هل يجبّ الانشقاق ما قبله؟
انطلقت في مدينة كوبلينز في المانيا الأسبوع الماضي محاكمة اثنين من عناصر المخابرات السورية، كانا قد انشقا عن النظام في وقت سابق وقدما لجوءاً في المانيا. كعادة السوريين منذ انطلاق ثورتهم انقسموا بتقييم ما حصل، منهم من رأى انه مضر سياسياً، إذ بدلا من محاكمة الضباط الذين ما زالوا على رأس عملهم لدى النظام السوري يحاكم المنشقون، وأن هذا سيعطي رسائل خاطئة، إذ سيزيد ارتباط من بقي منهم مع النظام، وسيقنعهم أنه يحميهم، ويتناسى أصحاب هذا الرأي أن لا مزيد من الانشقاقات منذ سنوات عديدة، وأن الانشقاقات قد توقفت تقريباً منذ أن بدأ النظام باستعادة الأراضي التي خسرها. وصل البعض في إدانة هذه المحاكمات إلى الاتهام بأن هذه المحاكمات والشكاوي مدفوعة دفعا من النظام، وأن المحامين والمشتكين إما يعملون لصالحه، أو أنهم بحسن نية تم استغلالهم من قبل من يعمل لصالحه، أي أن هذا النظام هو وراء كل ما يحدث، وقد تصل نظرية المؤامرة بالبعض ليعلن أن الأوربيين تآمروا مع النظام في هذه المحكمة (محكمة أنور رسلان على الأخص)، وذلك لإخفاء ما قام النظام من خروقات لكل اتفاقيات حقوق الإنسان في سجونه، وأراد به حماية الدولة الألمانية ومساعدتها في الحرب على الإرهاب، وما يعرفه المتهم جيداً بسبب موقعه السابق. في المقلب الآخر يرى بعض السوريين أملاً كبيراً، ويرون أنها الخطوة الأولي لتحقيق ما عجزت الثورة بسلميّتها وعسكرتها عن تحقيقه حتى الآن، أي إسقاط النظام، ويرون أن مسار العدالة سيؤدي الى إسقاط هذا النظام الغاشم، وجره بقضه وقضيضه الى قفص العدالة لمحاكمته، متناسين أنه -عبر التاريخ لم يكن للعدالة مسارٌ مستقل عن السياسة- وأن القرار السياسي الدولي هو الذي سيكون له فعالية في تغيير هذا النظام، وفي جره الى العدالة أيضاً. ما بينهما هناك فئة ثالثة، ترى ما يحصل خطوة أولية ولكنها مهمة في مسار العدالة السوري ولكنها خطوة فقط على الطريق. ويرون أهمية هذه المحاكمة في أنها ولأول مرة سلطت الضوء بشكل واضح على الانتهاكات التي تحصل في أفرع الأمن السورية قانونياً عبر قرار الاتهام، وإن كانت هذه المحاكمات هي لأفراد فقط، ولكن النقاش ومذكرات الاتهام تتناول المنظومة كاملة وكل ما يحدث فيها من فظائع. وثمة فئة رابعة ترى أن العدالة هي غاية بحد ذاتها، وأن حق الضحايا في تحقيق العدالة هو أهم وأكبر من أي حسابات سياسية، وأنه في حضور هذا المطلب العادل لا معنى لنقاش فائدة المحاكمة سياساً أو ضررها. حول الفائدة السياسية للمحاكمات، نود هنا أن نؤكد أن هناك مذكرات جلب أخرى بحق رموز للنظام السوري في أجهزة الأمن، وهم على رأس عملهم كجميل حسن مثلاً، ولكن بسبب اختصاص الولاية العالمية والتي لا تستطيع محاكمة الا الموجودين على أراضي الدولة المعنية، فلا يمكن محاكمة هذه الرموز الآن وكل ما يمكن عمله هو التحقيق وإصدار مذكرات البحث. ولكن يجب أن لا ننسى أن هذه المحاكمات وإن لم تكن محاكمة للنظام برمته، ولكنها استطاعت أن تسلط الضوء على الأجهزة الأمنية السورية، وأنها لأول مرة استطاعت خرق الصندوق الأسود لهذه الأجهزة قانونياً، وجلب بعض معلومات هذا الصندوق ليتم بحثها في المحاكم. كما ويجب التنويه أن المحاكمات تجري بشكل ديمقراطي وشفاف، وأن المتهمين مصانو الكرامة والحقوق. وهذا ما لم يتوفر لضحاياهم السابقين، ولا لكل ضحايا أجهزة الامن والقضاء السوريين. وبالتالي فإن المتهمين هم متهمون فقط، وليسوا مدانين بعد، وأن القضاء العادل سيأخذ كل الظروف والملابسات بعين الاعتبار، سواءً انشقاقهم أو ما قدموه في مواجهة هذا النظام وتحقيقاً للعدالة، وعليه إذا كان المتهمون منشقين عن النظام فعلاً، سيجدون في هذه المحاكة فرصة لفضحه وإعلان انتهاكاته للعالم كله. إن المحاكمة التي بدأت في المانيا ليست المحاكمات الوحيدة، فإن قضايا أخرى قد رفعت في أكثر من دولة أوربية منها فرنسا مثلاً، كما يجري التحقيق في قضايا أخرى في دول أوربية أخرى، السويد على سبيل المثال. في محاولة منا للجواب على السؤال الأساسي الذي تطرحه محاكمة كل من أنور رسلان وإياد غريب، هل يجبّ الانشقاق ما قبله، نود أن نتناول ظاهرة الانشقاق بحد ذاتها أولاً وما الذي تعنيه. بعد انطلاق الثورة السورية ونتيجة للعنف الذي واجه فيه نظام الأسد الثورة، وجد الكثير من العسكر أنفسهم مضطرين للانصياع للأوامر والتعامل بعنف مع المتظاهرين أو المدنيين أو الانشقاق عن المؤسسة العسكرية، وهذا دفع بهم للانشقاق الفردي، توالت بعدها ظاهرة الانشقاق لتصل لبعض مسؤولي الحكم، أو لضباط ذوي رتب عالية أو في مناصب أمنية مهمة كالمتهم حالياً (أنور رسلان)، اختلفت ظاهرة الانشقاق في بدايتها من عناصر مغلوب على أمرهم يرفضون الأوامر، الى انشقاق ذو صبغة سياسية الذي قام به المتنفذون ولأسباب مختلفة فيما بعد. نحن في تيار مواطنة نرى أن الانشقاق الصحيح والمجدي وخصوصاً، الانشقاق السياسي للمتنفذين، لا يمكن اعتباره سياسياً الا إذا تبعته بعض السلوكيات الواجبة، من اعتراف بالأخطاء السابقة وطلب الغفران والاعتذار من الشعب وممن انتهكت حقوقه، وتقديم معلومات تفيد بملاحقة النظام المنتهك، وإلا لن يكون الانشقاق الا تغيراً في موقع السلطة، والقفز من مركب سلطة الى مركب سلطة آخر، دون تغير في المفاهيم. وإذ نرى في تيار مواطنة أن الثورة هي ليست ضد أشخاص أو ضد سلطة ما، وإنما هي ثورة على مفاهيم التسلط وسعياً للديمقراطية أي هي ثورة مفاهيم حياتية، فإننا نرى أن كل انشقاق لم يترافق بتغيّر بالمفاهيم، وبتبني لمفاهيم الديمقراطية والمواطنة، والذي يتطلب كما ذكرنا اعترافاً بالأخطاء وطلب السماح والغفران عنها وتقديم المعلومات اللازمة لإدانة الانتهاكات الحاصلة، لا يمكن البناء عليه، ولا نرى أنه يجبّ ما قبله. تيار مواطنة مكتب الإعلام 28 نيسان/ إبريل 2020