تيار مواطنة مراجعة نقدية، أم تراجع منهجي؟

مقالات 2 admin

وصلتنا الدراسة النقدية التالية  من أحمد علي محمد لمراجعة التيار النقدية الاولية الصادرة عن مؤتمرنا السابع ١١/١٢-٢٠٢٠ وسنقوم بنشرها بالموقع  كما اعتدنا أن نهتم وننشر الرأي والرأي الآخر ….فيما يلي نص الرسالة

تيار مواطنة

مراجعة نقدية، أم تراجع منهجي؟

كتب أحمد علي محمد

بالإشارة إلى الوثيقة التي قدمها تيار مواطنة إلى مؤتمره العام السابع، المنعقد بتاريخ 31 / 10/ 2020 والمعنونة بمراجعة نقدية أولية، والتي تستهل باقتباس طويل لفرديريك أنجلز، مايشي بأن التيار لازال يعتمد الفكر الماركسي والأدبيات الماركسية كمهج في التحليل ودليل عمل نظري في قراءة الواقع والتاريخ بشكل عام، والواقع والتاريخ السوريين بشكل خاص، إلا أن القارئ سرعان ما يصاب بالخيبة حين يكتشف غياب كل ماله علاقة بهذا المنهج في القراءة والتحليل اللذين تضمنتهما الوثيقة، فحسب الوثيقة لاوجود لطبقات اجتماعية متصارعة، ولا شرائح اجتماعية متباينة المصالح ومختلفة بالتالي في توجهاتها وأهدافها، وبالتالي ثمة غياب كامل لما يسمى الصراع الطبقي في المجتمع السوري الحديث والمعاصر، إذ كيف سيكون هناك صراع طبقي إذا لم تكن هناك طبقات أصلا، فيما تتحرك الأحداث وفقا لإرادات أفراد، وهؤلاء الأفراد ينتمون إلى طوائف وأثنيات مختلفة،أقليات وأكثرية ديموغرافية، ليؤكد من ثم ما اعتبره اكتشافا يحل كل الألغاز المتعلقة بالحدث السوري ألا وهو مقولةالانقسام العمودي للمجتمع، هذا الانقسام الذي مازال يتعمق ويتعزز بمرور الوقت إلى أن أصبح هو العامل الحاسم في المآل الذي أفضت إليه انتفاضة الشعب السوري في الخامس عشر من آذار 2011 ، والتي ماكان من الممكن أن يكون لها مآل آخر، بناء على الانقسام المذكور. أي أن المشكلة أو الخلل إنما هو في الشعب السوري  ، هذا الشعب الذي لايمكن أن يقوم بثورة وطنية ديموقراطية ناجحة لأنه، منقسم عموديا إلى طوائف وأثنيات، وهكذا بعد أن كنا في إطارعطب الذاتعند الدكتور برهان غليون أصبحنا فيعطب الموضوععند الأصدقاء في تيار مواطنة.

سرير بروكروست.

وفق هذه الرؤية تقرأ الوثيقة الصراعات التي جرت داخل حزب البعث في ستينيات القرن الماضي مثلا، فهي صراعات بين مجموعات متنافرة من الضباط والسياسيين ينتمون إلى جماعات طائفية ( سنة،علويين، دروز، اسماعيليين)، لتقرر النتيجة التالية، وهي أن انقلاب الثامن من آذار هو انقلاب الأقليات على الأكثريةوعلى الرغم من كل ما ذكر أعلاه من إيجابيات وسلبيات، وعلى الرغم من كل النوايا الطيبة والسيئة والبرامجالخ، فقد كان الانقلاب المذكور منذ بدايته أقرب إلى انقلاب أقليات ديموغرافية، على الرغم من وجود شخصيات حقيقية من أمثال لؤي الأتاسي وزياد الحريري وأمين الحافظ الذين يتحدرون من الأكثرية الديموغرافية” ( الوثيقة ص 2).

أما لماذا تم الوصول إلى هذا الاستنتاج، على الرغم من وجود شخصيات حقيقية تتحدر من الأكثرية الديموغرافية؟ فلا تجيب الوثيقة بل هي تقفز عن هذا السؤال المشروع، مع العلم أن الشخصيات المذكورة كانت تحتل مواقع قيادية في الانقلاب، فلؤي الأتاسي كان رئيسا لما سمي حينها ( مجلس قيادة الثورة) وكان يوقع كل القرارات التي اتخذها هذا المجلس بصفته هذه، أما أمين الحافظ فكان رئيسا للجمهورية وقائدا عاما للجيش والقوات المسلحة، وهو الذي أعطى الأوامر بضرب مدينة حماه عام 1965، ثم تضيف الوثيقةولقد استمر تفاقم الطابع المذكور وصولا إلى انقلاب 23 شباط 1966 الذي أدى إلى تصفية كثيفة لمجموعة من الضباط السنة على رأسهم رئيس الدولة امين الحافظطبعا لاتشير الوثيقة إلى أن من بين الضباط المبعدين في هذا الانقلاب وزير الدفاع اللواء محمد عمران (العلوي )، وإذا كان العامل الديموغرافي هو المحدد في هذه الصراعات داخل حزب البعث، فكيف يمكن تفسير الانقلاب الأخير الذي حدث في 16 ت2 1970 طالما أن المنقلب والمنقلب عليه من أقلية ديموغرافية واحدة ( علويون)؟، إذ إن التفسير الديموغرافي يفترض وجود عصبة من أقلية معينة تنسق فيما بينها لإزاحة بقية المكونات ( الديموغرافية) عن مواقع السلطة، بل كيف نفسر وفق هذا المنطق تعاون أهم ثلاثة ضباط سنة مع حافظ الأسد في انقلابه على صلاح جديد ونهجه السياسي، أقصد اللواء حكمت الشهابي واللواء مصطفى طلاس واللواء ناجي جميل، وذلك قبل أن يكون لما سمي لاحقا ب(مجموعة العليات) تأثير يذكر داخل الجيش؟

إن مقولة الانقسام العمودي التي انطلق منها تيار مواطنة لقراءة وفهم التاريخ السوري الحديث أصبحت مثل سرير بروكرست، فلكي يتم تأكيدها لابد من لي عنق التاريخ ووقائعه، وبالتالي لا ضير في أن نشوه التاريخ ونزيف حقائق الصراع، بأن نهمل هذه المعلومة ونتجاهل تلك بحيث تتطابق الأحداث مع هذه المقولة وتندرج وفق هذا الفهم الذي لايمت إلى المنهج المادي في قراءة التاريخ بأوهى صلة. إن قراءة مادية تاريخية لهذه الحقبة تؤكد حقيقة كون البورجوازية الصغيرة التي صعدت إلى السلطة في انقلاب الثامن من آذار هي عبارة عن طبقة تتألف من عدة شرائح اجتماعية، عليا ومتوسطة ودنيا، وبالتالي هي طبقة متحدة ومتماسكة طالما هي في مواجهة مع البورجوازية الكبيرة والإقطاع، لكنها متباينة المصالح وتخترقها الخلافات والنزاعات حالما تستلم السلطة، فتختلف حول طبيعة البرامج السياسية والاجتماعية الواجب تبنيها وتنفيذها، لذلك فإن الصراع الطبقي الذي كان محتدما في الخمسينيات بين هذه الطبقة والطبقات الأخرى بورجوازية كبيرة وإقطاع، قد انتقل إلى داخل هذه الطبقة بعد وصولها إلى السلطة، وقد انعكس ذلك داخل حزب البعث عبر تيار يميني يتحدر أعضاؤه من أبناء العائلات وأثرياء الفلاحين، وهذا التيار يميل إلى نوع من المهادنة مع البورجوازية الكبيرة والاعتدال في التعاطي مع الطبقات البائدة بشكل عام، وتيار يساري راديكالي يتحدر أغلب أعضائه من الفلاحين الفقراء، ويميل إلى التشدد في الإجراءات الواجب اتخاذها ضد الإقطاع والبورجوازية الكبيرة، ويؤمن بالحل الإشتراكي كسبيل وحيد لتطور سوريا، كما مال إلى التشدد في تعامله مع الوضعين العربي والدولي، وتيار ثالث وسط بين التيارين السابقين، وقد تحالف تياري اليسار والوسط لإزاحة التيار اليميني في انقلاب 23 شباط ، فيما تمت إزاحة التيار اليساري في انقلاب 16 تشرين الثاني عام 1970 مكرسا انتصار تيار الوسط ، الذي استقبله التجار السنة في المدن الكبرى باعتباره مخلصا، وأطلقوا الشعار المعروف ( طلبنا من الله المدد فأرسل لنا حافظ الأسد)، الأمر الذي تتجاهله الوثيقة كونه لايتسق مع مقولة الانقسام العمودي للمجتمع، ونحن هنا لسنا بصدد تقييم توجهات كل تيار أو إطلاق أحكام بحق هذا الطرف أوذاك، ولكن مانود التأكيد عليه هو الطابع الاجتماعي للصراع السياسي من حيث هو صراع طبقي أولا وأخيرا ، وليس صراعا ديموغرافيا بين أقليات وأكثرية كما تصوره الوثيقة.

لاشك بأن الصراع الطبقي في مجتمعات العالم الثالث بشكل عام ومنها سوريا، يفتقر إلى النقاء والشفافية نظرا لتداخل التشكيلات الاجتماعية، واستمرار العلاقات ماقبل الرأسمالية، مع علاقات رأسمالية كولونيالية، وذلك بسبب أن البورجوازية لم تنم وتتطور في سياق طبيعي مثل نظيرتها الأوربية، وبالتالي لم تقم بإنجاز مهامها التاريخية في هدم المجتمع القديم وتصفية ثقافته وعلاقاته، بل تحالفت مع القوى التي تمثل هذا المجتمع القديم، لذلك كان من الطبيعي أن يتداخل الطبقي بالطائفي والعشائري والقبلي أحيانا، وبدل التوصيف العمومي الذي قدمته الوثيقة بمنظار طائفي بحت، كان يمكن البحث في أسباب هذا التداخل وانعكاساته على الصراع الطبقي ومآلاته اللاحقة، وقدرة البورجوازية على توظيف هذا التداخل بما يؤبد سيطرتها الطبقية، وهذا يحتاج إلى بحث خاص.

المصادرة على التاريخ.

تقوم الوثيقة بالمصادرة على التاريخ واحتمالاته عند الحديث عن الثورة السورية، في نوع من الحتمية التاريخية بصيغتها المبتذلة والفجة التي تصل إلى حدود الجبرية التاريخية، وإلغاء تأثير العوامل الذاتية ودورها في تعديل مسار الأحداث والتأثير في ترجيح أحد الخيارات الممكنة وتجنب خيارات أخرى، وذلك اعتمادا على المقولة التي ارتكزت إليهاالانقسام العمودي للمجتمع السوري، إذ تقول في الصفحة(7): ” والآن بعد هذه المقدمة التاريخية، وبغض النظر عما آل إليه الصراع في سوريا، هل كانت الثورة ممكنة، بمعنى أن تكون ثورة وطنية حقيقية قادرة على الحشد والتعبئة على هذا الأساس، وقابلة للانتصار بوصفها كذلك؟، نجرؤ على القول: أن ذلك أشبه بالمحال، ثم تكمل الوثيقة لتفسير هذه النتيجة الأخيرة بالقولوالآن،هل كانت هذه الانتفاضة السلمية قادرة على الاستمرار في بعدها السلمي والوطني؟ والجواب على ذلك من وجهة نظر التيار بالسلب، لا لأن السلطةالطغمة قمعت كل تحرك بوحشية وبوسائل ميليشياوية من الناحية الرئيسية فحسبعلى الرغم من صحة ذلكبل لأن انتفاضة شبه عفوية، لا رأس لها، ولا عمود فقري وطني صلب تقوم عليه، ولاوحدة سياسية مركزية تشمل كامل أرض الوطن، ولا استراتيجية حازمة تلتزم بها…. إلخ، من العسير أن تبقى كذلك.” (ص 8) وإذا كان التفسير الأخير لمآل الانتفاضة السورية صحيحا، وهو صحيح بنسبة كبيرة ، ويتلخص في غياب قوى سياسية فاعلة على الأرض وقادرة على أن تأخذ بيد هذه الانتفاضة نحو تحقيق الأهداف التي طرحتها على نفسها في الحرية والكرامة وبناء دولة القانون والمؤسسات، وبالتالي غياب قيادة سياسية واعية وناضجة لقيادة الانتفاضة وتوجيهها في ظروف بالغة الشدة والتعقيد، أقول إذا كان هذا التحليل صحيحا وهو صحيح بنسبة كبيرة كما ذكرت، فإنه كان على الأخوة في تيار مواطنة طرح السؤال الكبير التالي ومحاولة تقديم إجابة عليه من وجهة نظر التيار، ألا وهو: لماذا وصلنا إلى هذه الوضعية من الفراغ السياسي لحظة قيام الانتفاضة؟ وماذا كنا نفعل كقوى معارضة خلال أربعين عاما ونيف من عمر الديكتاتورية؟ خاصة أن نسبة كبيرة من كوادر التيار كانوا أعضاء مؤثرين وفاعلين وبعضهم كان قياديا في حزب العمل الشيوعي كما أعتقد، كنا نتوقع منهم مراجعة نقدية صارمة لهذه التجربة المترعة بالإخفاقات/ الدروس، ولو تمت هكذا مراجعة لكانت بحق مراجعة نقدية تستحق اسمها، إلا أن الوثيقة تقفز عن هذه التجربة، أو تتجاهلها، فهل يكفي أن يتم تشكيل تيار جديد حتى نطوي صفحة الماضي ونبدأ من جديد وكأننا ولدنا اليوم؟ أعتقد أن الأسئلة السابقة هي برسم الإجابة من قبل كل القوى المعارضة في حقبة ما قبل الانتفاضة، كل من موقعه وزاوية نظره، وليست متوقفة على تيار مواطنة أو التيارات الأخرى التي خرجت  من رحم حزب العمل الشيوعي فقط، لكن هذه التيارات الأخيرة معنية بهكذا مراجعة بكل تأكيد.

في إطار الإجابة على السؤال السابق سنجد إجابة سمجة وشبه جاهزة لدى الكثيرين، وهي أنه في ظروف الاستبداد المديد والديكتاتورية لم يكن ثمة إمكانية لعمل سياسي حقيقي، وأن الاستبداد قد عمل على تصحير الحياة السياسية في البلد، ، بل إن البعض سيذهب باتجاه إضفاء طابع فريد لهذه الديكتاتورية لامثيل له في العالم ولا في التاريخ، بحيث يتحول النظام إلى شماعة لتعليق كافة الأخطاء عليها، وذلك للتنصل من المسؤولية وتبرير الواقع السياسي عشية الانتفاضة، وهذا كلام مردود عليه، وجواب غير مقنع بتاتا، لأسباب عديدة أهمها أن الديكتاتورية معطى موضوعي، وبالتالي فإن جميع القوى السياسية المعارضة قد انطلقت في برامجها وممارستها من معرفتها بهذا الشرط، وهل كانت هذه القوى تتوقع من الديكتاتورية أن توفر لها الشروط اللازمة والمريحة والمثالية كي تناضل من أجل إسقاطها؟!، لقد تصرفت الديكتاتورية وفق منطقها ومصالحها، وما كان متوقعا منها غير ذلك، وبالتالي كان على هذه القوى اختيار التكتيكات المناسبة في ممارستها السياسية بما يتوافق مع هذا الشرط الموضوعي، ومن الإنصاف القول في هذا السياق أن بعض القوى المعارضة قد أتقنت الأسلوب الصحيح في التعامل مع الديكتاتورية نسبيا ( الاتحاد الاشتراكي العربي على سبيل المقال)، الأمر الذي ميز حضور هذا الحزب أثناء الانتفاضة،  وعلاقته المتينة مع جماهيره في أماكن انتشاره كريف دمشق وحلب، ولو توفر للقوى المعارضة الأخرى حضورا مشابها في مناطق انتشارها لتغيرت ملامح اللوحة، ولما وجدنا هذا الفراغ السياسي الذي استغله الإسلاميون، وهذا بحث مستقل لا يتسع المجال للاستفاضة به في حدود هذا المقال.

النزعة التبريرية.

تبدأ الوثيقة بالاقتباس عن أنجلز، في نص غير بريء يرمي ليس إلى تبرئة الذات وحسب، وإنما إلى تبرئة كل الذوات التي كانت ولازالت فاعلة أو غير فاعلة في الحدث السوري، داخلية كانت أم خارجية، تبرئتها من المسؤولية عن النهاية المأساوية للإنتفاضة السورية، وتحميل كامل المسؤولية تقريبا للظروف الموضوعية، التي يأتي في طليعتها الانقسام العمودي للمجتمع السوري، وموقع سوريا الجيوسياسي وغيرها من العوامل. ليس اكتشافا فذا القول بوجود انقسام عمودي في المجتمع السوري، فهو باد حاليا لكل ذي عين، ولقد تصاعد بشكل مطرد في السنوات العشر التي مرت على انتفاضة الشعب السوري، لكن هذا الانقسام لم يأت من فراغ، وإنما هو نتيجة مباشرة لهيمنة الممارسة السياسية للطبقة المسيطرة في الحقل السياسي للصراع الطبقي، وذلك بسبب ضعف إن لم نقل غياب الممارسة السياسية للطبقة أو التحالف الطبقي النقيض عن هذا الحقل، وفق تعابير المفكر الراحل مهدي عامل، لقد حمل الشباب المنتفض في كل الساحات لواء الثورة وشعاراتها المتمثلة بالحرية والكرامة والمواطنة ستة أشهر متواصلة آملين أن تتمكن قوى المعارضة الوطنية خلال هذه المدة من الاتفاق على برنامج وطني ديموقراطي يلبي طموحات هذه الثورة ويقود خطواتها نحو تحقيق أهدافها، لكن هذه المعارضة بكل تلاوينها لم تكن على مستوى المسؤولية المطلوبة منها، وعجزت عن الاتفاق على برنامج الحد الأدنى، فتمخضت عن عدة كيانات هزيلة مرتهنة للقوى الاقليمية والدولية، بقيت الانتفاضة ستة أشهر محافظة على سلميتها ووطنيتها وديموقراطيتها رغم العنف الشديد الذي مارسه النظام ضدها منذ اللحظة الأولى، ورغم محاولات التشويش والتشويه الإعلامي المتعدد الاتجاهات، ولعمري إن هذا إنجاز كبير يحسب لها، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن الانقسام العمودي لم يكن ينخر نسيج المجتمع السوري كما تدعي الوثيقة بمقدار ماكان ينخر نسيج معارضته ونخبه السياسية، التي ما إن تولت قيادة دفة الانتفاضة حتى أخذ مؤشرالانقسام العمودي بالتصاعد، هذه النخب التي كانت تدعي العلمانية بمعظمها، ولكن تبين أنها كالفجل ظاهرها أحمر وجوهرها أبيضا  حسب تعبير لينين، وإنه لمن المستفرب من الأخوة في تيار مواطنة أن يفهموا شعار الثورة ( واحد، واحد، واحد، الشعب السوري واحد) الذي أطلقه الثوار ردا على محاولات النظام اتهام الثورة بالطائفية، على أن هذا الشعار هو دليل إثبات على أن الشعب السوري ليس واحدا بالفعل، بدليل عدم طرح هذا الشعار في كل من تونس ومصر، بل هو منقسم بين طوائف وأثنيات!!!، إن عدم طرح شعار مشابه في الثورتين المصرية والتونسية كما أرى ليس دليلا على صحة ماذهب إليه الأخوة في التيار، وإنما لأن أحدا لم يتهم هاتين الانتفاضتين بالطائفية أصلا، وهكذا نجد أنفسنا من جديد أمام تفسيرات خاطئة من أجل توكيد الأساس الذي بنت عليه الوثيقة فهمها وتحليلها وهو مقولة (الانقسام العمودي للمجتمع السوري). إن غياب البديل الوطني الديموقراطي عشية الانتفاضة كان ثمرة لأمراض مزمنة عاشتها المعارضة السورية طوال أربعة عقود من عمر الديكتاتورية، وهذه المرحلة بالذات هي مايجب مراجعته ونقده واستخلاص الدروس والعبر منه؛ فهي تشكل الأساس الذي انبنت عليه الأخطاء اللاحقة.

المسكوت عنه في الوثيقة.

انسجاما مع المنهج الذي اعتمدته الوثيقة في قراءة الأحداث وتحليلها، فإنها تصمت صمت القبور عن أي ذكر للبورجوازية السورية ودورها وموقفها، سواء تعلق الأمر بعلاقتها التاريخية مع النظام، أم بموقفها المؤيد له بعد قيام الثورة، ولا أحسب هذا الإغفال قد تم سهوا، بل هو مقصود ومتعمد، لأن هذا الدور وهذه العلاقة تنسف المقولة المركزية التي نهضت عليها الوثيقة، أعني فكرة الانقسام العمودي للمجتمع السوري، وبالتالي تجعل كل الاستنتاجات التي انبنت على هذه المقولة عديمة القيمة والمعنى، وذلك ببساطة شديدة لأن هذه البورجوازية تنتمي بأغلبيتها لما سمته الوثيقة الأكثرية الديموغرافية (السنة)، وتتركز في المدن الكبرى دمشق وحلب، حلب التي ظل شباب الثورة يناشدونها لعدة أشهر من أجل النزول إلى الميدان، آملين أن تقلب موازين القوى لصالح الثورة بمشاركتها، لدرجة أخذوا يشنعون عليها تقاعسها عن المشاركة، والتي لم يمنعها من هذه المشاركة في الحقيقة سوى موقف بورجوازيتها الداعم للنظام، وهي لم تشترك بإرادتها عمليا، وإنما تم إقحامها في الأحداث من خلال تدفق مسلحي الريف عليها، فلننظر قليلا في وضعية هذه الطبقة وعلاقتها بنظام الاستبداد.

استبشر القطاع الخاص السوري من تجار وصناعيين مع قيام انقلاب 16 تشرين ثاني 1970 ، بعد أن تضرر هذا القطاع بشكل كبير بفعل القوانين والإجراءات المشددة التي اتخذتها قيادة 23 شباط بحق هذا القطاع، هذه الإجراءات التي ألحقت ضررا كبيرا بالاقتصاد السوري بما سببته من هجرة كثيفة للرساميل إلى خارج القطر وخاصة لبنان، الأمر الذي انعكس انتعاشا ملحوظا في الاقتصاد اللبناني في ذلك الحين، خفف النظام الجديد الكثير من القيود التي كانت مفروضة على القطاع الخاص، ولم يطل الوقت حتى تكونت البورجوازية البيروقراطية بشقيها العسكري والمدني في أحشاء النظام، بفعل الفساد والسرقات لأموال القطاع العام من جهة، والرشاوى التي كانت تتلقاها من القطاع الخاص من جهة ثانية، وهكذا نشأ تحالف غير مقدس بين شريحتي البورجوازية التقليدية والبيروقراطية على حساب الشعب السوري وبالضد من مصالحه، لم تخسر البورجوازية التقليدية شيئا في علاقتها هذه مع البيروقراطية؛ إذ إن الأكلاف الإضافية الناجمة عن هذه العلاقة صارت تحملها على سعر المنتج أو السلعة، وبالتالي دفعها جموع المستهلكين السوريين من لقمة عيشهم، الأمر الذي أدى إلى غلاء السلع في السوق السورية مقارنة بأسعارها في الأسواق المجاورة من جهة، ومع القدرة الشرائية للمواطن السوري من جهة أخرى، فعلى سبيل المثال كان سعر غسالة الأوتوماتيك المنتجة محليا في ثمانينات القرن الماضي حوالي ثلاثين ألف ليرة سورية، بينما كان سعر الغسالة المهربة ومن ماركات عالمية وبالتالي بجودة أفضل منها حوالي عشرون ألفا، الأمر الذي أدى إلى نشوء وتعاظم ظاهرة التهريب، التي كانت تقمعها السلطة كلما أحست بخطرها على المنتج المحلي، إذ يحدث التهريب عادة لأحد سببين، إما لفقدان المادة المهربة في السوق المحلية، وإما لغلائها مقارنة مع الأسواق المجاورة، وقد حققت البورجوازية التقليدية من خلال هذه العلاقة عدة أهداف/ فوائد، فهي قد ضمنت احتكار السوق المحلي وعدم منافسة السلع الأجنبية لها، وبالتالي فرضت السعر الذي تريده على منتجاتها أولا، وهي قد ضمنت جانب السلطة والأجهزة الأمنية وتعدياتها ثانيا، كما حصلت على عقود مشاريع حكومية بأسعار مضاعفة ثالثا، إن الأرباح التي جناها تجار السيارات على سبيل المثال تعتبر خيالية وذلك خلال فترة قياسية،( كان سعر السيارة يعادل عدة أضعاف سعرها الحقيقي في السوق العالمية)، وهذا ماجعل السيارة حلما بعيد المنال بالنسبة للمواطن السوري، وما كان ليتحقق ذلك لولا الاحتكار للسوق الذي ضمنته سلطة الاستبداد. لست هنا في معرض استعراض حجم النشاط الاقتصادي الهائل للبورجوازية السورية، ولكن بنظرة سريعة وموجزة نجد أن هذه البورجوازية قد استحوذت على مانسبته 60% من القطاع الصناعي السوري، وعلى قطاع تجارة التجزئة بشكل شبه كامل، وعلى نسبة كبيرة من التجارة الخارجية، كما استحوذت على قطاع النقل البري بالكامل، وعلى شركات الخليوي، وقطاع السياحة والخدمات بالكامل، وبلغ عدد المنشآت الصناعية المرخصة في مدينة حلب لوحدها حوالي أربعين ألف منشأة عشية انتفاضة الشعب السوري.

ليست المرة الأولى في التاريخ التي تقبل فيها البورجوازية التنازل عن حقوقها السياسية لديكتاتور ما مقابل تأمين مصالحها الاقتصادية، وهذا ما طرحه عليها  الأسد الأب منذ توليه السلطة عام 1970، حيث سعى إلى مقايضة السياسة بالاقتصاد مع البورجوازية، ولسان حاله يقول: اقبلوني كرئيس للدولة، واتركوا لي إدارة البلاد، واجنوا ماشئتم من الأرباح والمنافع، وقد فهمت البورجوازية هذه الرسالة وعملت بموجبها، والواقع أن البورجوازية قد حققت هدفين بقبولها هذه الصفقة، فهي قد ضمنت تحقق مصالحها الاقتصادية من جهة، وأراحت نفسها من تولي مسؤولية الشؤون السياسية في بلد يحتوي كما هائلا من المشاكل والأزمات الوطنية والاجتماعية، وفي مرحلة شديدة التعقيد من تاريخ المنطقة، ولعل خيارها هذا أن يذكرنا بتنازل هذه البورجوازية في الخمسينيات من القرن الماضي عن السلطة لعبد الناصر، مع ذلك لابد من الإشارة إلى أن النظام قد ضمن لنفسه السيطرة الكاملة على القرار السياسي وبالتالي الاقتصادي، بمعنى أنه كان ضابط الإيقاع لنشاط هذه البورجوازية بما يتوافق مع مصالحه، أي أن الدولة بقيت مهيمنة ومسيطرة على رأس المال، وقد استمرت هذه الصيغة حتى وفاة الأسد الأب وحصول عملية التوريث، في هذه المرحلة حصل أمر في غاية الأهمية، فقد انتقلت البورجوازية البيروقراطية لتعمل في السوق بشكل مباشر، وبالتالي حصل اندماج بين الشريحتين البيروقراطية والتقليدية (تم التعبير عن هذا الاندماج في تشكيل مجلس إدارة شركة شام القابضة على سبيل المثال، الذي تألف من كل من السادة: نبيل الكزبري رئيسا، رامي مخلوف نائبا للرئيس، وعضوية كل من عماد غريواتي ومحمد صباغ شرباتي ونادر قلعي ووليد الزين وعصام انبوبا وسمير حسين وهاني عزوز وعمر كركور)، ومن الواضح انتماء بعض هذه الشخصيات إلى البورجوازية البيروقراطية وبعضها الآخر إلى البورجوازية التقليدية، هذا من جهة، ومن جهة ثانية فقد قامت هذه الطبقة الجديدة بالاستيلاء على جهاز الدولة وتسخيره لخدمة مصالحها المباشرة، بمعنى أن أجهزة الأمن والجيش والحكومة أصبحت جميعها أدوات لتحقيق مصالح هذه الطبقة، الأمر الذي انعكس ثراء فاحشا وقياسيا لهذه الطبقة من جهة، وتدهورا متسارعا في حياة الطبقات الشعبية من جهة ثانية. لم تعان البورجوازية السورية كطبقة ما عاناه الشعب السوري من ويلات الاستبداد والدولة الأمنية، فهي لم تعرف معنى الإذلال اليومي وهدر الكرامات، وبقي أبناؤها يركبون أفخم السيارات الفارهة ويرتادون أفخم المطاعم والنوادي، لذلك هي لم تفهم معنى الشعارات التي طرحتها انتفاضة الشعب السوري حين طالب بالحرية والكرامة، وتركت للنظام حرية ممارسة شتى أنواع العنف بحق هذا الشعب الثائر، لقد أدركت هذه البورجوازية بحسها الطبقي أن انتصار هذه الانتفاضة سيكون على حساب مصالحها الطبقية، لذلك كان اصطفافها واضحا منذ اللحظة الأولى في دعم النظام، على الرغم من أن الانتفاضة لم تطرح شعارات جذرية على الصعيد الاجتماعي، وهذا معناه بالضبط أن هذه الطبقة لاتستطيع التعايش مع الحالة الديموقراطية ودولة المواطنة وسيادة القانون، وبالتالي فإن الديكتاتورية هي النظام الأمثل الذي تتحقق به مصالحها.

خاتمة.

يتبين لنا من خلال استعراضنا لهذه الوثيقة أن الأخوة في تيار مواطنة قد مارسوا الطلاق البائن مع المنهج المادي التاريخي في تفسير التاريخ وقراءته بشكل عملي وملموس من خلال استبعادهم لكل المقولات التي يتضمنها هذا المنهج، مستعيضين عنها بمقولات  الطائفة والأقلية والأكثرية الديموغرافية وغيرها من المقولات التي لاتمت إلى الماركسية بأوهى صلة، ولاندري لماذا إصرارهم على الاستشهاد ببعض المقولات لماركس وأنجلز في سياق الوثيقة؛ إذ يستطيعون إعلان هذا الطلاق بشكل واضح وبدون حرج بعد أن لم تعد الماركسية عملة رائجة هذه الأيام في العالم بشكل عام والعالم العربي بشكل خاص، وسيجدون فيما لوأعلنوا ذلك كما لابأس به من التصفيق والمباركة والتأييد.

Loading

الكاتب admin

admin

مواضيع متعلقة

2 تعليق على “تيار مواطنة مراجعة نقدية، أم تراجع منهجي؟”

  1. أحمد علي محمد

    السادة هيئة التحرير المحترمين، تحية طيبة وبعد، لماذا تم إغفال أو التحفظ على ذكر اسم كاتب المقال؟ مع خالص المودة والاحترام.

    • شكرا على الملاحظة
      طلبنا من الكاتب نشر اسمه ونحن بانتظار جوابه.

التعليقات مغلقة