حول خطاب الكراهية ومسؤولية المثقفات والمثقفين السوريين
لا يمكن لاثنين يتمتعان بالوعي والمعرفة أن يختلفا على توصيف الكراهية وآثارها الاجتماعية والوطنية والإنسانية، وما يترتب عليها من الخراب والتنافر وانعدام الثقة بين أبناء البلد الواحد.
ومن أجل الوقوف على الأسباب التي تحيل إلى خطاب الكراهية والتشظي في المجتمع السوري، لابد من استعراض مقتضبٍ لتاريخ المنطقة:
المرحلة البعيدة:
إن الصراعات على اختلاف أنواعها الدينية والقومية والطائفية والمذهبية ليست طارئة في المنطقة ولها جذورها العميقة ، وما تزال حاضرة بشكل أو بآخر كمرويات متوارثة، لم تسنح الفرصة إلى الآن للتخلص منه ومن آثاره.
المرحلة القريبة
على الرغم من الفترة القصيرة التي شهدتها سوريا من الانفتاح والتحرر الاجتماعي والسياسي والثقافي في خمسينيات القرن الماضي، إلا أن وصول البعث إلى السلطة مطلع ستينيات القرن الماضي، وفي ظل حكمه الاستبدادي الطويل، وممارساته للتأبيد في السلطة كانت كفيلة بإجهاض ذلك الانفتاح وقتل كل أنواع الحريات والحركات النهضوية في المجتمع السوري ، وبدلا من أن يطفئ هذه الصراعات- الطائفية، القومية- ويحد منها، أدّى إلى مفاقمتها وتكريسها داخل المجتمع السوري .
المرحلة الأقرب
الحرب السورية الدائرة منذ تسع سنوات، ولطول سنوات الصراع من جهة، ومن جهة أخرى التدخلات الإقليمية وانقسام السوريين حولها، وانقسامهم فيما بينهم، ومع انفتاح دمامل الأحقاد القديمة يغدو من الطبيعي أن نرى نار الكراهية القديمة تستعر بقوة أكبر، و بعض الذين كانوا يتمتعون بالموضوعية والتوازن ينزاحون عن هذه الموضوعية، ولاسيما مع ثورة التكنولوجيا وفضائها المفتوح بلا رقابة الأمر الذي يبيح للأفراد التعبير عن الأفكار الطارئة والمشاعر البغيضة بعيدا عن المسؤولية والمساءلة الذاتية حول صوابية ما يقال وتأثيره على الآخرين .
وبناء على الأسباب السابقة، يمكننا القول : إن الانقسام العمودي في المجتمع السوري، العربي – الكردي، السني- العلوي- الدرزي- المسيحي، إلخ، فإننا نستطيع أن نتفهّم – هذا الانقسام – لدى المثقفين والمثقفات بدرجة ما، وإذا ما نظرنا إلى الحالة العامة لهذه المكونات كلها وجدنا خطابها واحدا وحالها واحدا فلا فرق بين مكوّن وآخر من حيث خطاب الكراهية والاتهامات والرفض ونكران حقوق الآخر المختلف، واعتبار نفسه صاحب الحق أو صاحب المظلومية ، وإذا كان الحال العام واحدا فمن المؤكد أن السبب عام ، وهو الاستبداد والتخلف ، ولهذا مهما تكن الأفكار عن الحقوق والحريات والعدالة والمواطنة قيّمة وعظيمة وملهمة فإنها تصطدم بهذين الحاجزين -الاستبداد والتخلف – اللذين يعززان الخوف من الآخر المختلف، فتأتي على خطاب متخلف من جهة ومليء بالكراهية من جهة أخرى ، ومن المؤكد أن الممارسات الوحشية التي مارستها كل أطراف الصراع المسلح في سوريا سواء أكانت ذات صبغة طائفية أم قومية ، فقد عززت تمسك المكونات بهوياتها الضيقة على حساب المصلحة العامة، و في هذا الوقت الذي ينبغي أن يكون فيه دور المثقفين / المثقفات هو مواجهة هذا الانقسام والتحلي بأعلى درجات الموضوعية والمراقبة الذاتية – ولو كان أهلهم جزءا من مجموعة يتم استهدافها أو الإساءة الوحشية لها، وهو ليس بالأمر الهيّن- في هذا الوقت نجد بعضهم غارقين في دوامة الانتماء الضيق بعضهم كفعل وبعضهم كرد فعل .
وعلى الرغم من تفهمنا لكل الأسباب التاريخية البعيدة والقريبة والأقرب، إلا أننا نرفض بشكل قطعي ما تقوم به بعض المجاميع الثقافية والسياسية والاجتماعية والإعلامية والمثقفون والمثقفات بوصفهم أفرادا بالمشاركة في نشر خطاب الكراهية وتبريره، والمساهمة في إذكاء روح الانقسام بين السوريين.
أما عن السؤال: ما السبيل للحد من خطاب الكراهية الدائر على صفحات التواصل الاجتماعي؟ وكيف يمكن أن نعمل معا لحل هذه المسألة المفتاحية؟
بالتأكيد إن الاستنكار والإدانة لا تكفي للحد من خطاب الكراهية، وليست بذي الأثر البليغ، ولاسيما في ظل شعبية وسائل التواصل الاجتماعي وفضائها الواسع، ولأن خطاب الكراهية يخاطب العواطف ويستند إلى المظلومية أكثر مما يستند إلى المنطق والنقد والموضوعية، فمؤكد أنه سيجد له بيئته الحاضنة التي تستلزم خطوات جدية ومنطقية لمواجهته.
ومسؤولية مواجهة خطاب الكراهية تقع على عاتق الجميع، المثقفين والمثقفات والسياسيين والسياسيات، والنشطاء والناشطات، والمؤسسات الثقافية والتعليمية والإعلامية ومنظمات المجتمع المدني والقوى السياسية دون استثناء ، ولا يمكن لهذه المؤسسات كلها أن تقوم بإدارة رقابة حقيقية ضد خطاب الكراهية إلا إذا كانت -هذه الرقابة- جزءا من سياساتها ونظمها وأسسها المنهجية.
وإذا كان الخطاب الثقافي يبحث فيما هو نظري، فإن مهمة السياسي البحث بإمكانيات التحقق والتطبيق، ومن حيث الوسائل ثمة إمكانية كبيرة للحديث عن الوسائل ولكنّ جزءا منها يظل نظريا والعمل على التطبيق ينبغي أن يكون أساسيا.
ومن هذه الوسائل:
1- الاعتراف التام بالظاهرة وأبعادها التاريخية والراهنة.
2- إعادة إبراز الخلفية الإنسانية المشتركة على قاعدة المثل والقيم العليا التي وصل إليها التاريخ البشري والتي انعكس جزء منها في مواثيق الأمم المتحدة وعهودها الثلاثة.
3- تعزيز الأدبيات الفكرية والسياسية التي تتناول خطاب الكراهية.
4- الندوات : الإكثار من الندوات حول موضوع الكراهية، حيث يمكنها معالجة القضايا الفكرية، والقضايا التاريخية والراهنة والنتائج التي تترتب على الحرب لدى كل الشعوب بما فيها الشعوب الحضارية.
5- المجتمع المدني، حيث يمكنه أن يبني جسرا فوق الهوة العميقة التي تُستَقطب بشكل حاد الأطراف حولها.
6- المؤتمرات، والتي يمكنها أن تجمع أطرافا متعددة ومتنوعة ومتناقضة، للبحث في إمكانية بناء الثقة ومواجهة خطاب الكراهية للتأسيس للمستقبل.
7- البرامج السياسية العامة والشاملة التي تقوم على أسس المواطنة المتساوية واحترام الحريات وحقوق كل المكونات .
8- الدستور الذي يشكل اللبنة الأساسية للمستقبل، سواء أكانا دستورا انتقاليا، أم أساسيا، أو مجرد مادة نظرية، حيث يجب أن يستند على حقوق الانسان بصفتها الأساس الذي يمكن أن يؤدي إلى بناء المواطنة المتساوية بالمطلق بين كل المكونات وبين المرأة والرجل.
وبالتأكيد كل ما ذكرناه سابقا عن الوسائل والحلول، يظل جزءا قليلا، كما انه يحتاج إلى زمن طويل ليتحقق ويطبّق، كما يستلزم الجهود الكبيرة والعمل الطويل الدؤوب.
في الختام نحن نعتقد أن علاج خطاب الكراهية الحقيقي لن يكون إلا بالوصول إلى حل سياسي يوقف الحرب ، والبدء بعملية عدالة انتقالية ومحاسبة المجرمين وتسهيل عملية السلام وتعزيز الحل الدائم للصراعات وإقامة أساس لمعالجة الأسباب الكامنة وراء التهميش والصراع، ودفع قضية المصالحة المجتمعية والوطنية على قاعدة الاعتراف بالحقيقة وجبر الضرر، والاعتذار عن الجرائم والانتهاكات المرتكبة ، وضمان أن النساء والمجموعات المهمشة تلعب دورا فعالا في السعي لتحقيق مجتمع عادل، ولكن ريثما يحصل ذلك ، ينبغي علينا بوصفنا سياسيين وسياسيات ، مثقفين ومثقفات أفرادا ومؤسسات أن نلتزم بمراقبة الذات والتحلي بالقدر الضروري من الموضوعية للعبور إلى سوريا المستقبل الحرة ، سوريا التي للجميع.
تيار مواطنة
المكتب الإعلامي 15 تموز/ يوليو 2020
احمد حمدان
كلام جميل لكن يحتاج إلى سلطة لتطبيقه و الا سيبقى الحال على ما هو عليه