عن حاجة السوريين إلى معارضة جديدة
إذا كان ضياع القرار الوطني المستقل من أهم تعبيرات الأزمة السورية، فسوف يكون استرداد ما يمكن استرداده منه، ضمن المعايير الدولية الراهنة، واحداً من أهم الطرق المؤدية إلى الخروج من عنق الزجاجة الحالي. ولعل العمل على تخليص السوريين من إسار الداعمين الإقليميين، خصوصاً، مرتكز لأي استراتيجية جديدة.
وإن كان عجز قوى الثورة والمعارضة كليهما عن إقناع الشعب والعالم بقدرتهما على أن يؤسسا لبديل للنظام الاستبدادي، فسوف تكون إعادة تأسيس هذه القوى وتوحيدها، هدفاً لم يعد يحتمل التأجيل، وبالطبع مع «تحديثها» بحيث تتجاوز كل أشكالها القديمة وتُطور شغلها على الاختصاص في بنيتها وبرامجها وعملها، قبل الحديث عن الانتهاء من البنى الراهنة، التي لا تخفى عيوبها الخانقة، مثل هذه المحاولات ضرورية قبل نفض اليد نهائياً من تلك القوى.
وقد انهزم العقل الذي تقدم بالأيديولوجيات المختلفة، من إسلامية وقومية ومذهبية لتكون العصبية الجديدة المنشودة، بديلاً عن الانتماء لسوريا القائمة بحدودها المعترف بها دولياً. وبدا من جديد أنه لا مفرّ من تكريس الوطنية، بتعيينها السوري انتماءً وعصبية جامعة تحمي البلد وتؤمن وحدته، كشرطٍ لازم للعمل السياسي اللاحق.
يتحمل الديمقراطيون المسؤولية الكاملة عن عجزهم عن البقاء في المقدمة، حقاً وفعلاً، منذ العام الأول للثورة، ومن ثم تخليهم عملياً عن برنامج التغيير الديمقراطي، الذي حملته الثورة أساساً، وتركهم الباب مشرعاً أمام الرياح المتأسلمة بكل أشكالها، بما حملت من عصبيات شمولية متنوعة، والمسؤولية الأكبر تقع على عاتقهم.
قد يكون مناسباً أيضاً أن يحيل الكثير من هؤلاء أنفسهم إلى التقاعد بعد ما حدث، بدلاً من استمرارهم بمحاولات البحث عن فرص جديدة لتصدر الميدان. في الوقت نفسه، لا بد من تطوير نخب جديدة ودعمها حتى تتقدم وتقدم رؤيتها وتستعرض كفاءاتها الكامنة، التي توقفت جزئياً – على الأقل- عن الفعل وتراجعت بعد العام الأول للثورة.
وعلى المنوال نفسه؛ بعد عقود من الحكم الشمولي الذي لا يرى في الدولة إلا شخص القائد، ولا يرى شيئاً في المجتمع خارج هذه الدولة؛ استطاع الطغيان إفراغ البلد من أي شكل حقيقي للممارسة السياسية، حتى جاءت الثورة وساد نمط غريب من المعارضين والثوار يعزل نفسه بنفسه طوعاً عن السياسة. وكان هذا خطأ مميتاً في العامين الثوريين 2011-2012، أفسح المجال للفاسدين والمتسلقين وأمراء الحرب والسياسيين الطارئين لتصدر السياسة السورية. هذه الظاهرة شملت الطرفين – الثوري الجديد والمعارض القديم، مع بعض التحامل – في واقع الحال.. وبعد كل ما جرى، لابد من اجتراح وسائل جديدة ومبدعة لإعادة السوريين للسياسة وممارستها، ومن دون ذلك لا يمكن اجتياز الحاجز بتاتاً.
لذلك، ينبغي إعطاء وقت أكبر لتشجيع هذه الممارسة لدى الشباب خصوصاً، وفي كل المناطق داخل البلاد وخارجها، بدلاً من إصرار الشيوخ على التصدّر والقيادة.
في الدائرة الأولى للتحالفات المحتملة، وبعدما تسبب به الإسلام السياسي، الذي تصدر عسكرياً وميدانياً وسياسياً، من هزيمة، لا بأس ربما في أن يتخلى المعارضون والثوريون من الديمقراطيين العلمانيين عن تحفظهم، ويتقدموا إلى أمام في عملهم التنظيمي والفكري – السياسي والسياسي المباشر، والتحالفي أيضاً.
إن التركيب السوري في التجمعات المدينية، وفي الفسيفساء المعروفة وفي الانفتاح الثقافي الموروث، يجعل لهؤلاء مركزاً مهماً بين القوى الفاعلة، التي يمكنها أن تحشد حولها شرائح كبيرة من الشعب السوري. يمكن أن تضم الدائرة الثانية إلى جانب العلمانيين طيفاً واسعاً من الوطنيين الديمقراطيين، الذين تجمعهم مفاهيم هي الأكثر قبولاً بين الناس، مثل الديمقراطية والوطنية والمواطنة المتساوية. هذا الوعاء من التحالف هو الذي يعيد لشعارات الثورة وهجها وتأثيرها، ويجمع الشعب ثانية بعد تشظيه إلى أحياء ومناطق وإثنيات ومذاهب وعشائر، من دون أن يطلب من أحد التخلي عن انتمائه الأولى، بل إن الحفاظ على هذه الانتماءات كلها لا يتأمن في مجتمع حديث إلا من خلال الديمقراطية والمواطنة المتساوية، وتأمين كل ما ينهي هواجس الأطراف المختلفة ويرتفع من ثم بدرجة انتمائها إلى سوريا. ولعل ذلك لا يمنع، وينبغي له أن لا يمنع لاحقاً وعلى المدى الأبعد – في دائرة ثالثة- من التوجه إلى الحوار مع الجميع. الأهم لعلنا، نحن المعنيين بكل ما سبق، قد تأخرنا كثيراً في تعديل توجهاتنا بشكل ثوري حقاً.
أول الأمر هو العودة إلى الأرض، وإلى التفاعل مع الشعب السوري في كل مناطق تواجده، بما فيها مناطق النظام خصوصاً، بعد أن حفر النظام خندقاً يجب وقف تعميقه بل والشغل على ردمه. هدفنا هو الشعب كله، مع تشوهات العمل المعارض والمسلح والتدخلات الخارجية. التناقض الحقيقي هو تناقض هذا الشعب- كله- مع النظام، وحركة الثائر أو المعارض الحقيقي انعكاس لهذا الشعب وليس لشريحة منه، مهما كانت المظالم التي وقعت عليها من نتائج تاريخ الاستبداد ونتائج الصراع، المسلح منه خصوصاً.
وثاني ذلك، العودة إلى التفاعل مع المدن، والمدن الكبرى خصوصاً، تلك التي استثمر النظام مدنيتها المترددة أمام العنف، وافتقاد الأمن، ليحاول وضعها في مواجهة مهام الثورة وأهدافها.. في حين أن من المفترض أنها الأكثر تفهماً لمتطلبات الحداثة ومعرفة بها، وبما تعنيه من حرية وحكم للقانون وتمكين للمجتمع المدني وسيادة للشعب.
وثالثه، وربما بالاشتقاق من النقطة السابقة، أن يُبحث في سبب ابتعاد رجال الأعمال- وليس أولئك الشبيحة ولصوص النظام منهم- عن المساهمة المباشرة في فعل التغيير والانتقال السياسي. ورغم إمكانية تفهم حذر هؤلاء من تهمة العلاقة بالإرهاب، بعد أن تمادى بعض العمل المسلح في أسلمته إلى حدود التطرف والغلوّ، وتأثيرات ذلك مالياً ودولياً على أعمالهم؛ إلا أن الطبيعي ألا يشكل ذلك عائقاً دون الإسهام بالواجب المنوط بهم، مدنياً وسياسياً بشكل خاص.
ورابعه تشجيع كل ما يمكن أن يعيد دمج المجتمع السوري وتلاحمه العضوي، ومن ذلك تأمين وتشجيع عودة النازحين إلى منازلهم ومناطقهم، بالشروط المعقولة التي تتأسس على الأمن والأمان، المستحيل بوجود النظام الحالي، باتجاه العودة إلى التفاعل والفعل في عملية إعادة البناء الثقافية والاجتماعية والسياسية، بالتداخل مع إعادة البناء المادية في المستقبل. ثم إن هنالك عقدتين لا بد من مواجهتهما مباشرة بإيجابية، تتفرعان من مشكلة الأكثرية والأقليات. أولاهما العقدة السنية- العلوية بما هو قديم منها أو ما هو جديد ناشئ مع العنف، الذي اتصفت به السنوات السابقة، والذي يتطلب تأمين العدالة الانتقالية، وربما لجاناً للمصالحة والحقيقة. وثانيتهما العقدة العربية – الكردية أيضاً بما هو قديم منها، وما نتج عن تعقيدات جديدة في مرحلة الثورة، والدور المتغير مع تدخلات القوى الإقليمية والدولية. وفي المسألتين، ليس من بديل عن الحوار واحترام الهواجس وتأمين الضمانات الضرورية.
يحتاج الأمر إلى شجاعة كبيرة، لنفي الذات، وقيام معارضة سورية جديدة ومختلفة، وربما ثورة ثانية أيضاً، ليس لها حتى الآن أي ملامح، أو احتمال. مع التأكيد على أن أي بداية، لا بد لها من الانطلاق من رفض الارتهان الخارجي والعسكرة والأسلمة، وفيما انتهت هذه الظواهر الثلاث إليه على الأقل. وفي الحقيقة، لا يتعلق الأمر بمعارضة بأي معنى أو مضمون، بل بإعادة الانطلاق من الاجتماع السوري الذي افتقد السياسة المنظمة المعاصرة حتى الآن، وينبغي للنخب – الشابة خصوصاً، أن تؤسسها من جديد، للشعب كله وفي كل مكان. الوقائع الحالية في المنطقة تقدم أمثلة تبعث على التأمل والحراك الصحيح التكوين، كانت تبدو في السابق مستحيلة.
موفق نيربية – القدس العربي