بالخلاص يا شباب!… تحطيم أسطورة السجين السياسي- مروان عبد الرزاق
«بالخلاص، يا شباب، بالحرية» إنه شعار كل السجناء بعد كل اجتماع لهم، حيث ينادون بالحرية للتخلص من السجن البغيض. ونحن لسنا أمام رواية، حيث تفتقر إلى الصيغة الأدبية، أو اللغة الشعرية، كما أنها تتضمن مقالات صحافية، كتبت في أزمنة متعددة، وليست وثيقة سياسية تفضح النظام وجرائمه المعروفة لكل البشر، إنما وثيقة سيرة ذاتية لياسين الحاج صالح، وهو في السجن لمدة ستة عشر عاما، بسبب انتمائه إلى الحزب الشيوعي السوري – المكتب السياسي، الذي كان يعمل ضد النظام ونحو التأسيس لدولة مدنية ديمقراطية، ويرغب في تحويل حديثه عن السجن إلى موضوع ثقافي، يتضمن العديد من الآراء حول: الزمن، والعلاقة بين السجناء، والحزب، والأيديولوجيا، ووحشة السجن، وسجن تدمر، والإفراج عن السجناء، وغيرها من المسائل، باعتبار السجن ظاهرة شملت كافة التيارات السياسية، في ثمانينيات القرن الماضي.
حيث استخدم الإخوان المسلمون السلاح ضد النظام لإسقاطه، متحالفين مع السلفية والبعث العراقي. وكان الشيوعيون الذين يدعون إلى التأسيس لدولة ديمقراطية حديثة، مصبوغة بـ«الاشتراكية» بين مطرقة النظام الطاغية، وسندان الإخوان المسلمين، كقوى رجعية تحاول التأسيس لدولة إسلامية. و«الحزب الشيوعي – المكتب السياسي» اعتبر حركة الإخوان حركة شعبية تطالب بالحرية والديمقراطية، ويجب مساندتها، كما ورد في كل أدبياته، خاصة في «بيان إلى الشعب» باسم «التجمع الوطني الديمقراطي» الذي يضم العديد من القوى القومية والشيوعية، في مارس/آذار (1980) وتم اعتبار ذلك من قبل النظام بأنه تحالف مع الإخوان. و«حزب العمل الشيوعي» الذي حجب شعار إسقاط النظام، حتى لا تستفيد منه القوى الرجعية، واقتصر على شعار «دحر الديكتاتورية». ورغم ذلك تم اعتقال الجميع بدون استثناء، من أقصى اليمين، إلى أقصى اليسار، مع كل من همس ضد النظام، لكن أن يجتمع الشيوعيون، والإخوان المسلمون في سجن واحد، تصبح مفارقة صعبة التحليل في سجون الطاغية.
2
كان أغلبنا أعضاء في أحزاب سياسية، وكل حزب يعتبر نفسه الأفضل. وحتى نحارب الزمن ووحشة السجن، كان البعض يلجأ إلى بعض التسلية بالأعمال اليدوية، والآخرون إلى القراءة، حيث كانت مكتبة السجن ضخمة. وأعرف العديد من الذين انهاروا في التحقيق، بدون أن يعترفوا، أو من الذين قدموا طلبات الاسترحام، أو الذين قدموا تقارير كيدية ضدنا للأمن السياسي، بدون أن يخرجوا جميعهم، وتركوا لجوارحهم النازفة، إذ كيف نتصالح مع أنفسنا، ونستحق حريتنا. وكنا نشعر بالتقزم الإنساني والعاطفي، بحيث أن جميعنا «تبهدلنا» في علاقتنا مع المرأة. وكنا في سجن المسلمية في حلب، أشبه بمخيم غجر، لا توقيت لليقظة والنوم، وكانت شرطة الأمن العسكري أكثر شراسة من الأمن السياسي، لكن بالعموم كانوا «طيبين» وكانوا جميعهم مستعدين للانقلاب والتعذيب، مثلا عندما رفضنا أن نهتف للطاغية. وتحسنت علاقتنا مع جماعة حزب العمل بعد التخلي عن أيديولوجية السجن، وأصبحنا نتعامل بحياتنا المديدة بإيجابية وواقعية.
وفي عدرا كانت الفوارق الأيديولوجية واضحة وقوية. وكان التكافل الحلبي والتسامح أعلى. وكانت مجموعتنا وكل المجموعات الأخرى متمزقة، وكان الموقف واضحا ضد الأمريكيين، وحلفهم ضد الحرب على العراق، وكذلك ضد النظام السوري والعراقي، بينما الآخرون كانوا مؤيدين للعراق ونظامه.
3
وكانت محاكم أمن الدولة، كبديل عن التوقيف العرفي «مهزلة» حيث صدرت الأحكام ضدنا بالسجن لخمسة عشر عاما، ونحن لم نحمل السلاح وننادي بالديمقراطية والاشتراكية وحقوق الإنسان. وكان التوقيف العرفي أرحم علينا، إذ يمكن الإفراج عنا في سنوات أقل. وفي نهاية الحكم كان يطلب منا أن نقدم بطاقة شكر للرئيس، لأنه أفرج عنا، وأن نتعامل مع الأمن، وعندما رفض الراوي مثل غيره التدريب على الخيانة، جرى تمديد الحكم لسنة إضافية في تدمر.
وتدمر يعني سجن «العار» السوري، حيث الزمن مفقود، والتأبيد التدمري مع التعذيب اليومي هو السائد، وكانت «التشريفة» أي تعذيب الاستقبال، لكسر العين، وتم وصفنا بالصراصير الغدارة، حيث يكون سحقها أمرا مرغوبا وواجبا. وكل شيء ممنوع حتى أن نرفع رؤوسنا لرؤية السجان، وذلك لبث الرعب في قلوب السجناء، ولعدم أي تفاعل بين السجين والسجان، وحتى لا ننتقم من السجانين في السنوات المقبلة.
4
والإفراج عن السجناء لا يعني الإفراج عن السياسة، حيث لا أحزاب، ولا جمعيات ثقافية، ومجتمع مدني، حتى إن البعض يشبه الجو العام بالسجن الكبير، وأنه لا يختلف عن السجن الصغير، وهذا غير صحيح لأنه يغفل حالة التعذيب والألم بالنسبة للسجناء. وتختلف حياة السجناء حين خروجهم من السجن. فهل انهار السجين أم لا؟ هل خرج بورقة المساومة أم لا؟ وهل كان متزوجا أم لا؟ وكيف تعامل مع المرأة؟ هل كان منهارا أمام جميع النساء أم لا؟ وكانت الصعوبة بأن يجد عملا عند الدولة لأنه محروم من الحقوق المدنية ومعارض. وقد برزت من السجن مجموعة من المثقفين حيث امتلكوا رأسمالا رمزيا نتيجة التراكم المعرفي واللغوي، التي أنقذتهم من وحشة السجن. وهؤلاء وجدوا أعمالا في الترجمة والعمل في الشأن العام بمناداتهم بالديمقراطية وحقوق الإنسان، وعملوا في ربيع دمشق وتم سجن قسم منهم من جديد، وكذلك في منظمات العمل المدني، التي أغلقها النظام حتى لا تتحول إلى منظمات شعبية تطالب بالحرية.
5
وتنكشف كل خصوصيات السجناء بالمعاش المشترك، سوى الخصوصية الجوانية، التي يؤسسها كل فرد، وتكون خصوصية حرة ذاتية للتحرر من كل الأغلال. وفي السجن كانت ثورة الراوي و«الطفولة الثانية» حيث كان مهزوما عاطفيا وثقافيا ودراسيا. واستطاع أن يحوز ثقافة جديدة كان يفتقرها. فترك الشيوعية، لأنها ذات نظام مغلق، أمام الإنجازات الإنسانية المفتوحة، بحيث كانت مجموعتنا ضعيفة التجانس الأيديولوجي. وترك الحزب، وتحرر من الخصومات داخل الحياة الحزبية، حيث بقيت في عصر انحطاطها في تدمر. وبقي ثابتا على أهداف الحرية والمساواة، ويساريا ضد أصحاب السلطة والثروة. وتعلم اللغات بفضل السجن ورغما عنه، حتى يروض وحشته، حيث كان النظام حريصا على هزيمتنا أخلاقيا وسياسيا. وكان تصوري للسجن كتجربة كلية تعني الانعتاق الفكري والنفسي والأخلاقي، وصراعا قاسيا ضد شرارة الموجودين فيه، وأصبحت حرا أكثر في السجن، إذ بالثقافة و«الاستحباس» يمكن القضاء على الزمن ووحشة السجن. وكانت تجربته مع الكهول من السجناء مؤسفة، حيث تحجروا في مواقفهم، وارتضوا تحويلهم إلى أيقونات منذ ما قبل السجن.
كذلك يجب التمييز بين السجين والعالم الخارجي. وكلما كانت المذهبية الخارجية مسيطرة، على الهوية السجنية، فإن هذا يدفع إلى المزيد من التمزقات والتناقضات. والهوية الوطنية في السجن هي الأساس لتعلو على الهوية المذهبية، بدون التخلي عنها. فالسجن تجربة وطنية عامة، ومن الضروري الدفاع عن استقلالية السجين عن العالم الخارجي، حيث هناك تعارض مطلق بين السجين والحرية، حيث لا حرية في السجن، ولا سجين في الحرية.
6
وضمن مثاقفة الراوي للسجن والسجناء، يقدم أطروحة خطيرة، وهي أنه «يجب تحطيم أسطورة السجين السياسي» لأنه «يعتقل ويصمد ويتفكك، وهو ليس رمزا لواجب بطولي، إنما يبقى متماثلا مع ذاته، ويصبح تجسيدا لفكرة مجردة.. ومن هذا البطل المنهار، كأنه نبتة برية يجب اقتلاعها». «إذ كيف نكافح من أجل الحرية ونحن لا نمارسها، ولا نحاول التعرف إليها، حيث يتطلب الأمر بطولات من نوع مختلف مثل: الصبر، والمثابرة، واحتواء النزاعات». على الأرجح هذا الرأي مستمد من القيادات الحزبية «المتحجرة» والجاثمة على رأس التنظيم، التي لا تعرف الحرية، لكنهم جميعهم صمدوا في وجه الطاغية والسجان، ولا يجوز اقتلاعهم، لأن المرحلة التاريخية للحركة الشيوعية هي كذلك، وفي ما بعد تحولوا إلى الليبرالية وحقوق الإنسان. والوطنية داخل السجن تجسدت في التفاهم مع الإسلاميين، والعراقيين، وهذه نقطة لصالح الشيوعيين.
لا أحد مهما كان مثقفا أم لا، يمكن أن يدعو إلى تحطيم أسطورة السجين السياسي في سوريا، إلا إذا كان يعبر عن عقدة نفسية داخلية في نفسه، حيث المطلوب فرز السجين السياسي عن المسترحمين، والمنهارين، وكاتبي التقارير كما فعلت. ويجب إعلاء شأن السجين السياسي الذي يدافع عن الحرية. فالسجين السياسي هو عنوان للحرية، يصمد في وجه الجلاد، ويكون صابرا ومثابرا، ومتابعا لشؤون حزبه في الخارج، مع المحافظة على الوحدة الوطنية للسجناء، وهؤلاء يتم رفعهم لمرحلة القداسة. ونحن في حاجة لهذا النوع من السجناء، وليس من يتركون أحزابهم، أو من ينهارون أمام الجلاد، ويعملون مخبرين. من ينطق بكلمة «الحرية» هو سجين سياسي حتى لو كان مبتدئا، إذ سيتعلم السياسة تدريجيا، ويجب أن يتم احترامه وتقديره، وليس اقتلاعه. وكم نحن في حاجة إلى هذا الجيل الشاب الذي يعرف الحرية، ويدافع عنها.
مروان عبد الرزاق – القدس العربي
1 – ديسمبر – 2020
الآراء الواردة بالمقال تعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة أن تعبر عن رأي الموقع