثيفين وهجرة النشطاء والفاعلين الأساسين والمفترضين إلى الخارج بأعداد كثيفة الأمر الذي يجعل ما ذكره “أنجلز “في المقدمة ينطبق علينا وعليهم جميعا ولا حاجة للشرح هنا أبدا، فالوضع واضح للجميع كما نعتقد.
2- ومن بين هذه النتائج تحول القسم الأعظم من المعارضة السورية ونحن منها إلى معارضة فيسبوكيه عاجزة عن الفعل على الأرض باستثناء الفصائل العسكرية من كل الجهات وتيارات الإسلام السياسي وبخاصة الأخوان المسلمون، ولأن العجز يولد تداعياته المنطقية والعملية فلا غرابة أن تأكل المعارضة بعضها لأنه ليس هناك من تستطيع أن تأكله من القوى الحقيقية التي ينبغي أن تؤكل وعلى رأسها السلطة السورية-الغاشمة وحلفائها من كل الأطراف.
-2-
بعد هذا المدخل وقبل كل شيء نحن نعتقد أن الافتتاحية أغفلت قضية في غاية الأهمية هي قضية المختطفين والمفقودين لدى داعش، وليس من المعروف بعد عددهم الفعلي، وتصل بهم بعض التقديرات إلى 20 ألفا فإذا أضفنا مسألة المقابر الجماعية وأماكنها وأعداد المدفونين فيها وهوياتهم وإلخ، نكون أمام وضع كارثي بحق، وفي هذا الوضع الكارثي يعتقد مكتب الإعلام أنه يجب التركيز على المختطفين والمفقودين فهم ليسوا أرقاماً إنهم أرواح بشرية غالية، وإن مصيرهم يوجع حتى العظم كل ذي ضمير وليس أهلهم فقط، ومن الضروري في هذه الحال الضغط الشديد على قسد ومسد والتحالف الدولي من أجل التحقيق في هذه المصائر البشرية، وسوف يكون من المفيد حضور الأهل والشهود من أجل تقديم المعطيات والشهادات الضرورية التي يمكن أن تساعد في كشف الحقائق، وليس من الصواب انتظار محاكم محلية أو دولية حتى يصار إلى معالجة مصير المفقودين، مع التركيز في الوقت نفسه على ضرورة تشكيل مثل هذه المحاكم، وإجراء محاكمات عادلة وبأدق المعايير الدولية لأولئك الذين ارتكبوا الانتهاكات على اختلاف أنواعها ودرجاتها.
ومن الأفضل أن تكون هذه المحاكم دولية من الناحية الرئيسة وأن تشكل من قبل الأمم المتحدة أو التحالف الدولي أو من قبلهما معاً، ومن نافل القول إنها ستتألف في هذه الحال من قضاة ومحامين ومحققين خبراء في هذا المضمار.
-3-
الأسئلة المؤسسة:
بانتظار الوفاء بوعدنا بالرد المفصل على بعض الانتقادات الذي يمكن أن يكون في الافتتاحية القادمة، وحتى لا تتحول الافتتاحية الحالية إلى افتتاحية مطولة لا تنسجم مع اسمها، الأمر الذي قد لا يشجع على قراءتها، بانتظار ذلك فإننا في سياق هذا المدخل والرد ذي الطابع العام، نبدأ بطرح الأسئلة المؤسسة للافتتاحية والرد عليها والتي هي:
(1) – هل كان ما حدث في الباغوز مؤخراً نصراً عسكرياً أم لا؟
(2) – في حال كان كذلك هل يصب في مصلحة الشعب السوري؟ وفي حال لم يكن كذلك ما هو وأين يصب؟
(3) – هل المشكلة في الحدث نفسه أم في من صنعه أي قوات قسد التي عمودها الفقري – مع الاهتمام بنسبة العرب والمكونات الأخرى – قيادة وسياسية واستراتيجية هم الكرد، وخاصة فيما يتعلق بالقيادة التي هي مجموعة جبل قنديل الستالينية الاستبدادية؟
(4) – هل كان الحديث عن جمهور غير قليل من العرب السنة، الذين يتعاطفون مع داعش، هو الأس الثاني للردود الصاخبة على الافتتاحية، بمعنى هل مس هذا الحديث ما يعتبره كثيرون جداً المقدس فأثار المشاعر، والكلام المنفلت من كل عقال؟
(5) – هل كل ما عدا الأمرين السابقين، أي انتصار قسد العسكري، والمقدس العربي السني – على أهميته النسبية – هو من قبيل التفاصيل ومن مستلزمات صناعة الكلام أم لا؟
يعتقد مكتب الإعلام في “تيار مواطنة” أن الجواب على هذه الأسئلة هو الذي حدد وسوف يحدد الأرضية الفعلية للموقف وللنقد والنقد والمضاد مع الأخذ بعين الاعتبار بالطبع الشكل والأسلوب واللغة، وهو ما سنتحدث عنه في السياق المناسب.
ومن الواضح أن “تيار مواطنة” يجيب على الأسئلة السابقة ب ” نعم ” إن معركة الباغوز كانت نصراً عسكرياً، وإنها في مصلحة الشعب السوري، ولا تنقلب الطاولة إذا كان العمود الفقري لصانع النصر هو قسد، بكل ما لنا عليه من نقد حازم، ولكنه بالتأكيد يعقد الأمور إلى حد كبير.
والجواب هو أيضا ” نعم “على السؤالين الرابع والخامس، بكل ما ترتب ويترتب على هذه ال ” نعم “.
وعلى المقلب الأخر يزعم “تيار مواطنة” – حتى يثبت العكس- أن الإجابة من قبل نقادنا تختلف عن إجابتنا اختلافاً قد يكون جذرياً، كما أنها أي الإجابة تختلف فيما بينهم اختلافاً حقيقياً.
ومادام الأمر كذلك فإن مكتب الإعلام يرى أن لبّ المشكلة هو هنا، ولا داعي في هذه الحال للاختباء وراء انتقادات فرعية في مجالات أخرى سواء أكانت صائبة أم خاطئة وسوف نسوق القرائن على ذلك فيما يلي:
نترك جانبا الآن المعارضة الرمادية التي اجتمعت ثلاث مرات في الجزيرة السورية والتي تتألف من ثلاث دوائر، أولها هي تلك التي تدور في فلك السلطة -الطغمة الغاشمة، والأخرى تلك التي تدور في فلك قسد ومسد، والثالثة التي تتأرجح بين الفلكين، والتي هي، مجتمعة أو منفردة، لا يشغل موقفها الرأي العام السوري المعارض كثيرا، نقول: نترك جانبا تلك المعارضة ونأتي إلى بيت القصيد، نقول: إن الغالبية الكبرى من الردود التي جاءتنا من المعارضة التي نعتبر أنفسنا جزءاً منها لم تشر لا تصريحاً ولا تلميحاً إلى أن معركة الباغوز هي نصر عسكري، أو أنها تحسب في نهاية المطاف لصالح الشعب السوري، وهذه الغالبية إما أنها تركت الأمر معوَّما أو أدارت الظهر له بلا مبالاة واضحة، أو ذهبت إلى تبخيسه إلى حد يتطابق مع نفيه أو غير ذلك، وهذا بالتأكيد حق مطلق للجميع لا مراء فيه، في حين كانت هناك آراء أقل أو أكثر سلبية على طرفي هذا الوسط العام، بما في ذلك بالتأكيد بعض الآراء الإيجابية فيما حصل بالباغوز .
ولقد انصرفت هذه الغالبية إلى التركيز على إدانة قسد بشكل أو آخر علناً أو ضمناً، وإلى إدانة التحالف الدولي، كما أنها انصرفت لأسباب مبدأية لدى بعضهم وبراغماتية لدى البعض الآخر إلى رفض وإدانة الإشارة إلى وجود جمهور – بصرف النظر عن حجمه – في الوسط العربي السني، يتعاطف مع داعش بشكل أو آخر، ولأن الأمر كذلك فإن من الواضح أن البون شاسع بين موقف التيار وموقف غالبية النقاد، الأمر الذي يحيل إلى أن الحديث عن الأمور الأخرى ومن بينها مسألة الأسلوب واللغة فيه الكثير من الانزياح عن جوهر الأمر، إذ لو كان الأمر غير ذلك لكنا سمعنا كلاماً آخر من الكثيرين غير الذي سمعناه، من مثل الذي سمعناه من البعض كالقول : “لقد بالغت افتتاحية مواطنة مبالغة فظة في معنى النصر في الباغوز كما بالغت في القدر نفسه في مدح قسد، وكذلك الأمر في نسبة المتعاطفين مع داعش ..إلخ. ولكانت قدمت لنا الباغوز كما يجب أن يقدم على سبيل القول: “إن ما حدث في الباغوز نصر عسكري ولكن الذين صنعوه قسد والتحالف لا يستحقون أبدا رفع القبعة، وإن هذا النصر لصالح الشعب السوري في نهاية المطاف ولكنه ملغوم إلى هذا الحد أو ذاك بالسلبيات البارزة لصانعيه وإذا كان من الصحيح أن هناك قطاعا من الوسط العربي السني يمكن أن يكون متعاطفا مع داعش وأمثالها فإنه لا يصل بأي حال من الأحوال إلى ما سمته الافتتاحية ” غير قليل “. ليس هذا فحسب بل سمعنا خطابا يرينا كيف نكون متوازنين في الكلام من مثل القول: ” المهم الآن ما العمل بعد هذا النصر الإشكالي في الجزيرة السورية، وبخاصة فيما يتعلق بإمساك المكونات الأخرى بمصائرهم، وبالتحديد الأكثرية العربية المطلقة؟ وكيف يمكن تجسيد ذلك من خلال الإدارة الذاتية للجميع لهذه المناطق وجعلها مثالاً يحتذى ومنصة للانطلاق نحو سوريا الموحدة في المستقبل؟ وماذا بشأن المفقودين والمقابر الجماعية وقضايا التحقيق؟ وللإنصاف ثمة معارض حقيقي واحد أشار إلى هذه المسألة الأخيرة في سياق رده الاتهامي العاصف، وماذا بشأن العدالة الانتقالية أو المحكمة الأممية أو المحكمة المختلطة؟ …….
وللأسف الشديد إن ما قيل هو عكس ما نعتقد أنه كان ينبغي أن يقال، حيث لا إشارة تذكر من قبل الأكثرية الناقدة لا لنصر عسكري ولا لمصلحة الشعب السوري فيه، ولا لكيفية جعل الجزيرة السورية سوريا المصغرة المأمولة في المستقبل، بل إن جل ما هناك هو الاستماته في تبخيس ما حصل – إن لم نقل رفضه – وهذا متوقع ومفهوم من قبل “تيار مواطنة” ولكنه مرفوض أيضاً.
في سياق ما أسميناه سَوق القرائن، ينبغي الذهاب إلى أبعد إلى العراق حيث من الملاحظ أن المواقف المذكورة أعلاه مورست في العراق أيضاً، وللأسباب ذاتها تقريباً سواءً فيما يتعلق بصانعي النصر على داعش وهم جيش العراق الموالي لحكومة ذات طابع طائفي وميليشيات في جوهرها شيعية طائفية انتقامية، وتحالف دولي هو نفسه تقريباً، ولذلك سواء أكان في العراق أو في سوريا لم نسمع إلا التركيز – عدا قلة من الأصوات – على تداعيات حرب الانتصار على داعش ومجريات الأمور المأساوية في سياقها وبعدها ومسائل اللجوء والمخيمات والاضطهاد …. وهو حق مطلق وواجب انساني راسخ لكن معركة الانتصار على داعش عسكرياً لا تُستغرق في هذا على الرغم من كل الأهمية التي ينطوي عليها.
ولهذا السبب يشكل قرينة إضافية على ما ذهب إليه “تيار مواطنة” في الافتتاحية الأخيرة، والجميع مطالبون وبخاصة المعارضة الجذرية بالبحث في الأسباب العميقة التي دفعت والتي ما تزال تدفع إلى هذه المواقف، وهذا يعني ببساطة الوقوف أمام المرآة والنظر إلى الذات وجهاً لوجه والذهاب إلى جذر المشكلة بصرف النظر عما قاله “تيار مواطنة” حول الافتتاحية سواء أكان خطأ أم صواباً.
تيار مواطنة
المكتب الإعلامي 8 نيسان 2019