هل تصدق نبوءة “يوسف بن علوي” ونشهد ربيعاً من نوع آخر
أطلَّ قبل أسابيع شيخ الديبلوماسيّة العُمانيّة –المُقال– يوسف بن علوي في حلقة لبرنامج ليل مسقط بالتلفزيون العُمانيّ قائلاً ”هناك ظروفاً مهيأة لاندلاع ربيعٍ عربيٍّ ثانٍ في المنطقة بشكل عام، شبيهٍ بالربيع العربيِّ الأول“ وأفاد أيضاً ”ربما ربيع واحد ما يكفيها“… ويقصد المنطقة العربية.
تشي تلك التصريحات بنبوءةٍ تضخ الدِّماء في العروق من جهة وفضيحةً مزلزلة –من جهة ثانية– مفادها الاقرار بإخفاق الربيع العربي الأول في العقد الثاني من هذا القرن في تحقيق غاياته على الرغم من سقوط عدة أنظمة ديكتاتورية –حيث سقط بن علي في الثورة التونسية، وتنحى مبارك في ثورة 25 يناير المصرية ولم يلبث السّيسي أن انقلب على الرئيس المُنتخب محمد مرسي ليقضي في سجنه بعد محاكمة صوريَّة، كما رحل القذافي في ثورة 17 فبراير الليبيّة وترك البلاد مقسّمة بين فريقين يتنازعان السّلطة، وفي اليمن غادر علي عبدالله صالح مقتولا بعد تحول الثوره الى حرب أهليه بالوكالة عن صراعات الخليج.
أما في الثّورة السّودانية عام 2019 – التي تحسب على موجة الحراك الثانية– فانهار نظام البشير ورحل –غير مأسوفٍ عليه– كما شهدنا حركات احتجاجية طافت من المحيط الى الخليج لعل أبرزها حِراكات العراق ولبنان والجزائر وبعض دول الخليج، ومازال الانفجار الشعبي الكبير في سوريا منذ ٢٠١١ وما تبعه مستعراً إلى أن أضحى جرائم إبادةٍ واعتقالٍ وتهجيرٍ وقتلٍ وتدمير فانقلب حرباً سياسية أهلية طائفية مركبة ”أخرجت الصِّراع عن إطاره الوطني“ وتدخلت فيها مليشيات طائفية ودول إقليمية وقوى عظمى أدخلت البلاد في نفق الاستنقاع فأمست سوريّة سوريّات وتدهورت الأوضاع بشكل غير مسبوق ولم نشهد بصيص الضوء في نهاية النفق بعد.
ولكن بنفس الوقت ما يثلج الصدور تتابع هبوب رياح التغيير ولفحها عديداً من عواصم المنطقة، من طهران فبغداد إلى بيروت بحثاً عن الحريّة والدّيموقراطيّة وكرامة الإنسان لتؤكد مجدداً أن التّغيير صيرورة موضوعيّة حتميّة لا تتوقف على الارادة الذاتيّة سواءً بالحجب أو بالإنبعاث، فالواقع بمحدداته وضروراته هو من يُطلق تلك الصّيرورة أو يُخمدها، ولإن استطاعت بعض النظم والسُلطات في المنطقة –ولو لحين– مواجهة هذه الحتمية، فمنهم من ركب أمواج التغيير فيها كعُمان والسّعودية وغيرهم ممن سارعوا الى الإصلاحات، ومنهم من قبل النتائج صاغراً، بينما رفض آخرون التغيير محاولين منعه آنياً حتى ولو أحرقوا البلاد وشرّدوا العباد، كما جرى ويجري في سوريّة، وكما يستعصي في لبنان –المختطف رهينةً لمخططات إيران وصفقاتها– فمازال حزب الله وغيره يستثمرون بتركيبة المحاصصة الطائفيّة المعنِّدة فيه، وفي إيران يعاند نظام الملالي أي تغيير يذكر، ولكن بالمقابل استجاب السّودان كليّاً والعراق جزئيّاً لإرادة تلك الحِراكات.
ماذا عن سوريّتنا في حمأة ذلك؟ هل مازال يمكننا الحديث عن احتمالات موجة ثانية للانتفاضة في سوريّة؟ وهل ثمة أفق لذلك؟ بعدما أحرقت البلاد حربٌ أشعلتها السّلطة/الطغمة –من جهة– والثّورة المضادة الفصائليّة –من جهة أخرى– وبالتالي أُُجهضت الانتفاضة الشّعبيّة، فتقاسمت قوى الأمر الواقع الأرضَ مرتهنةً بولاءاتٍ خارجيّةٍ متعارضةٍ وحيث لم تعد حالة الحِراك والانتفاضة ساخنة كما كانت ولأسباب يطول تعدادها، ليس أقلّها تعب وإنهاك الشّرائح الشّعبية المسربلة بالجّوع والقمع تارةً وغياب الأملِ بالتغيّير طوراً. ترافق ذلك مع غياب حرارة الإرادة الدّوليّة والامريكيّة خصوصاً تجاه المسألة السّوريّة –المعقدة بل المتشابكة والمتناقضة في آن– سيّما إذا أضفنا عامل التّنافس الإقليمي (ايران/تركيا/ اسرائيل/الخليج) وتفاقم الاشتباك القومي (الكردي/التركي/العربي/الفارسي)، فتقاطعت المتناقضات جُلّها على الأرض السورية مخلفةً استنقاعاً وبؤساً وشقاء.
اليوم حيث مضى رأس السلطة بمهزلة الانتخابات وما رافقها من اشاعات وإبر تخدير لفئات الشعب المسحوقة اقتصادياً وأمنياً، ماذا ينتظر السّوريين في مشروع ”إبادة الأمل“ هذا؟ بالوقت الذي لا تتوقف المهزلة المأساة عند الارقام المرعبة التي تجاوزتها المحنة السّوريّة (مع 90% مِن السّوريين دون خط الفقر – 6 مليون لاجئ – 6,6 مليون نازح – 12 مليون بحاجة لمساعدات انسانيّة – 3,5 مليون طفل خارج المدارس – نسبة دمار البنية التّحتية تجاوزت 40% –خسارة الاقتصاد 530 مليار دولار) وهذا كافي لاستمرار الاضطرابات ان لم نقل الحراك والثورة, ولكن لماذا لا نشهد حراكاً بحجم انتفاضة 2011؟.
لقد شهد القرن العشرون موجات تحرّر وطنيّ إثر حقبة الانتداب الغربيّ للمنطقة، مالبثت أن تلتها موجة نهوض “قوميٍّ” و“اشتراكيٍّ” انكفأت بعد هزيمة العرب في حزيران 1967 ودفنت إثر خسارة الشيوعيين والسّوفييت لأفغانستان حيث تصاعدت موجة المدّ الاسلاميّ –مع تمَكن سلطة الملالي بإيران الخمينية– حيث بلغت ذروتها بصعود القاعدة و“غزوة مانهاتن“ بالتزامن مع انهيار المنظومة الشيوعية في نهايات القرن المنصرم واسقاط برجي التجارة في نيويورك. خلاصة القول أن النّهوض الجّماهيري يُرافق عادة كل موجة من موجات المدّ، ما يعيد السّياسة الى المجتمعات مرحلياً –مع كلِّ نهوضٍ– مترافقاً بتصاعد الأمل بالتغيّير ولكنه مايلبث أن ينحسر، إذ لا يعقل أن تبقى الموجة في تصاعد وامتداد, فللموجة مجالها وطاقتها وبالتالي مدّتها وأسباب انتعاشها ومن ثم تراجعها, وهو ما ينطبق على الحراك الشعبيّ اليوم. وعلى الأرجح أن الزلزال الذي حصل في فلسطين منذ حوادث ”حي الشيخ جرّاح“ المقدسي وما رافقها من حراكات في شوارع المعمورة، سيعيد حسابات كثيرة بالمنطقة من المرجح ان تكون لصالح الشعوب.
إذ يمكن القول أيضاً، ونحن نشهد منذ عقود موجة المدّ الاسلاموي الّلاهث للبقاء رغم الضّربات المتتالية التي نالت من أوهامه، ليس أولها بؤس هذا المشروع الإديولوجي وتخلُّفه وماضويته, وليس آخرها سقوط مشروع الدّولة الاسلاميّة ”داعش“ في المنطقة وانحسار الفصائل المتشدّدة كالنّصرة وغيرها، لأن العصر لم يعد يحتمل ذلك الغلوّ والتّطرف وسيقف العالم بمجمله في وجه الإرهاب، كما أن تعددية المجتمعات وانفتاحها وتنور أجيالها الشابة خصوصاً في عالم بات كقرية صغيرة مع سرعة انتقال المعلومة والخبر سيقف بقوة مع التشاركية ومواجهة الاقصاء والتشدد رغم ما شهدناه من تصاعد قوى اليمين في العالم لحين ومن استمرار تأجيج الصِّراع الدِّيني في المنطقة، ولكن إلى متى؟ يضاف إليه بؤس مشاريع قيام الدّول على أسس دينية سواءً في إسرائيل أو في المنطقة بالعموم، وبؤس سلطة الملالي الإيرانيّة وآثارها المدّمرة، يضاف إليه تردّي مشروع أردوغان الإخواني، حيث نلمس ملامح تراجع الموجة الاسلامويّة الماضويّة. والمراهنة تتجدد على انطلاق موجة جديدة للربيع برزت شعاراتها الحداثويّة واللاطائفيّة في حراكات لبنان والعراق الأخيرة وحراكات إيران المتناوبة بالرغم من تعرضها الى حملات القمع الممنهج تحد من نضوجها، فالمنطقة حبلى بمعاناة شّعوبها ومظالم مختلف الشرائح المجتمعية مستمرة ولازال اضطهاد النّساء وانسداد الأفق أمام الأجيال الفتيّة متفاقماً، واحدة من هذه المظالم كافٍ لإطلاق موجة انتفاضة عارمة فما بالنا مع اجتماعها وغيرها؟
ومع تدهور الأوضاع في اسرائيل وفلسطين مجدداً وضغط إدارة بايدن الامريكية الديمقراطية بمسار مفاوضات الملف النووي الايراني وما رافقه من تراجع حدة المواجهة الايرانية/السعودية وربما التركية/المصرية أيضاً، ما سينعكس بلاشك على المسألة السوريّة. وعندها يمكننا الحديث عن ضرورة قراءة ذلك بعمق، وضرورة مواجهة فشل المعارضة الاسلاميّة السوريّة في بناء البديل، فيحقُّ للسوريين اطلاق التسائل الحارق: إلى متى تعجز القوى الديمقراطيّة والعَلمانيّة من رصِّ صفوفها وتشكل جبهتها الموسّعة لتضم فئات الشّباب والنّساء المُغيبة عن الفعل ومراكز القرار؟ وكيف يمكن للسّوريين على تنوعهم استعادة بلادهم وقرارهم المختطف؟
إننا في تيّار مواطنة وابتعاداً عن الشّعارات الشّعبوية من طراز ”الثّورة مستمرة وتنتصر..“ في ظلّ واقعٍ متردي يفقأ العيون، نجد لزاماً علينا مواجهة الحقيقة عاريةً، والاعتراف دون لجلجة بأن التّغيير السّوري بات عصيّاً بالأدوات والقوى التي تصدّرت المشهد فيه، وبات السّوريون بحاجةٍ ملحة –بالحدِّ الأدنى– الى انتقال سّياسي كما نصت عليه القرارات الدولية، بحيث يُرفع عن البلاد أي استبداد أمني أو مسلّح من السلطة/الطغمة، دون فسح المجال للقوى الظلاميّة –في الوقت نفسه– لاقتناص السّلطة, فيزول نظام الأسد الشمولي ويبدأ الإعمار برفع العقوبات وتبدأ الحياة السّياسيّة الديمقراطيّة في البلاد بقيام الدّولة العموميّة الحياديّة التي يستحقها المجتمع السّوري الغنيّ بتعدده وألوانه، ويستمر الرِّهان على جيلٍ سوريٍ جديدٍ عجنته المعاناة والخبرات نتيجة الاحتكاك بالعالم الخارجي لاطلاق ربيع سوري جديد، ما قد يحمل وجه سّورية المنتظر.
تيار مواطنة – مكتب الاعلام – 1-06-2021