خطوة الألف ميل في طريق العدالة، أم خوض في وحل السياسة؟ محاكمات كوبلنز إلى أين؟

تعتبر المحاكمات العادلة ضد مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والمبنية على الشرعة الدولية لحقوق الانسان والتي تعتمد افضل المعايير الدولية في أصول المحاكمات، هي الطريقة الأنجع لتحقيق العدالة لضحايا الحروب والانتهاكات المختلفة، والجرائم ضد الانسانية. فبدون عدالة لا يمكن أن يكون هناك سلام حقيقي ومستدام، وبالتالي هناك ضرورة كبيرة لفهم ووعي أهمية تحقيقها في بناء ووضع حجر الأساس لدولة المواطنة الحرة، وسيادة القانون، وبشكل خاص اذا كانت تلك الدولة قد عاشت أو لازالت تعيش حالة حرب وانتهاكات فضيعة وصارخة في حقوق الإنسان، كما هو حال سوريا هذه الايام.

في الأمس القريب وتحديداً في 24 شباط المنصرم أدانت المحكمة الإقليمية العليا لولاية “راينلاند بفالز” في مدينة “كوبلنز” الألمانية، المتهم إياد الغريب، الذي كان ضابط صف في صفوف النظام السوري قبل انشقاقه ولجوئه إلى أوروبا، بعد خدمته في إحدى الأجهزة الأمنية التابعة للنظام (فرع الخطيب – فرع أمن الدولة 251) ومقره العاصمة دمشق. وجاء قرار المحكمة بسجن الغريب لأربعة أعوام ونصف، بعد أن تم توقيفه قبل عامين، ليفجر سجالاً سياسياً بين السوريين عبر وسائل التواصل الاجتماعي وفي الإعلام، فمنهم من أيد الحكم واعتبره حكما تاريخياً كأول حكم قضائي في العالم يتعلق بالجرائم التي ارتكبها وما يزال نظام الطغمة في دمشق، وكذلك أعتبر الكثير من الحقوقيين والناشطين المؤيدين للحكم، أن ما تحقق في “كوبلنز ” بعث برسالة قوية لكل المجرمين الذين مازالوا يرتكبون أفظع الجرائم في سوريا، بأن زمن الإفلات من العقاب قد ولىّ، وهو رسالة أيضاً لكل المتواطئين الذين سهّلوا وساعدوا المجرمين في ارتكاب جرائمهم بأنهم ليسوا بمأمن من العقاب، وأنهم لن يجدوا أعذاراً تبرؤهم من تبعات الجرائم التي شاركوا في ارتكابها بأية طريقة كانت. وكذلك عبروا عن أملهم أن يفتح هذا الحكم الباب واسعاً أمام ملاحقة جميع مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في جميع دول العالم، وخاصة في الدول الاوربية.

وفي المقابل هناك الكثر من النشطاء الذين عارضوا تلك المحاكمة منطلقين في ذلك بأن هناك من يتساءل عن الفائدة المرجوة من محاكمة الرتب الصغيرة في نظام الدكتاتورية، ولم لا يتم التركيز على محاكمة المجرمين الكبار، بدءاً من الدكتاتور الأسد إلى رؤساء الأجهزة الأمنية؟ وهناك أيضا من ويقول:  لمَ يتم فقط التركيز على محاكمة المنشقين عن نظام الأسد في أوروبا، ما دفع بالبعض حتى الى التشكيك في مصداقية تلك المحاكمات منطلقين من ذهنية المؤامرة على السوريين من خلال محاكمات تطال المنشقين، الذين طلبوا اللجوء على وجه الخصوص إلى الدول الأوربية، ليكونوا من جهة عبرة لغيرهم ممن ينوون الانشقاق عن النظام، ومن جهة أخرى ليقدموا خدمة مجانية للنظام الطغمة في دمشق في تصفية حساباته مع تلك العناصر المنشقة والتي تجرأت على كسر عصا الطاعة.

الرد على تلك الاتهامات جاء سريعاً من المختصين وممن شاركوا كنشطاء وحقوقيين في هذا التحقيق ممن كان لهم دور وجهد لا يسعنا  إلا أن نقف أمامه بكل الاحترام والتقدير حيث عبر المحامي ميشيل شماس ورداً على كل تلك التساؤلات والتشكيكات، بالآتي: “للأسف من يقول ذلك هو يريد التشكيك في كل ما  نقوم به، وهو لا يريد أن يرى الجهود التي نقوم بها، ولو أنه تابع جيداً لاكتشف بسهولة أن أول خطوة قمنا بها في مجال ملاحقة المجرمين، هي ملاحقة الكبار منهم بمن فيهم رأس النظام. وللتوضيح أكثر فقد ساهمنا في تكوين أكثر من سبعة قضايا منذ العام 2016 ضد أكثر من ستين مسؤولاً في نظام الأسد وفي مقدمتهم بشار الأسد وشقيقه ماهر، وهذه القضايا قدمت للسلطات القضائية في عدد من الدول الأوربية، منها أربعة قضايا في ألمانيا وواحدة في كل من فرنسا والنمسا والسويد والنرويج، وهناك أيضاً دعوى مقامة في سويسرا ضد رفعت الأسد بتهم ارتكاب مجازر في حماه في ثمانيات القرن الماضي. وقد صدرت مذكرات توقيف دولية بحق رئيس إدارة المخابرات الجوية السابق اللواء جميل حسن، واللواء علي مملوك، ورئيس فرع التحقيق في المخابرات الجوية العميد عبد السلام محمود. كما تناسوا أيضاً قضية توقيف الطبيب السوري علاء موسى في ألمانيا المتهم بارتكاب عمليات تعذيب للمعتقلين في المشافي العسكرية التابعة للأسد”. واعتبر شماس ان كل الكلام عن المنشقين هو كلام غير صحيح إطلاقاً، حيث قال: “نحن لا نركز على محاكمة المنشقين وهم ليسوا هدفنا، وإنما نركز علي ملاحقة المسؤولين عن التعذيب والقتل في نظام الأسد. اما بالنسبة لإياد الغريب وأنور رسلان فالسلطات الألمانية هي من بادرت إلى التحقيق معهم وتوقيفهم وإحالتهم للمحاكمة. وبكل الأحوال فالمنشقون الذين تمت ملاحقتهم حتى الآن لا يتجاوز عددهم الاثنين فقط، هما العميد أنور رسلان رئيس قسم التحقيق في فرع الخطيب والمساعد إياد الغريب”. واستطرد قائلا: “لقد سبق أن أكدنا مراراً وتكراراً إن هذه المحاكمة التي تجري اليوم في “كوبلنز” لا تستهدف المنشقين لأنهم انشقوا عن نظام الأسد، بل لأنهم ارتكبوا جرائم بصفتهم جزءاً من النظام الأمني السوري، ويجب أن يحاسبوا عليها، وإن التغيير والانتقال من ضفة لأخرى لا يمنح صاحبه صك براءة عن الجرائم التي ارتكبها، علماً أن الجرائم المنسوبة للمتهمين هي من النوع الذي لا يسقط بالتقادم ولا يشملها أي عفو، والقضاء المختص وحده من يقرّر إن كان المتهم مذنباً أم لا، والضحايا وحدهم من يملكون حق مسامحة المجرمين أم لا. والعدالة عمياء لا تمييز فيما إذا كان هذا المتهم منشقاً أم لا، موالياً أم معارضاً، ما يهم العدالة هو النظر في الفعل الجرمي لهذا المتهم أو ذاك بصرف النظر عن مركزه”.

كما واعتبر المدعي العام الفيدرالي في القضية- جاسبر كلينغ- أنّ لائحة الاتهام تضمّ فظائع ارتكبها موظفون أمنيون في نظام الأسد. ومن بين تلك الاتهامات، جرى التطرق في مداولات المحاكمة إلى عمليات التعذيب في سجون المخابرات السورية، ومن بينها “الضرب المبرح والصعق الكهربائي والتعليق من السقف بالرسغين والحرمان من النوم، ومختلف صنوف التعذيب لانتزاع اعترافات من المحتجين السوريين على حكم الرئيس بشار الأسد في سياق الربيع العربي عام 2011”.

وجرى أثناء الجلسات التطرق إلى آلاف صور التعذيب التي سرّبها مصور الشرطة العسكرية السابق، المعروف باسم “قيصر”، إلى جانب صور ضحايا التعذيب التي تقدّمت بها منظمة حقوق الإنسان الألمانية، وتفيد الشهادات بوجود “مقابر جماعية دفن فيها ضحايا التعذيب في سجون الأسد”. وعلى الرغم من دفوع محامي المدان، إياد الغريب، بأنه كان مجبراً على تنفيذ الأوامر وبأنه “مجرد موظف”، إلا أن القضاة لم يأخذوا بها، بل اعتبرت المحكمة أن “الموقف السلبي من الأوامر” هو بمثابة مشاركة في الجريمة بحق المدنيين السلميين الذين كانوا يتظاهرون أثناء الثورة السورية في دمشق وريفها.

إننا في تيار مواطنة نؤيد وبدون تحفظ تلك المحاكمات ونقدر عالياً كل من يدعم ويساهم في تحقيق العدالة ونؤكد على كل ما ذهب اليه الحقوقي ميشيل شماس وكل الناشطين والحقوقيين والمنظمات  المدنية والحقوقية التي لعبت دور في تلك المحاكمات والتي نعتقد أنه سيكون لها دور في احقاق الحقوق والسعي الحثيث لتحقيق العدالة للسوريين في المستقبل الذي نأمل أن لا يكون بعيداً.

أن تحقيق العدالة هو الطريق الامثل لإيجاد وتأمين المستندات والأدلة، ولتحديد ومعرفة المنفذين والمخططين والداعمين لتلك الجرائم والتعرف عليهم، ولتوثيق الحقائق ونشرها على الشعب، وتمكين الأجيال القادمة من حقبة مهمة من تاريخهم ليتسنى لهم استخلاص الدروس والعبر.

كذلك نعتبر إنه في عملية تحقيق العدالة لابد من تسمية الضحايا، ومواقع حدوث الجرائم التي ارتكبت ضدهم، حتى تكون حاضرة في ذاكرة التاريخ السياسي للدولة، وفي ذاكرة الشعب. إن قتل وتعذيب الخصوم السياسيين والاختفاء القسري، وهذا الكم الهائل من الفظائع والإجرام في حق الإنسان، من أجل مكاسب حقيرة ووضيعة، تحتم على المعنيين وأصحاب الاختصاص إغلاق كل المنافذ التي من شأنها أن تسمح للجناة من الافلات في مواجهة العدالة التي لابد أن تطال مخططي ومنفذي جرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية.

كذلك نرى في التيار، أن العدالة يجب تطال كل من خطط وساهم ومول ونفذ جرائم الحرب والبطش والاغتصاب الجماعي والنهب والتعذيب.

وفي النهاية لابد من التنويه إلى أنه، ليس مهم فقط أن يلاقي الجناة جزاءهم العادل، وإنما المهم أيضاً هو سردية الضحايا وذويهم وما أصابهم من أذى نفسي وجسدي ومادي، وكذلك أيضاً الكشف والتوثيق لكل أشكال العسف والبطش والتعذيب والتشريد والاغتصاب، وغيرها من الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبت بحقهم. مهم أن تظهر وتوضح الحقيقة حتى يقطع الطريق على تشويه وتزوير التاريخ. إن البحث عن الحقيقة هي رسالة إنسانية مطلوب اشهارها حيث تمثل كل جرائم الحرب وتلك التي ضد الإنسانية، مهما كان حجمها ومكان حدوثها، جريمة ضد كل البشرية. لذلك تعتبر ملاحقة ومحاكمة مرتكبيها، حق انساني وأخلاقي وتحقيق للعدالة الإنسانية للبشرية جمعاء .

تيار مواطنة

المكتب الاعلامي 3 آذار/ مارس 2021

 

Loading

الكاتب admin

admin

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة