صواريخ حماس والقضية العادلة

إن الموقف من أي قضية، من أي صراع عابر أو مديد، يجب أن يحدد بناء على عدالة القضية، وعدالة القضية ليست دائما شيئاً واضحاً أو متفقاً عليه رغم ما كرسه التاريخ البشري من قيم أصبحت مشتركة، فنجد غالباً، في التقييم، تغليب مصالح سياسية أو اعتبارات راهنة أو وجهات نظر تؤخذ من زوايا ضيقة…. الخ.

والقضية الفلسطينية التي هي عادلة تماماً وفق المرجعيات الدولية المتفق عليها مند بداية القرن السابق، باعتبارها قضية شعب تم تهجير أكثر من ثلثيه وإحلال مجموعات بشرية قادمة من كل مكان في العالم بحجة وجود حق تاريخي ديني، وبينهم نسبة كبيرة من اليهود الذين جاؤوا من دول عربية، ليقوم قلة من السكان الأصليين، لا يمثلون أكثر من 30 بالمائة من السكان عام 1947، بإنشاء دولتهم على حساب البقية، وقد تقلص الاعتراف الرسمي بعدالة هذه القضية إلى قضية الأراضي التي احتلت بعد عام 1967، مع ذلك فإن هذه الاعتراف الرسمي النظري لم يترتب عليه إقرار واقعي بالحقوق، لذلك كان لابد لهذا الإجحاف أو التجاهل، أو إعطاء كيان سياسي هزيل للفلسطينيين، من أن يترتب عليه، كل فترة من الزمن، تفجر صراعات أساسها ليس فقط عدم إعطاء الفلسطينيين حداً أدنى من الحقوق، بل السماح لإسرائيل بقضم المزيد من الأراضي والحقوق الفلسطينية التي يفترض أن تكون،على الأقل، موضوع تفاوض على الحل النهائي.

الحل النهائي، الذي يمكن أن يكون: دولتين إسرائيلية وفلسطينية، تعيقه إسرائيل حتى الآن بحجج مختلفة منها وجود التنظيمات الفلسطينية المتطرفة كحماس والجهاد، وتلك التنظيمات من جهتها تصر على نمطها في الصراع العسكري بحجة التعنت الإسرائيلي، هكذا يبدو تطرف كل جهة مصدر تطرف للجهة الأخرى، لكن مع ذلك ومهما تحدثنا عن توظيف قوىً إقليمية كحماس والجهاد في الأجندة الإيرانية فإن المسؤول الأول عن عدم التوصل إلى حل، سواء في وجود دولتين، كما تقترح القرارات الدولية، أو في دولة ديموقراطية واحدة، كما يفكر البعض، ولا يمكن أن تقبله إسرائيل نظراً لحسابات ديموغرافية، وأيضا وربما قبل ذلك بسبب الإصرار على الطبيعة اليهودية للدولة و المماهاة بين دولة الدين اليهودي والدولة القومية الإسرائيلية التي تضم حالياً حوالي 20 بالمائة من السكان العرب، المسؤول الأول عن إعاقة الوصول إلى حل، كفيل بإضعاف التطرف الفلسطيني، هو الدولة الإسرائيلية، خاصة وأنه قد وجد طرف فلسطيني معتدل كان ولا يزال مستعدا للتفاوض السلمي.

لقد ترتب على ممارسات وسياسات الأنظمة والأحزاب العربية التي تبنت الخط القومي العربي، الذي اعتبر فلسطين قضيته المركزية، تأثير كارثي أدى لخسارات متتالية، ليست فقط عسكرية  وسياسية بل وعلى مستوى التأييد العالمي الشعبي الذي أصبح في حدوده الدنيا، لكن الكارثة الأكبر كانت في استلام ملف القضية الفلسطينية من قبل الاتجاهات الإسلامية، وحالياً هذه الاتجاهات تعتبر مرتكزها الاستراتيجي هو إيران،  بكل ما يحيط بهذه الدولة من تهم تغذية جماعات إسلامية مثل حزب الله وحماس والجهاد و الحوثيين، التي لا تتوقف عن رفع شعارات قتال إسرائيل اعتماداً على مرجعية دينية إسلامية، دون أن ترتبط هذه الشعارات عند جميع هذه الأطراف بمواجهة فعلية أو جادة، وبهذا المعنى أخذ الصراع طابعا دينياً بدل أن يأخذ طابع قضية قومية تحررية، الأمر الذي أدى ويؤدي إلى المزيد من الخسارات رغم كل الضجيج الذي تثيره الاتجاهات الإسلامية.

إن التقييم الدقيق للأحداث الأخيرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين لابد أن يضع في اعتباره تلك الخلفية التاريخية والفكرية، ومن جهة أخرى لا يمكن اعتماد نهج ايديولوجي سواء كان متعاطفا مع القضية الفلسطينية  أو معادياً لها. على سبيل المثال لا يمكن الإكتفاء بتقييم حماس منظمة إرهابية واعتبار أنها لم تطلق صواريخها إلا خدمة لأهداف إيرانية، ربما تتعلق بمشكلة النووي الإيراني لتقوية الموقف الإيراني في المفاوضات الجارية . فحماس ليست عميلة لإيران، حتى لو صدرت تصريحات من أحد قادتها أن قاسم سليماني شهيد، ومثل هذا التصريح هو مجرد عمل سياسي براغماتي تفعل مثله معظم الفعاليات السياسية في العالم، طبعا هذا مجرد تفسير ولا يمكن أن يكون تبريراً، لكن ما نريد قوله أن حماس قوة سياسية حقيقية لها نفوذ شعبي فلسطيني وعربي أيضاُ، بغض النظر عن تاريخ نشأتها، ولها نظرتها في الحل السياسي التي تعتمد أيضاً على كونها كيان سياسي يحاول الحفاظ على وجوده وتطويره، ومبرره الأول في الوجود، أن الآخرين متخاذلين، وهي تواجه العدو، في حين لم تنجح حماس في أعطاء نموذج أفضل من نموذج منظمة التحرير الفلسطينية وهي تحاول تغطية إخفاقاتها في إدارة قطاع غزة، ولكن قبل كل ذلك تدعم مشروعها الإيديولوجي في الطابع الديني للصراع مع إسرائيل.

لقد بدأ الصراع في حي الشيخ جراح حول وجود عدد من العائلات العربية في ملكيات يهودية مستأجرة، عندما كانت القدس تحت الإدارة الأردنية بعد حرب 1967، وهو موضوع  لا يزال قيد المحاكم الإسرائيلية منذ فترة طويلة، وقيمته ليست بذاته بل بكونه يتعلق بالمشكلة التاريخية المتعلقة بهدر الحقوق الفلسطينية وبالاستيطان، وبالتمييز الواقع على السكان العرب في الأراضي المحتلة، وهو بهذا المعنى صراع مشروع، وقد بدأ الفلسطينيون خوضه بوسائل سلمية، لكن انتقال الصراع إلى الأقصى، ودور المستوطنين دفع الوضع بأكمله إلى التوتر، وفي هذا السياق بدأت حماس في استخدام صواريخها المشكوك بفاعليتها. فكيف يمكن أن نفهم ذلك؟ بداية يمكن القول أنه من حيث المبدأ كل من يكون تحت احتلال ما، أو أن أرضه نزعت منه واستوطنها آخرون، له الحق في استخدام كل الوسائل السلمية والمسلحة، لكن في واقع عياني ملموس يجب التساؤل ليس فقط عن مشروعية استخدام هذه الوسيلة بل عن جدواها.

إن الطرف الذي يستخدم هذه الصواريخ  يغلب الطابع الديني للصراع على الطابع التحرري وهو لا يمتلك رؤية لمستقبل هذه الصراع تراعي خصوصياته وتعقيداته، وبهذا المعنى هو يخسر الكثير من الدعم العالمي، ومن ناحية أخرى إن هذا الاستخدام، بسبب عدم التطور التكنولوجي الكافي، لا يحقق الوصول بدقة لأهداف عسكرية، بسبب ضعفه التكنولوجي وأيضاً بسبب الدرع الحديدي الإسرائيلي، و يقدر عدد الصواريخ التي تتجاور هذا الدرع 10 بالمائة فقط، وهذه الصواريخ أيضاً، بسبب عدم دقتها، يمكن أن تعرض المدنيين للخطر، فحتى لو اعتبرنا هؤلاء المدنيين مستوطنين أو محتلين، لا يجوز أن نتجاهل ضرورة الحفاظ على حياتهم انطلاقاً من القيم التي كرستها اتفاقات عالمية فيما يخص أخلاقيات الحرب، بالمقابل يتسبب القصف الإسرائيلي بأعداد اكبر من الضحايا، حتى الآن أكثر من 200 مقابل حوالي 10 إسرائيليين. ربما يمكن أن نناقش استخدام الصواريخ من زاوية إحداث توازن رعب، مع عدو متعنت وغير راغب بحلول سلمية، لكن هل هذه الصواريخ قادرة على ذلك، بعد أن استمرت في السقوط عل إسرائيل لأكثر من أسبوع وبعدد يتجاوز 3000 صاروخ، وبالطبع يفترض توازن الرعب أن يكون مبنياً على رؤية استراتيجية وليس على عمل عسكري فقط، بقي أن نقول أن الصورايخ التي تصل إلى إسرائيل رغم محدودية تأثيرها، تضعف شيئا ما من أسطورة الأمن الإسرائيلي لكنها أضعف بكثير من أن تحطمها، وربما نتيجتها الأكثر وضوحاً هي تغذية قوى التطرف في المجتمع الإسرائيلي الذي يتجه نحو التطرف منذ فترة طويلة.

بالمقابل يتميز السلوك الإسرائيلي بالصلف ويتسبب بالعدد الأكبر من الضحايا والتدمير الأوسع و الأشمل، وتسمح له قدراته التكنولوجية وتفوقه بممارسات تعطيه ميزات على الطرف الآخر، فهو يُعلِم سكان برج سكني وتجاري بأن البرج سيقصف، رغم وجود مؤسسات إعلامية عالمية فيه،  وبحجة استخدامه عسكرياً من قبل حماس، وبالنتيجة فإن قصف البرج لن يؤذي حماس لأنها ستغادر البرج لكن بالنسبة لإسرائيل المسألة مسألة تكريس القوة والتفوق وإذلال وإضعاف الخصم، بالمقابل هناك قصف إسرائيلي، لا يتم الإعلان عنه مسبقاً، وفي مناطق أخرى ويتسبب بخسائر بشرية من الأطفال والنساء والمدنيين العزل.

وكما في كل مرة يندلع فيها الصراع في غزة تنشغل محافل السياسة العربية والدولية والمنظمة الأممية في محاولة التوصل لوقف إطلاق النار، وربما لعقد هدنة وفق توازنات معروفة أساسها المحافظة علىأمن إسرائيلوتلقين حماس الدرس المناسب طالما لا يمكن القضاء عليها نهائياً، لكن المشكلة الفلسطينية لم تنته وغزة ليست إلا جزءاً من الجغرافية الفلسطينية.

أخيراً، ربما يكون أهل مكة أدرى بشعابها، وبالنهاية القضية قضيتهم وهم الذين يقررون، لكننا نعتقد أن الخيار الأفضل هو العودة لاستخدام أسلحة النضال السلمي: التظاهر والإضراب وصولاً إلى العصيان المدني في جميع المناطق التي يتواجد فيها الفلسطينيون في أراضي 48 والضفة والقطاع، كما يحصل في تاريخ كتابة هذه السطور، وتصعيد الدعم الشعبي العالمي للضغط على عواصم القرار في العالم. ومن جهة أخرى التوقف تماماً عن استخدام الصواريخ، بعد هذه التجربة الجديدة لها، على نطاق واسع وبأعداد كبيرة، واعتبارها تجربة فاشلة عسكرياً وسياسياً، رغم تحمس قطاعات شعبية واسعة لها بتأثير الإحباط الناتج عن الوصول إلى حائط مسدود في العملية السلمية، ومع استمرار إسرائيل في قضم الأراضي الفلسطينية، ولا بد أيضاً من إعادة القضية الفلسطينية كما كانت، وكما هي عليه فعلاً، قضية شعب احتلت أرضه واستوطنت، قضية وطنية وليست قضية دينية.

تيار مواطنة

مكتب الإعلام 20 أيار/ مايس 2021

Loading

الكاتب admin

admin

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة