تركيا والغرب وذرائع الإس 400 والمنطقة العازلة

 

عندما يبرر رأس الدولة التركية صفقة الصواريخ الروسية بقوله “أن هذه الصفقة تخدم حلف الناتو” فإما أنه يكذب بصفاقة أو أنه يحاول أن يتذاكى وفي الحالتين يعكس كلام السيد أردوغان مأزق حكومته الراهن. وقد لا يعني ذلك أكثر من مأزق بسيط بالقياس إلى المآزق الأخرى التي وضع نفسه وإدارته فيها خلال السنوات الأربع الماضية. وقد يكون من الإجحاف الحديث عن الإخفاقات فقط وعدم التطرق للنجاحات، لكن وبنزاهة البحث الحصيف يندر العثور على تلك النجاحات إلا إذا اعتبرنا مسار استانة وسوتشي نجاحاً للحكومة التركية على صعيد الحل السياسي وخفض التصعيد العسكري في سورية، ويبدو أن الكثير من تلك “النجاحات” الموهومة قد تحقق للأسف وقد تكون صفقة صواريخ إس ٤٠٠ منها حسب السيد أردوغان. وفي نفس السياق ندرك عمق الأزمة التي تواجهها الحكومة التركية في معالجة الكثير من المشاكل الداخلية منها والخارجية وخاصة ما يتعلق منها بمعالجة الوضع السوري ورؤية القيادة التركية لمعالجتها وقد يندرج ملف الإس ٤٠٠ في سياقها وقد تكون صفقة سو ٣٥ في نفس النسق أيضاً.
من حيث المبدأ، تقوم السياسة الخارجية الأمريكية على محاصرة الخصم بكل الوسائل الاقتصادية أولاً والدبلوماسية ثانياً ثم أخيراً الحرب المحدودة أو الواسعة كآخر الوسائل لتنفيذ سياسة تحجيم الخصوم. وهو أيضاً الذي يحكم السلوك الأمريكي تجاه (حلفاء) الولايات المتحدة، لكن تنفيذه يختلف بشدة عن حالة الخصوم، وخصوصاً عندما تتعقد لوحة الصراع كما في الحالة السورية.
المشكلة مع (الحليف) التركي تقوم على معضلتين راهنتين وتجد أساسها في محاولة السيد أردوغان إيجاد قواعد ارتكاز جديدة بعيداً عن تركيا العلمانية المتشددة واللاهثة خلف الاتحاد الأوربي والالتصاق التام بالناتو، ومنذ بداية التقارب الأوربي التركي وقفت سياسات حكومات العدالة والتنمية في تعارض واضح مع العلمانية الديمقراطية الأوربية ورفضت كل الضغوط الأوربية باتحاه تطبيق معظم المواثيق المتعلقة بحقوق الأقليات القومية والأفراد وبعض السياسات المتعلقة بالتبادل التجاري والإعفاءات؛ إذن تنبع المعضلة الأولى في سورية من التوافقات الروسية التركية الإيرانية. والثانية، تأتي- بعد ٢٠١٥- من معالجة الأتراك للقضية السورية التي تفرض بقوة التصادم بين الرؤية الأمريكية للحل السياسي في سورية وبين رؤية الأتراك القائمة على عداوتهم للكرد السوريين ومحاولتهم فرض قوى إسلامية تمنع الخطر الكردي في الشمال وتشارك في حكم سورية كما ترغب تركيا.
يحاول الأمريكان حتى الآن حل المعضلة الأولى عبر إبعاد تركيا عن روسيا بوسائل الدبلوماسية القاسية أحياناً والعقوبات كما يحصل الآن مع العقوبات التي فرضتها الإدارة الأمريكية بسبب صفقة الصواريخ الروسية، وبسبب إدراك الأمريكان لأهمية الدور التركي ودرجة تأثيره في الوضع السوري، وتحوله منذ مسار أستانة إلى جزء من المماطلة على الطريقة الروسية. ويبدو أن الأمريكان حتى الآن لم يقدموا ونحن نظن أنهم لن يقدموا في المستقبل ذلك التنازل الكامل المطلوب لجهة وضع شمال سورية كاملاً تحت الإدارة التركية على حساب السوريين من كرد وعرب.
وحسب تسريبات الاتفاق الأخير، فإن نقاط الاتفاق الثلاث: غرفة عمليات مشتركة للإشراف على المنطقة، وشريط حدودي بدون تحديد لعمقه، ودوريات مشتركة، لا تلبي المطامح التركية لا في التفرد ولا في عمق الشريط.
تأتي صفقة الإس ٤٠٠ وتصريحات مسؤول كبير في وزارة الدفاع عن صفقة محتملة لقاذفات سوخوي بدلاً من إف ٣٥ الأمريكية، كما نعتقد، ليقول الأتراك كلمتهم للأمريكان ورؤيتهم لأمنهم القومي بعيداً عن الناتو وأمريكا، كما تحدد هذه الصفقة النظرة التركية إلى سورية كجزء من الأمن القومي التركي المقدس، وبالتالي تفارقهم مع الأمريكان وكسر قواعد حلف شمال الأطلسي في التحالف مع الروس لتقوية موقفهم في تلك المواجهة.
من هذا الفهم للوضع الأمريكي في سورية نستطيع أن نقول أن الأمريكان يحاربون على جبهتين من المعضلات مع الأتراك، وقد لا تكون الحلول والتنازلات جاهزة بعد، والسبب الأساس في إطالة أمد هذا الاستعصاء هو عدم مقدرة أي طرف على الحسم بالطريقة العسكرية الخاطفة والمحدودة دون الدخول في معركة إقليمية. وكما نعتقد فإن الجميع عاقل بما يكفي لحصر المعارك في مناطق ضيقة جداً والدخول في مفاوضات وتجاذبات وشد ورخي حتى تتغير بعض الاصطفافات والتحالفات وعندها يصبح ميزان القوى مختلاً لصالح طرف ما ويمكنه حسم المعركة بدون الدخول في أي صراع عسكري.
من المرجح أن يقدم الأتراك تنازلاً محدداً في شمال الفرات لإقامة منطقة عازلة وفق رؤية وسط إذا استمر الروس في قصف إدلب وريف حماه الشمالي وريف اللاذقية الشمالي وإذا استمر ضغط السلطة للسيطرة على تلك المناطق وإخراج الفصائل المدعومة تركياً وتهجير المدنيين إلى الحدود التركية أو إلى داخل تركيا- وقد يندرج ما نشهده الآن من ضغط تركي على اللاجئين السوريين في تركيا جزءاً من الرسالة التركية للعالم عن خطورة هذا الملف ونفاذ صبرها بسبب المماطلة في أنشاء منطقة عازلة تحقق ما ترغبه تركيا من اتقاء خطر ال PYD وترحيل السوريين إليها- كما ونعتقد أن الأتراك سيضطرون للاستقواء بحليفهم الأمريكي القديم لمنع هكذا سيناريو ينهي الدور التركي المباشر إلى زمن قد يطول. ويدرك الروس تماماً هذه المعادلة لذلك لا يسمحون للسلطة بتجاوز الخطوط المرسومة في التفاهمات الروسية التركية الإيرانية، بالمقابل يدرك الأمريكان أن أي ضغط كبير على الأتراك سيولد رد فعل غير مرغوب وغالباً سيتمثل في التصاق أكبر مع الروس وتعنت أكبر في شمال الفرات ضد الكرد وقد ينعكس على السياسات الداخلية لتركيا لجهة زيادة التضييق على الحريات وظهور بعض القلاقل الاجتماعية والأزمات الاقتصادية والقومية.. الخ
جميع هذه السيناريوات تجعل من الخطة المعلنة للأمريكان في المنطقة هي الخطة المتبعة حتى الآن وإلى زمن قد يطول، وبالعودة إلى صفقة الصواريخ، فلا نظن أن رؤية الأمريكان لهذه الصفقة مطابقة لرؤية الروس والأتراك وبالتالي ستختلف طريقة التراضي عليها؛ فالروس يرونها مكسباً مادياً هاماً واختراقاً لحلف الناتو من الخاصرة التركية، أما الأتراك فيرونها معارضة للدور الأمريكي في سورية وقد لا تتمتع بأهمية استراتيجية تذكر مقارنة بترسانتها العسكرية الغربية، في الوقت الذي يفهمها الأمريكان من زاوية وحيدة- بعكس السائد تماماً عن السياسات الأمريكية- أي زاوية تقوية الخصم الروسي في المنطقة وزيادة الابتعاد التركي عن الناتو وبالتالي فإن الرضى الأمريكي عن الأتراك لن يقدمه سوى الأتراك عندما تعود السياسات التركية للانسجام مع الرؤية الأمريكية في المنطقة.
ويبقى أن نشدد على أن رضوخ الأتراك للرؤية الأمريكية هو الممكن الوحيد للأتراك لتحقيق ثلاثة أهداف حيوية لهم؛ منطقة عازلة مع قسد وجغرافيا مفيدة للاجئين المكدسين في تركيا ومناطق حدودية وهدنة طويلة مع الأمريكان وتفرغ وتركيز ومناورة لمعالجة مناطق إدلب وريف حلب في مواجهة السلطة وحلفائها في تلك المنطقة.
ونحن، في تيار مواطنة، نرى أن هذا التوافق الأمريكي التركي المرجو واحداً من أدوات نزع فتيل المعارك في تلك المنطقة، وأبعاداً لتركيا عن الروس، وتضييقاً على السلطة الطغمة في إدلب وجوارها.

تيار مواطنة

مكتب الإعلام 12 آب 2019

Loading

الكاتب admin

admin

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة