خطاب الكراهية وتشظي الهوية السورية
في ظل الحرب الدائرة في سوريا الآن، حرب متعددة الأطراف، وفي ظل تعدد الاحتلالات التي تخضع لها سوريا، ومع انقسام السوريين بولاء أو أكثر لهذه الاحتلالات المتعددة، يستعر على السطح وبقوة عبر وسائل التواصل الاجتماعي خطاب الكراهية، والذي إن دل على شيء فإنما يدل على تشظي الهوية السورية أكثر نتيجة لهذه الحرب.
صحيح أنه لم يكتمل -قبل الثورة السورية- بناء هوية وطنية سورية، إذ تكرس ذلك بسبب الحكم الدكتاتوري والشمولي الطويل الذي عانت منه البلاد في ظل حكم البعث وآل الأسد، حيث تراجعت الهوية الوطنية لتمسي هوية الولاء للحكم، فسوريا بنهجهم هي ”سوريا الأسد“، ومقدار الانتماء لها بمقدار الولاء لرأس النظام فيها.
جاءت الثورة السورية لتحاول اعادة بناء هذه الهوية، فانطلقت حناجر المنتفضين بشعار“ واحد واحد واحد الشعب السوري واحد“، وكانت مبادرات وثائق العهد وقسم اليمين التي أطلقها النشطاء والسياسيون والمثقفون المنخرطون في الثورة، والتي تبحث وتؤكد على الهوية السورية الجامعة، وتصرُّ على تجريم الطائفية على سبيل المثال، بينما استمرت هذه الهوية بالنسبة لمواليي النظام مرتبطة بمقدار موالاتك له.
ولكن سرعان ما تحولت ثورتنا للأسف لحرب أهلية إقليمية دولية مركبة، وذلك للعديد من العوامل -لسنا بصدد استعراضها الآن- (وقد فعلنا ذلك مراراً في افتتاحياتنا السابقة)، وتراجعت كل المحاولات لبناء هذه الهوية الجامعة، وفشلت كل المبادرات، فظهر الخطاب الطائفي، والخطاب العنصري القومي، وأصبحت شيطنة الآخر ظاهرة واضحة في خطاب كل الأطراف المتصارعة، أو على الأقل الخطابات غير الرسمية لها والتي عبّرت حقيقةَ عن مزاج مناصريها.
وبالطبع كانت صفحات التواصل الاجتماعي منبراً مشؤوماً لخطاب الكراهية هذا، فمع كل مجزرة منذ البداية امتلأت هذه الصفحات بتعليقات تنزُّ حقداً وقيحاً، راح يتبادلها طرفي الصراع. ولم تجدِ محاولات المثقفين مراراً التخفيف من ذلك الخطاب ومن تأثيراته.
استمرت الحرب وتعددت الأطراف، وزاد هذا السعار حيث راح مثقفون ليتورطوا به، بل أمسوا -للأسف- ابواقاً تزيده سعاراً، وليتخلوا تماماً عن دورهم المفترض، حيث يتطلب العقلانية ويقتضي رأب الصدع، وهذا ما نحب أن نتناوله هنا.
من خلال جولة سريعة على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي، نلاحظ تبادل المثقفين السوريين خطاب الكراهية هذا، من جهة العربي / الكردي والذي زادت حدته بعد عملية (نبع السلام) التي تورطت بها فصائل معارضة سورية مسلحة بما سميَّ ”الجيش الوطني“ وبدعم تركي، فعلى سبيل المثال كانت التفجيرات التي جرت في الفترة الأخيرة في منطقة الجزيرة مناسبة لتبادل الاتهامات واطلاق حملات خطاب كراهية معممة، يستند جوهر هذا الخطاب الى منطق شيطنة الآخر، كأن يقال: إن من قام بهذه التفجيرات هم إما الكرد أنفسهم (أي المقصود قسد والبي واي دي) وذلك لاستغلالها في قمع العرب والتعامل معهم كدواعش وخلايا نائمة وذلك حسب مثقفين عرب –دون ذكر أسماءهم– أو أنهم في المقلب الآخر عند المثقفين الكرد –وايضاً دون ذكر الأسماء– هم العرب الذين ينضون تحت تهمة الدواعش أو بأحسن الأحوال تحت بند عملية ”نبع السلام“.
منذ احتلال عفرين من قبل الفصائل المدعومة تركياً ومنذ سيطرة قسد على الشمال الشرقي، وتطوراً بعد عملية ”نبع السلام“، يزداد خطاب الكراهية بين العرب والكرد تصاعداً، ويدفع ذلك لمزيد من تشظي الهوية السورية، حيث يتم تسليط الضوء على كل تصريح معادٍ وكارهٍ، بينما تهمل رسائل التضامن الواردة من الطرف الآخر، فالفيديوهات التي توثق الانتهاكات –ونحن نؤكد ضرورة التعامل معها كوثائق للمحاسبة في المستقبل– يتم التعامل معها كوسيلة لتربية الحقد وتغذيته، ولزيادة الانقسام وشيطنة الآخر، بينما لا يتم تداول أي تصريح ايجابي يأتي من الطرف الآخر اذا جاء ليؤكد على التضامن في مواجهة تلك الانتهاكات.
اما العرب السوريون فيما بينهم فنرى الانقسامات واضحة أيضاً، موالي ومعارض أو سني وعلوي أو شيعي، وبين المناطق، والأديان والطوائف، وهذا الانقسام ظهر بوضوح منذ الفترات المبكرة لتحول الثورة الى حرب، لكنها ما زالت تتغذى على التحريض والكراهية والحقد، وليس آخرها تصريح المدعو ”نبيل فياض“ الأخير الذي تحدث بمناطقية واضحة وطائفية مبطنة، وأثار زوبعةً بين التأييد لهذا التصريح والمعارضة له ولكن على أرضية خطاب الكراهية وشيطنة الآخر أيضاً.
ومعلوم أن رأس النظام قد دأب ومنذ البداية لاستخدام هذا الخطاب وإن يكن بشكلٍ مبطن، فمرةً سوريا لمن يدافع عنها وليس لمن يحمل جنسيتها، وتارةً أن الحرب اعطته شعباً متجانساً، فهو بذلك يعود ليؤكد على أن الهوية السورية تحدد فقط بمقدار الولاء إليه، وحيث ظل الخطاب الرسمي يتحدث بالوطنية، بينما راح خطاب بعض الموالين يذهب طائفياً ومناطقياً صرفاً. في حين عجزت المعارضة بتلاوينها وفصائليتها عن اطلاق خطابٍ وطنيٍ جامعٍ تنفذ به الى جميع أفراد الشعب السوري إلا فيما ندر، وراح بعض جمهورها يفصح عن خطاب طائفي ومناطقي جلي.
يدرك كل عاقل أن علاج خطاب الكراهية لن يتم إلا بمحاسبة كل من أجرم بحق الشعب السوري، وذلك بعد إيقاف الحرب أولاً، فالحرب نار تذكي الاحقاد دائماً، وأن إيقاف الحرب والوصول الى حل سياسي والبدء بعملية العدالة الانتقالية هي المخرج الممكن لهذا النفق الطويل، ولكن ريثما يحصل ذلك، نرى أن على المثقفين والسياسيين والنشطاء وخصوصاً الديمقراطيين منهم تقع المسؤولية الكبرى في محاربة هذا الخطاب الهدّام وعدم الانجرار اليه، حيث يتطلب منهم مراقبة الذات أولاً والتحلي بالموضوعية، حتى وإن كان أهلهم جزءاً من مجموعة يتم استهدافها أو الإساءة اليها، ندرك أن ذلك ليس سهلاً، ولكنه قدر النشطاء ودورهم, وهذا ما يتطلبه منا الوضع السوري المتشظي أصلاً، كي لا نزيد في انقسامه وفي تشظيه، وكي نبني ولو ببطء هويتنا الجامعة التي نحتاجها للبقاء في سوريا الموحدة المتنوعة ولتجاوز تركات هذه الحرب حالما تقف، والتي لا بد أن تقف يوماً ما.
تيار مواطنة – مكتب الاعلام
٢٧- تشرين٢ – ٢٠١٩