أرمينيا، أذربيجان والصراع على ناغورني قره باخ
يعلمنا التاريخ أن الصراعات الدولية، أو تلك التي تنشأ داخليا، ولأسباب متعددة، سواء سياسية أو أقتصادية أو إثنية أو عرقية….الخ، هي صراعات متفجرة، ومستمرة دائماً، كما هو حال الصراع الفلسطيني الاسرائيلي، أو صراعات كامنة تهدأ حينا وما تلبث أن تشتعل من جديد كلما سنحت الفرصة لذلك، كحال الصراع الأرميني الأذري بسبب إقليم ناغورني قره باخ المتنازع عليه بين البلدين، ولا يمكن لتلك النزاعات أن تجد طريقها للحل مادامت الأسباب العميقة لجذر المشكلة باقية، ومن دون حل عادل يضمن حقوق الأطراف المتصارعة، وبصورة أدق يعطي الحقوق لأصحابها.
في الـ 27 من سبتمبر/ أيلول الماضي دخل الصراع الأرمني الأذري مرحلة جديدة من التصعيد بعد عقود طويلة من العنف وتعثر المفاوضات. فقد اندلعت المواجهات من جديد بين الطرفين حول إقليم ناغورني قره باخ. ويعتبر التصعيد الأخير هو الأسوأ منذ إعلان الهدنة لوقف إطلاق النار عام 1994.
اتسمت العلاقات بين البلدين منذ ذلك الحين بالتعايش غير المستقر والتوتر الدائم وذلك بسبب اندلاع مواجهات بين الطرفين من وقت لآخر. خلال عام 2016 قتل نحو 200 شخص في اشتباكات استمرت لأربعة أيام علاوة على ذلك تشير التقارير إلى وقوع نحو 300 حادثة اخرى وأكثر من 250 قتيلا وجريحا بين المدنيين والعسكريين منذ 2015.
ومن بين المحفزات التي أشعلت فتيل الحرب بين الطرفين يمكن أن نذكر مجموعة مسائل ليس أولها فشل المفاوضات التي توسطت فيها مجموعة “مينسك” التابعة لمنظمة الأمن والتعاون، وأيضا رغبة أذربيجان في استعادة السيطرة على جميع الأراضي التي خسرتها عام 1994 والمجاورة لإقليم قره باخ، ومن الأسباب الأخرى التي يمكن ذكرها والتي تشكل تحفيز إضافي لهذا الصراع هو الدعم التركي الصريح والمباشر لأذربيجان.
إقليم ناغورني قره باخ والأسباب التاريخية للصراع الأرمني الأذري:
ناغورني كلمة روسية تعني مرتفعات أو جبال، أما قره باخ فتعني الحديقة السوداء وتصبح الترجمة مرتفعات الحديقة السوداء. أما الأرمن يطلقون على الاقليم اسم “آرتساخ” وهي كلمة أرمنية مكونة من مقطعين “آرا” وتعني إله الشمس، و”تساخ” تعني كرمة أو غابة (غابة إله الشمس) .أما الأذر فيعرفونه باسم بوخاري قره باخ أو قرة باخ العليا.
يقع إقليم ناغورني قره باغ ضمن الحدود الجغرافية في أذربيجان وعاصمته ستبانا كيرت (نسبة للزعيم البلشفي الأرميني ستيبان شاهو ميان) ويقع الإقليم غرب العاصمة الأذرية باكو بحوالي 270كم ويبلغ مساحته 4800 كم2 ويقدر عدد سكانه ب 145 ألف نسمة، 95% منهم أرمن وال 5% الباقية من أعراق أخرى.
تختلف وجهات نظر المؤرخين والمهتمين بالصراع بين أرمينيا وأذربيجان “حيث يعد النزاع على إقليم ناغورني قره باخ من أبرز معالمه ” بكونه صراع عرقي، أو هو تنافس جيوبولتيكي لا يشمل الأرمن والأذربيجانيين وحدهم بل يتعداهم إلى الأتراك والروس والإيرانيين بصورة رئيسية، والأمريكان والأوروبيين بدرجة أقل، وذلك نظرا لموقع الإقليم كنقطة التقاء بين تركيا وإيران وروسيا، أو إنه استمرار لعداء تاريخي محمل بإرث كبير من الكراهية العرقية الدفين بين الأرمن وكل من الأذر والأتراك. إن روح العداء بين الأرمن والأذر في منطقة القوقاز قديمة ولها أسبابها العرقية والديني والتاريخية، وبالأخص إبان سيطرة الإمبراطورية العثمانية على تلك المنطقة قبل عدة قرون، لكن بوادر تفجر الصراع في إقليم ناغورني قره باخ تعود تحديداً إلى العشرينيات من القرن الماضي. ولفهم أبعاد الصراع يجدر القول بداية أن هذا الإقليم من الناحية الجغرافية يقع في قلب أذربيجان، ولكن من الناحية الديمغرافية تسكنه أغلبية أرمينية بنسبة 95 %. ويبدو أن السياسة التي اعتمدها الإتحاد السوفيتي سابقاً وبالأخص في المرحلة الستالينية والتي لم تراعي الحساسيات العرقية والطائفية وتعقيداتها، ولأن أذربيجان وأرمينيا كانتا جمهوريتين تابعتين للاتحاد السوفيتي فإن ستالين أقدم عام 1923 بعد مرض لينين، على ضم إقليم ناغورني قره باغ إداريا إلى جمهورية أرمينيا، رغم أنه يقع كما سبق القول في قلب أذربيجان. بقيت جذور المشكلة متقدة تحت الرماد يمنعها من الظهور قبضة المركز الحديدية في موسكو والخوف من رد الفعل السوفيتي القاسية. بدت الأمور هادئة على السطح ولكن نيران الغضب كانت تمور في الأعماق. وبعد أن بدأت قبضة المركز تتراخى على جمهوريات الاتحاد السوفيتي أثر سياسة البيريستوريكا والكلاسنوست التي انتهجها غورباتشوف والتي قادت في نهاية المطاف إلى تفكك الاتحاد السوفيتي وانفراط عقد الجمهوريات السوفيتية. ففي عام 1988 م وتحديدا في العشرين من فبراير/ شباط كان إقليم ناغورني قره باخ على أعتاب مرحلة مفصلية في تاريخه. في ذلك اليوم طلب المجلس السوفيتي القره باخي من موسكو الموافقة على انضمام الإقليم إلى أرمينيا، هنا سارع النواب الأذر الممثلين بالمجلس بالاعتراض فتوترت الأجواء وما لبث أن تحول إلى أعمال عنف سرعان ما تحولت لحرب أهلية سقط فيها مئات القتلى وآلاف الجرحى بين الطرفين. وفي عام 1989 اتخذ المجلس السوفيتي الأرمني قرارا بإعلان اتحاد قره باخ مع جمهورية أرمينيا.
في الخامس والعشرين من ديسمبر/ كانون الأول عام 1991 تفكك الإتحاد السوفيتي وانفراط عقد الجمهوريات، وفي أوائل عام 1992 أعلنت كل من أرمينيا وأذربيجان استقلالهما، وعلى الدرب نفسه فاجأ القادة السياسيين في إقليم ناغورني قره باخ العالم بإعلان استقلالهم وقيام جمهورية مستقلة عن أرمينيا وأذربيجان، حيث أعلنت أرمينيا من جهتها دعمها للقيادة السياسية الأرمنية في حين اعترضت أذربيجان واعتبرته تمرد وانفصال واتهمت أرمينيا بالوقوف وراء ما اعتبرته مسرحية مدبرة مع قادة الإقليم. وعلى أثر ذلك قام الأرمن بمد الإقليم بالمال والسلاح وهو ما نظرت إليه أذربيجان بأنه إعلان حرب، اندلع القتال بينهم بالفعل واستمرت الحرب طوال الفترة من 1992 وحتى التوصل لوقف إطلاق النار عام 1994.
سقط في تلك الحرب أكثر من 30 ألف قتيل كان جلهم من الجانب الأذري حيث خرجت أذربيجان من هذا الصراع منهزمة، فقد خسرت 6 مقاطعات إضافة الى الإقليم، وهو ما يمثل 20% من جمهورية أذربيجان وكذلك أجبر الآلاف من الأذريين على ترك مناطق عيشهم. حيث كانت نتائج الحرب قاسية على الجانب الأذري.
المواقف الإقليمية والدولية:
أن تعقيدات وتناقض المصالح الاقليمية والدولية وتشابكها، ساهم في اتساع الهوة والتباعد بين الأطراف المتصارعة وقلل الى حد كبيرة من فرص الحل السلمي. فتركيا التي تقف مع الجانب الأذربيجاني في تشديد الحصار على أرمينيا، ساهمت بتأجيج الصراع عن طريق مد الجانب الذري بالسلاح والنشاط الاستخباراتي وربما العديد من المرتزقة كما تتحدث العديد من التقارير. إن ما يربط أذربيجان وتركيا من وشائج اللغة والقومية والتاريخ المشترك ساعد لحد كبير على تمتين العلاقات بين البلدين.
وما يزيد من حساسية الموقف التركي، العداء التاريخي للأرمن على خلفية اتهام الأرمن تركيا بارتكاب مذابح بحقهم في الحرب العالمية الأولى حين ثاروا على الدولة العثمانية عام 1915.
اما الموقف الروسي فهو بالعموم يقف الى جانب الأرمن على الرغم من اعتبار الروس أنفسهم أحد الوسطاء الدوليين لحل الازمة، يراود كثير من المحللين والمتابعين الشك حول حقيقة الموقف الروسي المحايد على ضوء مد روسيا أرمينيا بالسلاح إبان حرب 1992-1994، وتعتبر روسيا من أهم داعمي الاقتصاد الأرمني وعلى رأسها محطات الطاقة.
إيران كذلك كما روسيا تدعم أرمينيا لعدة أسباب يمكن أن نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر الأسباب الاقتصادية حيث أرمينيا تحتاج النفط الإيراني عكس أذربيجان التي تبيع النفط كإيران. أذربيجان تحالفت مع تركيا لترويج مشروع الجامعة الطورانية الذي كان يعني نجاحه إزاحة إيران كليا من المنطقة.
ربما يفسر الموقف الإيراني المعادي لأذربيجان على الرغم من أن الأخيرة دولة ليست فقط مسلمة وإنما شيعية كذلك، وهذا ما يأخذه عليها بعض المختصين، مفارقتها بين الإعلان الرسمي بدعم القضايا الإسلامية في العالم بأسره ووقوفها إلى جانب أرمينيا المسيحية، هو وجود أقلية أذرية في إيران والتي يفوق عددها 8 ملايين نسمة، وبصفة خاصة في شمال إيران حيث يزيد عددهم عن عدد سكان أذربيجان ذاتها ويطلبون بحقوق يصل بعضها إلى الحكم الذاتي، أو حتى الانضمام إلى البلد الأم حيث تتكرر من فترة لأخرى حوادث صدام مع السلطة. وما يعزز حالة العداء أيضا أن نظام الحكم في أذربيجان علماني ولا يتبع الشيعة هناك نظام ولاية الفقيه المعتمد في إيران.
ويثير الموقف الإسرائيلي من الصراع الكثير من الانتباه؛ إذ تتمتع إسرائيل بعلاقات وثيقة مع أذربيجان، وتتعاون معها في مواجهة إيران الأقرب إلى أرمينيا. وتعدُّ إسرائيل ثاني أكبر مصدر للسلاح إلى أذربيجان بعد روسيا، ومن المحتمل أن تتعزز العلاقات بين الطرفين أكثر بسبب الأزمة الحالية.
تقف الولايات المتحدة الأمريكية مواقف متناقضة من هذا الصراع ففي الوقت التي تنظر واشنطن إلى أذربيجان على أنها شريك سياسي واقتصادي استراتيجي، وبوابة بين أوروبا وموارد وأسواق الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، وأحد الموردين الرئيسيين للنفط والمنتجات النفطية في أوروبا، نرى أن العلاقة بين باكو وواشنطن تتعرض في كثير من الأحيان للتوتر بسبب نفوذ اللوبي الأرمني القوي في الكونغرس الأمريكي.
أما الموقف الأوربي فمهتم بحل مشكلة قره باخ أو على الأقل تجميدها، لضمان الأمن والاستقرار على هوامش أوروبا من ناحية وضمان وصول النفط من قزوين إلى السوق الدولية.
التشابك مع الملف السوري:
لقد أثار الصراع في إقليم ناغورني قره باخ لغطا كبيرا في صفوف المراقبين، خصوصًا على ضوء الاتهامات المتبادلة بنقل مقاتلين سوريين إلى منطقة النزاع؛ حيث اتهم الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، تركيا بنقل مقاتلين سوريين للقتال في ناغورنو قره باغ. وهو الاتهام نفسه الذي وجهته تركيا إلى أرمينيا، لكن الانعكاسات الأهم لأي تصعيد محتمل في الأزمة على العالم العربي ترتبط أساسًا بأمرَين: احتمالية تحوله إلى حرب مفتوحة، ومسار العلاقات التركية – الروسية. فإذا تطورت المواجهة بين أذربيجان وأرمينيا إلى حرب مفتوحة – وهو احتمال قائم، وإن كان غير مرجَّح – فسيكون لذلك انعكاس مباشر على خطوط إمداد الغاز ومن ثمّ أسعاره العالمية؛ وهو أمر سيكون له ارتداداته على دول الخليج العربي على وجه الخصوص، وهي التي تشكل جزءًا مهمًا من سوق الطاقة العالمية. كما أن توسع رقعة المواجهة بين باكو ويريفان قد يهدد استقرار العلاقة بين أنقرة وموسكو، على نحوٍ قد يؤدي إلى انعكاسات سلبية على تفاهماتهما في سوريا وليبيا، مع ارتدادات مباشرة على الملفَّين. في الوضع الراهن، قد يعطي تقدُّمُ أذربيجان الميداني أنقرةَ أفضليةً في حال ظل محدودًا.
والسؤال المطروح حاليا فيما إذا انهارت الدفاعات الأرمينية كليًّا، في ضوء الدعم التركي الكثيف لأذربيجان، هل سنشهد تطوراتٍ عسكريةً كبيرة على جبهة إدلب؟ وهل ستوافق روسيا أخيراً على إلحاح ومطلب النظام السوري بشن هجوم عسكري كبير في المحافظة. أمّا إذا استطاعت أرمينيا احتواء التقدم الأذري، فسيكون ذلك ورقة قوة إضافية لموسكو. وفي كل الأحوال، لا يبدو أن للصراع في القوقاز انعكاسًا إيجابيًا على الأزمة السورية.
على ضوء التطورات الأخيرة، وبعد أن جلس الطرفان إلى طاولة المفاوضات وتوصلوا إلى وقف هش لإطلاق النار، والذي يشهد خروقات مستمرة منذ لحظة إعلانه، يبقى الانتظار والترقب سادة الموقف. هل ستتوصل الأطراف المتصارعة لحل وفق السيناريوهات المطروحة، أم سيجمد الصراع كما حصل دائما لجولة دماء جديدة؟
سيناريوهات الحل:
هناك سيناريوهات متعددة لحل مشكلة ناغورني قره باغ كان أهمها وأبرزها ما يعرف بخطة مينسك وهي الخطة التي عرضتها مجموعة مينسك التابعة لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا والتي تنص على اعتراف الأطراف الثلاثة أرمينيا، أذربيجان وناغورني قره باغ بوحدة أراضي أذربيجان مع إعطاء الإقليم حكما ذاتيا.
أما السيناريو الأمريكي فهو يتأسس على أن تعترف أذربيجان باستقلال إقليم قره باخ وتتعامل معه على أساس دولة مستقلة ذات سيادة، وتتنازل كل من الدولتين أرمينيا وأذربيجان عن أراضٍ لصالح الدولة الأخرى وفقا لما تقتضيه جغرافيا وديموغرافيا البلدين مع منح حقوق مرور لأرمينيا عبر الأراضي الأذرية إلى إيران، وهذا ما ترفضه أرمينيا لحد الأن.
إننا في تيار مواطنة نعتبر الطريقة الوحيدة للوصول إلى حل لمشكلة إقليم ناغورني قره باخ والمشاكل الأخرى بين البلدين، هو بالجلوس إلى طاولة المفاوضات واجتراح الحلول الخلاقة والمبدعة والأكثر عدالة وواقعة، تضمن تحقيق المصالح الممكنة والموضوعية والقابلة للتحقق لأطراف الصراع، حيث ما زال هذا الصراع الممتد منذ عقود طويلة ينتظر انعطافة تاريخية تكسر دورة توريثه للأجيال القادمة.
تيار مواطنة
المكتب الإعلامي 10 تشرين الأول/ أكتوبر2020