المجتمعات الأبوية- الباحث جلال مراد جزء 2و3 من 3
الفصل الثاني
المجتمعات الأبوية
الأسرة الأبوية والاستبداد:
الحقيقة أن هذه الازدواجية ليست موجودة بشكلها القوي في كل المجتمعات، ونستطيع بيسر القول أن هذه الازدواجية بين نسقي المعتقدات الظاهرة والمعتقدات الحقيقية هي صفة جوهرية للمجتمعات الأبوية الاستبدادية.
إن النمط البطرياركي في المجتمعات يحتم احترام الأب لدرجة القداسة، نستطيع تبين ذلك من خلال المسبار التالي :
” يمكن لأي شخص ينتمي للمجتمعات البطرياركية /الأبوية أن يتقبل شتمه أو حتى إهانته، لكنه لن يقبل على الإطلاق التعرض لوالده أو من ينوب عن والده ” القيم على رعايته “، من جهة أخرى فإن هذه المجتمعات تنقل حسنات الأب للأبناء، وتحمل الأبناء أيضاً نواقص، وأخطاء أباءهم وأجدادهم وسلالتهم بالإجمال.
تعتمد هذه المجتمعات في تقييمها الأخلاقي للشخص على مكانة، وقوة، وأخلاق سلالته الأبوية.
النمط الأبوي يتعدى في حضوره الجانب الاجتماعي فهو أيضاً يمتد إلى / ويعبر عن الجانب السياسي في أنظمة الحكم، وشكل الإدارات في الدولة، والدوائر السياسية والنقابية والتشريعية وباقي قطاعات الحياة.
إن جذر هذه الازدواجية في الأسرة عدم جواز مخالفة رأي الأب مهما كان هذا الرأي، من علائم حسن الخلق هو طاعة الأب، ومآزرته في المواقف التي يأخذها، من الممكن في أحيان ما للإبن أن يخالف أباه في الرأي لكن الوقوف في وجهه، أو معارضة سلوكياته أمر يوصف بأشد الصفات اللأخلاقية والمارقة التي من شأنها محاربة كامل المجتمع لهذا الإبن الضال المضل.
كما إن جذر هذه الازدواجية في المجتمع بالترافق للجذر الأُسَري ، هو عدم مخالفة كبير العائلة، أو شيخ العشيرة، أو الحاكم ، أو كل ما يمثل الأب رمزياً في المجتمع كشيخ الدين، المعلم ، القاضي ، الشرطي …..الخ.
المجتمع الأبوي منظم على هذه الطريقة لذلك فإن عُمر الفرد يحدد مكانته الاجتماعية في المجتمع فعلى الأصغر عمراً عدم الدخول إلى مكان ما قبل الأكبر في السن، كما لا يجب أن يباشر الطعام الأصغر في السن بل ينتظر هو وغيره من مجالييه ليبدأ الأكبر سناً بالأكل ثم يباشروا الطعام بعده. عند مواقف العزاء من يبادر بالحديث هو الكبير في العمر وإن بادر الأصغر قبل استئذان الكبير يعتبر هذا الأمر تعد، وقلة حياء. في لقآت القبيلة والأسرة الممتدة يأخذ الأمر نفس التراتب، و كما ذكرنا فإن صفات ومكانة وحضوة الأب تورث اجتماعيا للإبن الأكبر، هذا ما يجعل بعض وجهاء العشائر، وشيوخ القبائل وكبار الأسر رغم صغر سنهم يأخذون المعنى الرمزي للأب المهيمن في العشيرة، والقبيلة، والأسرة الممتدة بسبب ميراث آبائهم.
السترة-التقية :
إن الاستبداد ” الأخلاقي ” المطبق في المجتمع الأبوي، والذي يمتد لكل تفصيل من تفاصيل الحياة ( شكل اللباس، كيفية الحديث، كيفية الأكل، محتوى الحديث المناسب، دور الحديث، تقسيم الناس لفآت ومجموعات، والتعامل مع كل فئة أو مجموعة بشكل يختلف عن المجموعة أو الفئة الثانية وفق تقسيمات عائلية، عشائرية، جيران، أقرباء، من أسرة عريقة، أسرة غير عريقة، كبير بالسن، كبير بالقوة، كبير بالقدر، متعلم، غير متعلم ….. الخ ) جعل رغبة وإرادة الفرد في هذه المجتمعات مسحوقتين تماماً، ولا يوجد أساساً عرف اجتماعي يعطي الشرعية لتلك الرغبات والإرادات عند الأفراد، لأن إعطاء الشرعية للحرية الفردية هو بالضرورة تقويض نظام المجتمع الأبوي بكل بساطة.
إن هذا الاستبداد المطبق هو ما جعل من الازدواجية بين المعتقدات الظاهرية، والمعتقدات الباطنية الحل الأمثل والإسعافي. تلك الإزدواجية الضرورية لحياة الفرد في هذا المجتمع الأبوي المصمت، ولأن المجتمع لا يمكن أن يتواجد فقط بالمبادئ الأخلاقية ويحتاج لأفراد يحتوون اندفاعات وبالتالي رغبات وإرادات ذاتية شرَعَ المجتمع تلك الازدواجية بأصناف من الأفكار التي كانت مستترة حيناً ومعلنة حيناً آخر حتى أن بعضها احتل مكان في المنظومة التشريعية الأخلاقية كالأستتار بالمألوف ” السترة ” والتقية .
إن طول المدة الزمنية للنمط الأبوي في المجتمع أدى لثبات الأعراف والتقاليد والبنية الأخلاقية الناظمة والمحددة للعلاقات الاجتماعية. كما أن الكثير من هذه العادات والتقاليد أخذت صفة البديهيات المعيشية، واكتست القداسة الملزمة لجميع الأفراد. وباتت الازدواجية في الفرد والمجتمع هي الحل الأمثل والأنسب لدوام استمرار هذا المجتمع في الحياة.
التقية والاستتار كعاملين تشريعيين في عقد اجتماعي ناظم لعلاقات الأفراد والمجتمعات الجزئية بررا الكذب، والنفاق والمداهنة، وإلى حد كبير لا تعتبر هذه السلوكيات نواقص أو سقطات اجتماعية يمكن للمجتمع معاقبة الأفراد أو الجماعات الجزئية المكونة للمجتمع عليهم.
الضامن للعهود:
إن النفاق أو الكذب أو المداهنة ثمرات التقية والاستتار، ورغم أنها تعتبر سلوكيات غير محببة لكنها ليست ممنوعة أو محظورة كالشرف، والعرض، والكرامة، والعفة، وغيرها من الأخلاق. لكن هذا التهاون في الكذب بكونه مجانبة الحقيقة، والتهاون اتجاه سلوكي الخديعة والنصب اللذين يعنيان بشكل واضح استخدام الحق كوسيلة ليس إلا لتحقيق الباطل، قول حق أُريد من خلفه باطل. هذا التهاون أدى لانعدام الثقة بين الناس، وبقي الضامن لصدقية اتفاق ما هو رعاية الأب الحقيقي أو من ينوب رمزياً عن الأب، بهذا المعنى فإن المواثيق والعهود والوعود التي يمكن أن تربط الناس ببعضها لا يمكن أن تكتسي الشرعية إلا إن رُبطت بقيمة أكبر في المجتمع وهي الطاعة الأبوية، هذا الشكل من الضمانة جعل الصدق والحق لكل جماعة جزئية محصور داخل هذه الجماعة بالذات طالما لهذه الجماعة أب مهيمن ضامن للاتفاقات.
فعلياً لا يجد الشخص في المجتمع الأبوي غضاضة في تغيير قوله، ولا في تحويره، أو نفيه طالما إن هذا القول تم بعيداً عن الأب أو الممثل الرمزي عن الأب. إن الحاجة للأب الضامن ضرورة في المجتمع البطرياركي/ الأبوي وكثير من الحِكم المنتشرة في المجتمع تعبر عن هذه الحاجة لدى الأفراد مثل 🙁 إليّ مالو كبير يشتري كبير )، ( العين ما بتعلى عن الحاجب ).
إن الامتثال للجماعة وتولية الأب الضامن مقاليد القيادة يُريح الأفراد من مسؤليات القرار. ويلقي بتبعيات تبكيت الضمير والإخفاق على الأب الضامن. ويستقر الفرد في طفالة ( من طفولة ) مريحة سلبية هانئة، إن الفرد في المجتمع البطرياركي/الأبوي يخاف الحرية ويبتعد عنها، لا بل أنه يعتبرها عبئ ثقيل لا يستطيع حمله لأنها ببساطة تقتضي أن يتحمل الفرد من خلالها المسؤولية.
—–
الامتثالية :
المجتمع الأبوي هو مجتمع التشابه. فالبديهيات المتبناة من قبل مجتمع ما تكاد تغطي كل جوانب الحياة دون استثناء كيفية السلام كيفية الأكل، كيفية السير، كيفية اللقآت الجماعية، كيفية فُض النزاعات، كيفية التعامل مع الأب، كيفية التعامل مع الأخوة كل حسب عمره، كيفية الخطاب مع الجار، كيفية التعامل مع الضيف، كيفية التعامل مع الزوجة، كيفية التعامل مع الإبن، حقوق وواجبات كل فرد حسب جنسه، وعمره، وعائلته، وماله، تقاليد الزواج ، مراسم الوفاة ….. الخ.
إن الأعراف والتقاليد في المجتمع الأبوي مُحكمة تغطي أصغر تفاصيل الحياة، هذا الإحكام يُضَيق إلى درج شبه تامة دائرة الخصوصية الفردية، لان أي خروج عن العادات والأعراف والتقاليد مهما كان صغيراً سيظهر بوضوح تام كنشاز في إطباق الإيقاع الامتثالي العام، وسيثير حفيظة كل المجتمع القريب من الحدث النشاز والبعيد أيضاً عن هذا الحدث لدرجة إن استخدم شخص ما صيغ كلامية لها معنى التعزية في مواقف العزاء، أو صيغ غير معهودة في مباركات الأفراح سيثير موجة من السخرية، أو التندر لعشرات السنين. أو إن تعامَل أب مع ابنه بطريقة غير نمطية سيثير بذلك حفيظة المجتمع المحلي بأسره.
ببساطة ومباشرة المجتمع الأبوي هو مجتمع الامتثال دون منازع.
لكن ما المكسب الذي يحصل عليه الفرد من الامتثال ؟
حرمان الفرد من خصوصيته، وحريته، وحضوره كذات فردية تم تعويضه بمكاسب أخرى في المجتمع الشمولي – الأبوي، فالفرد لا يخضع لمسؤولية ذاتية فكل الخيارات والمسؤوليات تُأخذ من القائم عليه، حتى الخيارات المتعلقة به وبحياته الشخصية، هذا يعفيه من مشاعر تأنيب الضمير أو الحيرة والقلق نتيجة المسؤولية المترافقة مع الخيارات التي تحتمها القرارات القصدية، كما أن البديهيات التي تشمل كل مناحي الحياة والعلاقات وأصول التعامل تجعل جانب المفاجأة، والتنبيه وما يترافق معهما من دقة الملاحظة للتمييز، والفرز تجعل تفكيره مرتاح غير قلق غير معرض لمفاجآت غير مُتوقعة، إن أفضل وصف للشخص المنتمي إلى هذا المجتمع أنه يعيش حالة من الطفولة الدائمة بما تتضمنه هذه الحالة من الراحة الذهنية والاتكال على الأوصياء في مناخ رحمي هانئ.
بالترافق مع ذلك نستطيع وصف الناس في المجتمع الأبوي – الشمولي بأنهم أناس يعيشون الطفالة الدائمة ( لذلك نرى أن الأشخاص يفتقدون القدرة على تحقيق المطالب والاحتياجات ذاتياً، ولا يعدمون الوسيلة دوماً في المطالبة الطفولية في احتياجاتهم. نريد كهرباء … نريد تعليم جيد … نريد كفاية .. نريد من المجتمع الدولي كذا … وعلى الدول القوية تقديم …) لكن عندما يتجاوزون المطالبة ويصلون إلى نقطة تحتاج عمل ذاتي تراهم يقفون مشدوهين غير قادرين على المبادرة الذاتية، والإنجاز.
لا يقدم العلم والتعلم الأكاديمي فارق حقيقي يضاف إلى ذات الشخصية الامتثالية، فالعلم لا يتواشج مع الذات الحقيقية ولا ينتمي إلى دائرة المعتقدات الحقيقية، بل يبقى أسير المعتقدات الظاهرية المتجلية بنشاط كلامي لا أكثر، وغاية العلم في هذه المجتمعات هو التميز المجتمعي واتخاذ مكان الأب المهيمن في المجتمع وتحقيق الغلبة على الأقران ( حتى أن النصائح المتداولة في الحث على التعليم في هذه المجتمعات تكون على شكل ” يجب أن تتعلم حتى يصبح لديك مكانة في المجتمع ” ، “الثقافة جيدة لأنه ستستطيع التحدث بين الناس” ، ” تعلم بني حتى تتميز على أولاد عمك حسن ويوسف ” …. الخ ). ضمن هذا التصور العام في المجتمع الامتثالي فإن الوظيفة الاجتماعية للعلم لا تتعلق بالإنجاز المعرفي أو التقني، ولا تتعلق بالإبداع والابتكار، لكنها تنحصر في الغلبة والتميز الاجتماعيين .
ضمن هذه الآلية يتموضع العلم الأكاديمي، والثقافة العامة في دائرة المعتقدات الظاهرية، ويتجلى في الفعل الكلامي فقط بهدف التميز الاجتماعي والغلبة بالنسبة للفرد، والتكيف مع الهويات الجزئية الأُخرى بالالنسبة للجماعات. بينما تُملئ دائرة المعتقدات الحقيقية الفاعلة عند المتعلمين بنفس الخبرات المتوارثة من المجتمع الأبوي عند غير المتعلمين، لتتجلى كسلوك وفعل حقيقيين، بهدف تحقيق الحظوة والمكانة في المجتمع الأبوي – الشمولي.
—–
الفرادة-الإبداع:
صار واضحاً دون إطاله في البيان أن الفرادة أمر غير محبذ في المجتمع بل أن موقف المجتمع ككل ليس حيادي اتجاه الفرادة بل إنه عدائي، إذ يعتبرها خروج عن العرف والإجماع العام. ولايتعاطى مع الفرادة على أنها حق طالما لم تضر بمصالح الآخرين، بل يتعاطى معها على أنها غباء، ودروشة، وعدم لباقة، وعدم دراية بالأصول حيناً. وحيناً آخر تطاول، ووقاحة، وتعدي على نمط الحياة العام.
من جهة أخرى فإن الجديد غير المألوف في الفهم العام الجمعي للمجتمع الأبوي يعبر عن شيء غير محبب وربما مكروه، فالمجتمع يستمد مبادئه وعلومه من الماضي من قداسة الآباء والأسلاف، يكفي أن تُنسب المعلومة لأحد السلف القديم حتى تأخذ صفة الصحة والرجاحة وكثير من الأحيان صفة القداسة والحقيقة المطلقة، والثقافة في هذا المجتمع هي ثقافة نقلية متواترة، اتباعية. تستمد حقيقتها من كونها صادرة من السلف الماضي. ضمن هذه الآلية في الفهم فإن المجتمع يستمد ثقافته العامة من المقولات الماضوية وبالتالي فإنه لايقبل الجدة والتجديد، ومن المرجح أنه ينظر إلى الإبداع بمعنى البدعة، وتقييمه لكل فكر أو علم جديد تقييم يكتنفه الإرتياب والشك والاستغراب، وعموما يكون المبدع محط سخرية واستهجان طالما طرح مواضيع لا تتعلق بالإرث الثقافي الماضوي، لكن السخرية والاستهجان يتحول إلى حنق وغضب إن مَس أي مبدأ أو فكرة مكونة للمعتقدات الحقيقة الحية التي يتبناها المجتمع وتشكل له طريقة حياته.
إن بنية المجتمع الأبوي بنية تعتمد النقل كحجة على صواب أمر، وتعتبر الأسماء الماضية من السلف هي المرجع الذي لا يمكن أن يخالطه الريب والشك. التقليد، والاتباع هو المنهج الذي تبنى عليه الحِكم، والعبر، والعلوم الحياتية، إن هذه البنية لا يمكن أن تعترف بالعقل، وقوانين المنطق في حقيقة الأمر فالمنطق الوضعي والعقل المتحرر معول يقوض أساس هذا المجتمع ، لذلك فإننا نرى أن الحالات القليلة التي حاول فيها أفراد مبدعين الخروج عن الإطار العام تم تهميشهم، أو نفيهم من بنية المجتمع، وقد يبلغ الأمر مبلغ سجنهم، أو قتلهم حفاظاً على بنية المجتمع الأبوي – الاستبدادي.
—–
تطويع الفكر :
كثيرا ما تم تحميل الدين مسؤلية الامتثالية، رفض العقلانية، محاربة الإبداع …الخ. لكن الحقيقة أن البنية الاجتماعية في المجتمع الأبوي – الاستبدادي هي المسؤول الحقيقي عن كل تلك الأمور، الذي حصل عبر التاريخ في العديد من المجتمعات الأبوية وعلى تعدد الديانات الموجودة في الشرق أن هذه البنية ومن خلال الزمن طوعت كل الأفكار الدينية لتتوافق مع مخرجات هذه البنية، من المؤكد أنه ثمة جدل بين الفكر الديني، والبنية الاجتماعية للنمط الأبوي مما أفرز اختلافات شكلية بين مجتمع وآخر، وبين أمة وأخرى. فالهند على سبيل المثال أدى بها هذا الجدل لنظام الطبقات الدينية، وفي الصين أخذ الجدل حالة الإمبراطوريات الشمولية، وعند العرب انعكست البنية العشائرية لتتشكل عشائر دينية أخذت شكل الطوائف لها أمراء يمتلكون صلاحيات أمراء العشائر … الخ.
الحقيقة أن عملية لوي الفكر ليتناسب مع البنية الأبوية لم يطال الفكر الديني فقط بل إنه طال أي فكر وافد للبنية وقد استخدمنا كلمة وافد بسبب عدم إمكانية البنية على إنتاج فكر، فعلياً هناك مفكرين، وعلماء لكنهم محاربين من نفس البنية بدعوى البدعة، والمروق، والزندقة. لا تسمح هذه البنية أن يتحول هذا الفكر المُنْتَج محلياً إلى شكل اجتماعي إذ تَعزل البنية المفكرين المجددين في خانة الدروشة، والدراويش، أو في خانة المثالي، والمثالية. أو الشاذ الغريب الأطوار. وأقصى ما يمكن أن يحققه الفكر المحلي الجديد هو تشكيل طائفة – عشيرة من المريدين للمفكر وتدرج هذه الطائفة بجانب الطوائف الدينية ويأخذ المفكر مكان أمير طائفة- عشيرة. مهما كانت طبيعة هذا الفكر فإن البنية تطوعه وتدرجه في البنية الأبوية ويصبح التعاطي الاجتماعي مع هذا الفكر يتم بنفس الآلية التي يتعاطى بها المجتمع مع الأسلاف فيكفي أن يذكر المثقف اسم المرجع “الكاتب الأصلي” حتى يعتبر أن هذه حجة كافية لصواب الفكرة !!، ويكفي أن يكرر ” التقليد والاتباعية ” المثقف الكلام الذي ورد عند الكاتب المصدر بحرفيته ليدلل على صحة الفكرة !!
فآلية النقل والاتباع والتقليد تبقى سارية وفاعلة في الفكر الوافد سواء أكان هذا الفكر قومي أو ماركسي أو وجودي أو حتى سريالي !!!
—–
الأب القائد-الدولة الشمولية :
بات واضحاً بعد التحليل السابق لبنية المجتمع الأبوي أن شكل الحكم يجب أن يُعبر عن هذه البنية، فالرئيس أو الملك أو الأمير ليس سوى الأب الأكبر الذي يتوج المجتمع الأبوي . الأب القائد الذي يتنعم بصلاحيات مطلقة دون وجود سلطة قضائية أو تشريعية تحاسبه وتحدد من صلاحياته، الأب القائد بهذا المعنى هو الإله وقد تجسد بشراً، والخضوع له في المجتمع الأبوي يُعتبر واجب طبيعي غير قابل للنقاش، وبديهية حياتية حية لا تحتمل الشك، فهو الوصي، والراعي، والحامي، والقابض، والباسط، والمقتدر والقادر، والمسير، والميسر، والمحيي، والمميت، والمُغني، والرازق. القرب منه يعني النعيم، والبعد عنه يعني الحرمان والعذاب ، رضاه من رضى الرب ، وغضبه من غضب الرب، لا رادً لمشيئته وهي نافذةً حكماً استناداً لكونه وليس استناداً لأي شيء آخر.
في بنية النظام الأبوي يأخذ الأب القائد مكان الرأس الواحد المتوحد الكلي القدرة، ويأخذ المجتمع مكان الجسد، فكل تفصيل صغير في الحياة العامة والخاصة والتشريعات والقوانين وكل ما يحصل إنما يعبر بشكل مباشر عن إرادة الأب القائد – الحاكم، أو يعبر بشكل غير مباشر وفق آلية واضحة عن توجه ومزاج ورغبة وإرادة الأب القائد، نستطيع دون شعور بالتسرع أن نقول أن الدولة الشمولية متلازمة من متلازمات نظام الحكم الأبوي.
فكما يتجاوب الجسد لإملاءات العقل تتجاوب الدولة والمجتمع لإملاءات الأب القائد المباشرة بالتصريح أو غير المباشرة بالتلميح، وكما يعادي المجتمع الأبوي التجديد والإبداع فإن الأب القائد يرتاب من أي تجديد أو فكرة مبدعة. فإن استطاع تطويعها ودمجها في البنية قبلها بحذر، وإن لم يستطع نفاها وصاحبها، تهجيراً، أو عزلاً، أو تصفيةً إن لزم الأمر.
هناك تغذية من المجتمع الأبوي لنظام الحكم الشمولي الذي يترأسه حكماً الأب القائد. وهناك أيضاً تغذية راجعة من النظام الشمولي للأب القائد لترميم وحفظ وتقوية وتماسك المجتمع الأبوي. الأول يعضد الحكم الشمولي بتقديس الآباء، والسلف والحفاظ على ثقافة النقل والتقليد، والثاني يحافظ على النظام الأبوي في المجتمع من خلال المناهج الدراسية وشكل الإدارات، وتقوية التيارات الفكرية، والثقافية، والدينية التي تعضد وتقوي النظام الاجتماعي.
كما يولي حكم – الأب القائد أهمية كبيرة لرعاية أمراء العشائر الدينية ” الطوائف”، وأمراء العشائر القبلية، وقادة الأُسر، والحث بأشكال متعددة على تقوية مفهوم الطاعة.
—–
شكل الدولة في النظام الأبوي الشمولي :
قد يشوب المتأمل لشكل الدولة في المجتمع الأبوي بعض الارتياب والاختلاط، فهي من جهة دولة لها قوانين مدنية وضعية، وأيضاً لها تشريعات دينية، وأيديولوجية. بالترافق مع ذلك فإنها ليست دولة بالمعنى الحديث فالمحسوبية، والواسطة، والرشوة، والفوضى تعم أركانها. مراكز القرار لا علاقة لها بالموقع الوظيفي !!!! فمن الجائز لرئيس قسم أن يكون لديه صلاحيات أكبر من مدير دائرة، ولمساعد في الجيش صلاحيات فعلية أكبر من عميد في نفس القطعة العسكرية !!! من جهة فإن البيروقراطية تُطبق على خناق المراجع لدرجة تشله تماماً، وسهولة تمرير معاملات كبيرة تتم بأيام معدودة ودون أدنى تعب !!!
المتأمل السطحي للدولة في المجتمع الأبوي يصاب بالاختلاط الذهني إزاء كيان لا يمكن فك رموزه وفهم آلية عمله، ولحل لغز الدولة في المجتمع الأبوي علينا العودة لما بدأنا به في البحث، والحقيقة فهم لغز الدولة يتم من خلال شيفرة بسيطة وهي وجود معتقدات ظاهرية، ومعتقدات حقيقة في المجتمع الأبوي. المعتقدات الظاهرية في المجتمع تُقنن على شكل قوانين ونظم خارجية شكلية وهي نفسها القوانين والنظم التي يراها الإنسان البسيط من عامة الناس، وهي تكافيء على المستوى الشخصي وعلى مستوى الهويات الجزئية اللغة المعلنة المصرح بها من خلال الكلام والحوار المشفوه عبر وسائل الإعلام والمناظرات والمحاظرات، واللقآت التنظيمية، والندوات العامة، ونصوص التشريعات والقوانين والتعميمات الإدارية والتشريعية.
ووجود معتقدات حقيقية تتجلى بسلوك عملي فاعل حي من خلال الصلاحيات الضمنية الغير مكتوبة الممنوحة ل ” ممثلي الأب الرمزين ” في الدوائر، والإدارات، والوزارات، والأقسام، والقطع العسكرية. هؤلاء الممثلين في الدولة الشمولية من اللازم توفر شرطين فيهما :
الأول:
ولائهم للأب القائد، وقبولهم المطلق للنظام الأبوي/ البطرياركي بما يحتويه من معتقدات حقيقية وقوى فاعلة وتوازنات عينية وآليات جبرية.
الثاني:
أن يمتلكوا القوة الكافية ليكونوا آباء مسيطرين مهيمنين ( جانب الحق في هذه البنية شكل وظيفي تابع للقوة، أيضاً يُنظر على الثقافة، والفكر، والعلم الأكاديمي، والمال، والأصل العائلي والعشائري والديني ضمن هذا النظام على أنها موارد للقوة وليست صفات تشريعية. و هي دون القوة لا تقدم ولا تؤخر شيء ولا تعطي للشخص الذي يمتلكها أدنى مقومات الوصاية والقوامية الأبوية، لكنها موارد تفيد في الغلبة والمغالبة.)
إذاً نحن إزاء فصام في الدولة مشابه للفصام المتواجد في الفرد والهويات الجزئية ( العشائرية ، الإثنية، العرقية، الطائفية …).
هذا الفصام يجعلنا نرى دولتين في الدولة الواحدة دولة شكلية تصدر كلام ” بيانات وقرارات وتعاميم ونُظم … الخ “، ودولة حقيقية ( بالمعنى الواقعي لكلمة حقيقية وليس بالمعنى المنطقي) مكونة من آباء مسيطرين، أصحاب إرادة نافذة على كل مكونات الدولة والمجتمع تربطهم علاقات من توازن القوة يحددها العامل الذاتي لكل أب ” مسؤول” ويجددها مدى القرب والحضوة من الأب القائد، تربطهم أيضاً اتفاقهم على مبدأ الأمر الواقع والقبول بالبنية بما تعنيه من التزامات، ومسؤوليات وفق علاقات من التقبل والتقدير المشترك لبعضهم ضمن مقاييس القوة والسيطرة.
هذا الشكل الحقيقي للدولة هو الشكل الفاعل المسير لكل جوانب الحياة في المجتمع الاقتصادية، والثقافية، والاجتماعية، وغير ذلك من الجوانب. لا إمكانية لإقامة أي نشاط في المجتمع دون المرور بتلك البوابات وتقبل فروض الطاعة والخضوع للمسؤولين في أجهزة الدولة المختلفة.
——-
العلم في النظام الأبوي الشمولي :
بات واضحاً أن القوة، القوة فقط هي الضمانة لتبوء مكانة مرموقة في المجتمع الأبوي، من هذه الأولية يُنظر لكل مناحي الحياة ومن ضمنها العلم. فالمؤسسات التعليمية وضعت العديد من المناهج والطرق التعليمية وأساليب التعليم والمهارات التعليمية وكلها حقيقةً لا تختلف عن الشكل المعبر عن أحد طرفي الازدواجية في المجتمع الأبوي وهو الطرف المعبر عن المعتقدات التكيفية الظاهرية. أما إن نظرنا بعيون فاحصة للمعتقدات الحقيقية المسيرة للعملية العلمية، والتربوية الأكاديمية، فسنجد التالي :
أولاً: شرعنة الطاعة هي المهيمنة على العلوم الإنسانية والدينية في المناهج تارةً بشكل مباشر، وتارةً بشكل غير مباشر. أحياناً بالتلميح عن فشل المذاهب الإبداعية، وحيناً عن طريق استحسان المذاهب الاتباعية. لقد قامت العلوم الدينية بالنصيب الأكبر في إرساء مبادئ الطاعة في المناهج عبر انتقاء الآيات، والأحاديث، والقصص التي تُعلي من جانب الطاعة وتحذر من الخروج عن الإجماع العام وتنذر من العذاب بشكل مبالغ فيه.
ثانياً: اعتماد مقياس الحفظ اللفظي للمعلومة وفي ذلك تثبيت للمنهج النقلي، والاتباعي في العلم، وتنمية مهارات الحفظ على حساب مهارات الشك، والتساؤل، والاستفسار، والبحث والتقصي، والاجتهاد، وإعمال العقل بالجملة. قد اعتبر المنهج ( الحقيقي وليس المعلن عنه ) أن مقياس التميز، والذكاء، والجدارة، والتفوق الدراسي مرهون بالحفظ، والنقل. وبذلك حُيد كل موهوب مبدع متميز عن دائرة النجاح، والاحتفاء الاجتماعي.
ثالثاً: تقديم فروض الطاعة للأب القائد فرض يومي يقوم به الطلاب صباحاً مع النشيد الوطني. كما تحتوي العديد من المناهج هذه الفروض في دروس المنهج نفسه، وهي تقدم دوماً تاريخ من صناعة الأشخاص من السلالة الأبوية أو من صناعة الأب القائد ومن والاه من القادة في الدولة. هذه الفروض والدروس تعتبر منهجياً تدريب الطلاب على طريقة الحياة الأبوية لاحقاً، وتأهيلهم لينخرطوا في بنية المجتمع الأبوي الاستبدادي دون أية عوائق.
رابعاً : وضع تراتبية قيمية للاختصاصات ليست مبنية على الميول الفردية، والمواهب الذاتية بقدر بناءها على التحصيل الأكاديمي. فالطلاب الذين ينجحون بعلامات جيدة في هذا النظام الحفظي، النقلي، الاتباعي، المعتمد على الإذعان سيدخلون كلية الطب مثلا والتالين لهم سيدخلون الهندسات وهكذا دوليك. إن التقسيم الدراسي ليس مبني على قيمة منطقية بقدر ارتهانه لقوانين التميز المالي السوقي. فمن قال أن دراسة الفلسفة مثلاً أسهل من دراسة الطب، ومن اعتبر أن دراسة الرياضيات أسهل من دراسة الهندسة، إن الرائز في العملية هو التراتب المالي لاحقاً والحضوة التي يمكن أن يحصل عليها الطالب في المجتمع والسوق المالية بناءاً على أهليته الذهنية المناسبة لقيم المجتمع الأبوي الاستبدادي الشمولي.
إن المؤسسات التعليمية تقوم بمهمة خصاء الطلاب معرفياً، وتفريغهم من أي حس نقدي حقيقي، وتقتل المواهب المحتملة لديهم. هكذا تتحول المؤسسة التعليمية إلى مؤسسة لتطويع الروح الفردية، وتدجين العقل، وتهيئة النفس لتقبل التسلسل الهرمي في الدولة الشمولية.
—–
القضاء بكونه كاشف للازدواجية:
لعل أن أدق قطاع يكشف الازدواجية في المجتمع الأبوي هو قطاع القضاء والمحاكم، فمن جهة هذا القطاع مُلزم -بحكم طبيعته- التعبير عن الحق الوضعي، ذلك الحق الذي لا يمكن أن يحقق جوهره ما لم يتعامل مع جميع الناس على قدم المساواة، كما أنه لن يحقق جوهره ما لم يستخدم المنطق الوضعي المعتمد على الحجة العقلية والواقعة العينية المثبتة بالدليل العقلي والحسي المباشر، بالمُجمَل القطاع القضائي مضطر حُكماً ووجوباً في الشكل والمحتوى بأن يعبر، ويستخدم، ويستند على ما دعوناه سابقاً بالمعتقدات الظاهرية (من المهم بيان أن البنية الحقوقية قد وفدت إلينا كاملة من خلال الاحتلال الغربي، فالقانون المعمول فيه في سوريا ولبنان هو القانون الفرنسي بحكم أن المحتل كان لهاتين المنطقتين هو الاحتلال الفرنسي، والقانون المعمول به في الأردن بريطاني وذلك عائد لنفس السبب، والحقيقة لم يتح لمجتمعاتنا أن تفرز بنيتها الحقوقية المتمايزة، والمكتوبة، والمقننة التي تعبر عن ” المعتقدات الحقيقية الفاعلة” حقيقة المجتمع المحلي) هذا جعل النظام القضائي الظاهري غير مُدمج في المجتمع الأبوي ولا ينظر له باحترام فلولا الجبرية التي يقوم بها عبر الجهاز التنفيذي ” الشرطة” لما كان له أي مفعول أو قبول لأنه ببساطة لا يعبر عن روح المجتمع ومبادئه. ببساطة القانون هو تقنين لمبادئ مجتمع ما وهو قوة الضمير لدى الفرد، والهويات الجزئية في المجتمع. لكنه في المجتمع الأبوي ينظر له بعيون بنية ذلك المجتمع على أنه حالة غريبة غير عضوية وملزمة أخلاقياً.
لا يعبر النظام الحقوقي المعمول به في الدوائر القضائية عن الأخلاق ” أخلاق المجتمع الأبوي”.
بالمقابل فإن شكل القضاء المعبر عن المعتقدات الحقيقية والمعتمد في حالات الخلافات بين شخصين أو شخصين اعتبارين (عائلة ، عشيرة ، عرق ، طائفة) يتم وفق مبادئ النظام الأبوي عبر تكليف الآباء أو الممثلين الرمزين عنهم في فَض الخلاف. فالسطو، والسرقات، والنصب، وحتى جرائم القتل كانت كلها تحل بشكل سريع، وفعال، ونهائي دون تبعيات. ذلك عائد ببساطة لقبول وتبني المجتمع جماعات وأفراداً للعقد الاجتماعي الأبوي، وتربع القيم الناظمة لهذا المجتمع كقوانين غير مكتوبة في ضمير الأفراد والجماعات (إن عقد الراية، والمحاكم الشرعية، والتقاضي العشائري، والتحكيم عند العقلاء كلها الأشكال القضائية المعبرة عن طبيعة المجتمع الأبوي والتي لم يتح لها الظروف المناسبة لتُسنن، وتُشرعن، وتُقنن في مراجع مكتوبة وقوانين منظمة مُتبناة من قبل الدولة أو الدوائر القضائية).
في واقع الأمر إن الدوائر القانونية في مؤسسات الدولة، والقطاع القضائي من أفشل القطاعات في المجتمع الأبوي لأنها لم تُبنى على توقعن الحق في المجتمع الأبوي، جزء كبير من المبادئ العدلية ليست من أخلاق المجتمع المحلي على الإطلاق. هذه المفارقة القاتلة تجعل القضايا تأخذ وقت كبير جداً لحسمها. من خلال الخوض في قوانين ونظم خالية من الروح الاجتماعية، فاقدة للنزر اليسير من الأخلاق المعمول بها في المجتمع الأبوي، لذلك فإن اللذين يلجؤون للقضاء عموماً هم الأشخاص القلائل الذين خرجوا عن إطار النظم المجتمعية، أو الذين يريدون الحصول على حقوق ليست من حقهم فيلقون بتبعية الخطأ على البنية.