مراجعة نقدية أولية -الجزء الثالث

8– الانجراف مع التيار ([1]):

“ما هكذا تورد الإبل يا سعد”.

بيّنا فيما سبق الأسباب الموضوعية العميقة المحلية والإقليمية والدولية لانزياح الانتفاضة والصراع السياسي إلى نوع من الحرب السياسية – الأهلية الطائفية المركبة، وقد أشرنا بهذا الخصوص إلى أن هذا الانزياح كان المآل الطبيعي تقريباً للوضع السوري المعقد، كما بيّنا أن له أسلافاً بالاتجاه نفسه في سورية عبر التاريخ الذي أعقب انقلاب الثامن من آذار 1963م، كما بيّنا الدور الخارجي الخطير في ذلك وبخاصة دور إيران والمليشيات الشيعية من طرف، ودور تركيا وقطر والمليشيات الإسلامية المتطرفة من أربعة أطراف المعمورة من طرف آخر.

كل ذلك شيء وانجراف المعارضة الوطنية ([2]) بشكل عام مع صيرورة وانزياح الانتفاضة شيء آخر، ويجب تفسيره هو الآخر على قاعدة الظروف الموضوعية أولاً وقبل أي شيء آخر، ثم الأسباب الذاتية التي لها نصيبها هي الأخرى في هذا الانجراف.

وذلك على قاعدة الالتزام والقناعة بالمقتطف الذي بدأنا به المراجعة الأولية هذه.

يحلو لكثيرين الهجاء السياسي اللاذع والتركيز على الأسباب الذاتية وكيل الاتهامات بالانتهازية والارتزاق والارتهان والأنانية والفساد والفردية وغياب المأسسة والافتقار إلى الديمقراطية والبناء على العمالة والمصالح الخاصة و…إلخ.

وعلى النقيض مما سبق فإن تيار مواطنة يعتقد حتى على افتراض صحة ما سبق – وهو ليس كذلك- فإنه ليس جوهر  الموضوع،  لأن المسألة في مكان آخر مع ضرورة  أن تكون هنالك معارضة وطنية سورية غير ملوثة أبداً بالصفات المذكورة أعلاه كليا أو جزئياً على الأقل ، وهي موجودة بالمعنى النفسي نوعا وكمّا -إن لم نقل أكثر من ذلك- الأمر الذي يعني أن الهجاء المذكور لا يطابق الواقع من الناحية الرئيسية، وهذا يعني أنه لا يفسر الصيرورة بشكل صحيح ، كما أنه لا يضرب في المكان الصحيح، وفي هذه الحال فإنه يضيّع البوصلة ويأخذنا إلى الأفق المسدود عندما يتعلق الأمر بوضع الحلول.

إن تيار مواطنة عندما يتحدث عن الانجراف لا يبرّئ نفسه أبداً، لأن الجميع قد انجرف على تفاوت في العمق والزمن، وبعضهم ونحن منهم استيقظ في بداية العام الثاني من الانتفاضة وبعض آخر لا يزال نائماً ويرفض الاستيقاظ بشكل عفوي أو مقصود، في حين أن آخرين احتاجوا إلى سنوات طويلة كي ينفضوا الغشاوة عن الأبصار، فكيف حصل ذلك؟

من الناحية الفكرية والسياسية كانت نقطة الانطلاق هي ضرورة وجود مهمة مركزية واحدة، وضرورة الحشد والتعبئة باتجاه واحد محدد ضد السلطة- الطغمة، وهذا صحيح من وجهة نظر الاستراتيجية السياسية، شريطة توفر الدينامية  في فهم هذه المهمة بما في ذلك تغيّرها بالاستناد إلى التطورات التي يمكن أن تحدث لاحقاً، ومن غير الصحيح الزعم في هذه الحال أن أي جهد أو بندقية موجّهة ضد السلطة هي بندقية ثورية بالضرورة، كما أنه من غير الصحيح بقاء الحال على هذه القاعدة إذا حصلت متغيرات نوعية في الجهد والبنادق والاتجاه والمشاريع السياسية والاجتماعية و…إلخ، ومن الممكن اعتبار التفاعل مع المتغيرات وبخاصة إذا كانت نوعية ضرورة تساوي ضرورة تركيز الجهد في محور محدد وهذا في الحقيقة لم يحصل، وما حصل هو عكس ذلك تقريباً، على الرغم من تذكير بعضنا للآخرين منذ الأسابيع الأولى للانتفاضة بطبيعة الشعارات وأسماء الجُمَعِ التي كانت تذهب يوما بعد يوم وجمعة إثر أخرى باتجاه إسلاميّ سافر.

لقد تواطأنا جميعا مع ما سبق، مكررين بأشكال مختلفة أو متفاوتة أخطاءً في التفسير والموقف الذي ما كان يجب أن يحصل، ولنأخذ على سبيل المثال:

مسألة التكبير وأسماء الجُمَع – بالطبع مع بعض الانتهازية المبتذلة في بعض التسميات ذات الطابع الوطني وحتى الأقلّوي. لقد اعتبرنا جميعاً أو بعضنا على الأقل أن ذلك طبيعي تحت شعار أن الثورة تشبه أهلها، أو أن التكبير هو صيحة الحرب حتى في الجيش السوري أو…إلخ، والحال إذا كان ذلك صحيحاً، وإذا كانت الثورة تشبه أهلها، فقد كانت الثورة إذاً ثورة إسلامية، لكنّ التواطؤ منعنا من الذهاب إلى هذا الاستنتاج الطبيعي، لأننا في هذه الحال سنكون أمام معضلة متشعِّبة تبدأ بالقول:  إن الثورة ليست وطنية أو على الأقل لم تعد وطنية أولاً ، ثم كيف تكون الثورة إسلامية لأن الأرجح في هذه الحال أن تكون ثورة مضادة، لأنه من الصعب تصديق أن ثورة تقوم على أسس إسلامية لها علاقة وثيقة بالحرية والديمقراطية والكرامة والمساواة والعدالة وغيرها من القيم التي كنا نزعم أن الثورة قامت لأجلها.

لقد كان انزياح الانتفاضة يتم بشكل تدريجي متصاعد وإن يكن بسرعة نحو الأسلمة والعسكرة على قاعدة الظروف الموضوعية التي أشرنا إليها غير مرة سوريِّاً وإقليمياً وعربياً ودولياً وبخاصة سوريِّاً وإقليمياً، على الرغم من أن الانجراف كان واضحاً بما يكفي منذ البداية، فكيف نفسر الأمر في هذه الحال؟

لقد لعبت بعض الشعارات دور المخدر لأنها فُهِمت بظاهرها دون الغوص في عمق المسألة، ولنأخذ على سبيل المثال شعار: “واحد واحد واحد الشعب السوري واحد” فهل هو في الحقيقة كذلك؟ أم أنه انقسم منذ اليوم الأول للانتفاضة بشكل بارز للعيان ولكننا تجاهلنا الأمر وتحدثنا عن مشاركة جميع الأطياف السورية في الانتفاضة، وهذا غير صحيح على الإطلاق، ولا تُقدِّم ولا تُؤخِّر مشاركة بعض الأفراد من الأقليات الديمغرافية في الانتفاضة وحتى لو كانوا بالمئات والآلاف، فهم لا يشكّلون أكثر من قشرة رقيقة جداً بينما كانت القاعدة الاجتماعية في مكان آخر، في حين كان الشارع يضجّ بالأكثرية الديمغرافية بمئات الآلاف إن لم نقل بالملايين، وبين الملايين والآلاف فارق كبير.

ليس هذا فحسب بل إن هذا الشعار يعني ببساطة أن الشعب السوري ليس واحداً، وأن رافعيه يعرفون أو يحسّون أو يحدسون بذلك، ولهذا ولرغبتهم أو رغبة بعضهم في أن يكون واحداً رُفِع هذا الشعار، ولعل أحد الدلائل على ما نقول إن مثل هذا الشعار لم يرفع في تونس أو مصر و…إلخ، والسبب بسيط لأنه لا حاجة له، فالشعب واحد ولا معنى للتأكيد عليه.

وكذلك الأمر فيما يتعلق بشعار: ” لا سلفية ولا إخوان من القامشلي لحوران” لأنه في الوقت الذي كان   هذا الشعار يُرفَع عاليا وتصدح الحناجر به، كان السلفيون والإخوان يحرثون الأرض على امتداد الجزء الأكبر من الأرض السورية وتكفي الإشارة إلى الغوطة والقلمون وحمص وريفها وإدلب وجبل الزاوية و..إلخ، وهذا الشعار مثله مثل الشعار السّابق كان يدل على الإحساس أو الحدس  بالحضور البارز للإسلام السياسي الذي يتغلغل في صفوف المتظاهرين ، كما يدلّ أيضاً على أمر آخر مهم جداً وهو الرد على إعلام السلطة- الطغمة واتهاماتها لشباب الميادين.

ولمّا كان من الضروري أن نكون صريحين مع أنفسنا فإننا نطرح السؤال التالي: أين كانت المرأة السورية في هذه التظاهرات؟ وما نسبتها على الرغم من الدور البطولي الرائع الذي قامت به في حقول أخرى تبدأ بالإغاثة ولا تنتهي بالطبابة؟

هل يحق لنا القول:  إن الانزياح المذكور غير مرة كان له علاقة  نسبية على الأقل إن لم نقل غير ذلك بتناقص أعداد  المعارضين السلميين الوطنيين في الميادين، والذي تزامن وتأثر بتقدم الإسلام السياسي والشعبي المدني والعسكري في هذه الميادين ، الأمر الذي أثر على الشعارات وعلى الخطاب الإعلامي والسياسي بشكل عام، وقد كنا أشرنا فيما سبق إلى ذلك بأمل التوسع هنا وعليه نقول: إن وجود  لجان التنسيق المحلية والشباب الوطني في الميادين كان له هو الآخر دور كبير في تواطؤ المعارضة بشكل عام مع ما يجري في الشارع ، وهذا مفهوم بالطبع لأن هنالك  من يعوَّل عليه في هذا التواطؤ- وهو هذه اللجان الوطنية-  ولكن من غير الصحيح  ادّعاء المعارضة أن السلطة- الطغمة سحقت هذه الفئات فقط وأبقت الباب مفتوحا على  مصراعيه  أمام الإسلام السياسي والشعبي.

إن تيار مواطنة يرى أن السلطة سحقت بالتأكيد المتظاهرين سواء أكانوا إسلاميين أم وطنيين، وأن الاتجاه نحو العسكرة كان هذا السحق العام أحد أسبابه، فلماذا والحال هذه ساد الإسلاميون وانتهى الوطنيون فقط؟

للجواب على ذلك نقول :  ببساطة لأن الوطنيين كانوا قلة والإسلاميين كانوا كثرة، أضف إلى ذلك أن الوطنيين على الأغلب لم ينخرطوا في العسكرة  حتى لو كانت أكثريّتهم قد أيدتها وسوَّغتها بكل الوسائل ونحن من بين الذين سوّغوها بامتياز، ليس هذا فحسب بل إن الكتلة الوطنية الصغيرة من الفاعلين في الميدان توزعوا بين أقسام مختلفة بعضهم ( ونؤكد بعضهم وليس  كلهم أو معظمهم  كما تدّعي المعارضة) سحقتهم السلطة- الطغمة وبعضهم تم اعتقالهم، لكن الغالبية العظمى غادرت الميدان طوعاً أو كُرهاً ليس من قبل السلطة فحسب بل من قبل جميع الفصائل العسكرية الإسلامية التي سيطرت على مساحات شاسعة من سورية، وتفرَّق المذكورون في أربعة أطراف المعمورة من كندا حتى لبنان إن لم نقل أبعد من ذلك مروراً بأمريكا وأوروبا وتركيا، وهم في هذه البلدان من الوضوح بما يكذّب أطروحة المعارضة من أنهم إما اعتقلوا أو قتلوا أو هجُّر بعضهم فقط، لأنهم كما قلنا غادروا الميادين في مناطق السلطة ومناطق الفصائل المسلحة ولا بدّ أن بعضهم الأخير قد عاد إلى بيته يبحث عن أشكال نضال مختلفة عن البدايات أو حتى التزم الصمت.

كان من الضروري أن نركز على ما سبق لأن سورية الداخل اليوم باستثناء الجزيرة السورية -نسبيا- قد تُرِكت للسلطة – الطغمة والإسلاميين من الناحية الرئيسية وفي هذا ما فيه من المأساة الحقيقية، وبخاصة إذا تذكرنا الذين غادروا سورية ليسوا فقط شباب الميادين، بل معظم الطبقة الوسطى الشابة والكهلة وعندئذ تكتمل دائرة المأساة.

والآن بالإضافة إلى الأسباب التي ذكرناها حتى الآن لتفسير الانجراف إن يكن من قبيل تحديد المهمة المركزية أو الشعارات أو شباب الميادين الوطني أو…إلخ، فإن السبب الحقيقي هو السبب الموضوعي والذي يقوم على افتقار المعارضة إلى حامل اجتماعي فاعل في الميدان سياسياً ومدنياً وعسكرياً– ما دمنا قد ذهبنا إلى العسكرة- ولأن كل معارضة في الدنيا وليس في سورية فحسب بحاجة إلى حامل وظهير حقيقي كي تؤسس مواقفها بالاستناد إليه وبخاصة في حال العسكرة، نقول: لأن ذلك كذلك فقد ذهبت المعارضة– أيا تكن صفاتها وبنيتها وأخلاقها…إلخ- إلى الاستناد إلى الظهير الموجود فعلاً على الأرض والذي هو الإسلام السياسي والشعبي والعسكري، ولا حاجة في هذه الحال إلى شيطنة الإخوان المسلمين وادّعاء سرقتهم للثورة واتهام قطر وتركيا وخذلان العالم …إلخ، لأن الأمور كانت ستذهب- من الناحية الرئيسية- إلى ما ذهبت إليه مع التأكيد في الوقت نفسه على الدور الخطير الذي لعبته تركيا وقطر والإسلام السياسي في تعزيز هذا الاتجاه، وكذلك الأمر فيما يتعلق بالخذلان النسبي لانتفاضتنا بغض النظر عن صدق ذلك من عدمه، لأننا ندّعي أن العالم الحر كان في البداية معنا بشكل أو بآخر وإن لم يكن بالقدر الكافي.

على صعيد آخر يعلمنا التاريخ– الحديث على الأقل- أنّ أي ثورة مسلحة بحاجة إلى الدعم المادي والمعنوي والسياسي، من المال حتى السلاح مروراً بالسياسة،  وفي الغالب الأعم يكون هذا الدعم  آتياً من الخارج وفي الوضع السوري وعلى قاعدة الانجراف مع التيار السائد فإن من الطبيعي الذهاب للاستناد إلى ظهيره الخارجي الذي هو تركيا وقطر بشكل خاص، وهو الأمر الذي بدا لكثر منا وكأنه  الخيار الحقيقي لزمن طويل، وحتى بعد أن أفاق بعضهم من الغيبوبة فإننا لم نلاحظ تغييراً نوعياً في الموقف والممارسة إلا لدى قلة من معارضتنا الوطنية، أما فيما يتعلق بتلك الإسلامية  فإن الأمر لا يحتاج إلى تفسير ، إنه اللقاء على أرض العقيدة المشتركة بينها وبين تركيا أردوغان ولا حاجة هنا للذرائع من أي نوع كان وبخاصة عندما نتذكر أن المشروع الحقيقي للإسلام السياسي والعسكري بألوانه كافة- والذي هو إقامة الدولة الإسلامية وحكم الشريعة- هو نفسه مشروع أردوغان الفعلي ولكنه المُطَعَّم والمُؤسّس في الوقت نفسه على ركيزتين: 1- الأولى هي الدين.2- والثانية هي القومية التركية، حتى  أن كثيرين في كل أنحاء العالم يدفعون الأمر إلى  حد الذهاب إلى إحياء الإمبراطورية العثمانية.

والآن إذا كان من الطبيعي أن يكون سلوك الإسلام السياسي والعسكري في سورية وجزء كبير من العالم العربي قائم على الأساس السابق فما الذي دفع المعارضة الوطنية بهذا الاتجاه؟

لقد أجاب كثر على هذا السؤال عبر التركيز على الأوضاع الذاتية للمعارضة المذكورة من مثل الارتزاق والأنانية والارتهان والتبعية والغباء والخلل المعرفي والسياسي…إلخ.

على النقيض مما سبق، وعلى الرغم من أهمية الأسباب المذكورة فإن الخلل الجوهري يكمن في افتقار المعارضة الوطنية إلى حامل اجتماعي داخلي وإلى ظهير خارجي صلب، وهو ما دفعها بشكل عفوي تقريباً وواعٍ في كثير من الأحيان إلى الانجراف الذي أكدنا عليه غير مرة، ولم يكن من شأن السِّمات الشخصية والحزبية إلا مفاقمة هذا الانجراف،  وبخاصة عندما تم تأسيسه على المفهوم الخشبي للمهمة المركزية التي  لا تَحُول ولا تزول ولا تتغير، بالإضافة إلى تجاهل الوقائع العنيدة على الأرض، بل وإنكارها في بعض الأحيان أو حتى في تسويغها بذرائع مختلفة.

وفي كل الأحوال لقد زاد هذا الانجراف من تعقيد الوضع السوري المعقد أصلاً، ومفاقمة الانقسام العمودي الديني والقومي والطائفي القائم هو الآخر أيضاً والدفع به إلى حده الأقصى، ومما زاد في الطين بلة طغيان الخطاب الطائفي سياسياً وإعلامياً بالتوافق طرداً مع درجة تقلُّص وغياب الكتلة الاجتماعية من الشباب الوطني عن الميادين إلى حدٍ دفعَ الخطاب الوطني بعيدا إلى هامش الأحداث والصراع، ليس في الحاضر فحسب بل وفي رؤية المستقبل، وهو الأمر الذي جعل الخندق الفاصل بين الكتلة الموالية للسلطة- الطغمة والكتلة المعارضة أشبه بالهوّة الفاغرة أشداقها لالتهام كل شيء.

والآن هل كان هذا الانجراف قدراً لا يمكن تجاوزه؟

إن تيار مواطنة يعتقد أنه كان بالإمكان تجاوزه- نسبياً على الأقل في البدء، وكلياً بشكل تدريجي متصاعد- عبر التطور اللاحق للأحداث ووضوح الوقائع، ومن المعتقد أن استمرار الحال كان ناشئاً عن الرغبة الدفينة في أن يكون للمعارضة الوطنية بعض الوزن حتى لو جاء هذا الوزن من الجحيم، لأن الابتعاد عن التيار السائد والتأكيد على الاستقلالية عن ظهيره الخارجي والبحث عن نقاط استناد مختلفة داخلياً وخارجياً بدا كما لو أنه افتقاد تام للوزن وهذا ليس بالخبر السار لأي معارضة.

إن تيار مواطنة يعتقد أنه كان من الضروري تجاوز هذا الانجراف حتى لو أدّى  ذلك إلى افتقاد أي وزن ذي معنى، وذلك عبر تشكيل جبهة ديمقراطية عريضة  بطابعٍ وطنيّ عام بارز، وبخطاب سياسي وإعلامي قادر على مخاطبة الشعب السوري بكل مكوناته، خطاب وطني   ديمقراطي جذري يقوم على تفكيك كل الخطابات الأخرى  السلطوية والمعارضة، حتى لو افتقر مثل هكذا خطاب في البدء إلى حامل اجتماعي حقيقي، بل حتى لو استمر هذا الافتقار إلى زمن طويل، لأننا في هذه الحال نكون قد خسرنا الوزن- المُتوهم على كل حال- وربحنا المعنى والمصداقية والقدرة على استثمار أي تطور إيجابي في الظروف المعقدة والراهنة،  وإسقاط معظم الذرائع التي تتعلل بها الكتلة الموالية للسلطة- الطغمة.

وفيما يتعلق بالظهير الخارجي للتيار الداخلي السائد وعلى الرغم من أنه يبدو لكثيرين وكأنه الحليف القهري لعدم وجود بدائل-وهذا غير دقيق إن لم نقل غير ذلك- فإنه كان بالإمكان تحقيق درجة من الاستقلالية الضرورية لممارسة سياسة تستحق اسمها حتى لو قامت كلياً على المصالح المتقاطعة موضوعياً.

ولأننا لم نقم بما سبق داخلياً وخارجياً فقد خسرنا الوزن والمعنى ولم نستطع حتى الآن بناء الجبهة المستقلة المذكورة الضرورية حتى لو عجزت راهنا عن ممارسة أي فعل نوعيّ.

لقد حان الوقت منذ زمن طويل للانفكاك التام عن التيار السائد وعن ظهيره الخارجي دون أن يعني ذلك بالضرورة تنصيبهما عدوين ينبغي التركيز عليهما بدل السلطة- الطغمة، والسبب في ذلك  لا يعود إلى طبيعتهما وبنيتهما وممارستهما السيئة إلى حدود قصوى بقدر ما يعود إلى أمر آخر يمكن التعبير عنه على الشكل التالي: إن الفصائل الإسلامية المسلحة وتركيا أردوغان وقطر قد تكون الأسوأ ولكنها ليست الأخطر بالضرورة، لأن مشروعها السياسي غير قابل للتنفيذ كما يريد أصحابه، فالعالم بشرقه وغربه يقف ضد دولة إسلامية متطرفة في سورية، وعلى صعيد الإقليم فإن قطر وتركيا ليستا قادرتين على تنفيذه، وعلى الصعيد المحلي من الواضح أن السلطة وحلفاءها قد دفعوا هذا المشروع إلى الخلف كثيراً جغرافياً وعسكرياً وسياسياً، بل ربما حتى اجتماعياً، إذاً في هذه الحال تبقى السلطة- الطغمة– حتى لو كانت في نظر بعضنا الأقل سوءاً- هي الخطر الرئيس على الشعب السوري وحريته وكرامته بدءاً من طبيعتها وبنيتها وانتهاءً بممارساتها الوحشية والدموية، الأمر الذي يعني بالضرورة التركيز-مادام التوازن الذي أشرنا إليه قائماً- عليها، على القاعدة التي تقول: الأسوأ قد لا يكون الأخطر لأنه غير قابل للتحقق، والأقل سوءاً هو الأخطر لأنه متحقق وقد يكون قابلاً للاستمرار، وهكذا نصل بالتأكيد مرة أخرى إلى  أن الأسوأ والأخطر غير متطابقين في كثير من الأحوال ، وإن كانا متطابقين في أحوال وظروف أخرى لسنا بصددها في سورية اليوم .

في تكثيف شديد نقول: لا حاجة بنا إلى شيطنة الإخوان المسلمين والإسلام السياسي- حتى لو كانا كذلك- ولا للحديث على سرقة الثورة وتلغيمهاً وحرفها كلياً عن أهدافها الإيجابية، وهو ما وصلنا إليه بالفعل، لأن ما تم كان أشبه ما يكون بتحصيل حاصل.

إن الاتجاه نحو العسكرة والذي سوّغه الجميع تقريباً كان اتجاهاً نحو الأسلمة للأسباب التي ذكرناها غير مرة، مثلما كان الاتجاه نحو الأسلمة اتجاهاً نحو الطائفية في الوضع السوري، بما في ذلك طغيان الخطاب الطائفي والممارسة القائمة عليه، والحق إن الاتجاه في كل مرحلة من المراحل الثلاث ترافق مع درجة واضحة من خلو الميدان من الكتلة الوطنية الشبابية ، ففي كل مرحلة كنا نخسر جزءاً من هذه الكتلة وصولاً إلى الخسارة الفادحة في المرحلة الأخيرة، وتفرُّق هذه الكتلة الشبابية  في كل مكان  وقد كنا أشرنا غير مرة أيضاً أن ذلك كله ترافق بطغيان وقمع سلطوي فظيع وممارسات بشعة من الطرف المسلح الآخر، ولعل الغريب – بعض الشيء على الأقل- أن معظم الكتلة الشبابية الوطنية ظلت على تسويغها للعسكرة– إن لم نقل على دعمها- على الرغم من ظهور انتقادات أصيلة للفصائل العسكرية  وبخاصة الإسلامية المتطرفة على لسان هذه الكتلة وقد وصلت بعض هذه الانتقادات على كامل الجغرافيا السورية إلى تأليف كتب بهذا الصدد، من مثل كتاب الثورة المغدورة في حلب([3]) ، ناهيك عن مئات بل آلاف  الشهادات التي تتناول ما حصل من زاوية نقدية حقيقية.

 

 

9- تهويمات سياسية وإعلامية

يعلمنا التاريخ – وهو المعلم الأول- أن الخطاب السياسي والإعلامي في الثورات أو في الثورات المضادة أو في الصراعات المحتدمة غالباً ما يذهب نحو التطرف الشديد، بالاستناد إلى القاعدة الشائعة – بغض النظر عن صوابها أو خطئها- التي تقول: يجب زيادة القبح قبحاً والجمال جمالاً، وهو ما يؤدي إلى انفلات الهجاء المقذع والتمجيد المفرط.

بالطبع الهجاء ضد الخصم أو العدو أو الآخر بشكل عام، والتمجيد للذات والأنا الجمعية والفردية وما بينهما…

إن تيار مواطنة إذ يتفهم بعض الشيء ما سبق- مع رفضه تماماً- يجرؤ على القول: لقد ذهبت القاعدة المذكورة في الوضع السوري إلى مآلات خطرة على العقل والأخلاق والممارسة، وذلك من مثل اعتبار الثورة السورية أعظم الثورات- أو أعظمها في العصر الحديث على الأقل- ويتبع ذلك بالطبع الحديث عن الشعب السوري العظيم و…إلخ. والحال فمن المحال أن تكون الثورة السورية أعظم الثورات في ظل الأوضاع المعقدة التي ذكرناها غير مرة في سورية وقد برهن المآل الذي آلت إليه على ذلك، وإذا كان هنالك من ظل عظمة فهو شجاعة النزول إلى الميادين في وجود هذه السلطة الوحشية الدموية، ولكن لأن الشجاعة شيء والعظمة شيء آخر، على الرغم من أن الشجاعة عنصر من عناصر العَظَمة بالتأكيد، يجب عدم الخلط بينهما واعتبار أحدهما هو الآخر.

إذا صح ما سبق فإننا نقول: إن العَظَمة تنبني على تحقيق وحيازة حزمة من السمات الإنسانية والأخلاقية والعقلية والسياسية والممارسة السامية، وهذا مرة أخرى كان عسير الولادة في الوضع السوري، الأمر الذي يملي علينا الالتزام بالصدق والتواضع والتوازن الدقيق.

وعلى المقلب الآخر اعتبرت السلطة- الطغمة وحلفاؤها الأسوأ في تاريخ البشرية، وكأننا لم نشاهد على مر التاريخ ما يشبه أو يساوي ما لدينا.

إن العقل والأخلاق والوقائع التاريخية تلزمنا بأن نتذكر أن ثمة أنظمة مارست العسف والعنف والقتل بوتائر أبشع على الأقل في الأعداد والأحجام.

هل من يتذكر أن بول بوت زعيم الخمير الحمر قتل ثلث شعبه (2.5 مليون) وأن ما يقارب المليون قُتِل في مذابح راوندا القبلية وأن القمع الستاليني– الممتد لثلاثة عقود من حكمه- والذي يبدأ من الحرمان إلى القتل مروراً بمعسكرات الاعتقال الغولاغ- طال حوالي (100 مليون) من البشر بينهم ما يزيد عن (10 ملايين) قتيل، وأن المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفيتي في عام 1956م – بعد موت ستالين ببضع سنوات فقط- اعتبر ستالين قاطع طريق، وأن الثورة الثقافية في الصين أدت إلى مقتل ما يزيد أيضاً على (10 ملايين)،  وأن العسف والقمع والطغيان الذي تمارسه السلطة المجنونة في كوريا الشمالية  يصعب أن يكون له شبيه في العالم.

وهل لاحظت المعارضة السورية الملايين الكورية الشمالية التي خرجت إلى الشوارع باكية كالمجانين لأن جدة الزعيم الأحمق توفيت؟ والحق أننا لسنا في حاجة إلى المزيد.

إن كل ما ذُكِر أعلاه لا يعني أبداً أن السلطة- الطغمة في سورية ليست سيئة، بل هي سيئة ودموية ووحشية إلى حدود قصوى بالإضافة إلى استبدادها وفسادها وانحطاطها الأخلاقي.

ولذا المأمول ألا يحاول أحد ان يسيء فهم ما قيل والقصد منه.

إن ما نريد الوصول إليه هو وصف الوضع على ما هو عليه دون الذهاب إلى المبالغة في المقارنة بما حصل في التاريخ، لأننا في هذه الحال نحن الخاسرون سياسياً ومعنوياً.

هل هناك حاجة إلى معاينة خطاب السلطة على هذا الصعيد؟ والجواب بسيط، لأننا في غنىً عن ذلك، فخطاب السلطة- الطغمة لا يعول عليه في قليل أو كثير وهو لا يعدو أن يكون ديماغوجيا خشبية بائسة بتنويعات وأكاذيب ودعايات مختلقة، ولأن الأمر كذلك كنا نأمل بكل قوانا ألا تقع المعارضة في فخ الإعلام المضاد التوأم من حيث البنية والقيمة.

لقد كنا نأمل بحق أن يكون إعلام وسياسة المعارضة قائمين على الوقائع والمنطق والصدق والمهنية، بحيث يشكل الإعلام والسياسة النقيضين بكل ما في الكلمة من معنى.

وللتدليل على ما ذهبنا إليه نذكر بالأرقام والأحوال التي يتداولها المعارضون سواء أتعلّق الأمرُ بالمعتقلين أم الشهداء أم الضحايا أم بطبيعة القتلى (مدنيين– معتقلين) أم بآثار الحصار أم …إلخ، ولعل الأصدق في كل ذلك هو الحديث عن وضع المعتقلات الذي قد يكون هذه المرة بحق من أسوأ ما عرفته البشرية إن لم يكن الأسوأ.

لانزال بحاجة إلى ضرب بعض الأمثلة عما نحاول أن نبرزه في هذا المجال ولنأخذ على سبيل المثال مسألة الحرائق إن كان في المدن أو البراري– لقد وصل خطابنا في هذا المجال إلى درجة من البؤس وفقدان الموضوعية والدلائل إلى حد يمكن القول فيه بسخرية – حسب موقع كل طرف- إن السلطة السورية الدموية أو قسد أو تركيا أو داعش هي المسؤولة عن حرائق كاليفورنيا التي بلغت مساحتها حتى الآن– لحظة كتابة هذا المشروع- (14000) كيلو متر مربع حسب الإعلام المرئي والمكتوب.

والآن ليس مثل هكذا خطاب ضار معنوياً وأخلاقياً فقط، بل هو ضار عملياً، بمعنى إنه فاسد مبدئياً وغير مفيد عملياً، وذلك ببساطة لأن العالم يرى ويعرف بوسائل متعددة ما يجري في كل الحقول فوسائل التواصل اليوم  وعلى رأسها صور الأقمار الصناعية قادرة على كشف الحقائق والأكاذيب إلى حد كبير، وقد أشار كثر من الثوار والثائرات إلى ذلك وإلى الأضرار الحقيقية التي ترتبت على نمط الخطاب السياسي والإعلامي المعارض إلى حد كاد العالم فيه أن يصبح محايداً تجاه ما يجري من جرائم السلطة- الطغمة  إن لم نقل أنه لم يعد يأبه بنا وبمأساتنا المستمرة.

إن فقدان المصداقية هو أحد أسباب – وليس كلها- عدم قدرتنا على النفاذ إلى داخل الأوساط التي تهمنا جداً من الرأي العام العالمي والعربي والإقليمي وحتى المحلّي.

ثمة حقل آخر يمكن أن نلمس فيه بوضوح ما أردنا قوله فيما سبق وهو ذلك المتعلق بالثورة ومآلها الراهن بحيث يمكن القول: إن الحديث عن استمرار الثورة لا يعدو أن يكون من قبيل الأوهام والأحلام ويندرج بالتأكيد تحت بند التهويمات بما في ذلك ضرب أمثلة عن ثورات استمرت عقوداً طويلة- إن لم نقل ما يزيد عن القرن- وبخاصة عندما يكون الحديث عن الثورة الفرنسية بغاية إثبات أن ثورتنا يمكن أن تستمر هي الأخرى زمناً غير منظور بعد.

والحال إن التاريخ الفعلي كما جرى في فرنسا مثلا يكذّب هذا الاستشهاد، وسنوجز هنا قصة هذه الثورة التي قامت في 14 تموز/ يوليو 1789م والتي حققت الانتصار في زمن قصير، ثم بدأت تأكل أبناءها على قاعدة القول الساخر “الثورة كالقطة تأكل أبناءها”. وقد آلت الثورة في السنوات الخمس الأخيرة من القرن الثامن عشر إلى حكومة “الديركتوار” (الإدارة) ثم ذهبت إلى البيروقراطية بقوّة، حيث أصبحت بين يدي بونابرت الأول -قنصلاً أول – عام 1799م-1804م، والذي عملها على طريقته ونشر مبادئها في كل أوروبا وصولاً إلى أبواب موسكو، وكان قد أصبح امبراطوراً عام 1804م وحتى 1814و قد هُزم لاحقاً على يد تحالف الأسر المالكة  الذي تمكن من احتلال باريس، وإعادة أسرة البوربون إلى حكم فرنسا في 6 نيسان 1814م بدءاً بشارل العاشر ومن ثم خلفه لويس الثامن عشر- شقيق لويس السادس عشر الذي أعدمته الثورة- لتأتي بعدها حرب المئة يوم التي انتهت بمعركة “واترلو” التي سببت تنازله عن السلطة وإعلان الملكية تولى العرش من 8 تموز 1815م حتى 16 أيلول 1824م، ليخلفه بعد وفاته شارل العاشر حتى 2 آب 1830، ثم ليخلف شارل العاشر الملك لويس فيليب الأول كآخر ملوك فرنسا في 24 شباط 1848م.

حيث بدأت ثورة جديدة انتهى أمرها هي الأخرى إلى نابليون الثالث امبراطوراً، الأمر الذي أطلق مقولة ماركس الشهيرة ” يحدث التاريخ مرتين ، مرة بصيغة درامية ومرة بصيغة مسخرة”، وهذا يعني أن بونابرت الثالث كان الصيغة المسخرة للأول، ومع ذلك فقد استمر حكمه حتى عام 1871م حيث قامت الثورة الثالثة ثورة “كومونة” باريس إلا أنها لم تستمر إلا ما يقارب 71  يوما حيث قمعت بوحشية على يد الثنائي تيير وكافينياك، ولما كان بونابرت قد انتهى على يد الجيش البروسي في سيدان في العام نفسه، فقد تابع التاريخ الفرنسي الانتقال من جمهورية إلى أخرى، ونحن نعيش اليوم في الجمهورية الخامسة، إذن ثورة فإمبراطورية فملكية فثورة فإمبراطورية فثورة شيوعية فجمهورية، فأين هذا الهراء عن استمرار الثورة الأولى؟

إن تيار مواطنة يتفهم الهراء السابق على قاعدة تعزية النفس وتوليد الأمل والبحث عن انتصار وهمي معنوي، واستمرار لا وجود له بديلاً للعجز عن الانتصار الفعلي والاستمرار الحقيقي.

إن إنكار الوقائع واللجوء إلى الأوهام مفهوم جيداً لنا- ولكنه مرفوض بالتأكيد- بما في ذلك تزوير التاريخ وقراءته بما ليس فيه، ولكن هذا شيء والواقع الراهن في سورية شيء آخر.

إن الثورة هي أولاً وآخراً ليست مجرد أفكار ونوايا طيبة، بل هي فعل ميداني جمعي قائم بالتأكيد على الأفكار والأحلام والاستراتيجية التي توضع موضع التحقيق العملي وليس الوهمي.

وبهذا المعنى وبكل الأسف والحسرة والألم فإن الثورة السورية هزمت وشبعت هزيمة، وهي اليوم لا وجود عملي لها إلا في رؤوس بعض الحالمين وفي البيانات الجذرية الظافرة، والحال إن استعادة الثورة بحاجة إلى متغيرات نوعية على الأرض وفي العقول وفي كل الحقول. وكذلك الأمر في الخطاب المتعلق بالشعب والتضحيات الهائلة الذي يتحدث عن استحالة هزيمة الشعب وذهاب التضحيات هدراً وفي الرد على ذلك نقول: يعلمنا التاريخ مرة أخرى أن الشعوب تهزم- بل يمكن أن تخرج من التاريخ- وأن التضحيات لا تثمر بالضرورة، ومع ذلك فإننا في تيار مواطنة نأمل بكل ما في القلوب من أحلام كبيرة وما في النفوس من عنفوان أن ينتصر شعبنا وأن تثمر تضحياتنا، ألسنا “محكومين بالأمل”.

إن ما هو قائم في سورية هو ما جئنا على ذكره في فقرة سابقة الذي هو الحرب السياسية– الأهلية– الطائفية المركبة، بمعنى إنها صيرورة حرب شعب ضد سلطة غاشمة، تحولت إلى صراع بطابع أهلي ذهب بفعل العوامل المعقدة في سورية إلى طابع طائفي أيضاً، ولذلك من الصعب الاكتفاء بأحد الأوصاف الثلاثة فقط.

ليس هذا فحسب، بل لأن الأمر كما قدمناه أعلاه يعني- كما قلنا قبلاً- أننا أمام ثورتين مضادتين تتصارعان: السلطة- الغاشمة والفصائل العسكرية الإسلامية المتطرفة ومن ورائهما الظهير الإقليمي والعربي والدولي، ونحن الآن في قلب المستنقع السوري بانتظار جلاء هذا الصراع كي يستطيع الشعب أن يستعيد زمام المبادرة.

ثمة بعض المفارقة في موقف التيارات السائدة في المعارضة التي لا تمل من شيطنة الإسلام السياسي والإخوان المسلمين وتكرار مقولة ” سرقة الثورة” ومع ذلك تستمر في الوقت نفسه في الحديث عن استمرار الثورة المسروقة!!

ويحتاج المرء إلى عبقرية خاصة لحل هذا اللغز الذي يمكن حله في حالة واحدة هي اعتبار الثورة المسروقة من قبل الأطراف المذكورة هي ثورة بحق، وعندئذ ندخل في مفارقة أخرى نتركها اليوم لأهلها المبدعين.

10 – الجزيرة السورية

وهي الرقعة الجغرافية السياسية والميدانية التي لها وضع يختلف عن سائر الأوضاع في سورية، والتي يمكن- انطلاقاً من هذا الواقع- أن تكون مخبراً لتفاعل القوى السياسية والاجتماعية المعارضة في حال توفرت بعض الشروط التي أشرنا إليها مراراً وتكراراً، والتي أهمها المشاركة العربية في صنع القرار السياسي  والعسكري والاقتصادي والثقافي و…إلخ، وإعادة تصويب البوصلة ضد المشاريع المحلية والإقليمية والدولية من مثل المشروع السلطوي وحلفائه الدوليين والإقليمين، والمشروع التركي- القطري وأذرعه الداخلية، والمشروع الروسي وداعميه، والمشروع الثلاثي– اللا مشروع في الحقيقة- مشروع إيران وتركيا وروسيا  أي مشروع “أستانة وسوتشي” الذي لاهم  له إلا إجهاض المشروع الأممي (2254) الذي تمخّض فولد فأراً اسمه اللجنة الدستورية التي حظيت بأشكال من الدعم الخجول من جميع الأطراف تقريباً.

بقي أن نقول بوضوح: إن الموقف الأوروبي والأمريكي هو الأقرب لمصالح شعبنا كله، وذلك ببساطة لأن الموقف يتمركز حول القرار الأممي (2254) في مواجهة جميع كل المشاريع الأخرى الضارة بنا.

والآن، مادام الأمر كذلك، فإن على جميع القوى المعارضة الفاعلة أن تجد طريقها إلى هذا المخبر بعيداً عن الكلام الشوفيني القومي، وبعيداً عن اجترار الأكاذيب عن الوقائع على الأرض من مثل الحديث عن التغيير الديمغرافي والتهجير الممنهج والقتل والتعذيب و.. إلخ، بما في ذلك الحديث عن الانفصالية و”إسرائيل” الثانية.

إن المشكلة الحقيقية ليست هنا، فحتى لو لم يبق سوري واحد فإن الكرد عاجزون عن الانفصال، لأن تركيا لهم بالمرصاد، فلماذا نضيّع الوقت في أخطار غير ممكنة، ناهيك عن أن الانفصال غير مطروح أصلاً من قبل الكرد؟

إن المشكلة هي في الاستبداد السياسي للإدارة الذاتية الكردية وقواها، وفي تحكم أقلية في الأكثرية، وفي اعتبار القوة العارية هي الأساس المكين، وفي ترك كوادر كردية غير سورية- جبل قنديل- تتحكم في مصير المنطقة وحاضرها، وفي عدم الثقة في اتجاهات الإدارة المستعدة لخدمة برنامجها القومي السياسي للتحالف والعمل مع أي طرف تعتقد أنه يمكن أن يقدم لها شيئاً بدءاً من أمريكا وانتهاءً بروسيا بما في ذلك السلطة السورية، والعلاقة مع هذه الأخيرة وحلفائها هي بيت القصيد في عدم الثقة المذكور.

ثمة أسباب أخرى لعدم الثقة ولكنها ذات طابع قومي شوفيني أو إسلامي لا يعتد بها في قليل أو كثير، على الرغم من الآثار الوخيمة التي تتركها على الوضع في الجزيرة السورية الذي يمكن أن يكون كما قلنا- لو أمعنا الفكر وأحسنا الفعل- منصة سورية فعلية لمواجهة السلطة- الطغمة وتركيا والإسلام السياسي والعسكري المتطرف، ويبدو أن هنالك في الآونة الأخيرة ما يبعث على بعض الأمل في هذا الاتجاه.

لقد خصصنا هذه الفقرة للجزيرة السورية، لأننا نعتقد- على الرغم من كل النقد الضروري للإدارة الذاتية- أن القوى السياسية العربية والإسلامية هي مسؤولة إلى درجة كبيرة عن بؤس العلاقة والوضع بشكل عام ولابد أن تعيد النظر في كل شيء جنباً إلى جنب بالطبع مع المسؤولية الواضحة للإدارة المذكورة وضرورة القيام بمبادرات إيجابية عل كل الأصعدة المذكورة أعلاه.

11 -حرب المدن

التي كانت في المآل الذي آلت إليه وبالاً على الثورة وهي أمر أكبر من خطأ، ليس فقط لأن القوى السياسية والعسكرية كان عليها أن تعرف أن السلطة- الطغمة على استعداد لتدمير كل شيء، وعدم الالتفات إطلاقاً إلى القوانين والمواثيق الدولية بما في ذلك قوانين وأعراف الحرب، بل لأنها في الأصل استراتيجية  خاطئة، وكيما تكون ناجحة فهي بحاجة إلى توفر عدد من الشروط  لم تكن قائمة إلا في حالات قليلة كالحال في الرقة وإدلب، بمعنى أن المدينة يجب ألا تُدخَل إلا إذا كان ميزان القوى يسمح بالسيطرة التامة عليها في وقت قصير،  والخروج منها إلى محيطها لحمايتها من الخارج منعاً لأية ذرائع لتدميرها، ولذلك فإن السيطرة على المدن من الأعمال الأخيرة للصراع في كل منطقة وحسب موازين القوى.

إن المفارقة فيما سبق أن بعض القوى العسكرية اعترفت بهذا الخطأ الاستراتيجي كجيش الإسلام في الغوطة الذي طالب بالعودة إلى حرب العصابات، في حين بقيت  معظم قوى المعارضة على موقف تسويغ حرب المدن تحت ذرائع باطلة على رأسها بحث القوى المعارضة المسلحة عن الحماية، بحيث تصبح الاستراتيجية أسيرة الحماية الذاتية في حين أنها شيء آخر، وفي كل الأحوال لم يكن من المتوقع في ظل غياب قيادة سياسية مركزية واحدة وقيادة عسكرية واحدة وتفاقم ظاهرة الفصائلية والبحث المحموم عن تحقيق إنجازات خاصة بها هنا أو هناك، نقول : لم يكن من المتوقع تجنب هذه الخطيئة  بشكل عام على الرغم من أنه بدأت هنالك بعض مظاهر النقد الذاتي حتى قبل مبادرة جيش الإسلام منها على سبيل المثال: انسحاب القوة التي كان يرأسها الغوطاني أبو علي خبية من الميدان في دمشق على اعتبار أن الدخول إليه كان خطأ، وكان من الممكن تكريس هذا النقد وتعميمه قبل فوات الأوان، ولكن هذه الإمكانية تأخرت- حتى عندما ظهرت- إلى ما بعد الخراب الذي كان السبب في ظهورها وليس إعمال العقل.

وفي هذه المسألة– مسألة حرب المدن- يمكن القول: إن تيار مواطنة لم يغرق في الزحمة والشعبوية، بل أشار إلى ذلك – وإن يكن بشكل خجول– منذ آب 2012م أي مع دخول وانسحاب الغوطاني أبو علي خبية إلى حي الميدان بدمشق، وقد قلنا في حينه بلغة دبلوماسية واضحة أن قوى المعارضة المسلحة لن تعدم الوعي الكافي لمراجعة حرب المدن، ولكن يبدو أنها عدمت ذلك.

أما فيما يتعلق بالجسم الأساسي للمعارضة الوطنية والإسلامية فإنها كانت بعيدة كل البعد من المراجعة النقدية إن لم نقل إنها كانت فخورة كل الفخر بحرب المدن مع البكاء على الخراب والموت والدمار وتحميل المسؤولية بالمطلق للسلطة- الطغمة– التي تتحمل المسؤولية الرئيسية- دون التفكير في إمكانية أن تكون هذه الحرب في الأصل غير صائبة في حال عدم توفر شروطها التي أشرنا إليها أعلاه، وحتى اليوم يصعب القول: إننا قرأنا مراجعة نقدية أصيلة ومسؤولة لاستراتيجية حرب المدن التي أخفقت إخفاقاً ذريعاً.

12- أحلام اليقظة

كان بالإمكان أن تكون هذه الفقرة ضمن فقرة ” تهويمات” ولكننا وجدنا أن إفرادها بفقرة خاصة قد يكون أفضل للآثار المأساوية التي كانت لها على العديد من الأصعدة، ونتناول في الفقرة قضايا من مثل التدخل الخارجي، ومسألة توقُّع سقوط سريع للسلطة- الطغمة ومسألة قوة أو ضعف هذه السلطة بما في ذلك حلم انفكاك قاعدتها الاجتماعية عنها …إلخ.

فلنبدأ من مسألة إمكانية السقوط السريع  للسلطة وهو الحلم الذي استحوذ على مخيلة المعارضة الوطنية والإسلامية والعسكرية، بالاستناد إلى تجربتي تونس ومصر، وذلك في تجاهل واضح– إن لم نقل بإنكار تام-  للواقع السوري المعقد في ذاته وفي علاقته بالإقليم والعالم  وهو ما عالجناه باستفاضة في سياق هذه المراجعة، لقد بُنيت الكثير من الممارسات على هذا الحلم  بما فيها ظاهرة حرب المدن التي أشرنا إليها، وقبلها استسهال العسكرة والعفوية والفصائلية وغياب استراتيجية بعيدة المدى ووحدة سياسية وعسكرية مترتبة عليها، وفي هذه النقطة يحق لنا  في تيار مواطنة القول أننا لم ننجرف مع هذه الأحلام.

وعلى صعيد قوة وضعف السلطة- الطغمة وتماسكها الداخلي وانفكاك قاعدتها الاجتماعية أو انهيارها الداخلي نقول: كان هذا الحلم بعيداً عن الواقع بعد السماء عن الأرض، فالسلطة بقيت متماسكة وموحّدة على قاعدة التماسك الصلب للمؤسسة العسكرية والأمنية، وعلى قاعدة عدم كفاية الضغوط السياسية والعسكرية والاجتماعية والاقتصادية على إحداث ذلك وبخاصة عبر الدعم من حلفائها، ولكن يبقى السبب الرئيسي هو العصبية الطائفية السلطوية التي تخترق بشكل شبه تام الهيكل العسكري والأمني والذي أصبح واضحاً لاحقاً لكل ذي عين.

في هذه القضية يحق لتيار مواطنة أن يقول: إنه لم يغرق في هذا الحلم الذي هو التآكل المنشود. والغريب في الأمر أننا سمعنا ولا نزال نسمع ويبدو أننا سنظل نسمع من الغالبية الساحقة من قوى المعارضة- بل ومن الخارج في البدايات- أشياءً من قبيل الضعف الشديد والسقوط الذي على الأبواب، وهذه قضية ينبغي النظر فيها بعيون مفتوحة وبعقول باردة وبعواطف شحيحة.

أما فيما يتعلق بالتدخل الخارجي فإن الذي شجع المعارضة هو ما حدث في ليبيا التي أُسقِط القذافي فيها عبر تدخل عسكري خارجي داعم، ومشجّع لانقسام داخلي وصل إلى قلب المؤسسة العسكرية وهو ما لم يحصل في سورية.

ومن الإنصاف القول هنا إن المعارضة لم تكن وحدها هي المسؤولة، لأن العالم الغربي شجّع على هذا الحلم في البدايات عبر حديثه عن فقدان الأسد للشرعية ورسم الخطوط الحمراء، واعتبار السلطة السورية ساقطة في زمن غير بعيد، بل لقد وصلت بعض أطراف المعارضة أو على الأقل بعض الأشخاص إلى القول:” إن السلطة جثة متعفنة تنتظر من يدفنها”، وقد تبيّن في حينه أو لاحقاً أن هذا الكلام مجرد كلام معلق في الهواء.

لقد شّجع دعم المعارضة بالسلاح– وإن يكن غير كافٍ وغير نوعي– على الحلم السابق الذي انخرط فيه الجميع بشكل أو بآخر بدءاً ممن يعتقد أن التدخل الدولي قادم بالتأكيد ومن يرجح ذلك أو يأمل فيه وصولاً إلى من يعتقد بضرورته بغض النظر عن قدومه من عدمه- انطلاقاً من اعتبار إمكانية سقوط السلطة- الطغمة بدون تدخل عسكري خارجي صعب المنال- وانتهاءً بالجمهور الشعبي الذي كان غارقاً في هذا الحلم.

خلاصة القول، لا السلطة كانت ضعيفة بل بقيت متماسكة تماسكاً صلباً إلى حد كبير، ولا السقوط السريع كان ممكناً بالتالي، ولا التدخل العسكري الخارجي حصل، واكتفى المأمول منهم ذلك بالدعم المعنوي والسياسي وإعلان النوايا الطيبة دون ترجمة ذلك فعلياً على الأرض مع بعض الدعم بالسلاح غير النوعي، وعند هذه النقطة استيقظ الحالمون جميعاً وارتدوا على العالم يمطرونه بالهجاء المقذع والنقد الجارح واعتباره المشجب الذي يتحمل المسؤولية والذي تعلق عليه كل إخفاقاتنا وهزائمنا متناسين في هذه الحال مسؤوليتنا الكاملة عن توقعاتنا على الأقل في مسألتي ضعف السلطة وإمكانية سقوطها السريع والتي كانت نقيض الواقع الفعلي، الأمر الذي كانت له منعكساته علينا وعلى قضية شعبنا التي لانزال نحصدها حتى اليوم ناهيك عن المواقف الخاطئة التي وقفناها في بعض المحطات بالاستناد إلى هذه الأحلام.

ليت الأمر وقف عند الماضي لأنه كان مضى معه، فالأسوأ هو استمراره في الحاضر حيث لا نزال نبرع في الحديث عن ضعف السلطة ونخرها الداخلي، واعتبارها مجرد أداة بيد حلفائها لا حول لها ولا قوة، والحال إن الوضع الفعلي مختلف إلى حد كبير عن هذه المعزوفة المشروخة، فالسلطة -الطغمة لا تزال متماسكة وستبقى كذلك حتى إشعار آخر، وحلفاؤها بحاجة إليها مثلما هي بحاجة لهم، وحتى في غير هذه الحال فإنهم لا يملكون البدائل القادرة على الصمود.

إن تيار مواطنة يذهب إلى حد القول: حتى لو حصل انهيار اقتصادي وهو ممكن إلى حد كبير جداً، فإنه ليس من الضروري أبداً انهيار هذه السلطة مادامت العصبية التي أشرنا إليها قائمة، ومادام الحلفاء بحاجتها، ومادام الغرب لا يمارس الضغط الكافي بالقوة العسكرية الداخلية والخارجية.

[1] نقصد بالتيار هنا: التيار السائد في الانتفاضة السورية والذي هو التيار الإسلامي والشعبويّ بتلاوينه كافة بما في ذلك الفصائل العسكرية المسلحة.

[2]كالعادة نقصد بالمعارضة الوطنية هنا المعارضة ذات السقف العالي والتي يطلق عليها بعضهم المعارضة الخارجية تاركين ما يسمى بالمعارضة الوطنية الداخلية التي لها ربُّها الخاص إلى سياق لاحق إذا كان هنالك ما يكفي من الزمن والضرورة. 

[3] – الاسم الكامل للكتاب: مآسي حلب، الثورة المغدورة ورسائل المحاصرين، إعداد صبر درويش- محمد أبي سمرا.

 

تابع الجزء الرابع والأخير..

أو عودة إلى الجزء الثاني…

Loading

الكاتب admin

admin

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة