مجزرة ”القريا“ في الجنوب السوري وتداعياتها
انها مرحلة الكشف!
ينكشف فيها ما خبأته عقود الخوف والصمت البعثية, عقود التّهرب من الاستحقاق الوطني الى درك العصبويات المحلية, فكان اللّوذ بهويّات دون وطنيّة أو فوقها. ولن ينفع اليوم مجرد الشّتم وإلقاء التّهم وتعليق الرزايا كلها على مشجب السّلطة –وإن صحّ كل ما يقال عنها– فلقد كشفت سنوات الحرب عارنا وقيحنا وقبحنا كلّنا وآن أوان الاعتراف بعيوبنا العميقة وتأخرنا المزمن.
في ٢٧–آذار-٢٠٢٠ كانت ”القريا” حاضرة “سلطان الاطرش” في جبل حوران على موعد مع الموت, حيث قامت مجموعة مسلّحة من الفيلق الخامس الذي يقوده المدعو ”أحمد العودة“ بإطلاق النّار على شبّان البّلدة الذين فزعوا لنصرةِ ذويهم فحصدت أرواح ١٥ ضحيةً منهم, قضوا في أراضي ”القريا“ شرقي ”بصرى الشام“, جاء ذلك الهجوم كما زعم بيان العودة ضمن عملية للرّد على تكرر خطف عصابات من الجبل أشخاصاً من السّهل اثناء تحركاتهم التجارية والاجتماعية العادية من وإلى محافظة السّويداء, فاصطبغ الحدث بعداً طائفياً بالنّظر لبيئة الواقعة وشخوصها, فراحت أقلام النخبة تخطُّ البيانات لدرء الفتنة.
لن نتوقف لاستعراض حوادث الخطف الشبيهة التي تبادلها فرقاء عديدون على الساحة السّورية عموماً وبين السّهل والجّبل خصوصاً خلال السّنوات التسع المنصرمة, وهي لا تنحصر بجهة واحدة, لكنها سببت بانحطاطها دوماً –مع غيرها من الأسباب– مزيداً من الانقسام المجتمعي وأجّجت نار خطاب الكراهية والاحقاد. خطاب الطائفية المجمّد شكلاً لردحٍ من الزمن في صقيع “النضال القومي والإشتراكي“, ولا يناقض ذلك ما تعوّدنا على سماعه من نبرة المقاومة والممانعة والوحدة بأبواق هذه السلطة التي استمرت ممارساتها طائفيةً وعصبويّةً بغيضةً على الأرض.
اليوم وبعد فظائع عديدة ارتكبها زعران الخطف في الجبل –بصرف النّظر عمّن يحميهم ويشغلهم– ومع تكرار مصائبهم بلا حسيب أو رقيب, هل يصحُ الوقوف دون وضع حدٍ لدود الخل؟ ولم يعد كافياً تعليق كل الجرائم على مشجب مخابرات السلطة وعصاباتها –حتى ولو كان ذلك صحيحاً– حيث يردح كثيرون –ومنهم معارضون– بمقولة مؤامرة تقودها السلطة الأمنية مستهدفةً جبل العرب, ويستمر الحديث المكرور عن الايادي الخبيثة التي تعبث وتثير نار الفتنة, دون وضع الاصبع على الجرح, غافلين –بقصد أو بدونه– عن حقائق التشظي السّوري المزمن وفوضى الفساد والحرب التي أنعشت العصابات المشغَّلة أو المنفلتة, بالطبع لا أحد ينكر تخلي السلطة عن واجباتها و استمرار تدهور الامن والعبث بالسلم الأهلي في الجبل والجنوب بشكل عام. دون أن نغفل أثر التّسويات التي نفذها الرّوس وانتهت بإنشاء الفيلق الخامس من بقايا فصائل المعارضة سابقاً في سهل حوران, وكم حمل ذلك من خيبات على أبناء حوران ”مهد الثورة“ وما تحمله الخيبات من ردود أفعالٍ لن تُحمدُ عُقباها, وهنا لابد لعقلاء حوران من ضبط البوصلة عن الانحراف.
في خضم ذلك يسعى معظم مثقفي الجبل المعارضين –ذوي المناهل القومية او اليسارية عموماً– محمّلين بالخطاب الوطني ويستحضرون كل ما جمع السهل والجبل تاريخياً, منادين برأب الصّدع في حوران سهلاً وجبلاً, على الرغم من انقطاع صلة هؤلاء –المعارضة الجبلية– بجمهورهم أو يكاد, فبياناتهم وجدت صداها في السّهل غرباً أكثر من الجبل, ولم يكن ذلك مستغرباً فنخب درعا المعارضة الأكثر تواشجاً وانسجاماً مع شارعها الذي صدح بشعارات ١٨ اذار ٢٠١١, الأمر الذي لا نجده جلياً بالجبل, حيث تسود شارعه لغةً شعبويّةً يلخصها بأحسن الأحوال منطقُ النأي بالنفس خارج معادلة هذه الحرب ”الأهلية/السياسية المركبة ذات الطابع الطائفي الشيعي/السني“, مع ميل واضح لدى جمهور الجبل الى تبني رواية السّلطة لأسباب عديدة ليس أقلها تناوب الهجمات المتطرفة على تخوم الجبل والتي تبنتها ”جبهة النّصرة“ غرباً و“داعش“ شرقاً, وعندما فقدت رواية المعارضة الكثير من ألقها وصدقيّتها بعد أسلَمة الثّورة وتصاعد انتهاكات فصائلها المُسلّحة.
يمكن تفهم صدور ”بيانات براءة الذمة“ التي تندّد بما حصل –فما جرى فظيع بكل المعاني– حيث راح العشرات او المئات من النخبة يوقعون على بيانات العيش المشترك وحسن الجوار, دون أي مردود يُذكر لهذه البيانات, فلهجة التهديد المبطن عادت مجدداً ومن بيانات لجهات محلية بالطرفين, وحصلت -للاسف- أعمال خطف جديدة ونُشرت فيديوهات مشينة لأعمال الخاطفين القذرة, في انتهاك صارخ لكرامة الانسان أي إنسان, وكان قبل ذلك بيان ”حركة رجال الكرامة“ بالجبل – ورد المحاميد عبر ”بيان أهالي حوران والمخطوفين والمظلومين في محافظة درعا“ كانا كافيين لتشخيص الحدث وتلخيص المرض, ولكن متى يكون العلاج؟ وكيف؟
ما لم تصل مساعي تطويق الحدث من ”العقلاء“ ووجهاء المحافظتين الى اجراءات ذات مصداقيّة على الارض لن يَحصل العلاج, وعلى قوى الأمر الواقع حالياً –وهي الرّوسي ومن خلفه السّلطة– القيام بمسؤولياتهم لوقف التّصعيد ولمنع تكرار الجرائم والعصبيات وكبح ردود الافعال, بل واقتلاع زعران الخطف والقتلة وزجهم خلف القضبان بأي وسيلة كانت ودون تأخير.
اننا في تيار مواطنة نعتقد أن مسؤولية أمن المواطن بالأساس تقع على الدولة الوطنية –وهي الغائبة دوماً في حالتنا– ولن ينفع استمرار تخفّي السّلطة بمليشياتها والعصابات المحليّة المدعومة منها أو المسكوت عنها لتعيث فساداً في مناطق تواجدها ولتعبث بالسلم الأهلي, فعلى الرّوسي اليوم بوصفه راعي تسويات الجنوب وبوصفه المتحكم الواقعي بسلطة دمشق وفصائل الجبل أيضاً, عليه فرض حماية السلم الأهلي بالقوة (وإنها لمن سخرية القدر أن يُستنجد بترويض الذئب والكلاب معاً في حماية القطيع), لأنه لن ينفع أي كلام انشائي حول المصير المشترك وحسن الجوار في بيانات لا تجد حاملاً أهلياً لها ما لم تُشفع بإجراءاتٍ عمليةٍ تُوقفُ زعرنات الخطف وتُحاسب الجّناة ومن تَسبب بقتل الابرياء في المجزرة الأخيرة.
إن الرّوس القابضين على أوراق الحل والربط في الجنوب –وربما بمعظم سورية– لن يعدموا الوسيلة للوقوف على حقيقة ما جرى وتحميل المسؤولية للجناة ومحاسبتهم وملاحقة مجموعات الخطف والسّلب, وما تراجع مسلّحي ”العودة” عن أراضي ”القريا“ وسحب الأسلحة الثّقيلة إلى “بصرى الشام“ على سبيل المثال, إلا دليلاً على إمكانيات الروسي بفرض الحلول في حوران, ومنع الاشتباك بالمدى المنظور, ولكن السؤال الأهم الذي يبقى معلقاً : كيف ومَن سيفضُّ الاشتباك على المدى الطّويل؟
تيار مواطنة – مكتب الاعلام
٨-٤-٢٠٢٠