قانون قيصر وأخلاق السياسة
تعتمد فلسفة العقوبات الاقتصادية بالعموم، على إجراء تعويضي، لانعدام الإرادة في الانخراط السياسي والعسكري المباشر بالتعامل مع الأطراف أو الدول المستهدفة، وذلك بغية الضغط الاقتصادي، لإضعاف ومعاقبة الأنظمة السياسية “التي عادة لا تنصاع إلى القانون الدولي أو تمارس انتهاكات إنسانية، كجرائم الحرب مثلاً، أو تشكل خطراً على الأمن والسلم الدوليين” وذلك، إما لإجبارها على تغيير سياستها والانخراط من جديد في سياسات منسجمة مع المعايير والقوانين الدولية ذات الصلة، أو المساهمة “مع عوامل أخرى” في اسقاطها، والدفع باتجاه تكوين أنظمة حكم تراعي بالمجمل الأسباب التي فرضت من أجلها تلك العقوبات. و بهذا المعنى يمكن ان ندرج العقوبات الاقتصادية أو قانون حماية المدنيين وما اصطلح على تسميته قانون قيصر على النظام السوري، وذلك للضغط على النظام السوري وحلفائه، بهدف معلن وكما كرره أكثر من مسؤول أمريكي، هو تغيير سلوك النظام و إجباره على الانخراط في العملية السياسية، وفق قرار مجلس الأمن الدولي 2254 والقرارات ذات الصلة.
تعتبر العقوبات الاقتصادية وآليات تطبيقها، والمتعلقة بقانون قيصر، غير مسبوقة في تاريخ العقوبات، وكما يبدو هذه المرة أنها قاسية جداً، باستهدافها ليس فقط أركان النظام وشبكاته، والأسماء الجديدة التي أضيفت حديثاً على أسماء شُمِلت بعقوبات سابقة، وقطاعات الطيران العسكري والبنى التحتية، لا بل كذلك البنك المركزي، المتهم بتبيض الأموال، والأهم من هذا كله، الاطراف الخارجية أفرادً، وجماعات، أو دول تتعامل مع مؤسسات النظام بمجال تطوير الصناعات العسكرية، أو إعادة الإعمار، وهذا يستهدف بالضرورة حلفاء النظام وبالتحديد روسيا وإيران والميلشيات التابعة لها، فهي عرضة للمزيد من العقوبات في حال تعاونت معه اقتصادياً وعسكرياً. وأكثر من هذا، فإن دول الجوار كذلك هي تحت المجهر الأمريكي، بغية الحيلولة دون الالتفاف والتحايل على العقوبات المفروضة، وهذا ما سيؤدي إلى التأثير الفعّال على الأنشطة المالية والاقتصادية، مما سيفاقم من أزمة النظام، التي ستؤول في نهاية المطاف إلى تجفيف مصادر تمويل آلته العسكرية والأمنية. بطبيعة الحال ومع الأسف الشديد، هذا سيؤدي أيضاً إلى إصابة المجتمع السوري “المنهك اصلاً من سنوات الصراع الطويلة” بأضرار إضافية. وكما هو معلوم فإنه مع أي عقوبات تفرض على الدول، هناك بالضرورة ضررٌ سيصيب المجتمع، وبالأخص الفئات الأكثر فقراً، حيث ستعاني من الآثار غير المباشرة لتلك العقوبات.
مع دخول قانون قيصر في 17 من يونيو/ حزيران الماضي حيز التنفيذ، وبما تضمنه من عقوبات اقتصادية على النظام السوري وحلفائه، وفي الوقت التي شهدت فيه الليرة السورية تراجعاً غير مسبوق في قيمتها مقابل الدولار الأميركي، تزامناً مع الارتفاع الحاد في أسعار السلع والمواد الأساسية، ونقص الأدوية و السلع وفقدانهما من السوق السورية، كل ذلك نتيجة ليس فقط لحالة الترقب والخوف من مستقبل الليرة بعد تفعيل العقوبات، وانما أيضا لما وصل إليه حال الاقتصاد السوري من انهيار، بعد أكثر من تسع سنوات من الصراع الدامي في سوريا، دون أن نغفل دور السلطة الطغمة المستبدة القابعة في دمشق منذ أكثر من خمسة عقود، والذي يعود لها الدور الأساس في سياسة الإفقار والإذلال التي اعتمدتها ضد المجتمع.
بطبيعة الحال، وكما هو متوقع مع مرور الوقت سيفاقم القانون من معاناة المواطن السوري، ليس فقط في مناطق سيطرة النظام، وإنما في مختلف مناطق النفوذ والسيطرة. ويحاول النظام، كعادته، استغلال القانون، وما يحمله من عقوبات، للتهرب من مسؤولياته لما آلت إليه أوضاع البلاد والعباد من أزمة اقتصادية خانقة لامست حدود المجاعة الحقيقية، وتوظيفها في خدمة بروباغاندا “المقاومة والصمود في وجه المؤامرة الكونية”. كذلك وبنفس السياق برز أيضا انقسام داخل صفوف المعارضة السورية، حيث عبّرت شخصيات مهمة من المعارضة عن مخاوفها وقلقها بشأن قانون قيصر، منطلقين من موقف قيمي وأخلاقي تجاه زيادة معاناة المواطن السوري المنهك أصلاً، حيث بلغت نسبة من هم تحت خط الفقر بين السوريين الـ 85%، ودون ان يمس هذا النظام بشكل ملموس حتى الآن، سواءً على صعيد المؤسسات أو الأفراد.
وفي هذا السياق، يتم تقديم الاعتراض على القانون بوصفه “مشكلة أخلاقية”، مطلوب الوقوف عندها، وهو موقف لا يمكننا إلا احترامه من جانبه العاطفي، وباعتباره جزءاً من الجدل الفلسفي الطويل بين السياسة والأخلاق. وحيث أننا في تيار مواطنة طالما ربطنا السياسة بالأخلاق، وعبرنا عن ضرورة ترابطهما؛ وعلى اعتبار أننا أيدنا -ومن مبدأ أخلاقي أيضاً- قانون قيصر، ولكي لا يبدو المؤيد للقانون بصورة توحي بعدم الإحساس بالمسؤولية، وكأنه لا يكترث لمعاناة المواطن السوري في الداخل جرّاء تلك العقوبات، لذلك نرى التالي لوضع الأمور في نصابها.
في البداية لابد من لحظ مؤشرات الاقتصاد السوري الحاليّة، قبل تطبيق القانون، ومستوى معيشة المواطن السوري في ظل هذا الاقتصاد، وصولاً إلى معرفة ما إذا كان تطبيق القانون يمثل “معضلة أخلاقية” فعلاً؟ ففي أحدث الدراسات حول الأثر الاقتصادي للصراع الدائر في سورية منذ عشرة أعوام؛ بلغ حجم خسائر الاقتصاد السوري مئات مليارات الدولارات، مع نسبة دمار في البنية التحتية تصل إلى 40 %، كما بلغت نسبة البطالة أرقاماً خيالية، و بلغت نسبة من هم تحت خط الفقر بين السوريين في الداخل الى 85%.
إذاً، نحن نتحدّث عن اقتصاد سوري مُنهار فعلياً قبل تطبيق العقوبات. وإن كان الانهيار الحالي في سعر الصرف ما هو إلا حلقة في سلسلة بدأت مع أزمة المصارف اللبنانية، والتي قيدت حجم السحب من القطع الأجنبي لزبائنها، ومنهم السوريين الذين تبلغ ودائعهم في المصارف اللبنانية 45 مليار دولار. ولا يغيب عن أذهاننا كذلك سبب رئيسي في مفاقمة الأزمة هو الصراع داخل النظام السوري، بين بشار الأسد ورامي مخلوف وغيره من رجال الأعمال، وليأتي بعدها تفعيل العقوبات الاقتصادية، كحلقة أخيرة في سلسلة تدهور الاقتصاد وهبوط الليرة السورية.
إذاً، لم يساهم القانون بشكل مباشر في تراجع سعر صرف الليرة السورية وارتفاع الأسعار، وإنما طول مدة الحرب وفساد نظام الأسد وداعميه من تجار ورجال أعمال هم من تقع عليهم المسؤولية المباشرة عما حدث لليرة من انهيار.
وبالنسبة للعقوبات المتعلقة بعملية إعادة الإعمار؛ فإنها لن تأثر بشكل مباشر على المواطن، ولكنها بالتأكيد، ستؤثر بشكل مباشر على النظام وداعميه؛ لأن عملية إعادة الاعمار، وفقاً لتصور النظام وحلفائه، تهدف إلى القفز فوق الحل السياسي، وتعويم النظام وتدعيم انتصاره العسكري بشكل سياسي واقتصادي، إضافة إلى مكافأة مجرميه وداعميه من حيتان الأقتصاد، بفتح مجالات للاستثمار في مشاريع ومدن سكنية فاخرة، لا يحلم المواطن السوري العادي، حتى بالمرور قربها، فضلاً عن السكن فيها.
بالتالي، المعضلة الأخلاقية ليست في أثر عقوبات “قانون قيصر” على المواطن السوري، وإنما في طريقة تعاطي أصحاب الموقف العاطفي المعارض للقانون مع هذا القانون، فهم ينظرون إلى زاوية خاصة بالعقوبات فقط، ومن سيطالهم أثر تلك العقوبات من السوريين، في حين يتناسون جوهر القانون وأسباب صدوره، والأهم من ذلك شروط تجميده وإيقاف العمل به.
وهنا السؤال لأصحاب الموقف الأخلاقي: ماذا نقول لـ 13 مليون نازح داخلي وخارجي من السوريين وحقهم بأن يعودوا إلى منازلهم بأمان؟ هل وقفنا على حالات القهر والذل وحجم الآلام التي يعيشونها هناك؟ هل عالجنا حالات الانتحار وحرق الآباء والأمهات لأنفسهم، نتيجة العجز عن تأمين لقمة الخبز للأبناء؟ ماذا عن مئات ألاف المعتقلين في سجون النظام؛ أما آن لهم أن يرتاحوا من جحيم معتقلات الطاغية؟ هل يمكن لنا أن نتخيل حجم الألم غير المسبوق في التاريخ -وغير القابل للوصف- لأب أو لأم ثكلى تفتش عن صورة ابن قد يكون قضى تحت التعذيب في معتقلات الاسد؟ وهل يمكن لأحدنا أن يتخيل ذلك الجحيم الذي صنعه طاغية دمشق لدى السوريين؟ أليس من حق ما تبقى من مناطق خارجة عن سيطرة النظام أن تعيش بأمان بعيداً عن قصف طائرات الأسد وسلاحه الكيميائي؟ والسؤال الأكثر أهمية: ما البديل عن قانون قيصر للضغط على النظام و الدول الداعمة له للانخراط بجدية في العملية السياسية؟
وفي الختام لا بد من التنويه إلى الشروط التي حدّدها القانون لتجميد العقوبات، حيث تعتبر أيضاً بوصلة حقيقية لأي موقف أخلاقي.
حتى وإن كنا نعتقد بأن العقوبات لم تسقط نظاماً ديكتاتورياً في الماضي -على الرغم أنها فعلت كما هو الحال في نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا “الأبارتيد” حيث كان للعقوبات الغربية الدور الكبير في إسقاطه- وإن لم يكن الدور الوحيد، حيث ساهم مع نضالات شعوب جنوب أفريقيا وعلى رأسهم الزعيم “نيلسون مانديلا” الذي لم يضيّع البوصلة أبداً، فلم يترك مناسبة إلا وحضّ فيها الدول المعنية على فرض عقوبات اقتصادية على نظام الأبارتيد آنذاك.
قد لا تسقط العقوبات نظام الأسد اليوم، ولكن يبقى قانون قيصر الخطوة الأكثر جدّية من قبل الولايات المتحدة للضغط على النظام عبر البوابة الاقتصادية. ومن دونه، سيستمر هذا النظام وستستمر معه معاناة السوريين، ولن يكون أمامنا سوى التباكي واتهام المجتمع الدولي بالتخاذل وترك السوريين لقمة سائغة بين أنياب الضباع.
تيار مواطنة- المكتب الإعلامي
١ تموز/ يوليو 2020