قاسم سليماني، ما زال يلاحق شعوب المنطقة!
بعد تأسيس حزب الله في لبنان في أوائل الثمانينات، كذراع إيرانية محلية واسعة الامتداد الخارجي، تستطيع استثمار” الصراع المركزي” مع إسرائيل بطريقة مثالية، وتكون مركز عمليات لتصدير الثورة الإيرانية، بلبوسها المذهبي وقلبها السلطاني، قادت الحاجة في ما يبدو إلى أداة أكثر تمركزاً وارتباطاً بعد كارثة الحرب مع العراق، فتأسس فيلق القدس، ضمن إطار الحرس الثوري الإيراني، وخارجه. كانت القيادة معقودة لسليماني منذ البدء، والإشراف معقوداً لخامنئي وحده.
وما بين فيلق القدس وحزب الله، تأسست وتدربت كثير من القوى التي تتمركز الآن في العراق في إطار” الحشد الشعبي”، وتلك التي تحارب في سوريا ضمن ميليشيات عديدة تضم في عديدها شباناً شيعة من أفغانستان إلى العراق أو من أي مكان، تحمل من الأسماء ما يعود إلى الصراع السني الشيعي منذ ألف عام “ فاطميون” و” زينبيون” و” أبو الفضل العباس” و” النجباء” و”عصائب الحق”.. في استرجاع لثارات من التاريخ السحيق؛ وقبلها اسم” حزب الله” الذي كان من الجرأة الخارقة إطلاق هذا الاسم عليه، ولم يكن لها من مثيل إلا لدى” جيش الرب” في غابات أوغندا.
إضافة إلى التطور المنتظم لوزن حزب الله، كان هنالك تركيز على تلك الميليشيات الناشئة في العراق، مع وجود كتلة سكانية وازنة للشيعة فيه بعد نظام صدام، ثم تفرعت شبكة عنكبوتية لها في سوريا، باسم حماية المراقد الشيعية المقدسة، وباسم حماية النظام” المقاوم” الذي يمثله بشار الأسد. وأيضاً في اليمن، الذي وجد الإيرانيون فيه طريقة للتوافق مع مذهب الزيدية المختلف، لغزو الجزيرة العربية من جنوبها الغربي. ذلك كله في تظاهرة تبشيرية وطائفية، تحول التشيع إلى أداة معاصرة طيعة للإرادة الإيرانية.
تعيش المنطقة حالة فوضى عارمة، يتم فيها الاعتداء على إرادة شعوبها ومتطلباته الضرورية المتأخرة في الحرية والديموقراطية والتنمية والعيش الكريم، وكان سليماني يقود هذه القوَى كلها في الشرق العربي، في سوريا ولبنان والعراق واليمن، إضافة إلى حركته في الجهة الأخرى من إيران، وفيها ذاتها كضمانة لقمع أي رأس يرتفع أو عين تلتمع في ذلك البلد الوحيد الذي تحكمه مؤسسة مذهبية، لا تتورع عن قمع حتى أخوتها في المذهب، وهم ليسوا قلة أبداً.
حالياً، بخروج سليماني من المعادلة، يفاجئ بحركته الأخيرة حراك الشعبين اللبناني والعراقي الأكثر جمالاً، ويخلق ظرفاً غامض المستقبل والمآل في سوريا واليمن. لأن معادلة الصراع في كلٍ منهما ( وغزة) ستحافظ على درجتها، مع معاناة أكبر ونقص متزايد في الموارد.
ربما يكون هنالك رد فعل لحزب الله، يتولد من جولة هذيانٍ للصراع مع إسرائيل، ابتدأت ملامحه من طهران، بالعودة إلى أورادها، وإلى ترديد ذكر إسرائيل والصهيونية مع أمريكا، والموساد مع المخابرات المركزية، كشريك في قتل سليماني. وربما تنهل القوى العراقية المعنية من هذا المعين، وتضيف إليه مقتل المهندس، لتعزيز قواها أمام الحراك الشعبي، الذي نجح حتى الآن بالحفاظ على سمة السلمية رغم الاستفزازات والخسائر، ونجح في البقاء حياً رغم تقدم الأطراف المتصارعة إلى واجهة الصورة ومحاولة احتلالها لغير صالح الحراك.
هذا في أسوأ الحالات والاحتمالات. أما في ما هو أقرب إلى المنطق، فلا بدّ لحراك العراق ولبنان أن يحتفظ بديناميته الخاصة، ويجبر النظامين على تقديم التنازل تلو التنازل. ولنا أن نراقب عملية تشكيل الحكومة اللبنانية، حتى تتسع رؤيتنا؛ وكذلك أن نراقب مآل الحكومة العراقية بعد تبلور الصراع على أرض البرلمان عن تعادل ما بين قانون الانتخابات وقرار الطلب من الحكومة إنهاء الوجود الأمريكي، تحت الضغط الإيراني، وفي جرأة على الميثاق الدستوري المعتمد على توافق المجموعات الرئيسة، الأمر الذي لم يتوفر، ولا في حده الأدنى كما هو مُفترض وبديهي.
هنالك مخزون عنف كبير في المنطقة يستطيع التحرر دائماً، يعتمد في هذه المرحلة على الموروث الطائفي، الذي يزداد حدةً ووحشية كلما ازدادت” المظلومية” و” نفسية الضحية القديمة؛، والثأر الذي ما زال حياً يستدعي ذاته بذاته كلما لاح بريق للتحرر منه.
وكما بلغ العنف السني- الخارجي ذروته مع البغدادي وأساطيره، تصاعد العنف الشيعي منذ أن تقرر في طهران إنهاء التعددية في رئاسات المذهب، بالذهاب إلى نظام الولي الفقيه، حامل الراية وإمامها، الذي يتكثف به وحوله بخار الثأر والسيادة وتعميم الإيمان، وبالتحول من ضحية إلى محرِّر ومغيّر للمعادلة القديمة. وتلك سيرة تكررت في عدد من ثورات المظلومين، ومن خلال تصعيدها بالعنف وحتى العنف الأقصى.
هنالك ضوء يلتمع في المنطقة مع موجة الربيع العربي الثانية، يتأسس على وطنية ومواطنة متساوية، وعلى نبذ الطائفية وأضرارها، في وعي لجهود الفئات السائدة المستبدة دائماً على الاستثمار فيها، والتجييش على أساسها، أو التجهيل والتعمية عن مشاهد العصر ومنطق اللحاق به. وتشكل هذه الموجة خطراً، من ثَمّ، على كل الموجات الأخرى، التي تهاجم البحر من اليابسة، فتضطر حماس والجهاد والفصائل الفلسطينية اليسارية إلى التكشير بدلاً من الابتسامة، وإلى الوقوف علنا مع المستبدين والطغاة والولي الفقيه، على سبيل المثال. “ محور المقاومة” هو الاسم السري لكلّ أصحاب المصلحة الجانبية، الذي أخذت الطغمة الحاكمة في طهران بقياده، وهو الذي أحسّ بالمصيبة بمقتل سليماني رأس القوم في ميادينهم.
قد يكون صحيحاً تناول عملية اغتيال سليماني من جانب قانونيتها ومرجعيتها بالانتقاد والتساؤل، وقد يكون صحيحاً الشكّ بإمكانيات الإدارة الأمريكية الحالية على التصرف بحكمة الدولة الأكبر في العالم وعدم توتير أوضاع منطقة هي خزان بارود أساساً، وخصوصاً لو انطلق الأمر من مصالح انتخابية ضيقة، أو من عقلية تأخذ القرار بعقلية البازار.
ولكن الحلقة الرئيسة هنا هي الصلف والعنجهية وروح المغامرة والطموح المفتوح في طهران، كنواة ومصدر للأخطار في المنطقة؛ وهي أيضاً في تطلّع شعوب المنطقة إلى الخروج من المأزق المغلق إلى الحيّز المفتوح، لبدء مسيرة التقدم.
يتآكلنا في فترة ما بعد مقتل سليماني، ذلك القلق القديم من السياسات الأمريكية ودرجة المناورة فيها حتى الاعتماد على قوة الخصم ونجاحاته لتحقيق غايات غير مباشرة، وخصوصاً في هذا الزمن. كما قد يتذكر المرء تلك الدراسة الشهيرة التي اعتمدت عليها السياسة الأمريكية الخارجية في احتوائها للاتحاد السوفييتي ابتدءً من عام 1947، التي نشرها جورج كينان بتوقيع( X) تحت عنوان” مصادر السلوك السوفييتي”، وقال في خاتمتها ما يلي:
“بالتأكيد ، لم يكن هناك اختبار أكثر عدلاً لمستوى الوطنية من هذا. في ضوء هذه الظروف ، ولن يجد المراقب الفطن للعلاقات الروسية الأمريكية أي سبب للشكوى من تحدي الكرملين للمجتمع الأمريكي. بل سيشعر بدلاً من ذلك بامتنان عميق للعناية الإلهية التي ، من خلال تعريض الشعب الأمريكي لهذا التحدي العنيد ، جعلت أمنهم الشامل كدولة يعتمد على تجميع أنفسهم وقبول مسؤوليات القيادة الأخلاقية والسياسية التي كان التاريخ يريد لهم أن يحملوها.”
ويمكن أن يرى المرء هنا اسم إيران( وفروعها) بدلاً من الاتحاد السوفييتي!
موفق نيربية – المدن
١٢-١-٢٠٢٠
الآراء الواردة بالمقال تعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة أن تعبر عن رأي الموقع