نتفهم جيداً خطاب دونالد ترامب- موفق نيربية
لعلنا نشهد اليوم الفصل الأول في استعادة بعض الرصانة إلى أخبار الولايات المتحدة، مع تنصيب جو بايدن رئاسة البلاد اليوم الأربعاء، واستعادته لاستقلال البيت الأبيض، من يد ترامب المتشبثة به بعنف.. وحتى نتأكّد من ذلك، يمكننا الهزل والعبث قليلاً، واستحضار أشباحنا الخاصة، ولو ظهر الأمر غريباً بعض الشيء.
في الأساس، لم يكن ممكناً لنا إلّا الأسف للمشهد الأمريكي الحالي، الذي يتعرّض فيه إعلان الاستقلال والدستور الأمريكي؛ وهما من أصول تاريخ الديمقراطية في العالم؛ لامتحان صعب وتاريخي كهذا الذي نراه على الشاشات المختلفة الأشكال، من الهواتف المحمولة إلى الكومبيوترات إلى التقارير المصورة على التلفزيونات. لكننا – بعض السوريين المنكوبين- نفتّش كعادتنا عن جانب الكاريكاتير (غير الشامت) في ما نراه، تهرّباً من تلك الكآبة المقيمة.
يواجه الجمهوريون من جماعة ترامب ما حدث من تمرّد وتخريب ودماء في مبنى الكابيتول، بدعوات إلى الوحدة (الوطنية) وإلى تجنّب الخطوات التي من شأنها تعميق الانقسام الداخلي. ويردّ عليهم بعض الديمقراطيين أنه لا يمكن الحفاظ على الوحدة من غير مساءلة ومحاسبة، ومن غير أن يتحمّل المسؤول عمّا حدث نتيجة ما قام به، وفقاً للدستور والقانون، حتى لا يكون الإفلات من العقاب من حقوق الرئيس، يستطيع من خلالها أن يؤذي بلاده ويعود بها إلى الوراء سنينَ أو عقوداً أو قرونا. وإضافة إلى ذلك، يتحدّث أولئك أيضاً عن أهمية تجنّب المزيد من الاستفزاز والإثارة من قبل الديمقراطيين، الذين يتصرفون وفق معايير مزدوجة، والعمل على التهدئة التي تتيح للصلح مكاناً. وربّما يكون ذلك، فيما يقول بعضهم أيضاً، من مصلحة الرئيس الجديد وسلاسة استلامه مسؤولياته واستكمال بناء إدارته. هنا يشيرون كذلك إلى خطأ التوقيت، وخطيئة التسرّع وفقدان الصبر.
ذلك كلّه من الثقافة السورية مع ديكتاتوريتها الخاصة وديكتاتورها المتميّز.
لا تنعكس القيم، التي عبّر عنها إعلان الاستقلال بتاتاً في سياسات دونالد ترامب وعلاقاته مع العالم الخارجي. وهو يعتبر علاقته الخاصة مع كيم جونغ أون طاغية كوريا الشمالية نجاحاً كبيراً يفخر به. يقول إنه» معجب به، وهو معجب بي» و»قد انسجمنا بشكل ممتاز» و»أحترمه وهو يحترمني». ولذلك لم يستطع السوريون الوثوق بعمق بخطواته التي بدت أحياناً قوية أمام نظام الأسد، وكانت ردود أفعالهم عليها مترددة دائماً.
لم يقل أنصار دونالد ترامب – شبيحته- مباشرة وبابتذال: «ترامب أو نحرق البلد» مثلاً، ولكنهم أثبتوا بالدليل الملموس والطريقة الأمريكية من القرن التاسع عشر، إنهم يمكن أن يفعلوا ذلك من دون تردد.. وهو قادر باتحاد «ميليشياته» التي ظهرت أسماؤها بعد «غزوة الكابيتول» من مثل» فتيان العزّة» و»المحافظين على العهد» ومنظمات نظرية المؤامرة، والقوى النازية الجديدة وغيرها. وانعكس ذلك في السلوك التخريبي المباشر، وفي الشعارات والأعلام التي وصل بعضها إلى استعادة علم كونفيدرالية الجنوب من زمن الحرب الأهلية، وأيضاً علم الكوكلوكس كلان. وفي المقابل، لطالما عجز السوريون عن حفظ أسماء ميليشيات «فاطميون» و»زينبيون» و»حزب الله» و»عصائب أهل الحق» (ولا ننسى أيضاً بروز أسماء شبيهة مضادة في الجهة الأخرى، تحتاج إلى دراسات خاصة بدورها، تلتقي مع النظام في بعض عواملها وتفترق عنه في غيرها). ولكنّ الخصائل الأكثر عمقاً واتصالاً، هي تلك التي تتعلق بالخطر على الوحدة الوطنية، والإساءة إلى الاستقرار، واختيار التوقيت الخاطئ.. والفاعلية السياسية المعتمدة عملياً على إرهاب الخصوم وإثارة فزعهم. وحدها تهمة الإرهاب نجت من خطاب ترامب وجماعته، في حين ما زال الحذر الزائد يتملّك الديمقراطيين، ولم يلفظوا تلك الكلمة الحرام في وصف الأنشطة المضادة إلا لماماً، وبعد الهجوم على الكابيتول.. المراجع القانونية مثل النائب العام، أو «أف بي آي» ما زالت متحفظة حتى الآن على استخدام الكلمة، ربّما تجنّباً للإثارة.
يلتفت بشار الأسد وأجهزة إعلامه كثيراً إلى الوحدة الوطنية، وما أثارته قوى المعارضة «الإرهابية» من خللٍ في البنية الاجتماعية، وتهديد للجذور الوطنية التي ميّزت سوريا عبر القرون، وازدهرت خصوصاً في زمان الأسد. وهو ما زال حتى الآن يحاول إزالة آثار ما طرحه سابقاً حول إنجاز «التجانس» الذي لا يحتاج إلى عودة أولئك السوريين، الذين أصبحوا نازحين ولاجئين في كلّ مكان، حتى يبقى شعبه كلّه على شكله ومزاجه. يحاول إحلال مفهوم «التكامل» بدلاً عنه.. عبثاً. يجد ذلك التجانس ما يشبهه هناك بعيداً، مع الأقلية البيضاء الثائرة في عهد ترامب، وسياسة العداء لكلّ تلويث ملوّن أو غريب عنها، رغم ما يلاحظه المراقبون من تخلّف ووحشية في الكثير من مظاهر ونشاطات جماعة «التفوق الأبيض» وعنجهيّتهم التي خبرنا الكثير مما يقاربها في تجاربنا.
أما في واشنطن، فقد وردت مسألة الخطر على الوحدة، وإثارة الانقسام الوطني مراراً وتكراراً في محاولات درء محاسبة ترامب وتعطيل عملية محاكمته، وليس من قبل ليندسي غراهام، وميتش ماكونيل وحدهما، بل من كثيرين غيرهم، ومن ترامب نفسه، وللعجب ذلك نوع من الخطاب المفيد في فنّ القتال أثناء التراجع وهجوم الخصم الداهم. وفي مجال مفهوم «الاستقرار» وتعطيل كلّ ما يمكن أن يسيء إليه؛ أو ادّعاء المحافظة عليه من قبل كلّ من يريد استدامة سلطته؛ فنحن أهلها، ورثناها وورثها بشار منذ جاء الأسد الأب إلى الحكم بعد انقلابه عام 1970. وكان البطريرك قد استوعب أهمية المفهوم للسياسة الأمريكية الدولية في جلساته الطويلة جداً مع هنري كيسنجر ووارين كريستوفر ومادلين أولبرايت، في ظلال الحرب الباردة ونظامها الدولي والإقليمي. لذلك ما انفكّ بشار الأسد يكرّرها عبثاً على مسامع العالم، غير مدرك لما تغيّر في هذا العالم بذاته وبتحوّلاته، أو بما خبره منذ الربيع العربي وتفكّك كلّ المعادلات القديمة. رغم ذلك، ربّما كان أكثر ما يتعلّق بنا هو ألّا ينجح دونالد ترامب بالإفلات من العقاب، لأن ذلك سيكون عبئاً إضافياً، يوجّه ضربة كبرى إلى كل تراث الأمم المتحدة، وجهود تكريس شرعتها وشرعة حقوق الإنسان، بالقانون الدولي والقانون الإنساني العام. وسيكون الإفلات الأمريكي من العقاب «اجتهاداً قانونياً» يشكّل سابقة تدخل بطريقتها مرجعاً على هوامش تلك القوانين والمحاكم التي أنجزها الإنسان في القرن العشرين الراحل، بحروبه العالمية وتجاربه الكبرى وتحوّلاته.
ليس من الخطأ أن ينتبه الأمريكيون إلى خطر الانقسام، ويبذلوا الجهود من أجل استعادة الوحدة والشراكة، وهذا من أهداف بعض ما يجري من قبل بعض الجمهوريين، خاصة من قبل الرئيس الجديد.. ولكن التغاضي عن تطبيق الدستور والقانون وإجراء المحاسبة والمساءلة وفقاً لأحكامهما، ومنح المذنب حق النجاة بفعلته، يمكن أن يقوّض الديمقراطية والوحدة الوطنية وكلّ إنجازات العصر الحديث. وعلى ذلك أيضاً وبالقياس، يجهد بعض السوريين في ظروف غير مواتية تماماً حتى الآن، حتى لا يكون حرصهم على السلام في بلدهم المنكوب، وسعيهم لتطبيق القرار 2254، وتحقيق الانتقال السياسي بتسوية حدّد بيان جنيف خطوطها الأساسية، ابتداءً بتعميم وقف نهائي لإطلاق النار وإطلاق المعتقلين من سجونهم.. ومساءلة الجميع في أيّ جهة كانوا، وليس بشار وضباطه وحسب، في إطار العدالة الانتقالية.. طريق المصالحة والتسوية الوطنية الإجباري.
فإتاحة وتسهيل الإفلات من العقاب طريق إلى جحيم متجدّد آخر.. وينبغي للبؤ\س والتعاسة الراهنين أن لا يكونا تبريراً لغير ذلك.
موفق نيربية – القدس العربي
الآراء الواردة بالمقال تعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة أن تعبر عن رأي الموقع