انتخابات بلدية استانبول والديموقراطية التركية 08/07/2019
يطرح الاهتمام بالانتخابات البلدية الأخيرة في استانبول من جديد إشكالية الإسلام-الديموقراطية، فالحماس لنجاح التجربة الديموقراطية التركية والدفاع عنها هو ناتج المرارة التاريخية في الخضوع للاستبداد العربي من جهة والثقافة المجتمعية الاسلامية من جهة أخرى، بالطبع نستثني هنا المواقف المتطرفة التي بالأساس ترفض ربط الإسلام بأي تصور ديموقراطي في الحكم، لكن تأييد التجربة التركية والدفاع عنها بتحيز مسبق، أو مهاجمتها من موقع رفض إمكانية وجود ديموقراطية إسلامية، كلا الموقفين يخفيان تحيزاً لا يسمح بنقاش موضوعي لتجربة متميزة.
منذ وصول حزب “العدالة والتنمية” إلى الحكم كانت مواقع الحزب تتعزز وربما يكون السبب الأساسي هوالنجاحات الاقتصادية المعروفة “مشاريع إنتاجية، مدارس، بنية تحتية ومواصلات، جامعات، مطارات….الخ”، رغم ماسببه بعضها مثل مشروع بناء سوق للتسوق في منتزه “غيزي” الذي عارضه الكثيرون سلمياً وردت عليهم الدولة بشكل عنيف. وقد فاز الحزب في ثلاثة انتخابات نيابية وثلاثة انتخابات للمجالس المحلية وفاز أردوغان في الانتخابات الرئاسية مرة ثانية في حزيران 2018، دون أن يشكك الإعلام أو المعارضة في نزاهة الانتخابات، ووقف الشعب، ووقفت المعارضة بكل أحزابها الى جانب أردوغان عند حدوث الانقلاب في تموز 2016، وهو أول انقلاب يفشل في تركيا بعد أربعة انقلابات ناجحة، لكن الأمر اختلف في الإنتخابات البلدية في استانبول في نيسان الماضي حيث احتج حزب العدالة على نتائج الإنتخابات وطلب إعادتها بعد فوز مرشح الحزب الجمهوري أوغلو، ووافقت اللجنة الانتخابية على الطلب.
وطلب إعادة الانتخابات يبدو غريباً بعض الشيءعندما يأتي من الحزب الحاكم، وبالتالي يكون موضع تشكيك، فمن الصحيح أن حزب العدالة لم ينه أسس النظام الديموقراطي التركي لكن ما قام به من إجراءات في المجالات الأمنية باعتقال الكثير من الصحفيين وبعض نواب حزب “الشعوب الديموقراطي”، وعدم تعريضهم لمحاكمات عادلة، وكذلك طرد المئات من الأكاديميين من وظائفهم ومنهم الذين وقعوا على بيان طالبوا فيه الحكومة بوقف عملياتها العسكرية في المناطق الكردية من البلاد، وأيضاً احتلال الحيز الإعلامي الأوسع، ومداهمة مكاتب الصحف المعارضة، وتركيز السلطات في يد الرئيس بعد التحول إلى النظام الرئاسي، وتداخل السلطات بدلاً من فصلها كما في اي نظام ديموقراطي، كل ذلك يدفع إلى التشكيك بنوايا حزب العدالة، لذلك راهن بعض المعارضين أن أردوغان سيستمر في التلاعب لمنع وصول مرشح المعارضة في الانتخابات البلدية المعادة في 23 حزيران هذا العام في استانبول.
لكن الانتخابات انتهت مرة اخرى الى فوز مرشح المعارضة من جديد وهذه المرة بفارق واضح، الأمر الذي يعني أولاً أن إمكانية التدخل في الانتخابات أو تزييفها أمر غير وارد، وأن عراقة ديموقراطية الانتخابات المحلية الممتدة إلى خمسينات القرن الماضي لا تزال مستمرة، وثانياً، وهو أمر لا يقل أهمية، يجب البحث عن سبب فوز مرشح المعارضة في استانبول المدينة الأكثر أهمية من الناحية الاقتصادية والتي عن طريقها حصل أردوغان على شهرته ووصل الى الرئاسة.
اتهم “غولين” المقيم في أمريكا، والذي يوصف بأن لديه دولة موازية في تركيا، بأنه مدبر انقلاب 2016، و”غولين” كان حليفاً لأردوغان وساعده في التخلص من العلمانيين في الجيش ثم أصبحا خصمين منذ فضيحة الفساد عام 2013. حتى تاريخ الانقلاب كانت الرياح المحلية والعالمية عموماً مؤاتية لأردوغان وحزبه، ورغم أن غولين شخصية أبعد ما تكون عن وصفها بالديموقراطية، بل هو يمثل نوعاً من رمز ديني يتعامل معه أتباعه بنوع من التقديس الذي لم ينله أردوغان رغم كل الكاريزما التي يتمتع بها، وهو بمعنى معين أبعد عن مفاهيم الديموقراطية الغربية، فإن الغرب وقف موقف الشامت بالانقلاب على أردوغان، كما كانت تركيا خلال عامي 2015-2016 مسرحاً لعمليات إرهابية اتهمت بها داعش وأحيانا اتهم حزب العمال الكردي ببعض العمليات الموجهة ضد الجيش والشرطة، وبعدها بدأ كل شيء يتغير وتتالت أزمات عدم الثقة، من توقيف القس الأمريكي، وهي مسألة تم حلها، إلى صفقة اس 400 مروراً بالخلافات حول الدور التركي في شمال سورية، وبالطبع انعكس كل ذلك على الوضع الاقتصادي بتراجع قطاع السياحة وبمزيد من التضخم المزمن، وتدهور سعر صرف الليرة التركية، وزيادة معدلات البطالة، كل ذلك رغم استمرار العمل في المشاريع الكبرى.
أحد الناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي علق بعد إعلان فوز مرشح المعارضة في انتخابات الإعادة: الديكتاتور يخسر انتخابات استانبول! المفارقة التي تنطوي عليها هذه العبارة تكثف وضع تركيا، فلو أصبح أردوغان ديكتاتوراً بمعنى الكلمة لما كان ممكناً أن يخسر أية انتخابات، وبنفس الوقت فإن التشويه الذي أحدثه في النظام الديموقراطي وفي الاقتراب تدريجياً من أسلمة الدولة، مع أن إجراءات من مثل إلغاء الحظر على الحجاب، والقيود على عمليات الإجهاض، وحتى التضييق على بيع المشروبات الكحولية مسائل تتعرض لنقاش اجتماعي وسياسي مستمر في دول الغرب العلمانية، لكن في جميع الأحوال يفترض حيادية الدولة في النظام العلماني وترك هذه المسائل للمؤسسات الديموقراطية، كل ذلك يجعلنا نفهم الاستعجال في وصفه بالديكتاتور أو بالسلطان، العبارة الأكثر تهكماً عند العلمانيين، ومن هنا حتى الانتخابات الرئاسية القادمة عام 2023 ستكون هناك فرصة كافية لإثبات أن الأردوغانية قادرة على تجديد نفسها داخلياً، بتجاوز العقبات الاقتصادية، وبالعودة إلى مناخ أكثر حرية يليق بالدولة الديموقراطية العلمانية، وأن أردوغان رئيس توافقي ولا يريد التحول إلى ديكتاتور، ويرغب في الإنتهاء من الانقسامات الطائفية والاجتماعية، ودولياً، بالنجاح في الموازنة بين العلاقات التاريخية مع الأطلسي والعلاقات المستجدة مع روسيا، وإقليمياً بالمحافظة على نفوذها في سورية وفي التخلص من سمعة رعاية أو التواطؤ مع المنظمات الإرهابية الإسلامية، وفي استمرار المنافسة مع القطبين العربيين السعودية ومصر، أو أن انقسام المجتمع التركي وصل حداً لابد معه من التغيير السياسي.
تيار مواطنة
المكتب الإعلامي 8 تموز 2019