مزيج الانفجار… وثغرة في جدار
في الفاتح من سبتمبر/ايلول عام 1920 أعلن الجنرال غورو قيام دولة لبنان الكبير، من متصرفية جبل لبنان كما كانت في الأيام العثمانية، مع بعض أجزاء من سوريا، أو الولايات التي كانت هناك. سيعود الرئيس الفرنسي ماكرون إلى بيروت في ذلك التاريخ، مع ذكرى مرور قرن على ذلك اليوم.
بعد عام واحد من ذلك الحدث، وفي سبتمبر أيضاً، حدث انفجار هائل في مدينة أوباو الألمانية، سُمع في ميونيخ على بعد 300 كيلومتر، ودمَّر معمل «باسف» للكيميائيات مع المدينة، نتج عنه 580 قتيلاً وآلاف عدة من الجرحى. طارت أسقف البيوت على قطر 25 كيلومترا حول حفرة الانفجار. كان السبب هو انفجار 4500 طن من نترات الأمونيوم وسلفات الأمونيوم.
منذ أيام، في الرابع من أغسطس/ آب، حدث انفجاران، كان ثانيهما شبيهاً بانفجار نووي صغير سُمع في قبرص، لمستودع يحوي على 2750 طنا من نترات الأمونيوم في مرفأ بيروت، دمّر المرفأ، وقسماً كبيراً من المدينة.
في شهر أغسطس/ آب أيضاً، من عام 2015، حدثت انفجارات هائلة في ميناء تيانجين الصيني، الثالث من حيث الاستيعاب التجاري في العالم. وانطلق الانفجار الكبير– الذي كان على شكل الفطر– لمئات الأطنان من نترات الأمونيوم – أيضاً– من انفجار أصغر لكمية 27 طنا من النيتروسليلوز. تم اعتقال 49 شخصاً من العاملين واتهام 123 آخرين بالتسبب بالكارثة. الأكثر أهمية كان مقتل 173 شخصاً من بينهم 99 رجل إطفاء.
هنالك مزيج خاص ونسبة لازمة وشروط معينة للانفجار، بين نترات الأمونيوم مثلاً وانفجار لصاعق قريب أو ملاصق. ويبدو أن هذا المزيج يتألف بشرياً من مقاسات من الجهل والإهمال والفساد، على الأقل. ولكن، يصبح هذا المزيج فظيع الخطورة والإمكانية حين تكون هنالك أشباح جريمة تجوس المنطقة في الظلام، وسيكون ذلك حتمياً إن كانت تجوس المنطقة في وضح النهار.
المكوِّن الرئيس في هذا المزيج المتفجر ليس نترات الأمونيوم، بل حزب الله. وكان قد ظهر ذلك جلياً – الآن – منذ بدايات تأسيسه وتصفيته للقادة اليساريين تحضيراً لتأسيسه، ثم في تصفيته لجبهة المقاومة الوطنية اللبنانية التي تأسست في بيروت المحتلة عام 1982، ثم في استعراضه العسكري الفاقع الألوان والدلالات منذ «عيد المقاومة والتحرير» الأول، يوم انسحب الإسرائيليون من الجنوب فاعتبر الحزب وخلفه إيران أنهما امتلكا لبنان بحق الغلبة؛ وأخيراً في استعراض الحزب العسكري في القصير السورية على حدود لبنان يوم الثالث عشر من تشرين الثاني/نوفمبر 2016، بعد انتخاب ميشيل عون بأيام، وقبل عرض عيد الاستقلال وقتها بأيام، بمدرعات ومدفعية وسطوة وجبروت يكرّس هيمنة الوليّ الفقيه، الذي افتخر نصرالله مراراً بعضويته في «حزبه». ومنذ الاستعراض الأول؛ الذي قال نصرالله في خطابه فيه إن الانتصار ليس انتصاراً لطائفة على غيرها؛ فاحت رائحة المزيج المذكور، رائحة الموت والطغيان.
ولكن ذلك المكون لم يكن ليصنع انفجاراً لو لم تتحد معه عناصر أخرى أكبرها ميشيل عون ومن حوله، في عقد الذلّ الذي جاء به رئيساً، وضمن لحزب الله سيطرته وسلطته. ففي ذلك العقد استمرّ حزب إيران يلعب لعبته في ظلّ الصمت الكبير، مستبيحا الحدود والمرافئ والمطارات والطرقات، ومهدداً بسابع من أيار/مايو جديد كلّما لاح شيء من التململ من هيمنته.
وليس ميشيل عون وحده، بل الجميع «كلّن» الذين اقتنعوا بحصصهم أو ما تُرك لهم منها، واقتنعوا بحكمة الصمت الذي هو من ذهب، وخصوصاً من دخل في تلك التسوية، صاغراً ومن تحت. وعلى نهج حافظ الأسد، نهج الترهيب والترغيب، التغلّب والغنيمة، كان صمت البنية السياسية اللبنانية على السطح تعبيراً بليغاً عن الفساد المستشري، الذي ذهب بثروة البلاد وقدراتها. رقم الفساد المتداول عن الكهرباء وحدها مرعب، يتعدى الخمسين ملياراً من الدولارات. الفساد إذن هو المكوّن التالي لخليط الانفجار، بالنسب المناسبة. «قابلية الاستعمار» هنا ليست خاصية اجتماعية تاريخية إيديولوجية، بل هي عجز نابع من شعور المشاركة في القسمة والفساد، تلك الحصة التي كان يتركها حزب الله لهؤلاء الساسة يفرك يديه مغتبطاً، بجرّ الجميع إلى الحفرة.
هنالك عطب في البنية أساساً، في الميثاق الوطني وتاريخه العملي، وفي الطائف أيضاً وتطبيقاته، وفي هشاشة البيروقراطية القائمة، على الرغم من وجود رصيد أصيل فيها طالما استطاع توريد خيره للعرب والأوروبيين، وعطب في الحدود الإقطاعية أو الإرهابية الموضوعة أمام سيادة القانون والقضاء المستقل، وفي قوة العادة واستحكامها، وفي الممانعة أمام أي استحقاق للتغيير.
ذلك ما يصنع الانفجار، سواء كان مفتعلاً ومقصوداً بذاته أو نتيجة لكل تلك العوامل. وذلك ما يجعل من حزب الله متهماً طبيعياً، مع شركاء كثر في تسهيل الجريمة مباشرة أو بالصمت عنها.
وربما هنالك فرصة الآن، إن كان العالم – الولايات المتحدة وفرنسا خصوصاً – جادا حتى النهاية في فرصة استرجاع لبنان بروحه القديمة وبنيته الحديثة، بعد أن فاضت فوضاه إرهاباً واسع الكم والنوع والعمق. يعتمد هذا بقوة على تصميم نرى بعض ملامحه الأولية على إنهاء دور حزب الله اللبناني، الذي جعل من البلد «جبهة أمامية لإيران في مواجهة البحر المتوسط، وجبهة خلفية في ظهر سوريا وشعبها» على حد تعبير السياسي اللبناني مروان حمادة. واستعارته لتعبير»مواجهة البحر المتوسط» بليغة جداً مع ذلك الانفجار الرهيب» في مواجهة البحر المتوسط» على رصيف ميناء بيروت الذي أعطاها ملامح وجهها وتركيبتها في التاريخ المعاصر.
ما خلا بعض الموتورين من أهل الخراب، كان ألم السوريين وحزنهم كبيرين أمام مشهد الانفجار. فرغم كلّ ما فعله حزب الله وقام عون وبري وغيرهما بتسهيله، نذكر نحن المطاردين القدامى من قبل النظام كيف كان تهريب جريدة النهار ينعشنا ويواسينا.
ربما كان ما حدث في بيروت من نوع ما حدث في سوريا، زلزالاً يعود باللبنانيين إلى شجاعتهم وشغفهم وتعلقهم بالحرية والتقدم، ابتدأ من المفهوم الساحر الذي تم إبداعه ونحته في السابع عشر من تشرين الأول/اكتوبر:»كلّن يعني كلّن» الذي لا نرجو شيئاً بمقدار أن يبقى الشباب متمسكاً به، لا يتركونه حتى تبتعد تلك القيادات» التاريخية» من الواجهة، و تلك الجديدة منها، التي بنت تراثاً مقيتاً مطابقاً بسرعة عجيبة، يوم استخدم ميشيل عون التيار الوطني الحر، التنظيم الذي كان واعداً ما بين 1995 و2005 وحوّله إلى مطية على الشكل القديم. وينطبق مثل ذلك على حزب كمال جنبلاط، وتلك إلا أمثلة لا تستثني أحداً حين يبدأ التعداد وتفقّد المسؤوليات، وتشير بقوة إلى سعد الحريري.
قد تستطيع انتخابات جديدة وحكومة حيادية فاعلة حقيقية ورقابة محكمة خارجية، وداخلية بروح الثورة والرفض، أن تنجو بلبنان إلى ضفة آمنة وتكون ولادة ثانية أكثر نضجاً بعد قرن من الولادة الأولى، وتمنحنا نحن جيرانه دفقة أمل بالتغيير.
وإن كان من الظلم اعتبار أي اغتيال وأي تفجير وأيّ عمل إرهابيّ يحدث في لبنان– وفي سوريا– من فعل قيادة حزب الله أو نتيجة لسياساتها، فهي قد أوصلت نفسها بنفسها إلى هذا الموقع، ومن لا يصدق ذلك عليه أن يستمع إلى خطاب السيد الأخير وتهديداته العارية.
لكن، يا رب استجب لدعاء سوري، وامنح القوة للبنانيين ليتمسكوا بتصميمهم على ألا يستثنوا أحداً!
موفق نيربية – القدس العربي
١٨-٨-٢٠٢٠
الآراء الواردة بالمقال تعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة أن تعبر عن رأي الموقع