تأهيل الأسد بين رغبة الأشقاء والروس وعداوة الغرب
كثر الحديث مؤخراً عن “العودة الدافئة” للنظام السوري إلى “الحضن العربي”، ولا شك أن تعبير العودة الدافئة يكشف عن البرد الشديد الذي يعانيه النظام في عزلته القسرية، بالمقابل، فإن الحضن العربي قد لا يقدم بالضرورة ما يحتاجه النظام من الدفء المطلوب لمعافاته ولإعادة الإعمار ولاستعادة قدرته على لعب الدور الذي تتطلبه منه عودته إلى جامعة الدول العربية وخصوصاً ما يفرضه ذلك من تقليم مخالب إيران في سوريا ولبنان.
ومما لا شك فيه أيضاً أن هناك دول عربية كالأردن ولبنان والعراق قد أتعبها الوضع المتوتر في المنطقة، وبات الوضع السوري مقلقاً جداً لها وينعكس مباشرة على الوضع الاقتصادي السيئ فيها أصلاً، وترغب بشدة إنهاء مقاطعة النظام عربياً لأنها ببساطة تعتبر أن الوضع السوري المأزوم ينعكس بحدة على وضعها الاقتصادي لجهة النقل البري والاستثمار والتبادل التجاري والحصار على الشركات والمصارف. أما الدور المصري فإنه محكوم بعدائيته الشديدة للإسلاميين ويسعى بجدية لإيجاد حل سياسي عبر المشاركة مرة مع المساعي الروسية بتحفظ وأخرى في التماهي بقوة مع التحرك الأمريكي- الأوربي، ولا يبدو أن مصر والسعودية، وهما الدولتان الأهم، ستوافقان في المدى القريب على عودة النظام إلى الحضن الدافئ طالما أن أبواب العملية السياسية مغلقة، من قبل النظام وحلفائه، حتى الآن.
أما الدول الأخرى كالإمارات العربية المتحدة والجزائر وسلطنة عمان وموريتانيا فإن عودة النظام السوري إلى جامعة الدول العربية تعني لها اعتباران؛ ينطلق الاعتبار الأول من اعتبارات الأمن الإقليمي، والاعتبار الثاني هو إبعادها عن الانغماس الكامل في المشروع الإيراني، واستعادتها لدورها العربي المعهود بغض النظر عن إرادة غالبية السوريين.
وفي السياق العربي أيضاً، كان الحديث المتداول عن زيارة رئيس الاستخبارات السعودي إلى دمشق ولقائه بالأسد ومملوك، من ضمن التحركات المثيرة للجدل، لكن المملكة سرعان ما نفت ذلك بشدة، مما يعني أحد أمرين؛ إما أن اللقاء قد تم فعلاً- وجهاً لوجه أو عبر الاتصال الهاتفي- ولم ينجز ما طمحت له المملكة، وبالتالي سارعت إلى نفيه، وإما أنها كانت تنوي ذلك، لكنها استجابت للإشارات الأمريكية التي تقضي باستمرار مقاطعة النظام. وفي الحالتين، يؤكد تطور الأمور أن السعودية لم تصل بعد إلى ما وصلته الإمارات وعُمان، وبالتالي سيبقى طريق النظام إلى الجامعة العربية معرقلاً إلى زمن بعيد نسبياً ومرتبطاً بتطور العملية السياسية.
على مدى عشرة أعوام من عمر الحرب الأهلية السورية، كان المسعى الدولي والإقليمي محاولة حصر نيران الحرب ضمن الحدود السورية وضمان عدم انتقالها إلى دول الجوار والإقليم، لكن امتدادها الطويل جعل آثارها تدخل بقوة إلى العراق ولبنان وحتى إلى تركيا، التي تعارض التطبيع مع النظام الآن لاعتبارات تخص مصالحها. لتلك الأسباب، تسعى بعض الدول العربية إلى إطفاء الأزمة السورية، عبر مبادرات متسرعة وغير مستدامة، لأنها لا تنطلق من حقيقة الصراع داخل سوريا بين السلطة الطغمة وغالبية المجتمع السوري. من هنا يمكن ملاحظة تراكب هذه المساعي مع المساعي الروسية لإيجاد تسوية لصالح روسيا ووفق رؤيتها للحل الأنسب، وهذا ما كشفته جولة لافروف العربية وتصريحاته مع المسؤولين العرب الذين التقاهم في آذار الماضي.
روسيا، من جهتها ومنذ اليوم الأول للثورة السورية، شجعت النظام على إنهاء الانتفاضة السورية بالقمع بداية، ثم تدخلت عسكرياً في نهاية أيلول/ سبتمبر 2015 عندما أوشك على السقوط. وتدرك روسيا جيداً مقدار اعتماد النظام على إيران ومقدار الترابط الاستراتيجي بين النظامين، لكنها مازالت تعول على إقناع رأس النظام بضرورة السير في خطتها للحل السياسي. على الرغم من اللعب المكشوف والمداورة وإضاعة الوقت التي يشتهر بها النظام في علاقته مع أطراف الحل السياسي وعلى رأسهم بالطبع روسيا، فإن السلوك الروسي محير لدرجة كبيرة؛ لأنه، من جهة أولى، يمتلك أدوات الضغط اللازمة- وقد تكون غير كافية- على النظام السوري، لكنه لا يستخدم المتاح منها، ولأنه، من جهة ثانية، يكذب بشراسة في كل مناسبة داخل المنظمات الأممية لصالح النظام وكأن المعركة معركته المصيرية الخاصة، ولأنه، من جهة ثالثة، يعلم تماماً عمق العلاقة الوطيدة مع إيران، فهل يخشى الروس أن يدير النظام ظهره لهم تماماً؟ والأمر المحير أكثر هو الترويج للانتخابات القادمة والتي كانت روسيا قد طلبت تأجيلها إلى ما بعد كتابة الدستور الجديد؟
من جملة الاحتمالات الممكنة لهذا التمسك الروسي بالنظام، هناك احتمال أن يكون النظام السورية قد قدم للروس ما يضمن نجاح مسعاهم للوصول إلى التسوية المنشودة روسياً وسلطوياً، فهل ستحقق روسيا والنظام وحلفهم من العرب النجاح في مواجهة الإرادة الأمريكية الأوربية في تطبيق قرار مجلس الأمن 2254 ومتعلقاته، وخصوصاُ بعد إدانة النظام مباشرة من قبل منظمة حظر الأسلحة الكيماوية قبل شهر؟
طالما لا يمكن للأسد أن يتخلى عن إيران، على الأقل في الظرف الراهن، فإن أجواء المواجهة مع أمريكا وأوروبا ستصبح أكثر سخونة وخصوصاً في حال فشلت مفاوضات النووي الإيراني القائمة الآن. وإذا حصلت مجابهة إيرانية- غربية فهل سيكون النظام السوري في الجانب الإيراني، أم سيتجنب المشاركة في هذه المواجهة؟
قد يكون احتمال فشل مفاوضات النووي الإيراني الجارية الآن أحد الأسباب التي تجعل الروس يؤجلون الضغط الفعلي على النظام، إلى جانب ما قد يكون رأس السلطة قد قدمه لهم من وعود، مقابل تمرير الانتخابات الرئاسية. بالتالي يصح أن نصف الصورة كما لو أن الروس ينتظرون العجز الإيراني عن دعم النظام وسقوطه الحر بين ذراعيهم، لفرض الحل على جميع الأطراف، بدون أن يبذلوا أي ضغط يجعل النظام من جهة وحلفاءه الإيرانيين وميليشياتهم من جهة ثانية، في مواجهة، أو على الأقل، في موقعين متعارضين.
في كل الأحوال، يبدو، من وجهة نظرنا في “تيار مواطنة”، أن الروس باتوا مقتنعين أن التسوية السياسية يجب أن تبدأ لتجنب انهيار الدولة السورية ومؤسساتها تماماً، سواءً رضي النظام أم لا؛ فالروس حريصون على استمرار هذه الدولة طالما سيبقون على البحر المتوسط لزمن طويل، ولا بأس إن كانت هذه الدولة دولة دكتاتورية- أو دولة بواجهات ديمقراطية- تقوم على مؤسسات على الطريقة الروسية، لكنها قابلة للاستمرار، وهذا ما قد تشاركهم فيه مصر والسعودية والجزائر والإمارات وحتى إسرائيل.
بنفس الوقت سيسعى الروس، بكل قوتهم، على إبقاء السلطة مركزية بيد رأس النظام، لضمان عدم اهتزازها أو وقوعها بيد من يعتبرونهم متطرفين إسلاميين، مع إعطاء بعض الصلاحيات للوزارات والمحافظين وتحجيم دور أجهزة المخابرات والجيش في أجهزة الدولة. وقد يظن الروس أن هذا السيناريو سيلاقي القبول الأمريكي والأوربي، طالما أن أمريكا وأوربا لم يقوما بخطوات عملية لفرض رؤيتهم حتى الآن، لكن تصريحات جو بايدن الأخيرة حول “بقاء الإنذار الوطني بشأن سوريا” تعارض هذا التصور الروسي تماماً وقد تفرض على الروس المواجهة إما مع النظام لفرض الحل السياسي عليه، أو مع المجتمع الدولي، وهذا ما يتجنبه الروس ببراعة حتى الأن في سوريا.
تيار مواطنة
مكتب الإعلام 11 أيار/ مايس 2021