معضلة تداخل الإسلام والسياسة ،، الجذور والواقع والتطلعات
أصَّلَ “الشافعي” … فقه السلطة … أخذ عنه ابو حامد الغزالي هذا الفقه وأقره وأصَّلَه .. لمعاداة العقل النقدي والفلسفة والتفكير والعلوم الحديثة كالرياضيات والفلك والجيولوجيا .
فأمسينا أمام نسخة من الإسلام .. خانعة للسلطة، مضادة للنقد والتطوُّر.. ومع مرور الوقت أصبحت هذه النسخة هي النسخة الرائجة والمعتمدة لدى المسلمين.. بل أصبحت الإسلام ذاته .
ومن هذه القاعدة انطلقت التفرعات دون أن تبتعد عن الأصل:
– فرعٌ كان رائده “عبد القادر الجيلاني” أقر ما أقره الشافعي وأبو حامد وروج بأن النجاة مرهونة بالتصوف والاعتزال والدروشة والجد في العبادات.
– وفرعٌ كان رائده النميري “أحمد ابن تيمية” .. كانت صبغته الاساسية تختزل في ثلاث مزايا :
+ التشدد والتعصب
+ استسهال تكفير المخالف
+ عدم الاكتفاء بالخنوع الشعبي الذي كرسته الشافعية لا وبل تسخير الشعب لخدمة السلطة كما يسميهم فقهاء الإسلام (العامة) .
،،وجد العثمانيون في الفرع الأول ضالتهم .. فروّجوا للتّصوف والزوايا والتكايا .. وورثت الجمهوريات العربية عن العثمانيين دعماً للتوجه الصوفي وافسحت له مالم تفسح لغيره من حرية التحرك والدعوة والاجتماع, كما وجدت الدول التي قامت على أرومة الدين وتحت رايته كالسعودية مثلاً في الفرع الثاني الذي تبنى فكره وطور أدواته الشيخ “محمد بن عبد الوهاب” الأب الروحي للمملكة ومن بعده ابن باز وابن عثيمين.. ضالتهم ومنشودهم .
إن كل ما كنا نراه من سجالاتٍ وصراعاتٍ بين الصوفية والسلفية لعقود ما هو الا صراع دولٍ بالوكالة .. يحمل واجهةً دينيةً.
.. كان ذلك -شئنا أم أبينا, علمنا أم جهلنا- ترويجاً لشكلٍ من أشكال السلطة على حساب شكل آخر.
في خضم هذه المعمعة الثنائية لقطبين او فرعين من أصل واحد وفي أواخر أيام الدولة العثمانية الجسد السياسي الاكبر المسلمين وما تلى ذلك …
ظهر تيارين ثوريين في الإسلام كفرا بالخنوع للسلطة وأوجد كل منهما قرآءة جديدة للفقه والتراث والمجتمع:
– الأول تنويري انفتاحي حداثي كان من رواده شي جيفارا الإسلام “جمال الدين الأفغاني” والشيخ “محمد عبده” و لم يلقى هذا التيار رواجا لدى السلطات ولا لدى الطبقة الدينية التقليدية الحليفة للسلطة والمسيطرة شعبيا .. فبقيت افكار هذا التيار في حلقة ضيقة من المطلعين والاكادميين والباحثين.
-الثاني عنيفٌ متطرفٌ إقصائي ومنغلق ومحدود راده إثنان من العمالقة “أبو الأعلى المودوي” و”سيد قطب” .. فقامت على أفكارهما بشكل أساسي الجماعات الايديلوجية الاسلامية الرادكالية الأم كالجماعة الاسلامية، الاخوان المسلمين ثم تفرعت منهما فيما بعد جماعات أكثر تطرفاً وراديكالية كالقاعدة وداعش وابو سياف وبوكو حرام.
لاقى هذا التيار منذ ظهوره حتى هذه اللحظة عداءً شرساً من الانظمة والسلطات ونجحت الأخيرة في القضاء جزئياً عليه .
لتعود تدريجياً الى الواجهة .. دعوات الترويج السلطوية الداعمة للمدرستين التقليديتين الأساسيتين التي تحدثت عنهما في البداية:
– الأشعرية الصوفية
– الاصولية السلفية
في خضم الثورات التي اجتاحت العالم العربي قفز السجال بينهما الى الواجهة ووجد الاخوان ومن تفرخ عنهم من قاعدة وداعش موضع قدم في تلك الثورات فأخذ الثلاثة تلك الثورات الى جحيمٍ حقيقي.
وعى التونسيون ذلك باكراً فنجحت ثورتهم وبلادهم .. ولم يقع الحراك الثوري في السودان في فخ اقحام الدين في الثورة فنالوا حراكاً ثورياً نظيفاً (وان كانت النتائج الحالية في السودان غير مرضية).
فهل سعى كلاهما (السودانيون والتونسيون) الى تغيير المنظومة الدينية أو تنقية التراث او فلترة الاحاديث وكتب السيرة؟ .. اطلاقاً!
هل طالبا طبقة رجال الدين في بلديهما بالانحياز الى الثورة وأهدافها؟ .. أبداً!
هل وجدت الأحزاب الاسلامية حيزاً كبيراً في الساح الثوري هناك مما خلق تغولاً على الثورة ذاتها ؟… نهائيا!
لقد وصل الوعي الثوري والاجتماعي الشعبي أضف اليهما وجود نخبة سياسية ثقافية حقيقية في كل من البلدين الى الحل الأمثل في ما يخص تعاطيها مع المنظومة الدينية، الايديلوجيا الدينية، والدين نفسه الى ابقائه في المسجد وفي المسجد فقط. دون تضييع الوقت والجهد والاعصاب على اصلاح الدين -ان صح التعبير-… ناهيكم الاحجام عن زجه في ثورة ودولة ومؤسسات, على خطى أم الثورات (الثورة الفرنسية) التي قامت لتحجيم دور الكنيسة وحصرها في الاطار التعبدي والروحاني واقصائها من الدولة ومؤسساتها لا لتغيير الكاثولوكية ذاتها!
والنتيجة .. دولة مؤسسات علمانية ديموقراطية للجميع ومؤسسة كاثوليكية معتدلة منعزلة عن السياسة .. قدمت فيما بعد اعتذارات عن كل الجرائم والخروقات والتجاوزات والتدخلات والادبيات العدوانية العنيفة التي تمت باسم الدين. فكسب الفرنسيون الاثنين معاً: الدولة والكنيسة.
وهذا ما نريده تماماً في سوريا.. فحتى وان جاء هذا الكلام (بعد خراب مالطا) كما يقول المثل، الا أن املنا بأن تنضج طرق تعاطينا مع منظومة الإسلام في مرحلة ما بعد الأسد، هو ما تعقد عليه الأماني لبناء دولة مدنية مؤسساتية علمانية ديموقراطية حديثة.. وبقاء منظومة الدين محصورة في دور العبادة… ثمرة هذا التناغم الصحي المستقبلية هي منظومة دينية نقية بلا دسائس ولا فتاوى ولا تدخلات من السلطة تليق بالقداسة التي يكنها المسلمون لدينهم وعبادتهم وشعائرهم.
أسد القصار
9/7/2020
الآراء الواردة بالمقال تعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة أن تعبر عن رأي الموقع