السوريون بين هلاكي الفقر وفساد النظام
– الوضع الاقتصادي والمعاشي:
لا شك بأن السوريين بالمجمل يعيشون أسوأ أيامهم، سواءً أكان لجهة الأوضاع الاقتصادية المتردية جداً، أم لجهة ظروفهم المعيشية بالغة السوء. وصحيح أن هناك تفاوتاً بين الذين يعيشون في المخيمات والمناطق المدمرة ويفتقدون إلى الموارد الاقتصادية الثابتة وفرص العمل المستقرة والخدمات الأساسية؛ الطبية والصحية والتعليمية، وبين الذين يعيشون في بيوتهم سواءً أكانوا تحت سلطة النظام أو قسد أو الفصائل، لكن طاحونة الفقر تطال الجميع بلا رحمة.
– الوضع الأمني:
ونتيجة الوضع الاقتصادي المتردي، ونتيجة انحسار سلطة الدولة أمنياً وقضائياً، تضاعفت بشكل كبير حالات الانفلات الأمني في كامل الأراضي السورية، وإن تفاوتت النسبة بين مناطق السيطرة الثلاث، لكن يبقى الانفلات الأمني الصفة المسيطرة على كامل المناطق السورية. ويتجلى هذا الانفلات بالقتل بغرض الانتقام وبغرض السرقة، والخطف بغرض الفدية أو التبادل، والسرقة، والنصب والاحتيال والخوات والترفيق، وغيرها من أشكال العنف والفوضى والابتزاز. ولا يكاد يمر يوم على السوريين بدون حوادث أمنية فظيعة تهز كيان هذا المجتمع المروَّع أصلاً.
– الوضع السياسي وأفق الحل:
يمكن أن ندرج الوضع الأمني المتفاقم السوء في سوريا ضمن الأزمة السياسية المتفاقمة للسلطة الطغمة، ويمكن أيضاً وصفها من ضمن أزمات الشرعية التي تعاني منها “السلطة” والتي لا تستطيع فرضها إلا بوسائل مشروعة كالشرطة والقضاء وبقبول المجتمع الخضوع لتلك “الشرعية”. مقابل هذه الشرعية، تواجهنا ثلاث أزمات مركبة، أو بالأصح متوالدة، منشأها سياسي بامتياز؛ فمشكلة انحطاط القضاء وأدواته التنفيذية كجهاز الشرطة وإدارات السجون تعاني من فساد معمم قبل الثورة كان سببه الرئيسي انتهاك السلطة لهذه المؤسسات طوال عقود سيطرتها واستبدال سلطات استثنائية بالمؤسسات الشرعية، تلك السلطة الاستثنائية التي تحكم فوق القانون وتتجاوز السلطة القضائية والتشريعية، ثم جاءت الثورة لتكرس خضوع هذه الأجهزة ورميها إلى الحضيض ممارسة واستسلاماً لسلطة أجهزة المخابرات والقمع المعمم. يأتي تالياً الفساد الإداري المعمم في كل مفاصل “الدولة” والذي يبدو أنه تضاعف بعد الثورة، والذي نشأ أصلاً عن الخلل العميق في علاقة المؤسسات الرقابية وأجهزة المحاسبة على عمل الإدارة العامة التي خضعت بالتدريج منذ بداية السبعينات للسلطة الأمنية ولحسابات الطغمة المتحكمة بكل شيء والتي قنونت هذا الخضوع بجملة من القوانين وفي الدستور، وفي النهاية لتكرس التجاوز على القانون ولتصبح آلة إنتاج فساد ضمن الماكينة الضخمة لبيروقراطية الدولة، ومن خلال عمل الآليتين السابقتين تولدت آلية “دفاعية” اجتماعية عامة- قد تكون أخطر من مسبباتها- تعمل في كل مفاصل الحياة العامة، وتعنى بتدبر المشاكل من أكبرها إلى أصغرها عبر آلية الرشوة والوساطة والمحسوبية وبالمحصلة تولدت آلية اجتماعية معيبة في تدبير العلاقة بين المواطنين والدولة. وليس من المستغرب لأي مواطن سوري أن يضع في جيبه مبلغ الرشوة ورسالة توصية ورقم تلفون أحد رجال الأمن قبل أن يتوجه إلى مقصده في إحدى دوائر الدولة، على الرغم من أن معاملته صحيحة مائة بالمائة.
هذه الحلقة المعيبة لا يمكن كسرها والخروج منها بألعاب الحاوي والأفعى ولا بقرارات إدارية ولا حتى بحملات أمنية ضد “الفاسدين”، فالفاسدون صاروا “ملح الأرض”؛ أي صاروا الأكثرية الساحقة في الإدارة العامة وفي القضاء وفي التعليم وفي كل مجالات الأعمال والخدمات العامة والخاصة. هذه الحلقة المَعيبة لا يمكن كسرها إلا بكسر مولدها ومغذيها، أي السلطة السياسية الحاكمة، وبكسر هذه السلطة لا بد من تأسيس شرعية حقيقية هذه المرة؛ شرعية لا تقوم على القهر والفساد، بل تستند إلى أوسع قاعدة اجتماعية ورأي عام مولدة للقرار التشريعي والمستند إلى مجلس تشريعي مُنتخَب وبالتالي المولدة للقرار السياسي الذي يتمتع بكل مقومات “بناء الدولة” المنتجة للتشريع والقانون والتي تضبط أداء القوة التنفيذية من خلال أجهزة الرقابة وتقويم الأداء.
– توقعات:
بعد عقد من الصراع العنيف على السلطة وما خلفه هذا الصراع من دمار، يبدو من المستحيل القضاء على الفساد ببقاء مولده؛ السلطة السياسية المهيمنة على أجهزة الدولة وعلى السلطة التشريعية وعلى السلطة القضائية، والتي تستبيح جميع مناحي الدولة وحتى الحياة الخاصة للناس. ومن المفيد أيضاً الإشارة إلى الطرف المقابل- المعارضة الإسلامية بشقيها السياسي والعسكري- وملاحظة إصابتها بعدوى الإخضاع واستباحة حياة الناس الخاصة والعامة وإخضاعها لمنظومة دينية منافية لكل مقاييس الدول والقوانين العصرية ولكل ما هو ديمقراطي. من هنا يبدو أن الدرس السوري قد يستغرق وقتاً أطول إذا استمر الطغيان في السيطرة من خلال السلطة- الطغمة أو من خلال الإسلام السياسي والمسلح.
وباعتبار أن المجتمع الدولي قد قال “لاءه” بأعلى الصوت للطغيان- بشكليه الإسلامي والسلطوي- في سوريا، فقد يكون من دواعي التفاؤل أن نهيئ الأرض لقيام منظومة حوكمة جديدة تنقل سوريا من فضاء القمع والجوع والقتل والتهجير والفساد المعمم إلى فضاء الحرية والكرامة والعدالة.
تيار مواطنة
المكتب الإعلامي 26 أيار/ مايو 2020