العلمانية هي الحل..!

مقالات 0 admin

مع الخسارات المتلاحقة للتيار الاسلامي ونهايات التشكيلات المسلحة المتطرفة كتنظيم الدولة الاسلامية وجبهة النصرة, ومع انكشاف بؤس مشروع الخلافة الاسلامي السنّي, وبؤس مشروع الملالي الايراني الشيعي بآن واحد, ليؤكد افول الرهان على الدولة الدينية في سورية كما افصحت سنوات الثورة/الحرب عن بؤس السلطة المستبدة واديولوجيا البعث والدولة القومية, يتجدد الأمل والسؤال اليوم  كيف نبني الدولة السورية القادمة, ومع تصاعد الصوت العلماني في الحراك الشعبي بالعراق ولبنان مجدداً, يعود السؤال مجدداً : لماذا لم تطرح العلمانية بحزم في الحراك السوري؟

بالرغم أن جيلاً كاملاً من الشباب والشابات نشأ خلال العقد المنصرم, وتباشير طلاقه للخطاب السلفي الديني والقومي تتصدر الساحات العربية, في موجة الربيع العربي الثانية.

ماهو مستوى العلمانية في المطالب السورية؟ مع استمرار تردي وضعها بعد ثماني سنوات من الحرب الاهلية والصراع, حيث شهدت البلاد قبل ٢٠١١ مستويات جيدة من الليونة بين المكونات السورية المختلفة, مالبثت ان تردت تلك الليونة عندما اصطفّ بعض العلمانيين خلف سلطة الاسد القمعية في مواجهة الرعب من استلام الاسلاميين السلطة, كما شهدت تخلي فريقاً آخر عن علمانيته بشعبوية مبتذلة وبحجة اننا اليوم امام استحقاق تاريخي متمثل باسقاط النظام وليس لدينا الوقت لترف نظري او فكري, فجرى تبريرهم للاسلام الراديكالي في مواضع عدة.

بالحقيقة تأتي أهمية العلمانية في ظل الانقسام والتشظي السوري الكبير, باعتبارها تقيم مرجعية انتماء موحدة لكل السوريين، الانتماء إلى الوطنية السورية، والسمو فوق كل الانتماءات الماتحت/المافوق وطنية من الناحية الدستورية والقانونية والسياسية. ومن ناحية أخرى تحصّن العلمانيةُ الدولةَ من هيمنة رجال الدين وتحمي شؤون ادارة البلد من سطوة المطلق وحصانة “ممثلي الله على الأرض”، الذين يفرزون البشر  عادةً حسب عقائدهم الروحية، و المضي بالتالي الى المساواة أمام القانون بواقع الاداء والافعال وبصرف النظر عما يحمله المواطن من عقائد روحية أو دينية في رأسه وافكاره، وهذا ما يوحد السوريين كمواطنين بدلاً من أن يفرقهم كأتباع مذاهب وأديان. ومن شأن ذلك حل المشاكل اليومية والدنيوية التي تواجهنا بالاستفادة من كل منتجات البشرية وتجاربها وعلومها وليس الاعتماد على نصوص دينية ثابتة تصل حد القداسة.

صحيح ان السوريين منقسمون اليوم ولكن ليس على أساس علماني/غير علماني فحسب، بل مع/ضد النظام – مع/ضد الإسلاميين أو مع/ضد قسد وغيرها من الانقسامات العمودية والافقية، واقعياً لا يوجد في سورية أي فريق مؤثر يعبر بشكل عميق عن العلمانية الديموقراطية, ومن هنا تكمن أهمية العمل والتأسيس لإنتاج الدولة العلمانية/الديمقراطية الحديثة، في مواجهة الاستبداد والعنف والطغيان والظلاميات, ما يعني تأسيس وحدة مجتمعية تقوم  على التعددية والتنوع والغنى القومي والأثني والمجتمعي.

علينا الاعتراف ان الثورة المضادة التي سيطرت على مناطق المعارضة والتي وقفت ضد العلمانية على طول الخط, حتى حاربته كمصطلح ومنعته من التداول بل كفّرت كل من تناوله, واتفق منظروها من أئمة وشرعيين على استسهال الاستشهاد بالمقدس في مواجهة الدنيوي والنسبي وبأحسن الحالات اعتبار العلمانية نتاجاً غربياً يهدف إلى تدمير الإسلام والمسلمين، كما وصلوا حد وصفها بأنها منتج للحركة اليهودية ”الكافرة“ التي “أرادت نشر الإلحاد في الأرض فتسترت بمسمى العلمانية”. مما دفع مثقفي المعارضة الى التلاعب اللفظي وتخفيف المصطلح بعبارة ”الدولة المدنية“, في حين فرّ بعضهم الى مشاريع ”الاصلاح الديني“ انسجاماً مع ازدياد الخطاب الشرعي للفصائل وداعميهم. وبقيت دعواتهم الخجولة الى علمانية لا تتعارض مع الإسلام باحثين عن جذور لها في التاريخ العربي الإسلامي أو بالكتب الصفراء, بينما راح الشعبويون من ساسة -كانوا ماركسيين حتى أمد قريب- يغازلون ”النصرة“ ويتسترون بالحديث عن علمانية متواطئة ناعمة تبقى -في أحسن حالاتها- بالإطار الفوقي للدولة دون أن تنزل إلى قاع المجتمع.

وعند حديثنا عن العلمانية لابد من الحديث عن النظام الاسدي ”العلماني“ كما يزعم, الطاغية والبراغماتي حتى النخاع, وهو الذي عقد تسوية تاريخية -منذ سبعينيات القرن الماضي- بينه وبين التيار الإسلامي فراح ينحني للخطاب الديني أكثر -خلال سنوات الانتفاضة- فحوّل في سابقة له وزارة الاوقاف الى مقرراً  للسياسات الحكومية, وقدم مزيداً من التنازلات للكنائس والمرجعيات الدينية الشيعية والدرزية, ليكرّس هيمنته بالمزيد من تأكيد الانقسامات العمودية.

ولفضح هذه ”العلمانية الانتهازية الاستبدادية“ كان لابد من تحليلها وكشف حقيقة ما تريده البلاد من علمانية ديمقراطية ستقوم على تحالف المراهنين على المستقبل وليس المتعلقين بالماضي من اجيال خبرت انحطاط السلطة الاسدية وبؤس المعارضة في لجوءها لاقحام الدين بالسياسة.

اقتبس من مقالة لـلدكتور ”راتب شعبو“ واتفق معه في مطالبته (بدولة غير مؤدلجة، تقف على مسافة واحدة من جميع الأديان والمعتقدات، ولا تتدخل في محتوى العقائد الدينية وليس من شأنها تنظيم الديانات، وعليها أن تُعامِل، على قدم المساواة مع جميع الديانات والمذاهب الفلسفية الإنسية دون تبني أي منها أو تفضيل واحدة على أخرى. وهي لا تكفل فقط حرية المعتقد، بل وتضمن الممارسة الحرة للشعائر الدينية، وتحمي الأفراد وتضمن لهم حرية الخيار بأن يكون لهم اتجاه روحاني أو ديني أو لا يكون. وتحرص على ألا يكون بإمكان أي مجموعة أو أي طائفة أن تفرض على أي شخص هويتها الدينية أو الطائفية أو الانتماء إليها، وبشكل خاص تقسيم الأفراد بالقوة وفق الأصول العائلية لهؤلاء الأفراد).

وعليه لا يمكننا بناء دولة وطنية حديثة إلا بفصل المجال السياسي (النسبي والمشترك والمتغير والدنيوي) عن المجال الديني (المطلق والساكن والروحي). فكيف يمكننا تحقيق المواطنة المتساوية في الحقوق، بغض النظر عن الجنس أو العرق أو الدين أو المذهب، بدون هذا الفصل الذي يتكفله بناء نظام علماني تعددي ديمقراطي في سوريا.

صحيح أن العلمانية مشروعاً متجدداً وغير مكتملٍ ورهن بالصيرورة حتى في أوربا والغرب التي مازالت تشهد بين الفينة والأخرى نكسات تتمثل بصعود تيارات اليمين المتطرف ذات الخلفية الدينية, وبالرغم من ادراك الغرب للعلمانية وتجاوزها من خلال الممارسة اليومية, ولكنها ستبقى  قائمة و راهنية لأنها متجددة وتشكل ضرورة مجتمعية ولم تكن موجهة ضد الدين إلا بقدر ما يسعى الأخير إلى اقتحام ميدان السياسة وتشكيل غطاء وبروبغندا لهيمنة سياسيين على السلطة.

آن الأوان لاطلاق خطاب علماني سوري جريئ يتناول الموضوع جبهياً بعمق ووضوح وليس كرد فعل سياسي، سيما أن القوى السياسية التي يفترض انها علمانية مثلا كالقوى الشيوعية والقومية الاجتماعية السورية، لم تعد تذكر العلمانية إلا ما ندر وتهرب من طرحها تحت ضغط الشعبوية, في حين يذهب بعض المثقفين للمبالغة بحدة لغتهم العلمانية -وقد يكونوا محقين- في وجه مشروع الحكم الديني والاسلام السياسي.

لم يكن ممكناً في بلد متنوع كسوريا أن يحول مشروع الخلافة -لو قيّض له التحقق- ابناء الاقليات مثلاً الى رعايا أو ذميين أو مواطنين من درجة ثانية تحت الحماية في وطنهم, ولهذا لانستغرب رد فعل ابناء الاقليات حين يتبنون العلمانية ومنهم من يتبناها شكلاً ويمارس فعلاً طائفية وفئوية بغيضة لاتقل بشاعة عن اقصائية المشروع الديني الذي يهاجمونه, مع ادراكنا بانه لا يوجد مشاريع حكم ديني لدى الأقليات الأثنية والدينية بسورية.

”سورية علمانية ديمقراطية”

هدف لابد من المناداة به حقاً وضرورةً, وهو العتلة لدخولنا العصر, وليس نافلاً إشهاره والاجهار به لأن الكثير من الدول المعتبرة اسلامية باتت تنص دساتيرها على علمانية الدولة, وقطعت اشواطاً حميدة على سلم النمو الاقتصادي والسياسي، (تركيا، السنغال، بوركينا فاسو، تشاد، مالي، غينيا، أوزبكستان، قرغيزستان، تركمانستان، أذربيجان، كازاخستان، طاجكستان، بنغلاديش، إندونيسيا، ألبانيا، كوسوفو). فالدولة المعاصرة كائن اعتباري كأي مؤسسة إدارية، يمكن للسكان فيها كأفراد أحرار أن يختاروا ويؤمنوا بدين أو معتقد أو لا يؤمنوا حتى، وبالتالي الدولة العلمانية محايدة بالضرورة تجاه الأديان كلها وتجاه مذاهب ومعتقدات مواطنيها المتنوعة. ومع الاقرار أنه لم تعد مسألة العلمانية والدين مطروحة في دول الغرب لأن الواقع قد تجاوزها بشكل علمي وعملي، لكن بلداننا وأوضاعنا ومجتمعاتنا العربية والاسلامية و“دولنا“ لم تتمكن من إنجاز الحداثة لا في السياسة ولا الاقتصاد ولا بالمجتمع، وبقيت أشكال التحديث سطحية وبرانية رغم وجود العديد من مظاهرها المتعايشة مع بالبنى الموروثة وشهدنا نوعاً من ”حداثة التخلف“ التي لم تستطع ان تدرء استمرار دخولنا في تناحر وصراعات بينية مما أفقدنا السيطرة على مقدراتنا ومصيرنا, ليستمر تدخل الاقليم والعالم فينا, ولتتنازعنا مصالح الدول مجدداً.

لقد أصرّ الاسلاميون على معاداة العلمانية واتهامها باللاديمقراطية والشمولية وعدم التزامها بنتائج الصندوق, بينما يصر العلمانيون على  تطبيق المبادئ فوق الدستورية, من أجل حماية حق التنوع والاختلاف وحق الاقلية العددية من استمرارها ومشاركتها بالقرار, اذ لايمكن الركون الى الديمقراطية العددية التي ستحول الاغلبية العددية الدينية السنيّة بالضرورة في سورية الى متحكم مطلق يغلق باب الحيوية السياسية ولهذا تتأكد المطالبة بنقل مفهوم الاغلبية والاقلية من أغلبية دينية الى اغلبية سياسية مع مطالبة الاسلاميين والقوميين بعدم الاكتفاء بفكرة استهدافنا من قبل العالم وبشيطنة الغرب واتهامه بالعداء للمنطقة وشعوبها -رغم بعض الحق بهذا-, بل عليهم الكف عن تكرار خطاب الكراهية والغلو والارهاب وبات ضرورياً التفكير بدولة لكل المواطنين وليس الاستناد الى الماضي والموروث والعصبية القبيلة في زمن بات العالم قرية صغيرة عملقت به تقانة الاتصالات الفرد والفردية وأزالت الحدود فلم تعد فكرة الدولة القومية او الدينية قابلة لاعادة بعثها من جديد.

أفصحت الحرب السورية ونهاياتها عن عمق الحكاية في سورية وهي لم تكن يوماً بالتعدد والتنوع بالمجتمع السوري, بل كانت في سوء إدارة هذا التنوع واستثماره الانتهازي البغيض في الطائفية واللعب على الانقسام العمودي, ولهذا يكمن التحدي الحقيقي بقدرة السياسة على تشكيل فضاء عام يتسع للجميع تحت مظلة الهوية الوطنية والمواطنية، والاعتراف بوجود وتعدد الأعراق والأقوام واللغات والثقافات وتفاعل الحضارات الموغلة بالقدم في هذه البقعة الجغرافية المتاحة لتحقيق سوريتنا الجديدة.

وسيم حسان ١٦-٢-٢٠٢٠

الآراء الواردة بالمقال تعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة أن تعبر عن رأي الموقع

Facebook Twitter

Loading

الكاتب admin

admin

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة