الباحث جلال مراد: المجتمعات الأبوية جزء1 من 3
المجتمعات الأبوية
( دراسة نفسية اجتماعية في بتية المجتمعات الأبوية)
المقدمة:
تم كتابة بحث “المجتمعات الأبوية” بعد كتاب ” المملكة الأنثوية والقطيع الذكري-دراسة تاريخية في الأنوثة والذكورة”، هو تكملة للكتاب الأول، يبحث في شكل محدد من أشكال التجمعات الذكرية تلك التجمعات المعبرة عن أشكال اجتماعية أكثر حداثة من شكل القطيع الذكري البدئي. فكما بينا في كتاب المملكة أن القطيع الذكري يتجلى بأشكال عديدة مع تقدم الحضارة منها شكل العشيرة في المجتمع الرعوي، و شكل الأسرة الممتدة في المجتمعات الريفية الزراعية، ثم يأخذ شكل الطائفة في المجتمعات الدينية وشكل الحزب في المجتمعات المدنية وغير ذلك من الأشكال.
يتجلى القطيع الذكري بأشكال متعددة حسب الجغرافيا (البيئة الصحراوية ، السهلية الزراعية، المناطق الساحلية … الخ) وحسب تطور الوعي في الجماعة المعنية ونمط انتاجها ويأخذ شكله الظاهري حسب المعتقدات السائدة في هذه المنطقة من العالم أو تلك. المجتمعات الأبوية تجلٍ للقطيع الذكري، وهو تجلي دام فترات زمنية قد تكون الأطول في التاريخ الإنساني. تأخذ الدولة في هذه المجتمعات شكل الدول القائمة على حكم الأسر، أو الدول الدكتاتورية بشكليها الدكتاتورية المستندة للفكر غير الديني، أو الدكتاتورية الدينية.
بحث ” المجتمعات الأبوية” يرصد هيكلية هذا النمط في الحكم وبشكل أدق يرصد البنية الاجتماعية والنفسية لهذا النمط. بهذا المعنى بحث” المجتمعات الأبوية” يداور مرحلة مفردة من مجموعة مراحل تم استعراضها في كتاب” المملكة الأنثوية والقطيع الذكري”.
أيضاً بحث ” المجتمعات الأبوية” هو الأساس الفكري لكتاب “سيكلوجيا العبد” الذي تم نشره قبل كل من كتاب “المملكة” وكتابنا هذا لأسباب تقنية بحتة لا أكثر وكان من المناسب نشر هذه الثلاثيهة بالتسلسل العلمي.
إن قراءة كتاب ” المجتمعات الأبوية” يساعد القارئ في فهم السياقات والنتائج التي يستعرضها كتاب ” سيكلوجيا العبد” كما يزود القارئ بفهم عميق وشامل للبنية الاجتماعية والبنية النفسية للعبد.
رغم أن الكتاب يقع منتصف الكتابين السالف ذكرهما لكن يمكن قراءته بشكل مفرد دون خلل في المعنى أو نقص في وضوح الأفكار، فهو بحد ذاته بحث مكتمل الأركان قائمة بذاتها.
يتكون الكتاب من ثلاثة أجزاء وملحق. الجزء الأول جزء قريب من علم النفس أكثر من قربه لعلم الاجتماع وقد يصيب القارئ بعض الارتياب عند قراءته لإحساسه بأن محتوى هذا الجزء ليس له علاقة مباشرة وواضحة بموضوع الكتاب، والأمر أن هذا الجزء النظري مهم جداً لفهم ظاهرة الازدواجية عند الفرد وعند المجتمعات عبر تكون معتقدات حقيقية تتجلى بالسلوك لدى الفرد والمجتمع وتكون معتقدات ظاهرية تتجلى بالخطاب المعلن لدى الفرد والمجتمع.
يقدم الجزء الأول عبر تسلسل بسيط وترابط مُحْكَم كيفية تأثير الأفكار على الفرد والمجتمعات، وأي الأفكار تلك التي تحرك وجدان الفرد والوجدان الجمعي وأي الأفكار التي لا يمكنها إحداث أي تغير وجداني أو سلوكي عند الفرد أو الجماعة .
الجزء الأول يوضح للقارئ القوانين التي يستند عليه الاجتماع البشري، والقوانين المحددة للعلاقات الإنسانية بالإجمال فكما أن قانون الجاذبية يحدد حركة الأجسام في الطبيعة وهو قانون يمكن الركون إليه في تصميم بناء ما أو تصنيع الروافع الميكانيكية، فإن القوانين التي يستعرضها الجزء الأول هي ماضية حكماً عند تشكل العلاقات في المجتمع ولا يمكن القفز فوقها عند دراسة مجتمع وتحليله وصولاً لتحديد مساره وتحديد النقاط التي يمكن من خلالها العمل على تغييره نحو الأفضل.
الجزء الثاني من الكتاب يوضح البنية الاجتماعية والفردية للمجتمعات الأبوية، في المجالات الأساسية كالتعليم والقضاء والحياة السياسية والعلاقات بين الأفراد والجماعات. سيتفاجئ ربما القارئ بأن المحركات لبنية المجتمع ليست ذات طابع عقلاني أو منطقي بل هي محركات ذات طابع غرائزي عاطفي ولا يتعدى العقل والمنطق في هذه المجتمعات سوى كونهما وسائط وآليات تستخدم لتحقيق غايات غرائزية وعاطفية سواءً بالنسبة للفرد أو المجتمع برمته. إذاً جانب اللاعقلانية ليس صفة تعبر عن مرض عارض في بنية المجتمعات الأبوية بل هي جوهر ومحدد يتعلق بالهوية.
أحدثت نظرية غاليلو احباط لدى العالم الغربي في ذلك الوقت فبعد اعتقادهم أن الأرض مركز الكون أصابهم صدمة خيبة تستلزم تواضع أكبر نتيجة أن الأرض ليست إلا جرم يدور حول الشمس لا أكثر. نفس تلك الخيبة أصابة العالم عندما بين سيغموند فرويد أن محركات الشخص وسلوكه ينتمي بجزئه الأكبر للاشعور الفردي وليس للوعي والعقل والمنطق. وقد يصاب القارئ بنفس الخيبة عند قراءته الجزء الثاني من الكتاب عندما يدرك أن كل تلك المؤسسات والخطابات والأفكار على تعدد مصادرها واستخداماتها في المجتمعات الأبوية ليست إلا تعبير عن القطيعية الذكرية ولنظامي الغرائز الفردية وغرائز القطيع الذكري.
وسيلاحظ القارئ أيضاً أن الشعر والمسرح والسينما والحفلات الصاخبة الغنائية والألعاب المسلية وحتى الألعاب الإلكترونية ما هي إلا مخارج وتعويضات وتنفيسات للاحتقانات الغريزية الفردية منها والجمعية. فشبح الحروب رابض كلزوم منطقي لكف كل تلك الغرائز الموقوته وما الحضارة بشكل عام إلا محاولات متتابعة لتصريف طاقة تلك الغرائز في نشاطات وفاعليات غير مؤذية ، وحضارة المجتمعات الأبوية لها طرقها الهاصة في تصريف تلك الاحتقانات أسوة بالمجتمعات المدنية-الرأسمالية التي تم توضيح جانب من تلك التصريفات في كتاب المملكة الأنثوية والقطيع الذكري.
الجزء الثالث من الكتاب ينحو نحو تحليل المجتمعات الأبوية من ناحية نظرية الحق ومقولاتها الملكية، الحدود ، الانتماء ومن ناحية الاقتصاد الاجتماعي الذي يؤدي للاقتصاد السياسي في تلك البلاد، كان لكل من كتابي ” قصة الأرض والفلاح في سوريا” لكاتبه أبو علي باسين وكتاب ” الأوقاف والسياسة في مصر ” لكاتبه ابراهيم البيومي دور مهم في تشكيل رؤية الجزء الثالث بالإضافة لملاحظات هيغل المهمة في ثلاثيته ” تاريخ الشرق” ، ومن المؤكد أن روحية التحليل النفسي لفرويد كانت متواجدة من بداية البحث لآخره وخصوصاً كتاب ” التحليل النفسي والفن – قصة غراديفيا” ، وكتاب ” علم نفس الجمهور” الذي نقد به نظرية لوبون ، وكتاب ” النرجسية والأنا” وكتب أخرى عديدة.
عموماً في هذه المخطوطة والمخطوطتين السابقتين لا أنحو لاستخدام أفكار الكُتاب والباحثين لأني أعتقد أن استخدام الأفكار شكل من أشكال الوثنية الفكرية والتصلب العلمي المضر بروحية أي بحث، وهذه الآلية لا يمكن لها بحال من الأحوال أن تُنتج المعرفة وأقصى ما يمكن أن تقوم به هو إعادة تكرار الأفكار ذاتها بلبوس جديد عبر زُخرف العبارة وتوليف صياغات لغوية لا تقدم ولا تأخر، لكني دوماً أسعى أن أيتخدم المناهج التي هي عينها أدوات البحث ، وكلما كانت هذه الأدوات-المناهج دقيقة وعلمية واختصاصية كلما استطاع الباحث التنقيب بدقة عن الحقائق الجديدة واكتشاف أشكال جديدة من الوجود الإنساني. استخدام المناهج والابتعاد عن تقديس الأفكار السابقة هو الكفيل الحقيقي لإنتاج المعرفة.
الملحق هو جزء ترددت كثيراً في نشره لأنه لا يحتوي نسق علمي، لكنه فقط استعراض لتجربة حية ما زالت قائمة إلى وقتنا الحالي في أندونيسا عند قبائل التوراجا. حيث يتم تقديس الآباء لديهم ليس على صفة المجاز بل بصفة حقيقية معاشة. تقديس الآباء والسلف الأبوي، وشجرة العائلة. لكني قررت إضافة الملحق لما يحتويه من مقارنات ضرورية بين التقديس الحقيقي عند قبائل التوراجا والتقديس الرمزي عند مجمل المجتمعات الأبوية، يمكن للقارئ ملاحظة ذلك الرابط بين التقديس الحقيقي والرمزي عند استعراض محتوى الملحق.
يبقى من الضروري توضيح أن المسألة الدينية لم تغب عن تفكيري حين كتابة المخطوطة لكن ما جعلني أبتعد عن الخوض في هذه المسألة هو “التشوش” الكبير لدى عامة القراء في هذه المرحلة عند تعاطيهم مع المعطيات الدينية ويكفي أن أشير إلى أن تجلي الدين في الواقع الاجتماعي لم يكن يعبر عموماً عن واقع النص الديني المجرد، لكن بنية المجتمعات الأبوية قامت بتغذية كل النقاط الدينية التي تضمن بقاء واستمرار المجتمعات الأبوية، وقامت بالتعتيم المطبق على أي نص يقوض بنية المجتمعات الأبوية، بهذا المعنى فإن بنية المجتمعات الأبوية بطبيعتها اصطفائيه حين تعاملها مع عالم الأفكار الدينية منها واللادينية وهاجسها الوحيد الحفاظ على هذه البنية وإعادة إنتاج نفسها عبر الزمن. تعرض المفكر الإسلامي محمد شحرور لهذه الجزئية حين تحليله مفهوم القرية والمدينة في القرآن الكريم مشيراً إلى أن القرية تعيد تشكيل نفسها عبر الزمن ولا تتقدم أو تتغير في الجوهر، وفي هذه الفكرة نقض لنظرية ماركس حول التقدم الخطي للمجتمعات ونقض لمقولته ” التاريخ لا يعيد نفسه” فالقوانين التي سنها حامورابي على سبيل المثال في الألفية الثانية قبل الميلاد ما زالت سارية في بلاد الرافدين وبلاد الشام إلى الآن ، وقد جمعت الكثير من المقارنات بين ما كان سائد في تلك الألفية وفي وقتنا الراهن مثل تشابه العرف السائد في الخطوبة والهدايا بين الخطيبين و العرف المتبع عند الانفصال وغير ذلك لكني لم أرغب بالقيام بذلك لأن التأصيل التاريخي لبحث المجتمعات الأبوية يحتاج بحث كامل ولا يمكن إعطاءه حقه المكتمل في فصل منفرد.
أخيراً من المناسب التوضيح أن المجتمعات الأبوية – وهي سمة المجتمعات الشرقية بالعموم- ليست هي المجتمعات الوحيدة التي تعاني من الاغتراب ومن الظلم والتعسف. فالمجتمعات الغربية تعاني أيضاً من أشكال أخرى من الظلم والتعسف والغربة لكن البحث لا يحلل تلك المجتمعات فقد وضع على عاتقه تحليل بنية المجتمعات الأبوية في الشرق فقط ، ويستطيع القارئ الاطلاع على أزمات المجتمع المدني- الرأسمالية باطلاعه على مخطوطات برتراند راسل، أو أريك فروم ، أو سواهم من باحثي تلك المجتمعات.
تمهيد:
إن راقبت أحداً ما يتحاور مع آخر، وأغلقت أذنيك أثناء الحوار فسترى أن وقع الكلمات من المتحدث على المستمع متفاوت التأثير، تخيل أن الكلمات مجرد ترددات تنطلق من المتحدث باتجاه المستمع، سترى أن هذه الترددات تغير في الحالة الانفعالية للمستمع، فمنها ما يجعله يضحك، ومنها ما يجعله يبكي، منها ما ستمر مرور الكرام دون أدنى تأثير، منها ما تجعله يقف هازاً جذعه ملوحاً بيديه معلناً حالة الحرب.
ما الذي يجعل لترددات معينة أثر عابر، ولترددات أُخرى أثر انفعالي عنيف ؟
الفصل الأول المعتقدات الظاهرية والمعتقدات الحقيقية
القاموس الشخصي :
قد يظن الكثيرين أن الكلمات لها نفس المعنى عند من يتكلمون لغة واحدة، هذا خطأ شائع. رغم أن نسبة كبيرة من الكلمات لها نفس المعنى المنطقي غير أن كل كلمة لها معنى حسي، ومعنى عقلي خاص لدى كل فرد. نستطيع القول دون إحساس بالتسرع في الحكم أن لكل شخص قاموس لغوي خاص به. الحقيقة أن كل كلمة يتعلمها الإنسان تكون ضمن سياق ما ومن خلال خبرة معينة، هكذا يتعلم الإنسان اللغة، إن التخزين الأول للكلمة يكون مترافق مع جملة من الصفات الثانوية والأحاسيس المقترنة بالكلمة، هذه الصفات والأحاسيس التي اقترنت بالكلمة ضمن خبرة ما تُخزن في ذاكرة الشخص مُحاطة بتلك الصفات والمشاعر المقترنة بها.
لنفترض أن أول خبرة لشخص عند تناوله الإجاص كانت مقترنة بتلبك معوي وضرف محيط يحتوي شجار بين مجموعة من الأشخاص، فإن الانطباع المرافق للإجاص يرتبط بهذه المؤثرات السلبية، وكلما سمع الشخص كلمة إجاص ظهرت من ذاكرته تلك المشاعر السلبية بشكل تلقائي ولا شعوري في كثير من الأحيان مما يولد عنده شعور بالاشمئزاز. بينما إن كانت الخبرة الأولى لتناوله الإجاص مقترنة بمشاعر وضروف طيبة اقترنت لديه الكلمة بمشاعر طيبة محببة.
هل الأمر متوقف على الخبرة الأولى فقط ؟
لا بالتأكيد هناك تاريخ لكل كلمة، هذا التاريخ عبارة عن الخبرات الحية المرتبطة بهذه الكلمة خلال حياة الفرد، مجموع كل تلك الخبرات تشكل غمامة حسية محيطة بالكلمة ومعنى وسطي يعبر عن الوسيط لكل المعاني المرتبطة، بالتأكيد ليس لكل خبره مرتبطة بالكلمة قوة واحدة فهناك خبرات ذات قيمة و وقع كبير، وخبرات ذات قيمة وتأثير خفيف عابر، منها ما هو مشحون بخبرة إيجابية محببة، ومنها مشحون بخبرة سلبية منفرة، لكن بكل الحالات فإن الخبرة الأولى هي الأكثر أهمية في سلسلة الخبرات اللاحقة.
الإصغاء :
الإصغاء مهارة لا يمتلكها الكثيرون في أغلب الأحيان مهما كان الكلام بسيط فإن فهم ذلك الكلام يختلف اختلافاً كبيراً من شخص لآخر لدى المستمعين !!!!
الحقيقة أن هذه مشكلة دائمة تتعلق بالفهم والتفهيم، سببها التالي :
كل شخص لديه قاموس لغوي خاص من حيث أن بعض الكلمات أو الفِكَر تكون مشحونه حسياً بشكل كبير ( شحن ايجابي أو سلبي )، وبعض الكلمات أو الفِكَر تكون غير مشحونة بتاتاً أو ذات شحنة عاطفية خفيفة، هذا الشحن يعود لأسباب شخصية أو فئوية أو طائفية أو أيديولوجية … الخ.
بالمحصلة فإن نفس الخُطاب عندما يُعْرَض على عشر أشخاص من تكوينات مختلفة، فالتجاوب، و طبيعة الفهم يختلفان من شخص لآخر . مثلاً كلمة كافر تثير عند بعض الفئات موجه من الحنق والتشنج، وعند فئات أُخرى لا تثير تلك الجلبة. جملة ” انت غير وطني ” تثير عند بعض الفئات شحن حسي سلبي قوي، وعند فئات أُخرى لا تحرك ساكناً.
هل الأمر يتعلق بالأمثلة التي ذكرتها فقط ؟
بالتأكيد لا في تجربة قمت بها شخصياً في دورة من الدورات التي أقمتها سألت الحضور ما معنى كلمة “نظام” لديك وماذا تحس عند لفظ هذه الكلمة ؟
كانت الأجوبة مفاجئة وشديدة التباين. منها:
- الترتيب، شعور جميل.
- شيء روتيني كريه.
- الأناقة، والتعامل الجميل.
- القمع، والاستبداد.
- الحضارة، والمجتمعات الراقية.
- التربية الجيدة !!
بالمحصلة فإن كان الفهم يختلف كل ذلك الاختلاف من شخص لآخر بالنسبة لكلمة فما بالك بجملة أو نص كامل. الإصغاء مهارة تحتاج الخروج من الذات بكل مكوناتها والحياد الشعوري ( تحييد المشاعر الذاتية ) ومحاولة استيعاب ما يقوله الآخر بالضبط.
الفكرة المشحونه:
كما أن للكلمات المفردة شحنتها الخاصة عند الفرد، فإن للأفكار شحنات تختلف من شخص لآخر، فبعض الأفكار تثير لدى أحدهم موجة من الحنق والغضب، وغيرها تثير مشاعر الشماتة والتشفي، وأُخرى تثير مشاعر الرضى والقبول. ينطبق على الأفكار ما ينطبق على الكلمات بفارق أن قيمة الشحن الحسي للأفكار أضعاف مضاعفة من قيمة الشحن الحسي للكلمات، ففكرة ما قد تصل بشخص ما إلى ارتكاب جريمة قتل، او تؤدي بالنسبة للجماعة لحرب أهلية، وفكرة أُخرى قد تغير مسار حياة فرد معين، وفكرة قد تغير تاريخ أمة، أو طائفة، أو منطقة، أو إثنية.
من المؤكد أن هناك سمات محددة لهذه الأفكار، فمئات الأفكار تمر يومياً على الفرد، والجماعات البشرية يومياً لكنها لا تحدث تغييرات قوية ولكنها تمر مروراً عابراً. لفهم طبيعة الأفكار الفعالة علينا أن نوضح نسقين من المعتقدات عند الأفراد والجماعات الإنسانية، إن فهم هذين النسقين يوضح بشكل لا يترك مجال للشك الأفكار العابرة التي لا تُحدثُ تغير ملموس لدى الأفراد والجماعات، وبين الأفكار الفعالة التي تُحدث تغيير حقيقي في بنية فرد ما أو جماعة ما. هذين النسقين هما نسق المعتقدات الظاهرية، ونسق المعتقدات الحقيقية.
المعتقدات الظاهرية والمعتقدات الحقيقية:
لطالما تصيبنا حالة من الذهول والصدمة من سلوك شخص، لاسيما عندما نكون على معرفة طويلة به، و نكتشف بعد عشرات السنين أنه ليس الشخص الذي نعرفه، وما نراه من سلوكه يحطم كل الصورة التي وقرت و شكلناها عنه في أذهاننا. أو أن نستمع لخطاب أحد ما ويعجبنا حديثه لكننا عندما نجرب التعامل معه في مصلحة واقعية نتفاجئ بصفات لا تضهر في كلامه، عَبَرَ المصريون عن ذلك بمثل متداول ” أسمع كلامك أصدقك، أشوف أمورك أستعجب”.
المفاجأة عينها تصيبنا عند رؤية احتشاد جماعة بشرية ما للقيام بسلوك جماعي، فالصورة الذهنية التي كونتها عن هذه الجماعة ( طائفة، قومية، شعب، منطقة، أسرة، عشيرة) تتحطم عندما نرى سلوكها أو ردة فعلها اتجاه حدث ما.
الأحداث الأخيرة التي وقعت في العراق وسوريا وغيرهما، أصابت المراقبين بسلسلة من المفاجآت والصدمات حطمت كل تصور مسبق عن كلا البلدين وكأننا إزاء كيانات لم نتخيلها في يوم من الأيام ولم نتصور وجودها بأي حال من الأحوال. هذه الجوانية التي عبرت عن نفسها و تجلت كسلوك عدواني، وحروب، ومكائد، وجرائم بشعة لا يمكن تخيل وجودها سابقاً.
إن فهم نسق المعتقدات الظاهرية، ونسق المعتقدات الحقيقية كفيل بإزالة هذا اللبس، وكفيل بتزويد القارئ بآلية دقيقة لرؤية الأشخاص والجماعات بشكل حقيقي لا يتخلله وهم أو يشوشه ارتياب.
فما هو نسق المعتقدات الظاهرية؟
هو مجموعة المعتقدات التي نستخدمها في الحوارات بقصد التكيف مع المختلف. يستخدمها الفرد بقصد التكيف مع محيطه الاجتماعي، وتستخدمها مجموعة بشريه عبر أفرادها للتكيف مع باقي المجموعات البشرية المحيطة.
إذاً القصدية من تلك المعتقدات هو التكيف، ومحتواها الأفكار التي لا تثير صراعاً أو استنكاراً أو صدمة لدى الآخر وفي العموم هي الأفكار المشتركة بين الفرد ومحيطه من الأفراد، أو بين الجماعة ومحيطها من الجماعات.
غالباً ما تظهر تلك الأفكار المعبرة عن المعتقدات الظاهرية وقت السلم، والراحة، وتعبر عن نفسها في الخطاب المشفوه أي الكلام.
هذا النسق من المعتقدات يتشكل لدى الأفراد، والجماعات نتيجة الثقافة السائدة والمعروفة التي تصل عبر الكتب، المنشورات، التلفزيون، وسائل الإعلام المتعددة. فتعطي الفرد والجماعة تصور عن ما هو مألوف ومشترك فيقترب منه، ويعطيه تصور عما هو شاذ مستهجن فيبتعد عنه.
تنتقل المعتقدات الظاهرية من خلال التربية من جيل لجيل عبر استماع الفرد لذويه .ولأقرانه المحيطين به.
لكن ما هي طبيعة المعتقدات الحقيقية؟
المعتقدات الحقيقية هي تلك المعتقدات التي وقرت في النفس وثبُتت في بنية الإنسان كمعتقد فعال قابل للتحول لسلوك. وهي معتقدات حية لها قوة نفسية خلفها تدفعها للتحقق العيني. وقد تشكلت هذه المعتقدات بفعل تجربة وخبرة حقيقية مارسها الفرد أو الجماعة الإنسانية في المكان والزمان الحقيقيين.
تورث المعتقدات الحقيقية ليس جينياً ولكن من خلال التربية الغير مشفوهة، أي من خلال تمثل الفرد لسلوك وردود أفعال والديه وأقرانه الأكبر سناً أو الأقوى حضوراً.
تشكل المعتقدات الحقيقية يبدأ بالتربية العملية الأفعال والسلوك. ولكن لا تثبت تلك المعتقدات في النفس وتتواشج مع باقي المعتقدات الحقيقية في العقل وتتحول إلى سلوك اعتيادي إلا عبر عملية الخبرة الحية التي يقوم بها الفرد، أو الجماعة. على اعتبار أن الخبرة الخية مجموعة الأفعال التي يقوم بها الفرد نفسه ويتلقى نتائجها كتغذية راجعة من الواقع.
تتلخص الخبرة الحية بالدينامية التالية :
مؤثر خارجي – استجابة شخصية(أو جمعية) – تحقق الهدف. أو من خلال:
مؤثر – استجابة شخصية (أو جمعية) – عدم تحقق الهدف.
الخبرة الحية :
” ليس وجدان الفرد هو الذي يصنع وجوده، إنما الوجود الاجتماعي للفرد هو الذي يصنع وجدانه”.
كارل ماركس.
الخبرة الحية هي كل خبرة حقيقية مارسها الفرد في الواقع كسلوك حقيقي (غير مصطنع)، وتثبتت في وجدانه كمرجع يمكنه تكرارها كلما دعت الحاجة أو توفرت الضروف المشابهة.
بدايةً الخبرة الحية هي تَمثُل يقوم به الفرد عندما يُراقب سلوك الوالدين أو الأشخاص الأقوى منه، وتكتمل هذه الخبرة لتدب فيها الحياة وتَثبُت في النفس عندما يقوم بها الشخص، وتتم عملية التثبيت عبر مرور الفرد بمؤثر يستدعي ردة فعل، المؤثر يستحضر من الذاكرة الخبرة الأولية المتعلمة، يقوم الفرد بردة الفعل المتوافقة مع الخبرة المُتعَلمة الأولية، فإن كانت نتيجة ردة الفعل مُرضية وتحقق الهدف اعتُمدت بشكل لا شعوري عند الفرد كآلية صحيحة، وإن لم تُعطي نتيجة إيجابية تحقق الهدف ضعفت قيمتها إلى أن تزول تماماً بعد تكرارات متعددة.
مثال توضيحي:
نفترض أن الخبرة الأولية هي (عليك أن تقف في الدور ولا تتجاوزه).
الموقف : وجود الشخص لأول مرة في “دور” على الفرن للحصول على الخبز، يوجد فوضى وأشخاص كُثر، التزم الشخص بالدور، غير أنه عندما قام بذلك لاحظ أن أشخاص آخرين يصطفون أمامه في “الدور” فيحصلوا على الخبز قبله، وآخرين يصرخون مثيرين جلبة فيحصلون على الخبز قبله، وغيرهم يقلدون هيئات الشرطة وعناصر الأمن فيحصلون على الخبز.
في هذه الحالة ستضعف قوة الخبرة الأولية وتستبدل مع التكرار بخبرة أُخرى مفادها ( عليك أن تصرخ وتزاحم وتُظهر القوة لتحصل على الخبز).
لنلاحظ أن هذا النمط من الخبرات المتعددة والمشتملة على نفس المعنى من المرجح أن تؤسس لمعتقد حقيقي ( إن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب). بالمقابل قد يكون الحوار التكيفي لهذا الشخص والذي يعبر بلغة مشفوهة عن معتقده الظاهري متسامح ودود حضاري يستند، ويكون محتوى المعتقد الظاهري ( من الحضاري أن يلتزم الإنسان بالنظام).
الخبرة التكيفية الغير حية المشفوهة تؤسس لنسق من المعتقدات الظاهرية.
لنلاحظ أن مرور الشخص بتجربة حية واحدة أحب فيها امرأة، وكانت النتيجة خذلان وخيبة أمل سيؤسس لديه لمعتقد حقيقي فعال قابل للتحول لسلوك في أي وقت مفاده ( لا تأمن النساء) وقد يقرأ ويتكلم هذا الشخص نفسه مجلدات حول فضل الحب، لكن لن تتحول كل تلك المجلدات لواقع سلوكي واحد. بل تتراكم هذه الحوارات التكيفية لتشكل نسق من المعتقدات الظاهرية.
الخبرات الحية في الجماعة:
المقصود بالجماعة هنا أي جماعة بشرية تجمعها هوية ما كالأسرة، العشيرة، طائفة، منطقة سكنية، محافظة، شعب، أمه الخ. سأستعيض عن مفهوم الجماعة ب الهوية الجزئية متعللاً بأنه مثلما يوجد للشخص العيني هوية، أيضاً يوجد لكل جماعة بشرية يربطها رابط محدد هوية جزئية تعبر عنها.
الخبرة الحية للهوية الجزئية تشابه الخبرة الحية للشخص المفرد، فكما أن الخبرة الحية للفرد تنشأ من تجاربه الحية الشخصية في العالم الحقيقي يتولد عن هذه الخبرة معتقد حقيقي. فالهوية الجزئية لمجموعة أشخاص لديهم معتقدات حقيقية فعالة تُسيِّر سلوك هذه المجموعة وتحدد ردود أفعالها المحتملة عند تعرضها لمؤثرات خارجية . كما أن لديها معتقدات ظاهرية تستخدمها هذه الهوية في خطابها الخارجي إزاء الهويات الجزئية الأُخرى بقصد التكيف والتعايش.
لنلاحظ على سبيل المثال هذه المفارقة التي تظهر جلياً في كل من الحالة العراقية والسورية واللبنانية إذ أن الاقتتال الطائفي (الاقتتال الطائفي سلوك يعبر عن المعتقد الحقيقي لدى هذه الطوائف) هو الجاري على الأرض، بالمقابل فإن الخطاب دوماً يعبر عن قبول الآخر والتعايش السلمي معه (المعتقدات الظاهرية). لكن ما الخبرات الحية التي أسست لذلك؟ الأمر تم على النحو التالي (وسأستخدم حالة افتراضية كمثال توضيحي وهي خطف مجموعة من الناس ينتمون لهوية جزئية ما):
يتأهب الأشخاص المنتمين للهوية الجزئية، عاقدين العزم على استرجاع المختطفين، يرسلون وسطاء لحل النزاع، إن تم حل النزاع من خلال التفاوض(وهذا ما لا يحصل غالباً) فإن خبرة حقيقية ستتشكل لدى هذه الجماعة بأن في حالة الخطف من المناسب إرسال وسطاء أكفاء لاسترداد المختطفين وسيتشكل معتقد حقيقي لدى هذه الجماعة (السلم والعقل يحل المشاكل). لكن إن باءت كل المحاولات السلمية بالفشل وقام أشخاص من هذه الهوية الجزئية باختطاف مجموعة من الأشخاص ينتمون للهوية الجزئية الأُخرى، وتم ارسال مفاوض لتبادل المختطفين وتم إرجاع المختطفين وحل النزاع بهذه الطريقة فإن معتقد حقيقي سوف يقر في النفس الجمعية لدى هذه الجماعة المتحلقة حول هويتها جزئية ( ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة).
مما سبق نلاحظ أن خبرات جماعة ما متحلقة حول هوية جزئية، تصنع مع تقادم الوقت وتعدد المواقف معتقدات حقيقية، فاعلة، تتحول إلى سلوك بشكل مباشر.
وتتشكل أيضاً معتقدات ظاهرية شفوية تستخدم في أوقات السلم والراحة تفيد في حالات التكيف مع الهويات الجزئية المحيطة بها لا تتطابق بالضرورة مع معتقداتها الحقيقية.
قوة الفكرة:
بعد استعراضنا السابق بات واضحاً ما الذي يجعل المستمع الذي تمر عليه افكار متعددة لكنه يقف عند افكار محددة فتثير فيه حماسة (سلبية أو ايجابية) تحركه نحو اتخذ فعل ما، وما الذي يجعل أيضاً جماعة بشرية (هوية جزئية) تتحشد وتقوم بفعل واضح قوي إثر تعرضها لحدث أو فكرة ما.
بات واضحاً أن قوة الفكرة ما هي إلا الشحنة العاطفية النفسية/النفسجمعية المتوارية خلف المعتقدات الحقيقية، تلك المعتقدات التي نشأت من خبرات حية فردية/ جمعية.
من جهة أُخرى إن أراد شخص أو شخص اعتباري( دولة ، مؤسسة ، حزب ، هيئة …. الخ ) إحداث تحول حقيقي في بنية شخص أو جماعة عليه أن يعرف/ تعرف تلك المعتقدات الحقيقية، والعمل على هذه المعتقدات بالتحديد.
لعل أن أغلب الجهود المبذولة لتغيير مجتمع أو جماعة كانت كلها موجهة للمعتقدات الظاهرية، هذه الجهود لا يمكن أن تفضي إلى تحول حقيقي، لكنها تطور مهارات التكيف والمراوغة والتحايل لدى هذا المجتمع أو تلك الجماعة.
لكن لماذا انشطر الإنسان لدينا إلى جزئين وعقلين ؟
لماذا تحولت الهويات الجزئية لدينا إلى هويات فصامية تقول ما لا تفعل؟
هل هذه السمة عند كل أفراد الأرض والجماعات والمجتمعات الإنسانية؟
يتبع الجزء 2 من 3