في ذكراها التاسعة – عقدُ قد يختصر عقود..!

تسع سنوات مريرة من عمر السوريين مرَّت, أثخنت في جراحهم وعمَّقت تشتتهم واختلافاتهم, وكشفت المستور من عفن عقود بل قرون غابرة, فضحت زيف وعينا وهوياتنا وادعاءاتنا. فكانت الثورة الكاشفة, مرّت مليئة بالأحلام والعثرات, بالتعقيدات والنكبات ومليئة بالتناقضات والصراعات وغمرت قاموس يومياتنا بمفردات ومدلولات جديدة, انتفاضة, ثورة, حراك, معارضة, جهاد, عراعير, شبيحة, معتقلين, مغيبين قسرياً, علم أحمر, علم أخضر, علم أسود, قصف, تدمير, قتل, تهجير, إرهاب, مقاومة, ممانعة, اسلاميون, متطرفون, انفصاليون, فيدرالية, مخيمات, منظمات مدنية, لجوء, سرقات, اغاثة, احتلالات, سيادة, انتهاكات, قصف, صراع طائفي, حرب أهلية, مليشيات, ثورة مضادة, عطب, ارتهان, تسلّق, داعمين, أصدقاء الشعب السوري, أعداء محليون, اقليميون, دوليون…. كلمات كثيرة تلخص سيرة الاخفاق والفشل الذي أحاق بالسوريين أينما حلّوا, وتبعث على انسداد الأفق بالتغيير والخلاص.

فمن يتحمل مسؤولية ما جرى ويجري؟ وما مصير سوريتنا بعد كل هذا؟

وللإجابة قد نستسهل الزعم بأن المعارضة المرتهنة والمشرذمة كانت سبب فشل الثورة, ويسهل اتهام استراتيجية قيادات المعارضة بدءاً من المجلس الوطني الاقصائية وهيمنة التيار الاسلامي عليه ومراهنته العبثية على التدخل الخارجي الحاسم, وقد نتهم العالم بالتآمر على السوريين, حتى أصدقاء الشعب السوري وعلى رأسهم الولايات المتحدة وأوربا, ويمكننا المضي بوهم الاعتقاد بأننا مركز الكون والجميع يستهدفنا, فنسوق الاوهام التبريرية مجدداً وهماً وراء وهم, ولكنها ستسقط كسقوط لاءاتمعارضة الداخلالثلاثلا للعنفلا للطائفيةلا للتدخل الخارجيعند أول اختبار لها, فكان التدخل الاقليمي والدولي وكان العنف العاري  وكانت الطائفية السافرة.

نعم تسلح المنتفضون كرد فعلٍ على عنف السلطة المتوحش, وتدفّق الدّعم الخليجي والتّركي للقوى الاسلاميّة السلفيّة والجهاديّة فابتلع فرصة تطوير الانتفاضة وانضاجها وتحويلها إلى ثورة وطنية ديمقراطية, فجاءت العسكرة سريعاً لتسبق دور السياسة ولتفرض البندقية وحاملها تسيّدها على قرار الثورة، وجرت خلف شعارات إسلاميّةسنّيةواهمة، فانقلبت معظم الفصائل متعددة المصادر إلى ثورة مضادة وميليشيات متعارضة بل ومتصارعة أحياناً تواجه على انفراد قوات السلطة ومليشيات شيعيّة طائفية استقدمت من إيران والعراق ولبنان وغيرها, مليشيا برانية ولكنها تميزت بوحدة قيادتها وقرارها وخطابهاكل ذلكوغيرهقلب صورة الانتفاضة / الثورة، من انتفاضةٍ سلميةٍ تهتف للحرية والكرامة للسوريين كلهم إلى حربٍ أهليةٍ مركبةٍ, يتسابق فيها المتحاربون للغوص بحمّام الدم السوري, مديرين ظهورهم لوطنيتهم السورية ومتمترسين خلف هوياتٍ دون أو فوق وطنية, لم تبق ولم تذر.

ورغم كل ذلك لم تستطع بشاعة المشهد الحالي الحدّ من اعجاز الثورة السوريّة في بلد متصحّرة سياسياً, فالمعجزة حطّمت عفن الصّمت والسّكون وفتحت أبواب الصّيرورة الموصدة منذ عقود, بفعل سلطةٍ بهيميةٍ بنَتسورية الاسدمملكةً للرعبِ والصمتِ والموت.

لقد غيرت الثورة السّورية الكثير من ملامح الشّرق الأوسط وأعادت صياغة تحالفاته, كما فضحت شكل الصّراعات الطّائفية والدّينية والقوميّة وأظهرت إلى السّطح عفن التّاريخ, الأمر الذي لم يكن ليحدث بدونها.

فلم يكن ممكناً افتضاح الأوهام بدولة اسلاميّة, والأوهام بالسّيطرة السلطوية الأبدية, والأوهام بالاستحواذ والاقصاء القومي وكل منظومة الاستبداد داخل وخارج الحكم, كما انهارت الفصائل عسكرياً بالتتالي عندما حاربت من داخل المدن وهي العاجزة عن حمايتها ومنع تهجير مدنييها, وسقطت بإدارتها وسياساتهاالشرعيةوحكم الرعية بالجلد والجزية والضرائب والنهب, فغابت التشاركية والديمقراطية في المناطق التي خرجت عن سيطرة السلطة, حتى عن مناطق شرق الفراتالتي ادعت ذلكوالتي لعبت دوراً تاريخياً بقهر ظلاميةداعش“, فما بالك بأداء الفصائل الاسلامية التي عدّت الديمقراطية كفراً والتشاركية شركاً.

وكان التدخل الروسي منذ أيلول 2015، مستغلاً ترددأوباماوسياسة إدارته الانسحابيةبعد الخيبة في تجربة ليبيافقلب ميزان القوى لصالح السلطة المحاصرة ب 12% من الأرض السّورية إلى استعادة سيطرتها على 62% اليوم, (يبقى 26%  تحت سيطرة قسد والتحالف الغربي) لتنحسر مساحة سيطرة الفصائل المختلفة ومن خلفهم تركيا على 10% المتبقية. ولتشهد البلاد أفظع مأساة إنسانية منذ الحرب العالمية الثانية تشرد بها حوالي نصف السّكان, بين نازحٍ بالداخل تحت أبشع الظروف قساوة, ولاجئ تتقاذفه أمواج البحار والغربة بالخارج. فيما يرزخ أغلب الآخرين تحت خط الفقر ولتنهار قيمة العملة عشرون مرّة (من 50 الى 1000 ليرة مقابل الدولار) دون أفق في إعادة الإعمار بينما يستمر الحصار والعقوبات تتوسع على نظام لم يتقن سوى القتل والتدمير. 

اليوم ومع سقوط معظم الاوهام وبعد كل محاولات تثبيت سلطة الأسد من قبل حلفائه الروس والإيرانيين, وبعد انشغال المجتمع الدولي المثقل بالمشاكل والهموم عن سورية وبعد تردده وتأخر الانتقال السياسي وفق جنيف, بسبب تعنت السلطة أولاً وانكشاف التّطرف وعدم اندراج فصائل المعارضة بمواجهة الارهاب القاعدي جدياً منذ البداية ثانياً, بل انصياعها وراء سياسة تركية مفضوحة, فكان وهم الجّهادية أن قضى على فرص الدعم الدولي, وزادت بذلك ذرائع النظام وحلفاءه واستمر قصفه وهمجيته متلحفاً بغطاءمحاربة الارهاب“.

بعد أن سدد السوريون فاتورة باهظة من مئات آلاف الشهداء وملايين الضحايا على مذبح الحرية بلا طائل, وربما ندفع الكثير أيضاً ولانزال ندور في دوامة المحنة هذه, ما لم نتجاوز أمراضنا وخطابنا الاقصائي الانتقامي الذي رافقنا طيلة هذا العقد التاريخي.

ستبقى الوطنية السورية ملاذ جميع السوريين بمختلف أديانهم وطوائفهم وقومياتهم, ولن يكون الحل الا ببرنامجٍ وطني ديمقراطي يلغي الاقصاء والتطرف من مجتمعاتنا ويضعنا حقاً في عصر حقوق الانسان والمواطنة.

ندرك ان الاصرار على الحياة رغم كل الأخطاء والإخفاقات يتجسد بالطريق الوحيد الذي ستختاره الاجيال, فقد اختبر السوريون السلطة على مدار عقود واختبروا الفصائل الجهادية الإسلامية بالعقد الاخير, وليس أمامنا الا استنهاض الهمم لاطلاق ثورة ثانية على مخلفات سلطة الاستبداد والظلاميات, ثورة تزيل أنقاض الحرب وتجلي عفن الماضي من العقول والقلوب والأنفس.

عاشت سورية وطناً ومواطنين

تيار مواطنةمكتب الاعلام

١٨٣٢٠٢٠

Loading

الكاتب admin

admin

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة